عن العربي
اتصل بنا
قصص على الهواء
معجم رمضان.. شهر الله سيّد الشهور
يُعد إنتاج المعاجم والموسوعات من الصناعات الثقافية الثقيلة، لقدرتها على جمع أكبر قدر من المعلومات في مكان واحد، وترتيبها، وتبويبها، والربط بينها، بما يساعد الباحثين على دراستها وتحليلها، وبما يعين المهتمين على توفير الوقت والجهد والوصول إلى المعرفة بأقصر الطرق وأكثرها مصداقية. لذلك فقد وجدت كنزًا في كتاب «معجم رمضان»، للباحث المصري فؤاد مرسي، الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب في إصداره الثاني المنقّح عام 2013م.
يحدد الباحث الأسباب الرئيسة لقيامه بإنتاج هذا العمل في 3 أسباب هي: المكانة الشديدة الخصوصية التي يشغلها شهر رمضان الكريم في الوجدان الإنساني، وما يعانيه الباحث في شهر رمضان ومناحيه المختلفة من صعوبات من أجل العثور على بُغيته، لعدم وجود معجم كامل عن هذا الشهر، وإنما تتناثر مواده بين المراجع، واندثار العديد من المظاهر والممارسات الاحتفالية المرتبطة بشهر رمضان، وخصوصًا الجانب الفلكلوري منها الذي كاد يندثر تمامًا، بما يجعل تسجيلها واحدًا من أعمال الحفاظ على الذاكرة القومية وتثبيت بنيانها.
وقد واجه الباحث صعوبة ترتيب وتصنيف وتبويب مادة معجمه بأن اختار منهجًا يجمع بين أكثر من طريقة «حيث قمتُ أولًا بتصنيف الموضوعات الرئيسية المتعلّقة بشهر رمضان، ثم إدراج الموضوعات الفرعية من تحتها؛ إما مرتّبة أبجديًا أو بحسب ترتيب حدوثها زمنيًا، أو حسب أولويتها الموضوعية»، وتسهيلًا على الباحث في معجمه، حرص مرسي على أن يضع المراجع الخاصة بكل مادة من مواد المعجم بعدها مباشرة، مع إيراد ثَبْت بالمصادر الأساسية في نهاية المعجم.
يشتمل «معجم رمضان» على 9 أبواب رئيسة تندرج تحتها 55 مادة، إضافة إلى فصل بعنوان «أعلام الكتّاب» يقدّم نبذة تعريفية مختصرة عن 22 شخصية ورد ذكرها في الكتاب؛ مثل الجبرتي ومحمد أسد والمقريزي والليث بن سعد والسيوطي وإدوار وليم لين وإدم فرنسوا جومار وعبداللطيف البغدادي، وغيرهم.
معنى اسم رمضان
في الفصل الأول من المعجم (أحداث وأزمنة)، يقف الباحث عند معنى اسم رمضان، وسبب هذه التسمية، ويخلُص من بحثه إلى أن «هناك ثلاثة احتمالات في معاني اسم رمضان واشتقاقاته، أولها أن رمضان هو اسم من أسماء الله سبحانه وتعالى. وثانيها أنه اسم مشتق من الرمضى بمعنى السحاب أو المطر في آخر الصيف وأوّل الخريف. وثالثها أنه اسم مشتقّ من الرمض، وهو شدة الحر من وقع أشعة الشمس الحارّة على الأرض».
ويشير إلى أن الرسول كان في مبدأ الدعوة يصوم ثلاثة أيام في كل شهر، ثم فرض صيام رمضان كلّه قبل غزوة بدر في السنة الثانية للهجرة.
ثم يضع الباحث ثلاثين يومًا هي شهر رمضان، وتحت كل يوم منها أهم الأحداث التي جرت فيه منذ صدر الإسلام حتى وقت صدور المعجم، فيذكر ما جرى في اليوم الأول من رمضان عبر العصور، ثم أحداث اليوم الثاني، فالثالث، وهكذا حتى اليوم الثلاثين.
ويشير ابن كثير إلى أن الكتب السماوية نزلت في رمضان كالتوراة والزّبور والإنجيل والقرآن، كما حدثت غزوة بدر ومعركة عين جالوت وفتح الأندلس وانتشار الإسلام باليمن في رمضان.
والكاتب لا يضع هذه الأحداث فقط تحت أيام رمضان، بل يحرص أيضًا على ذكر «العديد من المعارك الحربية الحديثة والأحداث الكبرى التي أعادت ترتيب أوضاع العالم جغرافيًا واقتصاديًا، إلى جانب شهوده ميلاد أو رحيل العديد من الفقهاء المهمّين أو الزعماء الذين أسهموا في تحرير الإنسانية من ربقة الاحتلال واستعباد البلاد والعباد».
أحداث ونوادر
ثم يورد الباحث عددًا من الأحداث والنوادر الغريبة التي جرت في شهر رمضان عبر التاريخ؛ مثل الزلزال الشديد الذي ضرب الشام في اليوم الرابع والعشرين من رمضان سنة 152 هـ، وثورة أهل الربض في قرطبة سنة 202 هـ، وإنهاء تمرّد عسكري سوري ضد السلطان ابن قلاوون في مصر عام 762 هـ، وغيرها كثير لعلّ من أطرفها طائر يناشد الناس تقوى الله، حيث يقول: «ومن الغرائب التي وقعت في اليوم السابع من شهر رمضان من سنة اثنتين ومئتين وأربعين، ما أورده أبو الفلاح بن عماد الحنبلي في كتابه شذرات الذهب في أخبار من ذهب، إذ وقع في ذلك اليوم طائر أبيض دون الرخمة على دابة بحلب، فصاح: يا معشر الناس، اتقوا الله... الله... الله، حتى صاح أربعين صوتًا، ثم طار وجاء من الغد، فصاح أربعين صوتًا، وكتب صاحب البريد بذلك، وأشهد خمسمئة إنسان سمعوه».
ويتوقّف الباحث في الفصل الثاني من المعجم «أيام مخصوصة» عند أربعة أيام مهمة جدًا في رمضان، وهي: يوم الشكّ - ليلة القدر - الجمعة اليتيمة - يوم الوقفة.
فيوم الشك هو «اليوم الثلاثون من شهر شعبان، ويحدث فيه الشك، فإمّا قد يكون مكملًا لشهر شعبان (ثلاثون يومًا) وإمّا أن يكون بداية أيام رمضان، وقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن صيامه».
أما ليلة القدر فهي أعظم ليالي شهر رمضان، وقد تحدّث الباحث عمّا ورد من آيات قرآنية وأحاديث نبوية شريفة تخصّ ليلة القدر، كما تناول بعض المعتقدات الشعبية حولها، مثل ما ذكره الرحالة والمستشرق الإنجليزي إدوار لين: «إن المسلمين يحتفلون بليلة القدر، ويعتقدون أن الملائكة تنزل في بدء تلك الليلة إلى الفجر، لتحمل النعم إلى المؤمنين، وأن الدعاء يُجاب بلا ريب، إذ إن أبواب السماء تُفتح حينئذ. ويقال إن الماء المالح ينقلب فجأة إلى ماء حلو سائغ شرابه في هذه الليلة المباركة، إذ يجلس الأتقياء في هذه الليلة بخشوع كبير، وأمامهم إناء فيه ماء مالح، وبين حين وآخر يتذوقون طعمه، ليرَوا إن أصبح حلو المذاق، فيتأكدون أن هذه الليلة هي ليلة القدر».
الجمعة اليتيمة
يتناول الباحث أيضًا سبب تسمية الجمعة الأخيرة من رمضان بالجمعة اليتيمة، ويرجّح أن سبب التسمية (كونها الجمعة الأخيرة من الشهر الكريم، ولن تلحق بها جُمع أخرى، وقد أطلقت عليها الجماعة الشعبية هذا الوصف).
ويذكر ما حظيت به هذه الجمعة من اهتمام الخلفاء الفاطميين، والملك فؤاد ملك مصر وابنه من بعده الملك فاروق (ويعتقد العامة أن وقت صلاة الجمعة الأخيرة من الأوقات التي يُستجاب فيها الدعاء، كما يقوم البعض بكتابة التعاويذ والأحجبة في الوقت نفسه الذي تؤدى فيه الصلاة، معتقدين أنّها تمنع وسوسة الشيطان أو مسّ الجن).
أما يوم الوقفة، فهو آخر أيام شهر رمضان الذي يسبق العيد مباشرة، ويشهد استعدادًا كبيرًا لاستقبال العيد، بتنظيف البيوت وفرشها بالفرش والبُسُط الجديدة، وإعداد ملابس العيد، والتجهيز لزيارة المقابر بعد صلاة العيد.
وفي فصل «استقبال شهر رمضان» يتناول الباحث مرسي 3 موضوعات هي استطلاع هلال شهر رمضان، واستقبال الشهر الفضيل، والاحتفال برؤية الهلال «موكب الرؤية»، إذ يتحدث عنها من ناحية الدين والأحداث التاريخية المتعلّقة بها، والممارسات الشعبية المصاحبة لها، إضافة إلى بعض ما ذُكر عنها في أعمال أدبية، مثلما يصف الأديب النوبي محمد خليل قاسم في روايته «الشمندورة» من استعدادات أهالي النبوة القديمة لاستقبال شهر رمضان (منذ شهر أو يزيد استعدت كل امرأة لهذا الشهر: تتلقى طرود قمر الدين، وتفتل الشعرية من دقيق القمح، وترعى حقول الفجل والطماطم والبصل والرِّجلة لإعداد السلطات والمشهيات اللازمة، وتفرك بالرمل أغطية القلل لتلمع، وتدفن حبّات الليمون في الطين، تعصر منه قطرات في الماء، وتخمر دقيق الذّرة تدحو منه إبريجًا شفافَا مززًا تنقعه في ماء مسكّر، تملأ منه سلطانيات بيضاء، وتتركها في مهب النسيم، ثم تقدّمه شرابًا مرطبًا للزوج أو الابن يتبلّع به في المساء، ويبلّ به ريقه بعد صيام مرهق، أمّا هي فقد تتجرّع رشفة من هذا الإبريج، وقد تكتفي بإملاء القراح أو بحفنة من التمر تزدردها).
مظاهر الاحتفال برمضان
يقدّم الباحث مرسي فصلًا عن «مظاهر الاحتفال» به وصف للإفطار الجماعي والولائم ومدفع رمضان والفانوس والمشكاوات والأسواق والمقاهي في شهر رمضان والاحتفال بشهر رمضان في الثقافة الجماهيرية بمصر وختم القرآن الكريم.
وكعادته يعود إلى التاريخ حتى الوقت الحاضر، ليقدّم كل مظهر من هذه المظاهر، فيروي قصة دخول مدفع رمضان إلى مصر، وارتباط فانوس رمضان باستقبال المصريين للمعز لدين الله الفاطمي في رمضان عام 358 هـ، والمقاهي الشهيرة بالقاهرة والإسكندرية وبورسعيد، وكيف كانت تحيي ليالي الشهر الكريم.
ويورد ما ذكره د. محمد رجب البيومي أنّه عند ختم القرآن لا بدّ أن «توزع النفحة، وهي قطع صغيرة من الحلوى، يتبرّع بإحضارها أحد الذاكرين طوال شهر رمضان لتوزّع على الذاكرين تذكيرًا بطعام أهل الجنة، ومنهم من يحتفظ بها كعلاج روحي للشفاء إذا نزل به داء، لأنّ جوّ الذِّكر والخشوع قد خلع عليها في اعتقاده ما يجعلها بعض أسباب الشفاء».
وفي فصل «قراء ومنشدون في رمضان» يتحدّث الباحث عن أشهر قارئ للقرآن الكريم في العصر الحديث، وهو قيثارة السماء الشيخ محمد رفعت؛ الذي وصفه المويلحي بأنه «سيد قرّاء هذا الزمان، موسيقي بفطرته وطبيعته، إنه يزجي إلى نفوسنا أرفع أنواعها وأقدس وأزهى ألوانها»، ويصف الموسيقار محمد عبدالوهاب صوته بأنه ملائكي يأتي من السماء للمرة الأولى. كما يتحدث الباحث عن المنشد الأشهر الشيخ سيد النقشبندي الملقّب بإمام المدّاحين والكروان الرباني.
شهر الخير
وإذا كان شهر رمضان هو شهر الخير كله، فقد أفرد الباحث فصلًا عن «أعمال البرّ في رمضان» تحدّث فيه عن وقفيات شهر رمضان، إذ (حرص العديد من أغنياء المسلمين على تخصيص ريع أوقافهم للإنفاق على فقراء المسلمين خلال شهر رمضان بشكل خاص)، وقد بدأ هذا التقليد منذ العصر الأموي. كما تناول الموائد والولائم الخيرية في رمضان في عصور الإسلام المختلفة، وعلى سبيل المثال كان ولاة العصر الإخشيدي بمصر يأمرون بأسمطة الطعام للفقراء طوال شهر رمضان، وكانت بيوت الأثرياء بمصر في أواخر القرن التاسع عشر (يُوضع كرسي عليه صينية قبيل الغروب في غرفة الاستقبال بمنازل الطبقتين العليا والوسطى، ويوضع عليها صحاف عديدة تحوي أصنافًا مختلفة من المرطبات والمكسّرات والبلح والتين، ويجلسون في انتظار الوافدين عليهم على غير انتظار). كما يتحدث عن (السبيل) وهو «وحدة معمارية كانت تُلحق بأحد أركان المسجد للشرب وإرواء السابلة»، حيث يكون متاحًا لكل عطشان.
ولا يغفل الباحث اهتمام الآداب والفنون بشهر رمضان من خلال الإذاعة والسينما وأشهر أغاني شهر رمضان الشعبية، مثل: وحوي يا وحوي والمسحّراتي، وحالّو يا حالّو... إلخ والتوحيش (إنشاد في العشر الأخيرة من رمضان يبدأ بالمطلع: لا أوحشَ الله منك)، وشهر رمضان في ديوان الشعر العربي، والنثر المكتوب عن رمضان، وشهر رمضان في ذاكرة الأدباء والكتّاب وفي كتابات الرحّالة الأجانب والمستشرقين.
وشهر رمضان في الأمثال الشعبية مثل: «يصوم يصوم ويفطر على بصلة - اللي ما يصوم ويصلّي رزقه يولّي - ما تعيبوا يا قوم إلّا على الصلاة والصوم - صامت يوم واتمخطرت للعيد - بعد العيد ما يتفتلش كحك».
عادات ومعتقدات
بعد الآداب والفنون يأتي فصل «عادات ومعتقدات»، الذي يصف فيه الباحث عادات البادية المصرية في شهر رمضان، والتقسيم الشعبي لأيام رمضان، وحبس العفاريت في الشهر الكريم، حيث يغني الأطفال «يا رمضان يا عود كبريت... يا مقيّد العفاريت».
أما الأطعمة والأشربة الخاصة بشهر رمضان، فيفرد لها فصلًا يقدم فيه صفات وفوائد وتاريخ كل منها مثل: الأرز باللبن - البلح والتمر- التمر هندي - الخُشاف - الزلابية - الطُّرشي - العرقسوس - الفول المدمّس - القطائف - الكنافة - النقل - الياميش - أمّ علي - قمر الدين.
ويأتي الفصل الأخير من المعجم، ليقدّم تفاصيل الفرحة الثانية للصائم، وهي فرحة العيد، فيتحدث عن كسوة العيد وكعك العيد: (تعد كسوة العيد أو ملابس العيد واحدة من أهم المظاهر الاحتفالية التي تستغرق اهتمامات المصريين في الثلث الأخير من شهر رمضان، حيث كان يطلق على عيد الفطر «عيد الحلل»، وهذه الاهتمامات ليست وليدة هذا العصر، وإنما تضرب بجذورها إلى حيث دولة الخلافة الإسلامية في عصور بني أمية والعباس، والتي كانت رسومها تقضي بتفريق الخلع على أرباب الوظائف في الدولة خلال شهر رمضان، ليبدو موكب الخليفة وهو في طريقه لأداء صلاة العيد قشيبًا ومزدانًا بألوان الملابس الرائقة والجديدة).
كعك العيد
أما كعك العيد فهو عادة مصرية قديمة، فقد (وردت صور كثيرة عن صناعة كعك العيد في مقابر طيبة ومنف، ومن بينها ما عُثر عليه على جدران مقبرة رخمي - رع من الأسرة الثامنة عشرة، إذ تبيّن كيف كان عسل النحل يخلط بالسمن ويقلّب على النار، ثم يُصبّ على الدقيق ويقلّب حتى يتحوّل إلى عجينة يسهل تشكيلها بالأشكال المطلوبة، ثم يُرصّ على ألواح من الأردواز ويُوضع في الأفران، كما كانت بعض الأنواع تُقلى في السمن والزيت.
ويؤثر عن أبي بكر بن علي المادرائي (وزير الدولة الإخشيدية) أنه عمل كعكًا حشاه بالدنانير الذهبية، أطلقوا عليه اسم «أفطن له»، وكذلك كان يفعل من قبله الإمام الليث بن سعد؛ الذي يقال إنه أهدى إلى الإمام مالك بن أنس بالمدينة صينية وضع فيها الكعك المصري، وكان حشوها من الذهب، كما كان يُهدي إلى أصدقائه أمثال هديته إلى الإمام مالك).
ستنتهي من قراءة معجم رمضان للباحث فؤاد مرسي، الذي يُحمد له عمله الكبير القيّم، كما تقدّر قيمة تواضعه وهو يقدّم لقارئه هذا العمل معترفًا بأنه لم يصل إلى الكمال، فالتوفيق فيه من الله (وإن كنت قد أخطأتُ، فألتمس من العليّ القدير المغفرة، ومن القارئ الكريم المعذرة).
سيغنيك هذا المعجم كثيرًا، وسيفتح لك آفاقًا أرحب للتعرف أكثر وأكثر على سيد الشهور... شهر الله، رمضان الفضيل ■