أولادُنا في المَدْرَسة الرّمضانيَّة
لم يبالغ الشاعر القديم عندما قال: «إنّما أولادنا بيننا أكبادنا تمشي على الأرض»، بيد أنهم حبَّات القلوب، ونور المُقل؛ ولذلك يجاهد الآبـاء جهادًا متواصلًا؛ كي يُسعدوا هذه الأكباد، ويحيطونها بالرعاية والعناية في أجمل صورة، وأبهى حُلَّة. وإذا كان الأمر كذلك، فإنه ينبغي ألّا يقتصر هذا الاهتمام على أمور الإطعام والكساء والدواء، وما إليها من أمور الإِعاشة، بل ينسحب - وجوبًا - على التربية الأخلاقيّة، والأمور العباديَّة، فضلًا عن غرْس العقيدة الصحيحة التي تَحفظهم من مهاوي الانحراف والزَّلَل، وخصوصًا في مواسم الطاعات، ومنها شهر رمضان المبارك.
فضَّل الله شهر رمضان على غيره من الشهور؛ فلذا ينبغي الفرح بقدومه، والاستبشار بحــضـوره، فـيتـحـلَّقُ الأطـفالُ حـول آبـائـهم وأمهاتهم، وإعداد خطة التعبُّد وصِلة الأرحام ومشاريع الخير، وغيرها من أعمال العبادة والبِرِّ، وهو ما سنَّه النبي الكريم، فقد ورد أنه كان يدعو الله أن يُبلَّغه شهرَ رمضان، بقوله: «اللهم بارِك لنا في رجب وشعبان، وبَلِّغنا رمضان»؛ لما في رمضان من خيرٍ عميمٍ وأجرٍ مضاعف. كما كان يَخطب فيهم في آخر ليلة من شعبان: أن «جاءَكم شهرُ رمضان، شهرٌ مبارك كَتب الله عليكم صيامه، فيه تُفتّح أبوابُ الجنان، وتُغلق فيه أبوابُ الجحيم، وتُغلُّ فيه الشياطين، فيه ليلةٌ خيرٌ من ألف شهر، مَن حُرِمَ خيرَها فقد حُرِمَ». وهو ما فَقِهه السلف الصالح، فكانوا يُودِّعُون الشهر في ستة أشهر، وينتظرون قدومه في ستة أشهرٍ أخرى.
تدريب الأطفال على الصيام
شهر رمضان مدرسةٌ تربويَّةٌ مُتكاملة، يُمثَّــل فيها الصيام حَجَر الزَّاوية، ولذا يجب - أولًا - على الوالِدَين أن يكونا قدوةً حسنة في الالتزام بآداب الشهر الكريم، ثم توجيه أبنائهم للصيام المُتدرِّج؛ حتى إذا كانت مرحلة البلوغ والتكليف كان شأن العبادة يسيرًا، وذلك ما فعله صحابة رسول الله، حتَّى في النوافل؛ تمهيدًا إلى زمان فِعل الواجب.
فعَنِ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذِ ابْنِ عَفْرَاءَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَتْ: أَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَبِيحَةَ عَاشُورَاءَ إِلَى قُرَى الأَنْصَارِ التي حَوْلَ الْمَدِينَةِ: «مَنْ كَانَ أَصْبَحَ صَائِمًا فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ، وَمَنْ كَانَ أَصْبَحَ مُفْطِرًا فَلْيُتِمَّ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ»، قَالَتْ: وَكُنَّا نَصُومُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَنُصَوِّمُ صِبْيَانَنَا الصِّغَارَ وَنَجْعَلُ لَهُمُ اللُّعْبَةَ مِنَ الْعِهْنِ، وَنَذْهَبُ بِهِمْ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَإِذَا بَكَى أَحَدُهُمْ عَلَى الطَّعَامِ أَعْطَيْنَاهُ ذَلِكَ حَتَّى يَكُونَ عِنْدَ الإِفْطَار».
لكن ينبغي تعزيز الصبيان وتحفيزهم بعد صيامهم المتدرج والمدة الزمنية المُتفَق عليها، بشيء مُحببٍ إلى أنفسهم؛ حتى يستقيم لهم أمر الصيام بإذن الله عند بلوغهم، فقد استحبّ كثيرٌ من العلماء التدريب على العبادات؛ لما فيها من البرَكة، حتى قِيل: «إنَّ مَن حَمَلَ صبيًّا على طاعة الله وَدَرَّبه على التزام شرائعه؛ فإنّه مأجورٌ بذلك»، ومُـنـتفِـعٌ به في حياته باستقامة وَلَدِه، وكذلك بعد مماته: بأن خَلَف ولدًا صالحًا يدعو الله له بالرحمة والمغفرة، فضلًا عن الأجر الذي لا ينقطع من كل عبادة فعلها ولدُه، أو خُلُقٍ تخلَّق به، أو قيمةٍ فاضلةٍ اتَّسم بها، فقد قال : «مَن دعا إلى هدًى كان له مِن الأَجْر مِثل أجورِ مَن تَبِعه لا يَنقص ذلك من أجورهم شيئًا»، وقال أيضًا: «مَن دلَّ على خيرٍ فله مُثل أَجر فاعِله».
رمضان والقرآن
وللقرآن في الشهر الكريم مذاقٌ آخر، فالرُّوح مُستعدةٌ لاستقبال نور الوحي، فرمضان شهر القرآن، فيه نَزَل، وفيه كان جبريل الأمين يُدارِس النبي القرآن كلّ ليلة، ومن هنا عظُم أجر قراءته ومُدارسته وتدبُّره والاجتماع عليه، كما هو اقتداءٌ واتِّباعٌ لسنَنَ النبيِّ الكريم، وسيرٌ على دَرْب السلف الصالح ومَن تَبِعهم بإحسان، مما يُشجِّع المُربِّي على تقوية الصلة والوشائج بين مَن يعول وكتاب الله دُستور الأُمَّة.
ولا يَخفى أن هناك صعوباتٍ وعوائقَ في أمور التربية ينبغي التغلُّب عليها، وتَحَمـُّل المَشَاق في سبيلها، وعلى قدر الجهد يكون الأجر، قال : «لأنْ يُؤَدِّبَ الرجلُ وَلَدَه، خيرٌ من أن يتصدَّق بصاع»، كيف لا، وهُمُ الجيل الذي سيُلقَى على عاتقه حَمْل الراية، وحِراسة الثُّغور بعد عَقدٍ أو عقدين من الزمان؟
رمضان والعبادات الأخرى
ما مِن شكٍّ في أن شهر رمضان يمتاز بروحانيَّاتٍ إيمانيّةٍ ومِنحٍ إلهيَّة، فالشيطان مُقيَّد، ودرْب الطاعاتِ مُمهَّـد، والمساجد عامرةٌ بأهلها، فهذه عوامل مجتمعة تساعد على غرْس قيمة حُب الطاعة والتقرُّب إلى الله ومراقبته، والسّعي إلى مَرضاته، يَلِي هذا الغرس التطبيقُ العملي باصطحاب الأطفال في أداء الصلوات بالمساجد، ومجالس الذِّكْر، وأعمال الخير، وأنشطة البِرِّ، وحثّهم على إخراج صدقةٍ من مالهم الخاص، فتنتقل التربية من التنظير إلى التطبيق؛ وتزداد القيمُ رسوخًا في وعْي النشء، لا تندثر - بفضل الله - مهما كثُرت المغريات، وما أصدق قول أبي العلاء المعري:
ويَنــشأُ نـاشئ الـفــتيانِ مِنّا
عـــلـــى مــــا كـــانَ عَـــــوّدَهُ أبُـــوه
وما دانَ الفَتى بحِــجًا، ولكــنْ
يُعَـلّمُـهُ التّدَيّـنَ أقــرَبُــوه
تُـثـمـر هذه العبادات، والصيام بصفةٍ خاصة: المراقبةَ والخشوع، فيخاف الصبيُّ ربَّه ويخشاه، ويجتنب النواهي، ويبتعد عن المعاصي، بعد أن تَمّ ترويضه «على أن الله سبحانه يراقبه ويراه، ويعلم سرَّه ونَجْواه، ويعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور؛ فتخليق الولد على مراقبة الله - سبحانه وتعالى - يجب أن تكون غاية المُربِّي، وهمّه وهدفه الأكبر»، فإذا ما اكتمل ذلك للنشء؛ فإن كل شيء بعد ذلك - بإذن الله - سهلٌ ميسور، فقد تحصَّنُوا تحصينًا ذاتيًّا من الانحراف والغلوّ، وقويتْ مَناعتهم ضد المشاكل السلوكية والأخلاقية المتوقَّع حدوثها في مراحل النمو المختلفة، أو على الأقل تُزيل العواملَ الباعثة لها، وتقليل أثر وقوعها، أو إيقاف تطورها.
وبهذا يكون الشهر الفضيل فرصةً سانحة لتثبيت دعائم العمل التربوي، وترسيخ القيم الفاضلة، وتدريب النشء على أعمال الطاعة والخير؛ فينشأ صالحًا مُصلحًا، تسعد بهم القلوب، وتنهض بهم الأمم وتفخر الشعوب ■