أثر «الأزهر» على التعليم بالدولة العثمانية

أثر «الأزهر» على التعليم بالدولة العثمانية

 من الثابت تاريخيًا أن المدرسة العثمانية - التي كانت تمثّل التعليم العثماني في ذلك الوقت - قد تأثرت تأثرًا بالغًا بالمدارس التي سبقتها في العالم الإسلامي، فقد تجمعت في المدارس العثمانية تقريبًا جميع الأوصاف الخاصة بالحياة المدرسية التقليدية التي بدأت تنتشر في أرجاء العالم الإسلامي منذ القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي).  وقد وضعت تلك المدارس لنفسها طريقًا يقوم على الشرح والتحشية، ضمن إطار التمسك الصارم بتقاليد أهل السنّة، ولعبت المدرسة دورًا مهمًا في تحديد توجّه الدولة السياسي الديني، وفي صياغة إسلام الأهالي السنّي.

أدى‭ ‬التعليم‭ ‬المصري،‭ ‬المتمثل‭ ‬في‭ ‬الأزهر‭ ‬الذي‭ ‬أُنشئ‭ ‬عام‭ ‬361‭ ‬هـ‭/‬972‭ ‬م،‭ ‬دورًا‭ ‬مهمًا‭ ‬في‭ ‬التأثير‭ ‬على‭ ‬المدرسة‭ ‬العثمانية،‭ ‬وذلك‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬العلماء‭ ‬الذين‭ ‬أتمّوا‭ ‬تعليمهم‭ ‬ودراستهم‭ ‬في‭ ‬مصر،‭ ‬فأول‭ ‬مدرس‭ ‬في‭ ‬أول‭ ‬مدرسة‭ ‬عثمانية،‭ ‬وهو‭ ‬داود‭ ‬الرومي‭ (‬ت‭ ‬750‭ ‬هـ‭/ ‬1350‭ ‬م‭) ‬أتم‭ ‬تعليمه‭ ‬في‭ ‬مصر،‭ ‬وشمس‭ ‬الدين‭ ‬الفناري‭ (‬ت‭ ‬833‭ ‬هـ‭/ ‬1430‭ ‬م‭) ‬أكمل‭ ‬تعليمه‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬أيضًا،‭ ‬وكان‭ ‬عالمًا‭ ‬متخصصًا‭ ‬في‭ ‬العلوم‭ ‬العقلية‭ ‬والتصوف،‭ ‬والطبيب‭ ‬العثماني‭ ‬حاجي‭ ‬باشا‭ (‬ت‭ ‬820‭ ‬هـ‭/ ‬1417‭ ‬م‭) ‬الذي‭ ‬أتم‭ ‬تعليمه‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬ودرس‭ ‬بها‭ ‬العلوم‭ ‬العقلية‭ ‬والمنطق‭ ‬والطب،‭ ‬وعمل‭ ‬لفترة‭ ‬رئيسًا‭ ‬للأطباء‭ ‬في‭ ‬مستشفى‭ ‬منصورية‭ ‬قلاوون‭ ‬بالقاهرة‭. ‬

وظل‭ ‬هذا‭ ‬التبادل‭ ‬مستمرًا‭ ‬حتى‭ ‬القرن‭ ‬السادس‭ ‬عشر،‭ ‬وقد‭ ‬ذكر‭ ‬طاشكوبري‭ ‬زاده‭ ‬أن‭ ‬‮«‬أحد‭ ‬العلماء‭ ‬العثمانيين‭ ‬قد‭ ‬أتم‭ ‬تعليمه‭ ‬في‭ ‬الدولة‭ ‬العثمانية،‭ ‬ثم‭ ‬عمل‭ ‬مدرسًا‭ ‬بمدرسة‭ ‬العباسية‭ ‬بمصر‭ ‬في‭ ‬عهد‭ ‬السلطان‭ ‬بايزيد‭ ‬الثاني،‭ ‬ثم‭ ‬صار‭ ‬مدرسًا‭ ‬بمدرسة‭ ‬النّعال‭ ‬في‭ ‬بلدة‭ ‬قونية،‭ ‬ثم‭ ‬اشتغل‭ ‬بالقضاء‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‮»‬‭.‬

ولم‭ ‬يكن‭ ‬الأزهر‭ ‬شيئًا‭ ‬جديدًا‭ ‬بالنسبة‭ ‬للعثمانيين،‭ ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬له‭ ‬شهرة‭ ‬واسعة‭ ‬في‭ ‬الدولة‭ ‬العثمانية،‭ ‬وذلك‭ ‬أنه‭ ‬استطاع‭ - ‬عبر‭ ‬تاريخه‭ - ‬أن‭ ‬يصبح‭ ‬القاعدة‭ ‬الرئيسية‭ ‬للثقافة‭ ‬الإسلامية‭ ‬السنيّة‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬الإسلامي،‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬يضم‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الطلاب،‭ ‬وذلك‭ ‬لاتساع‭ ‬مجال‭ ‬الدراسة‭ ‬وتنوّعها،‭ ‬فكان‭ ‬متاحًا‭ ‬للطلاب‭ ‬أن‭ ‬يدرسوا‭ ‬فيه‭ ‬كل‭ ‬مذاهب‭ ‬أهل‭ ‬السُّنة،‭ ‬كما‭ ‬كانت‭ ‬تدرس‭ ‬فيه‭ ‬العلوم‭ ‬الدينية،‭ ‬فضلًا‭ ‬عن‭ ‬اللغوية،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬ميسورًا‭ ‬في‭ ‬المدارس‭ ‬التي‭ ‬أنشئت‭ ‬على‭ ‬أساس‭ ‬التخصص‭. ‬

 

احترام‭ ‬عميق‭ ‬للأزهر

  ‬نظرًا‭ ‬لتلك‭ ‬المكانة‭ ‬البارزة‭ ‬للأزهر،‭ ‬فقد‭ ‬وفد‭ ‬عليه‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الطلاب‭ ‬العثمانيين‭ ‬الذين‭ ‬نهلوا‭ ‬العلم‭ ‬في‭ ‬رحابه‭ ‬ثم‭ ‬حملوه‭ ‬إلى‭ ‬بلادهم‭. ‬وشهد‭ ‬الأزهر‭ ‬أيضًا‭ ‬جمهرة‭ ‬من‭ ‬العلماء‭ ‬العثمانيين‭ ‬الذين‭ ‬شدّوا‭ ‬رحالهم‭ ‬إلى‭ ‬مصر‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬الهجري‭ (‬الخامس‭ ‬عشر‭ ‬الميلادي‭)‬،‭ ‬وقد‭ ‬برع‭ ‬هؤلاء‭ ‬العلماء‭ ‬في‭ ‬العلوم‭ ‬الدينية‭ ‬الإسلامية‭ ‬والعربية،‭ ‬وتصدّروا‭ ‬بعضًا‭ ‬من‭ ‬حلقات‭ ‬الأزهر‭ ‬الدراسية،‭ ‬وألقوا‭ ‬الدروس‭ ‬في‭ ‬التفسير‭ ‬والحديث‭ ‬والفلسفة‭ ‬والمنطق‭ ‬والبيان‭ ‬والنحو،‭ ‬إذ‭ ‬كانت‭ ‬الروابط‭ ‬العلمية‭ ‬والروحية‭ ‬قائمة‭ ‬بين‭ ‬الأزهر‭ ‬والعثمانيين‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يدخلوا‭ ‬مصر‭.‬

وقد‭ ‬أظهر‭ ‬العثمانيون‭ ‬احترامًا‭ ‬عميقًا‭ ‬للأزهر،‭ ‬وأصبحت‭ ‬له‭ ‬مكانة‭ ‬كبيرة‭ ‬واحترامًا‭ ‬زائدًا‭ ‬لدى‭ ‬العثمانيين،‭ ‬لأنّ‭ ‬الأزهر‭ ‬قد‭ ‬غدا‭ ‬بعد‭ ‬سقوط‭ ‬الدولة‭ ‬الفاطمية‭ ‬المركز‭ ‬الرئيسي‭ ‬للدراسات‭ ‬السنيّة‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬الإسلامي،‭ ‬وهو‭ ‬مذهب‭ ‬العثمانيين،‭ ‬لذا‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬الطبيعي‭ ‬أن‭ ‬يلقى‭ ‬الأزهر‭ ‬والقائمون‭ ‬عليه‭ ‬والعاملون‭ ‬في‭ ‬رحابه،‭ ‬التقدير‭ ‬الأكبر‭ ‬من‭ ‬العثمانيين‭ ‬السنيين‭ ‬المتمسكين‭ ‬بمذهبهم‭ ‬بشدة‭.‬

وبعد‭ ‬أن‭ ‬دخلت‭ ‬مصر‭ ‬تحت‭ ‬الحكم‭ ‬العثماني،‭ ‬لم‭ ‬يحاول‭ ‬العثمانيون‭ ‬فرض‭ ‬أي‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬أنواع‭ ‬القيود‭ ‬العلمية‭ ‬والتعليمية‭ ‬على‭ ‬التدريس‭ ‬في‭ ‬الأزهر،‭ ‬فلم‭ ‬يتدخلوا‭ ‬في‭ ‬جعل‭ ‬اللغة‭ ‬التركية‭ ‬العثمانية‭ ‬لغة‭ ‬الدراسة‭ ‬فيه،‭ ‬أو‭ ‬إحداث‭ ‬تغيير‭ ‬في‭ ‬شؤونه‭ ‬الداخلية،‭ ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬السياسية‭ ‬العليا‭ ‬للدولة‭ ‬العثمانية‭ ‬تتجنب‭ - ‬قدر‭ ‬الإمكان‭ - ‬إحداث‭ ‬تغيرات‭ ‬جذرية‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬سكان‭ ‬الأقاليم‭ ‬المفتوحة،‭ ‬فكانت‭ ‬تُبقي‭ ‬على‭ ‬الأنظمة‭ ‬التي‭ ‬ألفها‭ ‬وتعوّدها‭ ‬السكان،‭ ‬والتي‭ ‬لا‭ ‬تتعارض‭ ‬مع‭ ‬السيادة‭ ‬العثمانية‭. ‬وقد‭ ‬استفاد‭ ‬الأزهر‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬السياسية،‭ ‬ومارس‭ ‬علماؤه‭ ‬حريّة‭ ‬مطلقة‭ ‬في‭ ‬اختيار‭ ‬الدراسات‭ ‬والبحوث‭ ‬والموضوعات‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تلقى‭ ‬على‭ ‬الطلاب،‭ ‬وفي‭ ‬انتقاء‭ ‬الكتب‭ ‬الخاصة‭ ‬بتلك‭ ‬الدروس،‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تمارس‭ ‬الدولة‭ ‬أيّ‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬الرقابة،‭ ‬أو‭ ‬الإشراف،‭ ‬أو‭ ‬توجيه‭ ‬الدراسة‭ ‬في‭ ‬الأزهر‭ ‬الشريف‭.‬

 

علاقة‭ ‬تكاملية

ومما‭ ‬يدلل‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الأمر،‭ ‬أن‭ ‬الدولة‭ ‬العثمانية‭ ‬لم‭ ‬تعيّن‭ ‬أيّ‭ ‬عالِم‭ ‬عثماني‭ ‬في‭ ‬منصب‭ ‬شيخ‭ ‬الأزهر‭ ‬طوال‭ ‬فترة‭ ‬حكمها‭ ‬لمصر،‭ ‬وتركت‭ ‬منصب‭ ‬شيخ‭ ‬الأزهر‭ ‬للعلماء‭ ‬المصريين،‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬ينافسهم‭ ‬علماء‭ ‬عثمانيون‭ ‬آخرون‭. ‬كما‭ ‬لم‭ ‬تتدخل‭ ‬في‭ ‬اختيار‭ ‬أحد‭ ‬المصريين‭ ‬المرشحين‭ ‬لمنصب‭ ‬المشيخة،‭ ‬ولم‭ ‬تهتمّ‭ ‬بأن‭ ‬يكون‭ ‬الشيخ‭ ‬حنفيّ‭ ‬المذهب،‭ ‬بل‭ ‬تركت‭ ‬اختيار‭ ‬شيخ‭ ‬للجامع‭ ‬الأزهر‭ ‬للمشايخ‭ ‬أنفسهم،‭ ‬والدليل‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬أحدًا‭ ‬من‭ ‬علماء‭ ‬الحنفية‭ (‬مذهب‭ ‬الدولة‭ ‬العثمانية‭ ‬الرسمي‭)‬،‭ ‬لم‭ ‬يمثّل‭ ‬منصب‭ ‬شيخ‭ ‬الأزهر‭ ‬طوال‭ ‬العصر‭ ‬العثماني،‭ ‬وإنّما‭ ‬تولي‭ ‬أمر‭ ‬المشيخة‭ ‬علماء‭ ‬من‭ ‬المالكية‭ ‬والشافعية‭ ‬فقط‭.‬

وبسبب‭ ‬تلك‭ ‬المكانة‭ ‬التي‭ ‬حظي‭ ‬بها‭ ‬الأزهر‭ ‬لدى‭ ‬العثمانيين،‭ ‬لم‭ ‬ينشأ‭ ‬أي‭ ‬تنافس‭ ‬بين‭ ‬المدرسة‭ ‬العثمانية‭ ‬والجامع‭ ‬الأزهر،‭ ‬بل‭ ‬ظلّت‭ ‬العلاقة‭ ‬بينهما‭ ‬علاقة‭ ‬تكاملية‭ ‬تعاضدية،‭ ‬لا‭ ‬تنافسية،‭ ‬فالأزهر‭ ‬كان‭ ‬أسبق‭ ‬زمنيًا‭ ‬من‭ ‬المدرسة‭ ‬العثمانية،‭ ‬وأصبح‭ ‬مع‭ ‬الوقت‭ ‬مؤسسة‭ ‬تعليمية‭ ‬متكاملة‭ ‬العناصر،‭ ‬راسخة‭ ‬الأصول،‭ ‬على‭ ‬عكس‭ ‬المدرسة‭ ‬العثمانية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تحاول‭ ‬أن‭ ‬تبدأ‭ ‬بشكل‭ ‬جاد،‭ ‬وتحاول‭ ‬أن‭ ‬تطور‭ ‬أداءها‭ ‬لكي‭ ‬تستطيع‭ ‬الوفاء‭ ‬بخدماتها‭ ‬‮«‬فالأزهر‭ ‬أُنشئ‭ ‬ليكون‭ ‬مسجد‭ ‬الدولة‭ ‬الرسمي،‭ ‬وموطن‭ ‬الدعوة‭ ‬المذهبية‭. ‬لكنّه‭ ‬ما‭ ‬لبث‭ ‬أن‭ ‬أصبح‭ ‬جامعة‭ ‬دينية‭ ‬علمية،‭ ‬يتلقّى‭ ‬فيها‭ ‬طلاب‭ ‬العلم‭ ‬وروّاده‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬حدب‭ ‬وصوب،‭ ‬مختلف‭ ‬العلوم‭ ‬والفنون،‭ ‬وسبق‭ ‬بذلك‭ ‬غيره‭ ‬من‭ ‬المساجد،‭ ‬والمؤسسات‭ ‬التعليمية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تقوم‭ ‬بجانبه‭.‬

وقد‭ ‬عرف‭ ‬الأزهر‭ ‬نوعًا‭ ‬من‭ ‬التعليم‭ ‬المجاني،‭ ‬وقد‭ ‬اعتاد‭ ‬طلاب‭ ‬العلم‭ ‬الإقامة‭ ‬على‭ ‬مقربة‭ ‬من‭ ‬الجامع‭ ‬الأزهر،‭ ‬لذا‭ ‬أنشئت‭ ‬دار‭ ‬بجوار‭ ‬الجامع‭ ‬الأزهر‭ ‬لإقامة‭ ‬الفقهاء‭ ‬فيها‭ ‬على‭ ‬نفقة‭ ‬الدولة‭ ‬الفاطمية‭. ‬ووضعت‭ ‬نواة‭ ‬لإنشاء‭ ‬الأروقة‭ ‬التي‭ ‬ألحقت‭ ‬بالأزهر،‭ ‬مما‭ ‬سهّل‭ ‬سبل‭ ‬التعليم‭ ‬على‭ ‬طلاب‭ ‬العلم‭ ‬الوافدين‭ ‬إلى‭ ‬الأزهر‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭.‬

‭ ‬

علوم‭ ‬شرعية‭ ‬وعقلية‭ ‬

وقد‭ ‬وجدت‭ ‬‮«‬الداخلية‮»‬‭ ‬أول‭ ‬ما‭ ‬وجدت‭ ‬متصلة‭ ‬بالأزهر،‭ ‬ثم‭ ‬انتقلت‭ ‬منه‭ ‬إلى‭ ‬سواه‭ ‬من‭ ‬المدارس‭ ‬في‭ ‬الإسلام‭ ‬كله،‭ ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬الدراسة‭ ‬في‭ ‬الأزهر‭ ‬تقسّم‭ ‬إلى‭ ‬ثلاثة‭ ‬أقسام؛‭ ‬الابتدائية،‭ ‬والمتوسطة،‭ ‬والعليا،‭ ‬ولكل‭ ‬مرحلة‭ ‬منها‭ ‬الكتب‭ ‬التي‭ ‬تناسبها‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬درجة‭ ‬الصعوبة،‭ ‬والعلماء‭ ‬القائمين‭ ‬على‭ ‬التدريس‭ ‬فيها‭. ‬أي‭ ‬أن‭ ‬الدراسة‭ ‬في‭ ‬الأزهر‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬دراسة‭ ‬موضوعات‭ ‬محددة‭ ‬في‭ ‬مناهج‭ ‬موضوعة‭ ‬سلفًا،‭ ‬بل‭ ‬كانت‭ ‬دراسة‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الكتب‭ ‬على‭ ‬أيدي‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬المدرسين،‭ ‬فكان‭ ‬الكتاب‭ ‬والأستاذ‭ ‬هما‭ ‬أساسا‭ ‬التعليم‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬المدارس‮»‬‭.‬

وقد‭ ‬كانت‭ ‬مواد‭ ‬التدريس‭ ‬بالجامع‭ ‬الأزهر‭ ‬هي‭ ‬العلوم‭ ‬الشرعية؛‭ ‬كالقراءات،‭ ‬والحديث،‭ ‬والتفسير،‭ ‬والفقه‭ ‬واللغة‭ ‬العربية،‭ ‬والأدب،‭ ‬والبلاغة،‭ ‬وعلوم‭ ‬التاريخ‭. ‬والعلوم‭ ‬العقلية؛‭ ‬كالمنطق،‭ ‬والفلسفة،‭ ‬والعلوم‭ ‬الرياضية،‭ ‬والطب،‭ ‬والتصوف‭. ‬

وتكفي‭ ‬نظرة‭ ‬واحدة‭ ‬على‭ ‬الكتب‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يدرسها‭ ‬الطلاب‭ ‬في‭ ‬الأزهر،‭ ‬ليتبين‭ ‬لنا‭ ‬إلى‭ ‬أي‭ ‬مدى‭ ‬كانت‭ ‬القاعدة‭ ‬العلمية‭ ‬متشابهة‭ ‬في‭ ‬كلا‭ ‬المدرستين،‭ ‬ففي‭ ‬التفسير‭ ‬كان‭ ‬الطلاب‭ ‬يدرسون‭ ‬الكشّاف‭ ‬للزمخشري‭ ‬وتفسير‭ ‬البيضاوي‭. ‬وفي‭ ‬الحديث‭ ‬صحيح‭ ‬البخاري‭ ‬وصحيح‭ ‬مسلم،‭ ‬وفي‭ ‬الفقه‭ ‬الحنفي‭ ‬‮«‬الهداية‮»‬‭ ‬و«متن‭ ‬القدوري‮»‬‭. ‬وفي‭ ‬علم‭ ‬الكلام‭ ‬والعقيدة‭ ‬‮«‬العقائد‭ ‬النسفية‮»‬‭ ‬بشرح‭ ‬التفتازاني،‭ ‬و«المواقف‮»‬‭ ‬لعضد‭ ‬الدين‭ ‬الأيجي‭.‬

وفي‭ ‬النحو‭ ‬‮«‬ألفية‭ ‬ابن‭ ‬مالك‮»‬‭ ‬و«الكافية‮»‬‭ ‬لابن‭ ‬الحاجب،‭ ‬وفي‭ ‬البلاغة‭ ‬‮«‬المفتاح‮»‬‭ ‬للسكاكي،‭ ‬وفي‭ ‬المنطق‭ ‬الإيساغوجي‭ ‬للأبهري،‭ ‬والشمسية‭ ‬للكاتبي،‭ ‬والمطالع‭ ‬للأرموي،‭ ‬وفي‭ ‬الفلسفة‭ ‬الهداية‭ ‬للأبهري،‭ ‬وفي‭ ‬الصرف‭ ‬كتاب‭ ‬مراح‭ ‬الأرواح‭.‬

 

‭ ‬تأثير‭ ‬متبادل

‭ ‬الواقع‭ ‬أن‭ ‬الاهتمام‭ ‬باللغة‭ ‬العربية‭ ‬بوصفها‭ ‬لغة‭ ‬تعليمية،‭ ‬كان‭ ‬أحد‭ ‬مظاهر‭ ‬التأثير‭ ‬المتبادل‭ ‬بين‭ ‬الأزهر‭ ‬والمدرسة‭ ‬العثمانية،‭ ‬فأصبحت‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬لغة‭ ‬التعليم‭ ‬المشترك‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬المدارس‭ ‬الإسلامية،‭ ‬وقد‭ ‬بلغت‭ ‬تلك‭ ‬المكانة‭ ‬العالية‭ ‬في‭ ‬المدارس‭ ‬الإسلامية‭ ‬عامة‭ ‬والمدرسة‭ ‬العثمانية‭ ‬بخاصة،‭ ‬لأنّ‭ ‬الغاية‭ ‬الأساسية‭ ‬للتعليم‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الفترة‭ ‬كانت‭ ‬هي‭ ‬تعليم‭ ‬المجتمع‭ ‬الشريعة‭ ‬الإسلامية‭ ‬بكل‭ ‬جوانبها،‭ ‬لذا‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬الطبيعي‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬تلك‭ ‬اللغة‭ ‬هي‭ ‬لغة‭ ‬المؤسسات‭ ‬التعليمية‭ ‬التي‭ ‬تعدّ‭ ‬وتخرّج‭ ‬الفقهاء‭ ‬والقضاة‭ ‬وأهل‭ ‬الفتوى،‭ ‬الذين‭ ‬يقومون‭ ‬على‭ ‬تحقيق‭ ‬الولاية‭.‬

‭ ‬ولأنّ‭ ‬الفقه‭ ‬في‭ ‬الإسلام‭ ‬يستمد‭ ‬أحكامه‭ ‬من‭ ‬القرآن‭ ‬والسُّنة،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬يلزم‭ ‬لدراسته‭ ‬الإلمام‭ ‬الجيد‭ ‬باللغة‭ ‬العربية،‭ ‬للاستفادة‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬المصادر‭ ‬بشكل‭ ‬مباشر،‭ ‬لذا‭ ‬فقد‭ ‬احتلت‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬موقعًا‭ ‬مهمًا‭ ‬بين‭ ‬علوم‭ ‬الآلة،‭ ‬ولم‭ ‬تحظَ‭ ‬اللغة‭ ‬التركية‭ ‬ولا‭ ‬الفارسية‭ ‬بالاهتمام‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬المدارس،‭ ‬وإن‭ ‬وجدت‭ ‬اللغة‭ ‬التركية‭ ‬مكانًا‭ ‬لها‭ ‬في‭ ‬مكاتب‭ ‬الصبيان‭ ‬لضرورة‭ ‬تعليم‭ ‬الأطفال‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬المدارس،‭ ‬كما‭ ‬أنها‭ ‬استخدمت‭ ‬في‭ ‬التعليم‭ ‬الشفهي،‭ ‬وتدريس‭ ‬تلك‭ ‬المواد‭ ‬التي‭ ‬كُتبت‭ ‬أساسًا‭ ‬باللغة‭ ‬العربية‭.‬

وقد‭ ‬أصبحت‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬لغة‭ ‬للعلم‭ ‬والتعليم‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت،‭ ‬ولم‭ ‬تستطع‭ ‬أي‭ ‬لغة‭ ‬أخرى‭ ‬منافستها‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المضمار،‭ ‬حتى‭ ‬اللغة‭ ‬التركية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬لغة‭ ‬الشعب،‭ ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬كل‭ ‬الكتب‭ ‬العلمية‭ ‬تقريبًا‭ ‬التي‭ ‬تدرس‭ ‬في‭ ‬المدارس‭ ‬العثمانية‭ ‬الأولى‭ ‬مكتوبة‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬العربية‮»‬‭.‬

‭ ‬ومن‭ ‬المحقق‭ ‬أن‭ ‬تلك‭ ‬اللغة‭ ‬قد‭ ‬حظيت‭ ‬بمكانة‭ ‬مهمة‭ ‬في‭ ‬برنامج‭ ‬تلك‭ ‬المدارس‭ ‬التعليمية،‭ ‬وأصبحت‭ ‬هي‭ ‬لغة‭ ‬العلم،‭ ‬حتى‭ ‬أن‭ ‬حاجي‭ ‬باشا‭ (‬ت‭ ‬819‭ ‬هـ‭ /‬1417‭ ‬م‭) ‬اعتذر‭ ‬في‭ ‬مقدمة‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬التسهيل‮»‬،‭ ‬وأبدى‭ ‬أسفه‭ ‬لأنّه‭ ‬كتب‭ ‬ذلك‭ ‬الكتاب‭ ‬باللغة‭ ‬التركية‭ ‬حتى‭ ‬يفهمه‭ ‬كل‭ ‬أفراد‭ ‬الشعب،‭ ‬ولم‭ ‬يكتبه‭ ‬باللغة‭ ‬العربية‭ ‬لغة‭ ‬العلم‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭.‬

‭ ‬

مكانة‭ ‬كبيرة

لم‭ ‬يقتصر‭ ‬الأمر‭ ‬على‭ ‬الفترة‭ ‬الأولى‭ ‬من‭ ‬عمر‭ ‬الدولة‭ ‬العثمانية،‭ ‬فقد‭ ‬ظلت‭ ‬‮«‬العربية‮»‬‭ ‬تحتفظ‭ ‬بتلك‭ ‬المكانة‭ ‬الكبيرة‭ ‬كلغة‭ ‬للعلم‭ ‬في‭ ‬فترات‭ ‬تالية،‭ ‬وظهر‭ ‬في‭ ‬القرنين‭ ‬الخامس‭ ‬والسادس‭ ‬عشر،‭ ‬ثلاثمئة‭ ‬وخمسة‭ ‬وعشرون‭ ‬كتابًا‭ ‬في‭ ‬الفلك،‭ ‬وضعها‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬علماء‭ ‬الدولة‭ ‬العثمانية،‭ ‬منها‭ ‬مئتان‭ ‬وسبعة‭ ‬باللغة‭ ‬العربية‭ ‬وحدها،‭ ‬وستّ‭ ‬وستّون‭ ‬باللغة‭ ‬التركية،‭ ‬واثنان‭ ‬وخمسون‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬الفارسية‮»‬‭. ‬وفي‭ ‬مجال‭ ‬الرياضيات‭ ‬ظهر‭ ‬ستة‭ ‬وأربعون‭ ‬كتابًا؛‭ ‬منها‭ ‬اثنان‭ ‬وأربعون‭ ‬باللغة‭ ‬العربية،‭ ‬وأربعة‭ ‬فقط‭ ‬باللغة‭ ‬التركية‭. ‬

وقد‭ ‬حظيت‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬بتلك‭ ‬المكانة‭ ‬الكبيرة‭ ‬في‭ ‬الدولة‭ ‬العثمانية،‭ ‬حتى‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تدخل‭ ‬الولايات‭ ‬العربية‭ ‬تحت‭ ‬الحكم‭ ‬العثماني،‭ ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬للتعليم‭ ‬تقاليد‭ ‬وطرائق‭ ‬ومؤسسات‭ ‬متشابهة‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬الولايات‭ ‬العربية‭ ‬قبل‭ ‬دخول‭ ‬الحكم‭ ‬العثماني‭ ‬إليها،‭ ‬ولم‭ ‬تكن‭ ‬تلك‭ ‬التقاليد‭ ‬تختلف‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬عمّا‭ ‬كانت‭ ‬عليه‭ ‬في‭ ‬أراضي‭ ‬الدولة‭ ‬العثمانية‭ ‬نفسها،‭ ‬لأن‭ ‬التعليم‭ ‬كان‭ ‬دينيًا‭ ‬بالدرجة‭ ‬الأولى،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬الدولة‭ ‬العثمانية‭ ‬كانت‭ ‬دولة‭ ‬إسلامية‭ ‬تماثل‭ ‬بنيتها‭ ‬الفكرية‭ ‬البنية‭ ‬الفكرية‭ ‬للولايات‭ ‬العربية‭ ‬التي‭ ‬دخلت‭ ‬في‭ ‬حوزتها‭. ‬أيضًا‭ ‬على‭ ‬مستوي‭ ‬اللغة‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬غريبة‭ ‬عن‭ ‬البنية‭ ‬الفكرية‭ ‬للدولة‭ ‬العثمانية،‭ ‬بل‭ ‬كانت‭ ‬تدخل‭ ‬في‭ ‬صلب‭ ‬التعليم‭ ‬في‭ ‬المدارس‭ ‬العثمانية‭ ‬ذاتها‭.‬

وظلت‭ ‬الدولة‭ ‬العثمانية‭ ‬حريصة‭ ‬على‭ ‬عدم‭ ‬التدخل‭ ‬في‭ ‬شؤون‭ ‬التعليم‭ ‬في‭ ‬الولايات‭ ‬العربية‭ ‬التي‭ ‬دخلت‭ ‬تحت‭ ‬حكمها،‭ ‬فلم‭ ‬تحاول‭ ‬أن‭ ‬تجعل‭ ‬اللغة‭ ‬التركية‭ ‬لغة‭ ‬رسمية‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الولايات،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬بقيت‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬لغة‭ ‬التعليم‭ ‬في‭ ‬الولايات‭ ‬العربية‭ ‬خلال‭ ‬هذه‭ ‬المرحلة،‭ ‬وكان‭ ‬على‭ ‬العلماء‭ ‬العثمانيين‭ ‬المرسلين‭ ‬إلى‭ ‬الولايات‭ ‬العربية‭ ‬أن‭ ‬يعلّموا‭ ‬ويدرّسوا‭ ‬بتلك‭ ‬اللغة‭.‬

والواقع‭ ‬أن‭ ‬كلّ‭ ‬ما‭ ‬سبق‭ ‬يبين‭ ‬لنا‭ ‬مكانة‭ ‬الأزهر‭ ‬واللغة‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬التعليم‭ ‬العثماني،‭ ‬ويدحض‭ ‬الزعم‭ ‬القائل‭ ‬بأنّ‭ ‬الدولة‭ ‬العثمانية‭ ‬حاولت‭ ‬فرض‭ ‬لغتها‭ ‬التركية‭ ‬على‭ ‬الشعوب‭ ‬والدول‭ ‬التي‭ ‬فتحتها‭ ‬■