جارودي والإسلام والحضارة العربية

جارودي والإسلام والحضارة العربية

في عام 1946، أصدر روجيه جارودي بالجزائر باكورة إنتاجه الفكري الذي وسمه بعنوان «الإسهام التاريخي للحضارة العربية»، كان يومها في الثالثة والثلاثين من عمره، وقد مرّ خلالها في مراحل حرجة أثّرت بعمق في اتجاهاته المستقبلية دينيًا وفكريًا وسياسيًا. من الناحية الدينية، وُلد جارودي لعائلة ملحدة من الطبقة الشعبية في مدينة مرسيليا على الشاطئ الغربي للمتوسط عام 1913، وفي مدارسها تلقى دروسه الابتدائية، وتابع دراسته الثانوية في باريس.  أما دراسته الجامعية، فكانت في قسم الفلسفة بكلية الآداب في جامعتَي إيكس إن بروفانس وستراسبورغ.

‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬أساتذته‭ ‬في‭ ‬الجامعة‭ ‬الأولى‭ ‬الفيلسوف‭ ‬واللاهوتي‭ ‬الكاثوليكي‭ ‬موريس‭ ‬بلوندل‭ (‬ت‭. ‬1949‭)‬،‭ ‬أما‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬ستراسبورغ‭ ‬التي‭ ‬نال‭ ‬منها‭ ‬إجازة‭ ‬في‭ ‬الفلسفة‭ ‬عام‭ ‬1936،‭ ‬فقد‭ ‬اختلط‭ ‬بعدد‭ ‬من‭ ‬علماء‭ ‬اللاهوت‭ ‬الإنجيليين‭ ‬المتأثرين‭ ‬بأفكار‭ ‬اللاهوتي‭ ‬السويسري‭ ‬المنفتح‭ ‬كارل‭ ‬بارث‭ (‬ت‭ ‬1968‭)‬،‭ ‬وبالفيلسوف‭ ‬الدنمركي‭ ‬سورين‭ ‬كيركيغارد‭ (‬ت‭ ‬1855‭)‬؛‭ ‬مما‭ ‬عمّق‭ ‬في‭ ‬نفسه‭ ‬الإيمان‭ ‬بالمسيحية‭ ‬الإنجيلية‭ ‬التي‭ ‬اعتنقها‭ ‬في‭ ‬الرابعة‭ ‬عشرة‭ ‬من‭ ‬عمره‭.‬

أما‭ ‬فكريًا،‭ ‬فقد‭ ‬اعتنق‭ ‬الماركسية‭ ‬بتأثير‭ ‬من‭ ‬قراءاته‭ ‬كتب‭ ‬ماركس‭ ‬بصورة‭ ‬خاصة،‭ ‬ونلحظ‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬موضوع‭ ‬أطروحته‭ ‬للدكتوراه‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬السوربون‭ ‬عام‭ ‬1953‭ ‬عن‭ ‬‮«‬النظرية‭ ‬المادية‭ ‬للمعرفة‮»‬،‭ ‬وفي‭ ‬موضوع‭ ‬أطروحته‭ ‬للدكتوراه‭ ‬الثانية‭ ‬التي‭ ‬نالها‭ ‬من‭ ‬أكاديمية‭ ‬العلوم‭ ‬في‭ ‬موسكو‭ ‬عام‭ ‬1954،‭ ‬وكان‭ ‬موضوعها‭ ‬‮«‬الحرية‮»‬‭.‬

  ‬حاول‭ ‬جارودي‭ ‬في‭ ‬هاتين‭ ‬الأطروحتين‭ ‬الربط‭ ‬بين‭ ‬إيمانه‭ ‬المسيحي‭ ‬والفكر‭ ‬الماركسي؛‭ ‬لكنّه‭ ‬اكتشف‭ ‬بالتجربة‭ ‬أن‭ ‬الواقع‭ ‬الفكري‭ ‬الشيوعي‭ ‬مختلف‭ ‬تمامًا‭ ‬عن‭ ‬تصوراته‭ ‬الدينية؛‭ ‬فانفصل‭ ‬فيما‭ ‬بعد‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬الفكر‭.‬

كان‭ ‬التزامه‭ ‬بالماركسية‭ ‬وراء‭ ‬انضمامه‭ ‬إلى‭ ‬صفوف‭ ‬‮«‬الألوية‭ ‬الحمراء‮»‬،‭ ‬التي‭ ‬حاربت‭ ‬قوات‭ ‬فرانكو‭ ‬الفاشية‭ ‬أثناء‭ ‬الحرب‭ ‬الأهلية‭ ‬الإسبانية‭ (‬1936‭ - ‬1939‭)‬،‭ ‬وفي‭ ‬نهاية‭ ‬هذه‭ ‬الحرب‭ ‬عاد‭ ‬إلى‭ ‬فرنسا‭ ‬والتحق‭ ‬بالجيش‭ ‬الفرنسي،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬حكومة‭ ‬فيشي‭ ‬الموالية‭ ‬لهتلر‭ ‬والفاشيين‭ ‬اعتقلته‭ ‬عام‭ ‬1940‭ ‬وأرسلته‭ ‬إلى‭ ‬أحد‭ ‬معسكرات‭ ‬الاعتقال‭ ‬في‭ ‬الصحراء‭ ‬الجزائرية‭.‬

 

بداية‭ ‬تعرُّفه‭ ‬إلى‭ ‬الإسلام

في‭ ‬عام‭ ‬1943‭ ‬أُطلق‭ ‬سراحه‭ ‬بعد‭ ‬33‭ ‬شهرًا‭ ‬من‭ ‬الاعتقال؛‭ ‬فعمل‭ ‬رئيسًا‭ ‬لتحرير‭ ‬نشرة‭ ‬الأخبار‭ ‬في‭ ‬راديو‭ ‬فرنسا‭ ‬بالجزائر،‭ ‬لكنّه‭ ‬طرد‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬المنصب‭ ‬بعد‭ ‬شهرين‭ ‬بسبب‭ ‬مقالاته‭ ‬النارية‭ ‬ضد‭ ‬الاستعمار‭ ‬الفرنسي،‭ ‬فانصرف‭ ‬إلى‭ ‬التدريس‭ ‬في‭ ‬مدارس‭ ‬جزائرية،‭ ‬ثم‭ ‬أصدر‭ ‬مجلة‭ ‬الحرية‭ ‬الجزائرية‭ ‬الأسبوعية‭.‬

‭ ‬وخلال‭ ‬هذه‭ ‬الفترة؛‭ ‬تعرَّف‭ ‬إلى‭ ‬الإسلام‭ ‬والحضارة‭ ‬الإسلامية‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬قياديين‭ ‬في‭ ‬التيار‭ ‬الإصلاحي‭ ‬الإسلامي؛‭ ‬في‭ ‬طليعتهم‭ ‬الشيخ‭ ‬محمد‭ ‬بشير‭ ‬الإبراهيمي‭ (‬1889‭ - ‬1965‭) ‬الذي‭ ‬أطلعه‭ ‬على‭ ‬كفاح‭ ‬الأمير‭ ‬عبدالقادر‭ ‬الجزائري‭ (‬1808‭ - ‬1883‭) ‬من‭ ‬أجل‭ ‬استقلال‭ ‬الجزائر‭ ‬عن‭ ‬فرنسا،‭ ‬وعلى‭ ‬أفكار‭ ‬عبدالحميد‭ ‬بن‭ ‬باديس‭ (‬1889‭ - ‬1940‭) ‬الإصلاحية،‭ ‬ومجلة‭ ‬الشهاب‭ ‬الناطقة‭ ‬بأفكاره‭ ‬كأحد‭ ‬رواد‭ ‬الفكر‭ ‬الإسلامي‭ ‬المعاصر‭ ‬في‭ ‬الجزائر‭.‬

كان‭ ‬من‭ ‬ثمار‭ ‬هذا‭ ‬الاتصال‭ ‬بفكر‭ ‬الإصلاحيين‭ ‬المسلمين‭ ‬الجزائريين‭ ‬عُكوف‭ ‬جارودي‭ ‬على‭ ‬دراسة‭ ‬تعاليم‭ ‬الإسلام‭ ‬وحقائق‭ ‬الحضارة‭ ‬العربية‭ ‬الإسلامية‭ ‬وما‭ ‬قدّمته‭ ‬من‭ ‬العلوم‭ ‬والأفكار‭ ‬الإنسانية‭ ‬للحضارة‭ ‬الغربية‭ ‬الحديثة؛‭ ‬فكان‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬الإسهام‭ ‬التاريخي‭ ‬للحضارة‭ ‬العربية‮»‬‭ ‬من‭ ‬ثمرات‭ ‬هذا‭ ‬الاتصال‭.‬

 

بداية‭ ‬جديدة

كان‭ ‬تعرُّفه‭ ‬إلى‭ ‬تعاليم‭ ‬الإسلام‭ ‬والحضارة‭ ‬العربية‭ ‬الإسلامية‭ ‬بداية‭ ‬جديدة‭ ‬في‭ ‬حياته‭ ‬الدينية‭ ‬والفكرية؛‭ ‬إذ‭ ‬عكف‭ ‬على‭ ‬قراءة‭ ‬وتحليل‭ ‬ما‭ ‬أنتجه‭ ‬العلماء‭ ‬والفلاسفة‭ ‬المسلمون‭ ‬من‭ ‬العلم‭ ‬والفلسفة‭ ‬عبر‭ ‬العصور،‭ ‬فبهره‭ ‬هذا‭ ‬الإنتاج‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬الغرب‭ ‬يطمسه‭ ‬ويخفيه‭ ‬عن‭ ‬شعوبه،‭ ‬ويُقصيه‭ ‬مع‭ ‬غيره‭ ‬من‭ ‬الإنتاج‭ ‬الفكري‭ ‬للحضارات‭ ‬الشرقية‭ ‬إلى‭ ‬مرتبة‭ ‬دنيا‭ ‬من‭ ‬تاريخ‭ ‬الحضارات،‭ ‬لشدة‭ ‬تعلُّق‭ ‬الغربيين‭ ‬برؤية‭ ‬ضيقة‭ ‬للعالم‭ ‬منذ‭ ‬الحروب‭ ‬الصليبية،‭ ‬تتمحور‭ ‬حول‭ ‬عبقرية‭ ‬العقل‭ ‬الأوربي‭ ‬الخلّاق‭ ‬وحده‭. ‬

وكي‭ ‬يؤكد‭ ‬جارودي‭ ‬خطأ‭ ‬هذه‭ ‬الاعتقاد؛‭ ‬لجأ‭ ‬إلى‭ ‬مجموعة‭ ‬وافرة‭ ‬من‭ ‬الوثائق‭ ‬العربية‭ ‬والإسلامية‭ ‬الأصلية،‭ ‬واستعرض‭ ‬مجمل‭ ‬المبادئ‭ ‬التي‭ ‬يدين‭ ‬بها‭ ‬العالم‭ ‬الغربي‭ ‬للحضارة‭ ‬والقيم‭ ‬الثقافية‭ ‬العربية‭ ‬الإسلامية،‭ ‬ودرجة‭ ‬حضورها‭ ‬في‭ ‬قطاعات‭ ‬متعددة‭ ‬من‭ ‬البحوث‭ ‬العلمية‭ ‬والفلسفية‭ ‬والفنون‭ ‬والآداب؛‭ ‬معتبرًا‭ ‬أن‭ ‬الاهتمام‭ ‬بثمرات‭ ‬الحضارة‭ ‬العربية‭ ‬الإسلامية‭ ‬ومنحها‭ ‬المكانة‭ ‬التي‭ ‬تستحقها،‭ ‬هو‭ ‬أمر‭ ‬يفرضه‭ ‬البحث‭ ‬العلمي‭ ‬الموضوعي‭ ‬والمجرد‭. ‬

هذا‭ ‬هو‭ ‬فحوى‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬الإسهام‭ ‬التاريخي‭ ‬للحضارة‭ ‬العربية،‭ ‬وبعد‭ ‬ذلك‭ ‬أصدر‭ ‬عددًا‭ ‬من‭ ‬الكتب‭ ‬المهمة‭ ‬حول‭ ‬الإسلام‭ ‬وحضارته؛‭ ‬منها‭: ‬‮«‬الإسلام‭ ‬الحي‮»‬،‭ ‬الصادر‭ ‬في‭ ‬الجزائر‭ ‬عام‭ ‬1985،‭ ‬و«وعود‭ ‬الإسلام‮»‬‭ (‬1981‭)‬،‭ ‬و‮«‬الإسلام‭ ‬يسكن‭ ‬مستقبلنا‮»‬،‭ ‬و«هل‭ ‬نحن‭ ‬بحاجة‭ ‬إلى‭ ‬الله‮»‬؟،‭ ‬و«عظمة‭ ‬الإسلام‭ ‬وانحطاطه‮»‬‭ (‬1996‭) ‬وغيرها‭.‬

 

اهتمامات‭ ‬متشعبة

كانت‭ ‬اهتمامات‭ ‬جارودي‭ ‬الدينية‭ ‬والسياسية‭ ‬والبيئية‭ ‬والحضارية‭ ‬متشعبة،‭ ‬لكنّها‭ ‬تتمحور‭ ‬جميعها‭ ‬حول‭ ‬الرفاه‭ ‬المادي‭ ‬والسمو‭ ‬الروحي‭ ‬والأخلاقي‭ ‬للبشر‭ ‬أجمعين‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬تفرقة‭ ‬دينية‭ ‬أو‭ ‬سياسية‭ ‬أو‭ ‬عنصرية‭ ‬أو‭ ‬غيرها‭ ‬مما‭ ‬يصدر‭ ‬في‭ ‬الغرب‭.‬

في‭ ‬عام‭ ‬1982؛‭ ‬أعلن‭ ‬إسلامه‭ ‬رسميًا،‭ ‬بعد‭ ‬انفصاله‭ ‬عن‭ ‬الحزب‭ ‬الشيوعي‭ ‬عام‭ ‬1970،‭ ‬وكان‭ ‬قد‭ ‬انتخب‭ ‬نائبًا‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬الحزب‭ ‬3‭ ‬مرات‭ ‬في‭ ‬البرلمان‭ ‬الفرنسي،‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬عضوًا‭ ‬عنه‭ ‬في‭ ‬مجلس‭ ‬الشيوخ‭. ‬وقد‭ ‬دعته‭ ‬كبريات‭ ‬جامعات‭ ‬العالم‭ ‬في‭ ‬الشرق‭ ‬والغرب‭ ‬لإلقاء‭ ‬المحاضرات‭ ‬فيها‭. ‬

وفي‭ ‬عام‭ ‬1969؛‭ ‬أصدر‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬المنعطف‭ ‬الكبير‭ ‬للاشتراكية‮»‬،‭ ‬الذي‭ ‬تُرجم‭ ‬إلى‭ ‬معظم‭ ‬لغات‭ ‬العالم؛‭ ‬نظرًا‭ ‬لأهميته‭ ‬وإدانته‭ ‬النظامين‭ ‬الرأسمالي‭ ‬والاشتراكي‭ ‬بعد‭ ‬فشل‭ ‬ثورة‭ ‬الطلاب‭ ‬في‭ ‬فرنسا‭ (‬ربيع‭ ‬باريس‭) ‬وتشيكوسلوفاكيا‭ (‬ربيع‭ ‬براغ‭) ‬عام‭ ‬1968؛‭ ‬مما‭ ‬تسبب‭ ‬في‭ ‬طرده‭ ‬من‭ ‬الحزب‭ ‬الشيوعي‭ ‬عام‭ ‬1970‭.‬

لا‭ ‬نستطيع‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬هذا‭ ‬المقال‭ ‬دراسة‭ ‬كل‭ ‬أفكار‭ ‬جارودي‭ ‬الجريئة‭ ‬واتجاهاته‭ ‬الإنسانية‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬هدفها‭ ‬نشر‭ ‬العدالة‭ ‬والمساواة‭ ‬والرفاهية‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬المجتمعات‭ ‬البشرية‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬استثناء؛‭ ‬وسنكتفي‭ ‬فقط‭ ‬بذكر‭ ‬الخطوط‭ ‬الرئيسية‭ ‬لتلك‭ ‬الأفكار‭.‬

انطلاقًا‭ ‬من‭ ‬سبعينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي؛‭ ‬انفتح‭ ‬جارودي‭ ‬على‭ ‬آفاق‭ ‬جديدة‭ ‬سيكون‭ ‬لها‭ ‬صداها‭ ‬الكبير‭ ‬في‭ ‬المسيحية‭ ‬والإسلام‭. ‬فقد‭ ‬تحرّر‭ ‬من‭ ‬أيديولوجية‭ ‬الحزب‭ ‬الشيوعي‭ ‬إثر‭ ‬إقالته‭ ‬منه‭ ‬بعد‭ ‬بقائه‭ ‬30‭ ‬عامًا‭ ‬أحد‭ ‬مُنظرّيه‭ ‬الأساسيين،‭ ‬وإثر‭ ‬النقد‭ ‬الذي‭ ‬وجّهه‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬الحزب‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬الشهير‭ ‬‮«‬المنعطف‭ ‬الكبير‭ ‬للاشتراكية‮»‬‭.  ‬وقد‭ ‬دعا‭ ‬جارودي‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬حوار‭ ‬الحضارات‮»‬‭ (‬1977‭)‬،‭ ‬ومصالحة‭ ‬الإنسان‭ ‬مع‭ ‬الطبيعة،‭ ‬والدفاع‭ ‬عن‭ ‬البيئة،‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬نداء‭ ‬إلى‭ ‬الأحياء‮»‬‭ (‬1979‭).‬

 

حركة‭ ‬متمردة

‭ ‬في‭ ‬المسيحية؛‭ ‬أسهم‭ ‬مع‭ ‬مطران‭ ‬مدينة‭ ‬رسيف‭ ‬البرازيلية،‭ ‬دوم‭ ‬هلدر‭ ‬كامارا،‭ ‬في‭ ‬خلق‭ ‬حركة‭ ‬لاهوت‭ ‬التحرير‭ ‬المتمردة‭ ‬على‭ ‬تعاليم‭ ‬الكنيسة‭ ‬الكاثوليكية‭ ‬الرسمية‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬الجذور‭ ‬الثورية‭ ‬والإنسانية‭ ‬للمسيحية،‭ ‬ومساعدة‭ ‬شعوب‭ ‬العالم‭ ‬الثالث‭ ‬الفقيرة‭. ‬

وفي‭ ‬العالم‭ ‬الإسلامي‭ ‬أسهم‭ ‬انطلاقًا‭ ‬من‭ ‬الجزائر،‭ ‬عبر‭ ‬صديقه،‭ ‬د‭. ‬فرانز‭ ‬فانون،‭ ‬صاحب‭ ‬الكتاب‭ ‬الشهير‭ ‬‮«‬المعذّبون‭ ‬في‭ ‬الأرض‮»‬‭ (‬1961‭)‬؛‭ ‬في‭ ‬مساعدة‭ ‬الفقراء‭ ‬والمُعدمين‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬الثالث‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬الجذور‭ ‬الإنسانية‭ ‬والثورية‭ ‬للإسلام،‭ ‬والتخلص‭ ‬من‭ ‬المستعمرين‭ ‬الذين‭ ‬ينهبون‭ ‬ثرواتهم،‭ ‬والمستبدين‭ ‬الذين‭ ‬يتحكمون‭ ‬بمصائرهم‭.‬

‭ ‬وفي‭ ‬سبيل‭ ‬هذا‭ ‬الهدف؛‭ ‬وضع‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬من‭ ‬أجل‭ ‬حوار‭ ‬بين‭ ‬الحضارات‮»‬،‭ ‬الذي‭ ‬ترجم‭ ‬إلى‭ ‬معظم‭ ‬لغات‭ ‬العالم،‭ ‬وقد‭ ‬دعا‭ ‬فيه‭ ‬إلى‭ ‬انفتاح‭ ‬الحضارات‭ ‬والثقافات‭ ‬على‭ ‬بعضها‭ ‬البعض،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬تمييز‭ ‬أو‭ ‬استعلاء،‭ ‬وتجاوز‭ ‬الآراء‭ ‬والأفكار‭ ‬المسبقة‭ ‬التي‭ ‬أفسدت‭ ‬رؤية‭ ‬الغربيين‭ ‬للحضارات‭ ‬الآسيوية‭ ‬والإفريقية‭ ‬والأميركية‭ ‬اللاتينية،‭ ‬لا‭ ‬سيما‭ ‬الحضارة‭ ‬العربية‭ ‬الإسلامية‭ ‬التي‭ ‬يعدّ‭ ‬أتباعها‭ ‬حوالي‭ ‬مليارين‭ ‬من‭ ‬البشر،‭ ‬موزّعين‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬بقاع‭ ‬الأرض،‭ ‬والتي‭ ‬كانت،‭ ‬ومازالت،‭ ‬إحدى‭ ‬أهم‭ ‬الحضارات‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬البشر،‭ ‬كما‭ ‬يقول‭.‬

‭ ‬وفي‭ ‬سبيل‭ ‬هذا‭ ‬الحوار؛‭ ‬أسس‭ ‬جارودي‭ ‬في‭ ‬قرطبة‭ ‬بإسبانيا،‭ ‬‮«‬المعهد‭ ‬الدولي‭ ‬لحوار‭ ‬الحضارات،‭ ‬وتولى‭ ‬رئاسته‭ ‬حتى‭ ‬وفاته‭ ‬في‭ ‬13‭ ‬يونيو‭ ‬2012،‭ ‬وقد‭ ‬ضمّن‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬الإسلام‭ ‬يسكن‭ ‬مستقبلنا‮»‬‭ ‬كلّ‭ ‬تصوراته‭ ‬عن‭ ‬الإسلام،‭ ‬إيمانًا‭ ‬وثقافة‭ ‬وحضارة،‭ ‬دان‭ ‬فيه‭ ‬الرؤية‭ ‬العنصرية‭ ‬للغرب‭ ‬ضد‭ ‬الإسلام‭ ‬والمسلمين‭ ‬منذ‭ ‬الحروب‭ ‬الصليبية‭. ‬

 

إسلام‭ ‬عقلاني‭ ‬

لكنّ‭ ‬الإسلام‭ ‬الذي‭ ‬يتحدث‭ ‬عنه‭ ‬جارودي‭ ‬يختلف‭ ‬جذريًا‭ ‬عن‭ ‬الإسلام‭ ‬الذي‭ ‬يتهمه‭ ‬الغرب‭ ‬بالإرهاب،‭ ‬والتعصب،‭ ‬وعداء‭ ‬الحضارة،‭ ‬والتقدّم،‭ ‬ويشنّ‭ ‬عليه‭ ‬حروبًا‭ ‬شعواء‭ ‬بكل‭ ‬أنواع‭ ‬الأسلحة‭ ‬الخفيّة‭ ‬منها‭ ‬والمُعلنة‭.‬

إن‭ ‬إسلام‭ ‬جارودي‭ ‬هو‭ ‬الإسلام‭ ‬العقلاني‭ ‬المنفتح‭ ‬الذي‭ ‬اعتبر‭ ‬الأخلاق‭ ‬معيارًا‭ ‬لكل‭ ‬تقدُّم‭ ‬إنساني،‭ ‬والذي‭ ‬أقام‭ ‬حضارة‭ ‬عظيمة‭ ‬استفاد‭ ‬منها‭ ‬الغرب‭ ‬كثيرًا‭ ‬في‭ ‬نهضته‭ ‬الحديثة‭.‬

‭ ‬إنها‭ ‬حضارة‭ ‬تهتم‭ ‬ببُعدَي‭ ‬الإنسان‭ ‬المادي‭ ‬والروحي،‭ ‬وتعالج‭ ‬الأمراض‭ ‬التي‭ ‬تشكو‭ ‬منها‭ ‬الحضارة‭ ‬الغربية‭ ‬الحديثة،‭ ‬خصوصًا‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬معنى‭ ‬التقدم‭ ‬وأهدافه،‭ ‬وعن‭ ‬خطر‭ ‬الفكر‭ ‬الأصولي‭ ‬على‭ ‬السلام‭ ‬العالمي،‭ ‬والعلاقات‭ ‬بين‭ ‬الثقافات‭ ‬والشعوب؛‭ ‬إذ‭ ‬يعتقد‭ ‬جارودي‭ ‬أن‭ ‬الغرب‭ ‬هو‭ ‬مصدر‭ ‬جميع‭ ‬الأصوليات‭ ‬السياسية‭ ‬والدينية‭ ‬والاقتصادية‭.‬

‭ ‬أما‭ ‬الأصوليات‭ ‬الأخرى،‭ ‬ولا‭ ‬سيما‭ ‬الإسلامية،‭ ‬فهي‭ ‬من‭ ‬صنع‭ ‬الغرب‭ ‬مباشرة‭ ‬أو‭ ‬هي‭ ‬غير‭ ‬مباشرة‭ (‬راجع‭ ‬كتابه‭ ‬نحو‭ ‬حرب‭ ‬دينية‭ ‬الصادر‭ ‬عام‭ ‬1955‭).‬

‭ ‬لقد‭ ‬دعا‭ ‬هذا‭ ‬المفكر‭ ‬المبدع‭ ‬إلى‭ ‬الانفتاح‭ ‬العقلاني‭ ‬لفهم‭ ‬الإسلام،‭ ‬وكشف‭ ‬زيف‭ ‬الادعاءات‭ ‬الصهيونية‭ ‬حول‭ ‬المحرقة‭ ‬النازية‭ (‬الهولوكوست‭)‬،‭ ‬وتشويه‭ ‬الحقائق‭ ‬التاريخية‭ ‬والجغرافية‭ ‬لإثبات‭ ‬حق‭ ‬اليهود‭ ‬في‭ ‬أرض‭ ‬فلسطين‭.‬

‭ ‬وقد‭ ‬اشتهر‭ ‬بتعاطفه‭ ‬الفكري‭ ‬مع‭ ‬قضايا‭ ‬العالم‭ ‬الثالث،‭ ‬لاسيما‭ ‬القضية‭ ‬الفلسطينية،‭ ‬وبحملاته‭ ‬العنيفة‭ ‬ضد‭ ‬عنصرية‭ ‬الغرب‭ ‬وعنجهيّته،‭ ‬ووصفه‭ ‬بالحدث‭ ‬الزائل،‭ ‬وبأنّه‭ ‬مصدر‭ ‬كل‭ ‬الإرهاب‭ ‬الذي‭ ‬يجتاح‭ ‬العالم‭ ‬اليوم،‭ ‬والذي‭ ‬أصبح‭ ‬خطرًا‭ ‬على‭ ‬مستقبل‭ ‬التقدم‭ ‬الإنساني‭ ‬والسلام‭ ‬العالمي‭ ‬والعلاقات‭ ‬بين‭ ‬الدول‭ ‬والشعوب‭. ‬وقد‭ ‬أودع‭ ‬معظم‭ ‬هذه‭ ‬الأفكار‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬المدوي‭ ‬‮«‬الأساطير‭ ‬المؤسسة‭ ‬للسياسة‭ ‬الإسرائيلية‮»‬،‭ ‬الصادر‭ ‬عام‭ ‬1969،‭ ‬والذي‭ ‬نفى‭ ‬فيه‭ ‬بالوثائق‭ ‬والبراهين‭ ‬أسطورة‭ ‬المحرقة‭ ‬والميعاد،‭ ‬كما‭ ‬يرويهما‭ ‬الصهاينة‭ ‬وأتباعهم‭. ‬

وشاركه‭ ‬في‭ ‬وجهات‭ ‬نظره‭ ‬الأب‭ ‬بيير،‭ ‬المشهور‭ ‬في‭ ‬فرنسا‭ ‬والغرب‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬قدّيس‭ ‬العصر‮»‬،‭ ‬بكتابة‭ ‬مقدمة‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب؛‭ ‬فنال‭ ‬قدرًا‭ ‬من‭ ‬الإهانات‭ ‬بسببها،‭ ‬ونُفي‭ ‬إلى‭ ‬الفاتيكان‭.‬

 

ضجة‭ ‬كبرى

أحدث‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬ضجة‭ ‬كبرى‭ ‬في‭ ‬الأوساط‭ ‬الفكرية‭ ‬والسياسية‭ ‬والدينية‭ ‬والإعلامية‭ ‬في‭ ‬فرنسا‭ ‬وخارجها،‭ ‬نظرًا‭ ‬للمكانة‭ ‬السامية‭ ‬التي‭ ‬يحتلها‭ ‬جارودي‭ ‬في‭ ‬ثقافة‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭. ‬

وشَنّت‭ ‬عليه‭ ‬وسائل‭ ‬إعلام‭ ‬اللوبي‭ ‬الصهيوني‭ ‬وأنصاره‭ ‬في‭ ‬فرنسا‭ ‬وخارجها‭ ‬حملة‭ ‬شعواء،‭ ‬وأطلقت‭ ‬عليه‭ ‬لقب‭ ‬‮«‬ناكر‭ ‬المحرقة‮»‬‭.‬

‭ ‬واتُّهم‭ ‬بالإلحاد‭ ‬والزندقة‭ ‬والعنصرية،‭ ‬وسحبت‭ ‬مؤلفاته‭ ‬الكثيرة‭ ‬من‭ ‬واجهات‭ ‬المكتبات‭ ‬ورفوفها،‭ ‬وأزيل‭ ‬اسمه‭ ‬من‭ ‬دوائر‭ ‬المعارف‭ (‬الإنسيكلوبيديا‭)‬،‭ ‬ومُنع‭ ‬من‭ ‬إلقاء‭ ‬المحاضرات‭ ‬في‭ ‬فرنسا‭ ‬وكندا‭ ‬وسويسرا،‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬الدول‭ ‬والجامعات،‭ ‬ورُفعت‭ ‬ضده‭ ‬الدعاوى،‭ ‬وصدرت‭ ‬عليه‭ ‬أحكام‭ ‬بالسجن‭ ‬مع‭ ‬وقف‭ ‬التنفيذ‭ ‬عام‭ ‬1998،‭ ‬وبغرامات‭ ‬مالية‭ ‬سدّدها،‭ ‬ورفضت‭ ‬جميع‭ ‬الصحف‭ ‬ووسائل‭ ‬الإعلام‭ ‬الفرنسية‭ ‬نشر‭ ‬ردوده‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الإهانات‭ ‬والاتهامات‭ ‬الموجّهة‭ ‬إليه؛‭ ‬مما‭ ‬اضطره‭ ‬إلى‭ ‬طبع‭ ‬كتيّب‭ ‬على‭ ‬نفقته‭ ‬الخاصة‭ ‬بعنوان‭ ‬‮«‬حق‭ ‬الرد‮»‬‭ ‬وتوزيعه‭ ‬مجانًا،‭ ‬ضمّنه‭ ‬ردودًا‭ ‬مُفحمة‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬الاتهامات‭.‬

كان‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬الأساطير‭ ‬المؤسسة‮»‬‭ ‬أحد‭ ‬3‭ ‬مؤلفات‭ ‬كتبها‭ ‬جارودي‭ ‬خصيصًا‭ ‬لنقد‭ ‬الأصوليات؛‭ ‬باعتبارها‭ ‬‮«‬أمراضًا‭ ‬قاتلة‭ ‬لزماننا‮»‬،‭ ‬وأخطارًا‭ ‬داهمة‭ ‬على‭ ‬المجتمعات‭ ‬الإنسانية‭ ‬والسلام‭ ‬العالمي‭.‬

 

عشق‭ ‬الحرية

أما‭ ‬الكتابان‭ ‬الآخران‭ ‬فهما‭ ‬‮«‬هل‭ ‬نحن‭ ‬بحاجة‭ ‬إلى‭ ‬الله؟‮»‬،‭ ‬الذي‭ ‬هاجم‭ ‬فيه‭ ‬لاهوت‭ ‬السيطرة‭ ‬السائد‭ ‬اليوم‭ ‬والمنافي‭ ‬للمبادئ‭ ‬المسيحية،‭ ‬وكتاب‭ ‬‮«‬عظمة‭ ‬الإسلام‭ ‬وانحطاطه‮»‬،‭ ‬الذي‭ ‬هاجم‭ ‬فيه‭ ‬التعصُّب‭ ‬الديني‭ ‬الإسلامي،‭ ‬واعتبره‭ ‬من‭ ‬الأمراض‭ ‬الخطيرة‭ ‬القاتلة‭ ‬التي‭ ‬تفتك‭ ‬بالإسلام‭ ‬والمسلمين،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬تعيش‭ ‬تداعياته‭ ‬حاليًا‭ ‬بعض‭ ‬الدول‭ ‬العربية‭ ‬والإسلامية‭ ‬وغيرها‭.‬

لقد‭ ‬كانت‭ ‬مؤلفات‭ ‬جارودي‭ ‬التي‭ ‬تربو‭ ‬على‭ ‬التسعين،‭ ‬ومحاضراته‭ ‬في‭ ‬معظم‭ ‬جامعات‭ ‬العالم‭ ‬بالشرق‭ ‬والغرب،‭ ‬تستوحي‭ ‬عشق‭ ‬الحرية‭ ‬والدفاع‭ ‬عن‭ ‬كرامة‭ ‬الإنسان‭ ‬دون‭ ‬أي‭ ‬تمييز‭ ‬عرقي‭ ‬أو‭ ‬ثقافي‭ ‬أو‭ ‬ديني؛‭ ‬بل‭ ‬‮«‬نسعى‭ ‬جميعًا‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬لحياتنا‭ ‬معنى،‭ ‬ولتاريخنا‭ ‬هدف،‭ ‬وأن‭ ‬يشارك‭ ‬كل‭ ‬فرد‭ ‬في‭ ‬اكتشاف‭ ‬ذلك‭ ‬المعنى‭ ‬وتحقيق‭ ‬ذلك‭ ‬الهدف‭. ‬

  ‬نريد‭ ‬أن‭ ‬يشارك‭ ‬الجميع‭ ‬في‭ ‬صنع‭ ‬تاريخ‭ ‬الجميع،‭ ‬وكي‭ ‬يحقق‭ ‬ذلك‭ ‬لا‭ ‬بدّ‭ ‬من‭ ‬إعادة‭ ‬الصلة‭ ‬المقطوعة‭ ‬بين‭ ‬الشرق‭ ‬والغرب‭ ‬منذ‭ ‬سبعة‭ ‬قرون‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬الإيمان‭ ‬الروحي‭ ‬والتسامي،‭ ‬لكنّ‭ ‬ذلك‭ ‬مستحيل‭ ‬في‭ ‬النظامين‭ ‬الرأسمالي‭ ‬والماركسي،‭ ‬لأنّهما‭ ‬واقعان‭ ‬في‭ ‬الخطأ‭ ‬نفسه‭: ‬محاولة‭ ‬إقامة‭ ‬حضارة‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬إيمان،‭ ‬لذلك‭ ‬على‭ ‬الغرب‭ ‬التلفُّت‭ ‬الواعي‭ ‬إلى‭ ‬الشرق‭ ‬وفلاسفته‭ ‬الروحانيين،‭ ‬ليستلهم‭ ‬منهم‭ ‬فكرة‭ ‬التسامي‭.‬

‭ ‬إن‭ ‬هذا‭ ‬وحده‭ ‬يحررنا‭ ‬لتملُّك‭ ‬ذواتنا،‭ ‬ولنعمل‭ ‬معًا‭ ‬في‭ ‬إيمان‭ ‬وإبداع،‭ ‬وعندئذ‭ ‬يكون‭ ‬نجاحنا‭ ‬ليس‭ ‬نتاج‭ ‬أنانية‭ ‬فردية،‭ ‬بل‭ ‬عمل‭ ‬الكل‭ ‬الذي‭ ‬يسكننا‮»‬‭. ‬

هكذا‭ ‬ربط‭ ‬جارودي‭ ‬بين‭ ‬الرؤية‭ ‬الإسلامية‭ ‬والمسيحية،‭ ‬حيث‭ ‬الطريق‭ ‬الذي‭ ‬يؤدي‭ ‬إلى‭ ‬الله‭ ‬هو‭ ‬محبة‭ ‬الآخر‭ ‬أو‭ ‬الآخرين،‭ ‬وهي‭ ‬الرؤية‭ ‬المناقضة‭ ‬للفردية‭ ‬الأنانية‭ ‬في‭ ‬الحضارة‭ ‬الغربية‭. ‬من‭ ‬هنا‭ ‬جاء‭ ‬نقده‭ ‬لفلسفة‭ ‬سارتر‭ ‬الوجودية‭ ‬المادية،‭ ‬ولأفكار‭ ‬كامو‭ ‬العبثية‭. ‬ولا‭ ‬شكّ‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬جارودي،‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬معظم‭ ‬مؤرخي‭ ‬الفكر‭ ‬الحديث،‭ ‬هو‭ ‬أحد‭ ‬أعظم‭ ‬مثقفي‭ ‬وفلاسفة‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭. ‬وقد‭ ‬ناضل‭ ‬بكل‭ ‬طاقاته‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬أنسنة‭ ‬الإنسان‭ ‬وتقدُّمه‭ ‬المادي‭ ‬والروحي،‭ ‬وكانت‭ ‬وفاته‭ ‬خسارة‭ ‬لا‭ ‬تعوّض‭ ‬لجمهور‭ ‬غفير‭ ‬من‭ ‬مثقفي‭ ‬العالم‭ ‬وفقرائه،‭ ‬وأحرار‭ ‬الفكر‭ ‬التنويري‭ ‬في‭ ‬الشرق‭ ‬والغرب‭ ‬■