التديّنُ السياسي

التديّنُ السياسي

 عندما يمرضُ التديّن تمرضُ الحياة، وعندما يصحو التديّن تصحو الحياة. لا دينَ بلا تديّن، ولا تديّن بلا إنسان. ‏الدينُ بالمعنى الأعمّ من الأديان الوحيانية المعروفة، وغيرِها ‏يتحقّقُ في الأرض من خلال تمثّلاته في حياة الفرد والمجتمع ‏وتعبيراته المتنوعة.
 ونحن نرى الدينَ يعبّرُ عن حضوره في ثقافة الإنسان ولغتِه وسلوكِه ومواقفِه المتنوعة في الحياة، سواء أكانت هذه المواقفُ متناغمةً ومنسجمةً، أو كانت مختلفةً أو متضادّةً، وقبل ذلك نرى الدينَ يعبّر عن حضوره في طقوس الإنسان وشعائره وممارساته الدينية. 

التديّنُ السياسي من أشدّ أنواع التديّن في الإسلام حضورًا وأكثرها تأثيرًا في الفضاء العام اليوم، فهو فاعلٌ ومؤثر سياسيًا وإعلاميًا وثقافيًا واجتماعيًا.لا يمثّل التديّنُ السياسي امتدادًا طبيعيًا للأنواع الموروثة للتدين، ذلك أنه أنتج قياداته البديلة عن مرجعيات الفقهاء التقليدية في الفتوى، وانشق على تدبير الحواضر الدينية والحوزات العلمية ومعاهد التعليم الديني المعروفة للشأن الديني، وأنتج كتاباتِه وتفسيراتِه الخاصة للقرآن الكريم، وكلّها تركّز على الدعوة للعمل السياسي الحركي الديني، الذي يهدف إلى التمكن من السلطة وامتلاك كلِّ ما يتصل بالدولة والفضاء العام.
أعلن التديّنُ السياسي عن هويّة إسلامية جامعة توحِّد كلَّ المسلمين عند نشأته، في كتاباته وشعاراته ومواقفه. هويةٌ عابرةٌ للطوائف، أشمل من كلِّ المذاهب، واستطاع أحيانًا استقطاب بعض الأشخاص من خارج مذهب المؤسسين، غير أنه سقط بالتدريج في معتقدات الطوائف المغلقة، وتورّط في خلافاتها ونزاعاتها وصراعاتها. 
لا يشبه التديّنُ السياسي التديّنَ الشعبي، الذي هو تديّنٌ بريء، تديّنٌ يظهرُ فيه شيءٌ من روح التديّن الرحماني، تديّنٌ معروفٌ في حياة الأفراد والمجتمعات، يتوارثه الناسُ جيلًا بعد جيل منذ عصر الرسالة. 
التديّنُ الشعبي عفوي متصالحٌ مع المؤسسات الدينية التقليدية والمرجعيات الفقهية الموروثة في عالَم الإسلام، متصالحٌ وطرائق عيش المسلمين وطبيعة حياتهم، لا يجدون فيه تناشزًا مع فنونهم الشعبية وفولكلورهم، ولا يشكّل عبئًا على علاقاتهم بمحيطهم، ولا يفرض عليهم سلوكًا متشدّدًا في علاقاتهم الاجتماعية بالمُختلِف في الدين أو المذهب أو الهوية أو الثقافة.
كما لا يشبه التديّنُ السياسي التديّنَ العقلاني الأخلاقي، الذي هو تديّن إنساني تمتلئ فيه الروحُ بالصلة بالله، ويروي ظمأَ الكائن البشري للمقدّس، وينشغل بإشباعِ الحاجة الوجودية للكائن البشري، إشباعها بما يكرّس بناءَ الروح، وإيقاظَ الضمير الأخلاقي. وتلك وظيفةُ الدين العظمى في بناءِ شخصية الفرد وتمتينِ بنية المجتمع.
ولا يشبه التديّنُ السياسي التديّنَ الرحمانيّ، الذي هو تديّن يعني استحضارَ اسم «الرحمن» في بناءِ الصلةِ بالله، وتمثّلَ الصورة الرحمانية لله في الرؤية التوحيدية للمتديّن، وتجسيدَها في أقواله ومواقفه وأفعاله، وعلاقاته بالناس، ورعايةَ المختلف منهم في المعتقد، وتعامله مع كلِّ الخلق بشفقة ورحمة.
التديّنُ الرحماني تديّنٌ نادر، وإن كانت أمثلتُه موجودةً في كلِّ الأديان، سواء أكانت إبراهيميةً أو غيرها، ولا يتجسّد هذا التديّن إلا في شخصيات مُلهِمة تمتلك مشاعرَ نبيلةً مرهفةً وعواطفَ شديدةَ الحساسية. ولا يشبه التديّنُ السياسي أنواعًا أخرى من التديّن، وإن كانت تختلط فيه بعضُ تعبيرات التديّن الشعبوي والشكلي، كما شرحنا ذلك في محلّ آخر.

التديُّن السياسي في العصر الحديث
ظهر التديّنُ السياسي في العصر الحديث بظهور الإخوان المسلمين سنة 1928، وتعزّز حضورُه بوصفه حركةً مؤثرة مجتمعيًا عبر الجماعات الدينية التي نشأت بعد ذلك، وهو تديّن مسكونٌ بالسياسة، لذلك يقترنُ بالسعي للاستحواذِ على الدولة والسّلطة والثروة. وقد استبدّت الغايةُ السياسيةُ للدينِ في هذا التديّن، فصارت هدفًا في تربيته لأفراده وفي أدبيّاته وثقافته وما تنشده أحلامُه، فحجبت الغايةُ السياسيةُ للدينِ المنخرطين في التديّن السياسي عن تبصّرِ الأفق الروحي والأخلاقي والجمالي للمعنى الديني خارجَ هذه الغاية.
لذلك لا يعبأ هذا التديّن كثيرًا بالقيم الأخلاقية والحياة الروحية، ويعوّض ذلك بالتشديد على الشكل دون المضمون، والمظهر دون الجوهر، ولا يهتمُّ بروح الشريعة ومقاصدِها الكلية.
غايةُ الدين في مفهومه يختصرُها بناءُ الدولة، لذلك ينظر التديّنُ السياسي للقرآنِ الكريم والسُّنةِ الشريفة كمدونة قانونية، ولا يتبصّرُ القرآنَ بوصفه كتابًا ميتافيزيقًا يتجلّى فيه اللهُ وأسماؤه وصفاته للإنسان، بهدف بناء صلة وجودية للإنسان بالله، تروي ظمأه الروحي وتثري حياته الأخلاقية.

القلب والعقل في القرآن الكريم
يهتم القرآنُ الكريم بالعبادات اهتمامًا لافتًا، فيتحدث عن مواقيتها وأحكامها وغاياتها. ولا يُهمِل أحكامَ الأحوال الشخصية وتنظيم الأسرة، ويشيرُ إلى بعضِ أحكام المعاملاتِ والعقوبات الجنائية التي فرضتها ظروفُ عصر البعثة. 
الأحكامُ لا تحتل إلا نسبةً محدودة من آياته الكريمة، لا تتجاوز حسب ما تقوله أشهر مؤلفات علوم القرآن 7 في المئة. القرآنُ ليس مدونةً قانونية، وهذا ما تبرهن عليه دلالةُ أكثر من 90 في المئة من آياته التي تتحدثُ عن الله والتوحيد والغيب والآخرة والوحي والنبوّات والقصص، والقيم الروحية والأخلاقية والجمالية. 
القرآنُ الكريم لم يُهمِل العقلَ، غير أن حديثَ القرآن يتجه إلى القلبِ والروح والضمير. القرآنُ ليس كتابًا فلسفيًا، فضاءُ أسئلة الفلسفة وموضوعاتُها العقل، أسئلةُ القرآن والكتب المقدسة في الأديان العالَمية وموضوعاتُها الروح والقلب والضمير، غرضُها إيقاظُ القلب، وإحياءُ الروح، وتكريسُ الضمير الأخلاقي.
وقد حاول بعضُ المفسرين فهم كلمة القلب في القرآن الكريم بمعنى العقل، إلا أنّ ذلك تأويل يُبعدها عن معناه الصريح، ولا يدلّ عليه سياقُ الآيات والسور الواردة فيها كلمةُ القلب. وقد نبّه محيي الدين بن عربي إلى أن مثل هذا الفهم يعود إلى عدم معرفة الحقائق، إذ يقول: «من فسّر القلبَ بالعقل، فلا معرفة له بالحقائق». 
ورد ذكرُ اسمِ «الله» سبحانه وتعالى 2699 مرّةً في آيات القرآن الكريم، ولو أضفنا لذلك عددَ أسماءِ الله وصفاتِه المتنوّعةِ في القرآن الكريم لتجاوز هذا العددَ بكثير، فمثلًا تكرّر ذكرُ كلمة «رب» فقط 124 مرّة. وعلى الرغم من كثافة هذا الحضور وتنوّعه بشكل لا نكاد نقرأ صفحةً من القرآن الكريم إلا ويضيؤها الله بأسمائه وصفاته في موارد متعدّدة ومتنوعة، غير أننا لا نجد أيةَ دلالة سياسية يشي بها حضورُ الله وأسماؤه وصفاته في القرآن، كما لا يرد ما يشي بدلالةٍ سياسية تكشف عنها القرائنُ والسياقُ الذي ورد فيه ذكرُ هذه الأسماء والصفات الإلهية.

الدلالات السياسية بين المودودي وقُطب
 قرأتُ كتاباتِ مؤسسي الجماعات الدينية وأبرز منظّريها، فلم أعثر على من يهتمّ بكشف الدلالات السياسية لأسماءِ الله وصفاتِه المتنوّعةِ بالقرآن الكريم في الآيات الواردة فيها، كما لم أجد إشارةً أو أستدل على حضور معنى سياسي لهذه الآيات في أدبيّاتِهم.
وإن كان أبو الأعلى المودودي قد انتزع أربعَ كلمات مستعملة بكثافة في القرآن، وهي: «الإله»، و«الربّ»، و«العبادة»، و«الدين»، وأفرغها من معانيها، وفق سياق استعمالها في القرآن، وسقاها بما كان ينشده ويحلم به من دلالات سياسية. 
وقد استعار المودودي الدلالةَ العقائدية لهذه الكلمات من ابن تيمية، وأسّس المعنى السياسي الذي أراده في ضوء المعنى العقائدي لها عند ابن تيمية.
 وعمل المودودي على إنتاج قراءةٍ سياسية لعقيدة التوحيد، وفي سياق هذه القراءة صاغ مقولةَ «الحاكميّة لله»، واعتمدها ركيزةً محوريةً لبناء الدولة في عالَم الإسلام، وجعلها الضدّ في دلالتها لـمصطلح «الجاهلية».
 الجاهليةُ - في رأي المودودي - حالةٌ عقائدية ضالة، تقوم على «الحاكمية للإنسان»، وهي تنطبق على كلِّ مجتمع وحكومة ودولة لا تطبّق فيها الشريعة. يقول المودودي: «يختلف الإسلام عن الجاهلية، لأنّه قائم على الحاكمية لله، فيما الثانية قائمة على الحاكمية للإنسان». 
وقد استعار سيد قطب المصطلحاتِ الأربعة للمودودي، وكرّس الثنائيةَ الضدّية بين الحاكمية لله والجاهلية، والحاكمية لله والحاكمية للإنسان، ووظّفها في كلِّ كتاباته، بنحو جعلها إطارًا يتسع ليستوعب في مضمونه ومصاديقه: العقائد، والعادات والتقاليد، والثقافة، والفنون والآداب، والشرائع والقوانين. ويتحدّث قطب عن مضمون الجاهلية ومصاديقها فيقول: «نحن اليوم نعيش في الجاهلية، كالجاهلية التي عاصرها الإسلام أو أظلم. كلّ ما حولنا جاهلية، تصّورات النّاس وعقائدهم، عاداتهم وتقاليدهم، موارد ثقافتهم، فنونهم وآدابهم، شرائعهم وقوانينهم. 
حتى الكثير مما نحسبه ثقافة إسلامية، ومراجع إسلامية، وفلسفة إسلامية، وتفكيرًا إسلاميًا، هو كذلك من صنع هذه الجاهلية... ليست وظيفة الإسلام أن يصطلح مع التصورات الجاهلية السائدة في الأرض، ولا الأوضاع الجاهلية القائمة في كل مكان، فالإسلام لا يقبل أنصاف الحلول مع الجاهلية، لا من ناحية التصور، ولا من ناحية الأوضاع المنبثقة من هذا التصور، فإمّا إسلام وإمّا جاهلية»، ويرى قطب ترادفًا بين «لفظ إله واصطلاح الحاكمية هما اسمان لحقيقة واحدة». وتسرّب هذا الفهمُ لمختلف أدبيات الجماعات الدينية، وتشبّعت به كتاباتُها المتبنّاة في تربية وتثقيف أتباعها وتوجيه سلوكهم وعلاقاتهم ومواقفهم.
أهدر المودودي المعنى الذي يمنحه الدينُ للحياة، وأدخل هو، ومن سقط في شباك قراءته السياسية لعقيدة التوحيد، الإسلامَ في مأزق حضاري، ذلك أن الدينَ الذي يخلع على نفسه جلبابًا سياسيًا يهدر الدلالاتِ الميتافيزيقة لكتابه المقدس، ويبدّد المعاني الروحية والأخلاقية والجمالية التي يمنحها الدينُ للحياة.

التديّن السياسي... والقراءة السياسية
إن إسقاطَ قراءةٍ سياسية على آيات القرآن الكريم تفرّغها من دلالاتها الميتافيزيقة، إذ لا تبوح في هذه القراءة لغةُ القلب والعواطف والروح بالدلالاتِ التي تتحدّثها آياتُه. الدينُ بلا قلبٍ، الدينُ بلا عواطف، الدينُ بلا روحٍ، يفتقرُ للمنابع العميقة التي تمنحُ حياةَ الإنسان معناها الوجودي المفتَقَد في أيّ منبعٍ آخر. 
المودودي في قراءته السياسية للتوحيد أفرغ هذه العقيدةَ من معناها، وأحالَ الإسلامَ إلى دينٍ بلا روحٍ، دينٍ بلا قلبٍ، دينٍ بلا عواطفَ، ودينٍ بلا عقلٍ.
 وقد تفشّى التديّنُ السياسي لدى الجماعاتِ الدينيةِ في نصفِ القرن الأخير، بعد أن غادروا المرحلةَ السريّةَ في عهد الأنظمةِ القمعيةِ، وتخلّصوا من بطش الحكّام المستبدّين، وتفاقمَ بشكل مخيف بعد وصول هذه الجماعات للسلطة. وينكشف ما هو مُضمَرٌ في التديّن السياسي لحظةَ تستحوذُ هذه الجماعاتُ على السلطة، إذ يفتقرُ تديّنُ معظم سلوك رجال السلطة من أتباعها إلى التمسّك بالقيم، ويتراجع حضورُ الحسِّ الدينيّ لدى أكثر من يحتلّ موقعًا في السلطة، ولن يعود الضميرُ الأخلاقي رادعًا له، بالشكل الذي يمنعه من تجاوز الحدود التي يرسمها القانونُ والأخلاقُ والشريعةُ.
وبغيةَ الاحتفاظ برصيده الديني في الجماعة التي ينتمي إليها يحرص رجلُ السلطةِ على تبرير سلوكه ومواقفه من خلال اللجوء إلى الحيلِ الفقهية، وفتاوى «مجهول المالك»، وكلِّ ما يسوّغ له الاستحواذَ على المال العام، فيتخذها قناعًا يختفي سلوكُه اللامشروعُ خلفَه. 
تحرص الجماعاتُ الدينيةُ في تربية أفرادها على التمسّك الشكلي بالأحكام الفقهية، لأنّها لا ترى حدودًا للإسلام خارجَ المدونة الفقهية، وتعمل على أن تكتسب مشروعيتَها منها، وتشدّد في أدبياتها على ما يخصّ الفكر السياسي، والتكييفَ الفقهي الشكلي للحكم والإدارة والاقتصاد والمصارف والمؤسسات المتنوعة في الدولة. وتحسب هذه الجماعاتُ المدوَّنةَ الفقهيةَ تتّسع لكلِّ نُظُم الدولة الحديثة، وتحاول تطبيقَ ما جاء به علمُ الاقتصاد الحديث والعلومُ السياسية ولوائحُ الحقوق والحريات والقوانين على بعض أحكام هذه المدوَّنة بأساليب صورية متهافتة.

الدولة الحديثة والتديّن السياسي
تقوم الدولةُ الحديثة على القوانين والحقوق والحريات الحديثة، وهي تنصّ على المساواة التامة بين المواطنين، بغضّ النظر عن دينِ أيّ شخص ومعتقدِه وجنسِه، وتكفل قوانينُها المساواة بين المواطنين جميعًا. الكلُّ متساوون في الانتماء للوطن، وكلُّ من ينتمي لهذه الدولة يمتلك النصابَ ذاتَه في الحقوق والواجبات وتكافؤ الفرص، يتساوى مع غيره في المواطَنة بغضّ النظر عن معتقده وجنسه ولونه.
الإنسانُ بوصفه مواطنًا هو الذي يحدّد هويةَ الدولة اليوم، ويتحكّمُ توصيفُ هويته بتوصيف هويتها، فكلّ تشريع وقرار وموقف يُتخذ في إطار توصيف مواطن ينبغي أن يكونَ معيارُه الانتماءَ للوطن، وكلّ ما لا ينتمي للوطن بوصفه وطنًا يُفترض ألّا يكون مكوّنًا لماهية الدولة الحديثة.
الدولةُ الحديثةُ تُبنى على القانونِ الحديثِ والقيم المتناغمة معه، والصرامةِ العادلةِ في تطبيقه، أمّا التديّن والتقوى فيمكن أن يساعدا في تطبيقِ القانون، بل لو انتفى التديّن والتقوى لتمكنَ الإنسانُ من بناءِ هذه الدولةِ، ما دام هناك قانونٌ حديثٌ وقيمٌ متناغمةٌ معه، وعدالةٌ في تطبيقه على الكلِّ بالمساواةِ، كما نجد نموذجَ هذه الدولة اليوم ماثلًا في العديد من البلدان غير المسلمة.
ينزعج التديّنُ السياسي من الأسئلة، لديه إجاباتٌ جاهزة، معظمها مقولاتٌ وشعارات عامة، وحتى لو حاول الإجابةَ عن بعض الأسئلة فهو ينتقي الجوابَ الذي يُسكِت السؤال، وعادةً ما يكون ‏الجوابُ الذي يُسكِت السؤالَ المتّصل بالشأن الاجتماعي والسياسي فتوىً فقهيةً، والجوابُ الذي يُسكِت السؤالَ الاعتقادي جوابٌ مصدره مقولات المتكلمين، وكلاهما جوابٌ نهائي يمنع ‏الخروجَ عليه. وكأنّ هذا النوعَ من التديّنَ لا يدري أن الإجاباتِ القديمةَ لم تعد مقنعةً للجيل الجديد.

الجيل الجديد والتديّن السياسي
الجيلُ الجديد لا يطيقُ التشدّدَ والاستغراقَ في تفاصيل تنتجها الصناعةُ الافتراضية الميكانيكية للعقل الأصولي والفقهي، ولا تنتمي إلى روحِ الشريعة، والأهدافِ الإنسانية الكلية للدين، وما يتضمنه الدينُ من قيمٍ كونية مشتركة بين البشر.
‏حدودُ الأحكام الشرعية في القرآن الكريم لا تحتل إلا مساحة قليلة من آياته، وهكذا حدود ما طبّقه النبي الكريم  في عصر البعثة الشريفة من أحكام.
وقد ‏اتسع الفقهُ وتضخّم بمرور الزمن، بعد استغراقه في تشعُّبات افتراضية، وكلّما اتسع الفقهُ وتضخّم، ضاق فضاءُ الإباحة واتّسع وتضخّم فضاءُ الحرمة والاحتياط، إلى الحد الذي يصادرُ أكثرَ الحريات والحقوق الطبيعية والمدنية للإنسان، ويستنزفُ كثيرًا من المعنى الروحي والأخلاقي والإنساني في الدين.
الجيلُ الجديد حتى لو تفاعل مع بعض الإجابات لأوّل وهلة، فإن كثيرًا منهم سرعان ما يرحلون عن الأجوبة السطحية المبسطة إلى:‏ اللاموقف، واللاقرار، واللاوقوف، واللامحطة، واللانهاية، ‏وأخيرًا اللاجدوى، وربما الضياع. 
الإجابات الجديدة تأويلية، والتأويل يتطلّب تفكيرًا خلّاقًا، أغلب من يعيش في فضاء التديّن السياسي لا يطيق التفكيرَ الخلّاقَ والتأملَ الدقيق، ‏أو لا يسعفه تكوينُه التعليمي وذكاؤه واطلاعُه ‏لممارسة هذا النوع من التفكير. 
الأتباعُ إن كانوا مدجّنين نراهم يبحثون عن الإجابات الجاهزة للأسئلة الدينية مهما كانت. غير أن أكثرَ الجيل الجديد يرفضون مثل هذه الإجابات. الأسئلةُ ‏الدينية نوعُ أسئلةٍ ليس لها إجاباتٍ نهائية، ‏الأسئلة الميتافيزيقية ‏المفتوحة أعمقُها، وهي نوع أسئلة يفشل العقلُ في إغلاقها بإجابات نهائية.
التربيةُ على الطاعة العمياء راسخةٌ في كلِّ الأحزاب اليسارية الأممية والقومية في بلادنا، وكرّستها جماعةُ الإخوان المسلمين بإضفاء مشروعية دينية عليها، تتخذ من البيعة على «السمع والطاعة» أساسًا لها، بصيغتها الموروثة في فقه الأحكام السلطانية. وصار ذلك تقليدًا راسخًا في الجماعات الدينية، لذلك لم نقرأ مراجعةً نقديةً لمسيرة إحدى هذه الجماعات، تبادر قيادتُها أو أحدُ أعضاء التنظيم المعروفين لكتابتها، على الرغم من المنعطفات الحرجة والإخفاقات المختلفة في محطات عملها السياسي، وما يراه القارئُ الذكي من هشاشةٍ وتبسيطٍ ولا واقعية في أدبياتها. كلُّ الذي قرأناه من نقدٍ لها، صدر إمّا عن منشقّين عليها، أو من كتّاب خارجها لا علاقة لهم بها. 
 
التديّن... والتخويف من المختلف
تقترن التربيةُ في التديّن السياسي بالتخويف من المختلِف في المعتقد والهويّة والثقافة، لذلك تشيع بين من يتبنّون التديّنَ السياسي حالاتُ حذرٍ وشكّ وسوءِ ظنّ بالآخر، وتضمحلّ فيه منابعُ محبةِ الناس والرحمةِ والعفو والغفران في التعامل معهم، بل طالما تحوّل إلى بيئةٍ لنموّ نزعاتِ الكراهية والتعصّب والانغلاق. حدودُ التسامحِ ضيقةٌ في هذا الشكل من التديّن، فهو غالبًا لا يعرف حقَّ الإنسان في الخطأ، ولم يتجذّر في تقاليده التربوية الحقُّ في الاختلاف، لذلك لا يستطيع أغلبُ الأشخاص الذين يتمسكّون بهذا النوع من التديّن تحمّلَ أصحاب المعتقدات الأخرى، ويتعذّر على كثيرٍ منهم العملُ مع مَن يختلف معه في أيديولوجيته أو ثقافته أو رؤيته للعالم، ويصعب عليهم قبولُ التفكير الذي لا يتطابق مع تفكيرهم، لذلك نجدهم عندما يتحدثون عن المُختلِف يسود لغتَهم تخويفٌ منه، وتحذيرٌ من دسائسه ومكائده ومؤامراته. 
يعيشُ الشبابُ المنخرطون في هذا التديّن حالةَ توجسٍ من المختلِف، بنحوٍ يصابُ فيه بعضُهم بالشلل النفسي في إدارة علاقاته خارج محيط جماعته. وأحيانًا تصلُ الحالةُ عند بعض أفراده إلى أن يتحولَ هجاءُ المُختلِف واتهامُه إلى مهنته الأبدية، بل ربما يشعرُ أن استمرارَ حضوره في العالَم يقترنُ بهجاءِ المُختلِف والانشغالِ به، من دون أن ينشغلَ هو بنفسِه وإصلاحِ أحواله. في تقاليد هذا التديّن يعجزُ أكثرُ الأفراد عن بناء الذات، لأنهم يستهلكون كلَّ طاقتهم بمعارك أكثرُها مُفتعَلٌ مع المُختلِف، وتبعًا لذلك يعجزون عن بناءِ العقول والأرواح والضمائر والأوطان.
ويقترن التثقيفُ السياسي في هذا التديّن بمبالغة وإسراف في اعتماد التفسير التآمريّ، ولا واقعية وتهويل في فهم أكثر الأحداث والوقائع والمواقف المختلفة في إدارة السلطة والثروة والشأن العام والعلاقات الدولية، وعدمِ التريث في البحث عن العوامل المعلنة المتنوعة والأسباب الخفيّة لما يحدث، وأحيانًا يعبّر هذا التفسيرُ للأحداث عن مواقف مبتذَلة ساذجة.

مواجهة أبدية
تشيع بين الأفراد المتديّنين بالتديّن السياسي كتاباتٌ تضع المسلمَ في مواجهة أبدية مع العالَم، فقبل أكثر من نصف قرن اعتمدها الذين يضعون مناهجَ التربية والتعليم من الإخوان المسلمين كمقررات أساسية أو مساعدة في دول عربية. ونتيجةً لانتشارِ هذه الكتابات وتأثيرِها الشديد تولّد موقفٌ متوجسٌ من كلِّ ما ينتمي للعلوم والمعارف والآداب والفنون الحديثة، وامتدّ ليشمل مختلفَ المعارف والقيم الحديثة ومكاسبَها. وانتهت بعضُ جماعات التديّن السياسي إلى نوعٍ من التديّن المتوحش الذي بعث مقولات التكفير وفتاواه من كهوف التراث، وشدّد على العمل بها وتطبيقها حرفيًا كما هي ■