الكتابة عند ليلى أبو زيد من سرديات الشخصيات إلى سرديات الكتابة

الكتابة عند ليلى أبو زيد من سرديات الشخصيات إلى سرديات الكتابة

نودّ في المبتدأ التنبيه إلى أن ما نتقصده بالسرديات هنا لا علاقة له بالعلم الذي يهتم بدراسة الأجناس السردية، وإنما نعني به الأطر المرجعية التي يتم تبنيها من قبل الجماعات والأفراد، والتي قد ترتقي لديهم إلى قناعات لا تقبل التشكيك أو المنازعة. وبناء عليه نتغيّا في هاته الوقفة، فضلًا عن إعادة إحياء المؤلف الذي قتلته البنيوية، مساءلة التعالقات الكائنة والممكنة بين سرديات النص وسرديات الشخص. فبما أن الوشائج بين الكاتب ونصه لا محالة قائمة، وهو ما بات يتحاشاه البنيويون، فإلى أي حدّ هي كذلك؟ علما بأن الزعم بالتطابق بين المحفلين، مثله مثل نفي المشاكلة، لا يخلو من خلط منهجي.

‬أن‭ ‬تكون‭ ‬‮«‬إيما‭ ‬بوفاري‮»‬،‭ ‬مثلًا،‭ ‬هي‭ ‬فلوبير‭ ‬نفسه،‭ ‬وعلى‭ ‬لسانه‭ ‬‮«‬السيدة‭ ‬بوفاري‭ ‬هي‭ ‬أنا‮»‬،‭ ‬فذلك‭ ‬مجرد‭ ‬تقريب‭ ‬لفاعلية‭ ‬الكتابة‭ ‬في‭ ‬صلتها‭ ‬بالذات‭ ‬الكاتبة،‭ ‬وبالمجتمع‭ ‬عمومًا،‭ ‬علمًا‭ ‬بأن‭ ‬مسارات‭ ‬الشخوص‭ ‬السردية‭ ‬قد‭ ‬تتقاطع‭ ‬مع‭ ‬مسارات‭ ‬الكتابة‭ ‬ككتابة‭. ‬بمعنى‭ ‬أن‭ ‬الموجهات‭ ‬التي‭ ‬تقود‭ ‬الشخصيات‭ ‬إلى‭ ‬مصائرها‭ ‬هي‭ ‬تقريبا‭ ‬تلك‭ ‬الموجهات‭ ‬التي‭ ‬ترسم‭ ‬سيرة‭ ‬الكتابة‭ ‬لدى‭ ‬الكاتب،‭ ‬وفق‭ ‬ما‭ ‬سنبرهن‭ ‬عليه‭.‬

فلئن‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬‮«‬زهرة‮»‬‭ (‬بطلة‭ ‬رواية‭ ‬عام‭ ‬الفيل‭ - ‬1983‭) ‬شيء‭ ‬من‭ ‬الأستاذة‭ ‬ليلى‭ ‬أبو‭ ‬زيد،‭ ‬فإنهما‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬مختلفتان‭ ‬على‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬صعيد‭. ‬ولئن‭ ‬بدا‭ ‬التماهي‭ ‬قويًا‭ ‬بين‭ ‬الكاتبة‭ ‬وبطلتي‭ ‬‮«‬رجوع‭ ‬إلى‭ ‬الطفولة‮»‬‭ (‬1993‭)‬،‭ ‬و«الفصل‭ ‬الأخير‮»‬،‭ ‬وهما‭ ‬محكيان‭ ‬سيريان،‭ ‬فإن‭ ‬الاستغراق‭ ‬بين‭ ‬الذات‭ ‬النصية‭ ‬والذات‭ ‬الفعلية‭ ‬للكاتبة‭ ‬غير‭ ‬وارد‭ ‬بالمرة‭.‬

لذا‭ ‬فإن‭ ‬زهرة‭ ‬في‭ ‬‮«‬عام‭ ‬الفيل‮»‬‭ ‬وعائشة‭ (‬أبو‭ ‬العزم‭) ‬في‭ ‬‮«‬الفصل‭ ‬الأخير‮»‬‭ ‬ليستا‭ ‬سوى‭ ‬تمثيل‭ ‬استعاري‭ ‬لصورة‭ ‬المرأة‭ ‬في‭ ‬مجتمعنا،‭ ‬ضمن‭ ‬سرديات‭ ‬الزمن‭ ‬المغربي‭ ‬المعاصر‭. ‬سيما‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬مفصلية‭ ‬من‭ ‬تاريخه،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬المفروض‭ ‬أن‭ ‬يشكّل‭ ‬استقلال‭ ‬المغرب‭ ‬إبدالًا‭ ‬جديدًا‭ ‬ينخرط‭ ‬فيه‭ ‬رجال‭ ‬المقاومة‭ ‬والمناضلون‭ ‬في‭ ‬‮«‬الانتقال‭ ‬من‭ ‬معركة‭ ‬الجهاد‭ ‬الأصغر‭ ‬إلى‭ ‬معركة‭ ‬الجهاد‭ ‬الأكبر‮»‬،‭ ‬فإذا‭ ‬ببعضهم‭ ‬يضلّ‭ ‬الطريق‭ ‬ويختار‭ ‬سبيل‭ ‬الأهواء،‭ ‬لا‭ ‬فرق‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬بين‭ ‬يميني‭ ‬أو‭ ‬يساري،‭ ‬فكلاهما،‭ ‬وقد‭ ‬ارتقى‭ ‬السلالم‭ ‬الإدارية‭ ‬والاجتماعية،‭ ‬شغلته‭ ‬حياته‭ ‬النزوية‭ ‬فأنسته‭ ‬شعاراته‭ ‬الأولى‭ ‬والعشيرة،‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬نقل‭ ‬جعلته‭ ‬يتنكر‭ ‬للوطن‭.‬

‭ ‬لهذا‭ ‬فإن‭ ‬زهرة‭ ‬وعائشة‭ ‬أبو‭ ‬العزم‭ ‬ليستا‭ ‬مجرد‭ ‬امرأة‭ ‬مطلقة‭ ‬وعانس‭ ‬على‭ ‬التوالي‭ ‬وحسب،‭ ‬وإنّما‭ ‬هما،‭ ‬مثلهما‭ ‬مثل‭ ‬‮«‬نجمة‮»‬‭ ‬كاتب‭ ‬ياسين،‭ ‬رمزان‭ ‬لوطن‭ ‬خذله‭ ‬كباره‭. ‬فسيّان‭ ‬بين‭ ‬اغتصاب‭ ‬الأولى‭ ‬ونبذ‭ ‬الأخرى‭ ‬بالطلاق‭ ‬أو‭ ‬العنوسة،‭ ‬مادامت‭ ‬المصالح‭ ‬الشخصية‭ ‬والهووية‭ (‬نسبة‭ ‬إلى‭ ‬الأهواء‭) ‬هي‭ ‬التي‭ ‬تسيّدت‭ ‬في‭ ‬النهاية‭. ‬

 

حكايات‭ ‬حزينة

إنها‭ ‬حكايات‭ ‬حزينة‭ ‬من‭ ‬وجهة‭ ‬نظر‭ ‬نساء‭ ‬كن‭ ‬يحلمن‭ ‬بغد‭ ‬أجمل،‭ ‬فإذا‭ ‬بالغد‭ ‬يتفتق‭ ‬عن‭ ‬فجيعة،‭ ‬وكأنه‭ ‬كان‭ ‬محكومًا‭ ‬عليهن‭ ‬أن‭ ‬يعشن‭ ‬التاريخ‭ ‬مقلوبًا،‭ ‬على‭ ‬الطريقة‭ ‬اللوكاشية‭ (‬نسبة‭ ‬لجورج‭ ‬لوكاش‭)‬،‭ ‬أي‭ ‬أن‭ ‬يَحْيين‭ ‬نكوصه‭ ‬كلما‭ ‬ابتعدن‭ ‬عن‭ ‬النبع‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬صافيًا‭ ‬في‭ ‬مطلق‭ ‬الأحوال‭. ‬فأي‭ ‬فائدة‭ ‬لتقدم‭ ‬لا‭ ‬يقودهن‭ (‬والمجتمع‭) ‬إلّا‭ ‬إلى‭ ‬القهقرى؟‭ ‬وأي‭ ‬امتياز‭ ‬تاريخي‭ ‬هذا‭ ‬الذي‭ ‬يعيدهن،‭ ‬بعد‭ ‬رحلة‭ ‬شاقة‭ ‬وطويلة‭ ‬وفي‭ ‬‮«‬الفصل‭ ‬الأخير‮»‬،‭ ‬إلى‭ ‬مربع‭ ‬البدايات‭: ‬‮«‬عام‭ ‬الفيل»؟‭ ‬في‭ ‬إشارة‭ ‬إلى‭ ‬السنة‭ ‬التي‭ ‬حاول‭ ‬فيها‭ ‬أبرهة‭ ‬الحبشي،‭ ‬حاكم‭ ‬اليمن،‭ ‬تدمير‭ ‬الكعبة‭ ‬وإرغام‭ ‬أهلها‭ ‬على‭ ‬اتباع‭ ‬صرحه‭ ‬الكنسي‭ ‬الجديد‭ ‬الذي‭ ‬شيّده‭ ‬باليمن‭ ‬بديلًا‭ ‬لعقيدته‭. ‬والعبرة‭ ‬هنا‭ ‬ليست‭ ‬في‭ ‬التخلي‭ ‬عن‭ ‬زهرة‭ ‬وعائشة‭ ‬وليلى‭ ‬وتدميرهن،‭ ‬بما‭ ‬هُن‭ ‬معادلان‭ ‬موضوعيان‭ ‬للكعبة،‭ ‬وإنما‭ ‬في‭ ‬فشل‭ ‬هذا‭ ‬المسعى،‭ ‬على‭ ‬خطورته،‭ ‬رغم‭ ‬عدم‭ ‬التكافؤ‭ ‬بين‭ ‬موازين‭ ‬القوى،‭ ‬في‭ ‬التدمير‭ ‬الكلي‭. ‬لا‭ ‬لأنّ‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬دافع‭ ‬عن‭ ‬الكعبة‭ ‬وزهرة‭ ‬وعائشة‭ ‬وليلى،‭ ‬بل‭ ‬لأن‭ ‬‮«‬للبيت‭ ‬ربّا‭ ‬يحميه‮»‬‭ ‬وكفى‭. ‬مع‭ ‬ما‭ ‬تحمله‭ ‬العبارة‭ ‬من‭ ‬تخلٍّ‭ ‬وتواكل‭ ‬واستسلام‭.‬

لكأننا‭ ‬هنا‭ ‬إزاء‭ ‬سردية‭ ‬ينكتب‭ ‬فيها‭ ‬التاريخ‭ ‬كمأساة‭ ‬ليستعاد‭ ‬كمهزلة،‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬نحن‭ ‬حورنا‭ ‬قليلًا‭ ‬المقولة‭ ‬الشهيرة‭ ‬لكارل‭ ‬ماركس‭. ‬رغم‭ ‬أن‭ ‬‮«‬التغيرات‭ ‬الكبرى،‭ ‬حسب‭ ‬ماركس‭ ‬أيضًا،‭ ‬يستحيل‭ ‬أن‭ ‬تقوم‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬الأنثى‮»‬‭. ‬فأما‭ ‬المأساة‭ ‬فتمثلها‭ ‬تلك‭ ‬المهانة‭ ‬التي‭ ‬تم‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬استجداء‭ ‬عبدالمطلب‭ ‬إرجاع‭ ‬النوق‭ (‬على‭ ‬تفاهتها‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المقام‭) ‬من‭ ‬غازٍ‭ ‬متجبر‭ (‬أبرهة‭) ‬وترك‭ ‬أمر‭ ‬الكعبة‭ (‬على‭ ‬قدسيتها‭ ‬ورمزيتها‭) ‬إلى‭ ‬ربّ‭ ‬جبار‭.‬

وأما‭ ‬المهزلة‭ ‬فأن‭ ‬يتخلى‭ ‬المناضل‭ ‬عن‭ ‬رفيقة‭ ‬حياته‭ ‬وكفاحه‭ (‬وهي‭ ‬هنا‭ ‬زهرة‭) ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تعاهدا‭ ‬على‭ ‬الوفاء‭ ‬لميثاق‭ ‬الزوجية‭ ‬والولاء‭ ‬للوطن‭. ‬ومعنى‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬ترتيب‭ ‬الأوليات،‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬المستجد‭ ‬السردي،‭ ‬بات‭ ‬يخضع‭ ‬للمصلحة‭ ‬الملغاة‭ ‬لا‭ ‬المرسلة‭. ‬من‭ ‬ثم‭ ‬ستشرع‭ ‬السرديات‭ ‬الكبرى‭ ‬في‭ ‬التآكل‭ ‬والانهيار‭ ‬لمصلحة‭ ‬سرديات‭ ‬يحركها‭ ‬الاستهواء‭.‬

 

بذرة‭ ‬أمل

وإذا‭ ‬كان‭ ‬التاريخ‭ ‬النضالي‭ ‬للمغرب،‭ ‬وبقية‭ ‬الشعوب‭ ‬المستعمرة،‭ ‬قد‭ ‬تأسس‭ ‬على‭ ‬ميتاسرديات‭ ‬تنتصر‭ ‬للقيم‭ ‬الأصيلة،‭ ‬باعتبارها‭ ‬مراجع‭ ‬تكاد‭ ‬ترقى‭ ‬إلى‭ ‬مسلّمات،‭ ‬يتم‭ ‬على‭ ‬ضوئها‭ ‬الحكم‭ ‬على‭ ‬الأشياء‭ ‬والظواهر،‭ ‬وبمقتضاها‭ ‬تصرّف‭ ‬الأمور،‭ ‬فإن‭ ‬السرديات‭ ‬البديلة‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬عقلانية‭ ‬ولا‭ ‬انتقادية‭ ‬لمركزية‭ ‬مخصوصة‭ ‬كتلك‭ ‬التي‭ ‬نظر‭ ‬لها‭ ‬جان‭ ‬فرنسوا‭ ‬ليوتار،‭ ‬بل‭ ‬وليست‭ ‬واعية‭. ‬لأنها‭ ‬لو‭ ‬كانت‭ ‬كذلك‭ ‬لكانت‭ ‬فعلًا‭ ‬تصحيحيًّا‭ ‬يحاول‭ ‬تقويم‭ ‬مسار‭ ‬الممارسة‭ ‬النضالية‭ ‬التي‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬تصب‭ ‬في‭ ‬مصلحة‭ ‬الإنسان‭ ‬والوطن‭. ‬إننا،‭ ‬والحال‭ ‬هذه،‭ ‬إزاء‭ ‬أطروحة‭ ‬تحاجج‭ ‬بها‭ ‬ليلى‭ ‬أبو‭ ‬زيد‭ ‬واقعًا‭ ‬مليئًا‭ ‬بالشروخ‭ ‬والمطبات‭ ‬تفتق‭ ‬عن‭ ‬استقلال‭ ‬صوري،‭ ‬تحرر‭ ‬فيها‭ ‬الوطن‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يتحرر‭ ‬الإنسان،‭ ‬مادام‭ ‬موغلًا‭ ‬في‭ ‬الجهل‭ ‬والخرافة‭ ‬والانفعالات‭. ‬فلا‭ ‬الماضي‭ ‬البسيط‭ ‬كان‭ ‬نعيمًا‭ ‬ولا‭ ‬المضارع‭ ‬جنّة‭. ‬كلاهما‭ ‬حافل‭ ‬بالتناقضات‭. ‬ففي‭ ‬الماضي‭ ‬القريب‭ ‬على‭ ‬قتامته‭ ‬كان‭ ‬الوطن‭ ‬يحمل‭ ‬بذرة‭ ‬أمل‭ ‬في‭ ‬مواطنيه‭ ‬ومناضليه‭ ‬بالتحرر‭ ‬والانعتاق،‭ ‬أما‭ ‬الحاضر‭ ‬فقد‭ ‬غدا‭ ‬هذا‭ ‬الوطن‭ ‬يشكو‭ ‬من‭ ‬غياب‭ ‬مناضليه‭. ‬فمن‭ ‬جهة،‭ ‬هناك‭ ‬وطن‭ ‬مستعمر‭ ‬غني‭ ‬بمناضليه،‭ ‬ومن‭ ‬جهة‭ ‬أخرى‭ ‬هناك‭ ‬وطن‭ ‬حر‭ ‬بلا‭ ‬‮«‬مناضلين‮»‬‭ ‬على‭ ‬غرار‭ ‬‮«‬حمار‭ ‬بوريدان‮»‬‭ ‬المشدود‭ ‬إلى‭ ‬جمل‭ ‬سغبان‭ ‬وجمل‭ ‬عطشان‭.‬

وأمام‭ ‬‮«‬المصير‮»‬‭ ‬المجهول‭ ‬وانسداد‭ ‬الأفق‭ ‬راحت‭ ‬زهرة‭ ‬وعائشة‭ ‬وليلى‭ ‬يسترجعن‭ ‬طفولتهن‭ ‬وسيرهن‭ ‬الموشومة‭ ‬بالخيبات‭ ‬كتصعيد‭ ‬يحاولن‭ ‬من‭ ‬خلاله‭ ‬الهروب‭ ‬من‭ ‬حاضر‭ ‬ليس‭ ‬هو‭ ‬الحاضر‭ ‬المحلوم‭ ‬به،‭ ‬ولهذا‭ ‬فسؤال‭ ‬الكتابة‭ ‬عند‭ ‬ليلى‭ ‬أبوزيد‭ ‬هو‭ ‬سؤال‭ ‬‮«‬المغرب‭ ‬الراهن‮»‬‭ ‬الداخل‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬بزمنين‭.‬

بينهما‭ ‬برزخ‭ ‬لا‭ ‬يبغيان‭: ‬مغرب‭ ‬الماء‭ ‬ومغرب‭ ‬الطعام‭. ‬مغرب‭ ‬تقليدي‭ ‬موثوق‭ ‬بجذور‭ ‬ممتدة‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭ ‬والثقافة،‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬نقول‭ ‬الشعوذة‭ ‬والخرافة،‭ ‬ومغرب‭ ‬‮«‬حداثي‮»‬‭ ‬مقطوع‭ ‬الجذور‭ ‬فاقد‭ ‬للهوية‭. ‬فصدمة‭ ‬‮«‬الحداثة‮»‬،‭ ‬في‭ ‬غياب‭ ‬أشراطها،‭ ‬أسفرت‭ ‬عن‭ ‬تيه‭ ‬الذات‭ ‬عن‭ ‬ذاتها‭. ‬فباتت‭ ‬كـ‭ ‬‮«‬المُنبتّ‭ ‬لا‭ ‬أرضًا‭ ‬قطع‭ ‬ولا‭ ‬ظهراً‭ ‬أبقى‮»‬‭.‬

 

صورة‭ ‬تقريبية

تلك‭ ‬تقريبًا‭ ‬هي‭ ‬سيرة‭ ‬المجتمع‭ ‬المغربي‭ ‬كما‭ ‬تمثلتها‭ ‬شخصيات‭ ‬ليلى‭ ‬أبو‭ ‬زيد‭ ‬النسائية‭. ‬وهي‭ ‬تقريبا‭ ‬الرؤية‭ ‬ذاتها‭ ‬التي‭ ‬تؤطر‭ ‬التصور‭ ‬الأطروحي‭ ‬للكاتبة‭ ‬في‭ ‬عمومه‭ ‬كما‭ ‬تجليه‭ ‬النصوص‭ ‬أو‭ ‬كما‭ ‬يرد‭ ‬في‭ ‬تصريحاتها‭ ‬الصحفية،‭ ‬إذ‭ ‬إنها‭ ‬لا‭ ‬تفوت‭ ‬فرصة‭ ‬دون‭ ‬التأكيد‭ ‬على‭ ‬ذلك،‭ ‬مع‭ ‬حفظ‭ ‬المسافة‭ ‬بين‭ ‬المتخيل‭ ‬والمعيش‭.‬

وفضلًا‭ ‬عن‭ ‬التشاكل‭ ‬بين‭ ‬سيرة‭ ‬الكاتبة‭ ‬وسير‭ ‬شخوصها‭ (‬النسوية‭) ‬المضمر‭ ‬أو‭ ‬المعبّر‭ ‬عنه،‭ ‬هناك‭ ‬تشاكل‭ ‬آخر‭ ‬بين‭ ‬سيرة‭ ‬الكتابة‭ ‬ككتابة،‭ ‬من‭ ‬جهة،‭ ‬وبين‭ ‬سيرة‭ ‬ليلى‭ ‬أبو‭ ‬زيد‭ ‬الكاتبة‭ ‬وشخوصها‭ ‬الروائية‭ ‬والقصصية،‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬أخرى،‭ ‬بحيث‭ ‬إن‭ ‬سيرة‭ ‬الكتابة‭ ‬لدى‭ ‬ليلى‭ ‬أبو‭ ‬زيد‭ ‬ستسلك‭ ‬المسار‭ ‬ذاته‭ ‬الذي‭ ‬تحكم‭ ‬في‭ ‬حيوات‭ ‬شخوصها‭: ‬أي‭ ‬التحول‭ ‬من‭ ‬النزوع‭ ‬الجمعي‭ ‬إلى‭ ‬النزوع‭ ‬الفردي‭. ‬نلمس‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬الانتقال‭ ‬من‭ ‬الرواية‭ ‬إلى‭ ‬السيرة‭ ‬بأنواعها‭ (‬الذاتية‭ ‬والغيرية‭).‬

فإذا‭ ‬كانت‭ ‬الرواية،‭ ‬كما‭ ‬عرفها‭ ‬باختين‭ ‬وغرامشي،‭ ‬نوعًا‭ ‬أدبيًا‭ ‬ناطقًا‭ ‬باسم‭ ‬الطبقات‭ ‬الدنيا‭ ‬والمتوسطة،‭ ‬بمعنى‭ ‬أنها‭ ‬تهتم‭ ‬بالمجتمع،‭ ‬فإن‭ ‬السيرة‭ ‬الذاتية‭ ‬والقصة‭ ‬القصيرة‭ ‬تهتمان‭ ‬بالأفراد‭. ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬العبور‭ ‬من‭ ‬جنس‭ ‬أدبي‭ ‬إلى‭ ‬آخر،‭ ‬سواء‭ ‬كان‭ ‬عفويًا‭ ‬أو‭ ‬إراديًا،‭ ‬تأكيد‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬سيرة‭ ‬الكتابة‭ ‬بوصفها‭ ‬معادلًا‭ ‬موضوعيًا‭ ‬لسيرة‭ ‬كاتبتها،‭ ‬خاصة‭ ‬أن‭ ‬انتقال‭ ‬الكاتبة‭ ‬من‭ ‬كتابة‭ ‬الرواية‭ ‬إلى‭ ‬كتابة‭ ‬أجناس‭ ‬أدبية‭ ‬أخرى‭ ‬أو‭ ‬ترجمتها‭ ‬أتى‭ ‬بإيعاز‭ ‬خارجي‭ (‬من‭ ‬الناشرين‭ ‬الأجانب‭) ‬وليس‭ ‬لدواع‭ ‬ضمنية؟‭ ‬وهو‭ ‬هنا‭ ‬صورة‭ ‬تقريبية‭ ‬لذاك‭ ‬التحول‭ ‬الذي‭ ‬جعل‭ ‬شخوصها‭ ‬تسير‭ ‬فيه‭ ‬وتبرره‭ ‬بحتمية‭ ‬انفتاحها‭ ‬على‭ ‬العصر‭. ‬ولو‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬مجال‭ ‬للمقارنة‭ ‬بين‭ ‬الدخول‭ ‬للعصر‭ ‬بالتخلي‭ ‬عن‭ ‬ثوابت‭ ‬الهوية‭ ‬لدى‭ ‬الشخوص‭ ‬والدخول‭ ‬إلى‭ ‬العصر‭ ‬عبر‭ ‬اللغة‭ ‬الإنجليزية‭ ‬مع‭ ‬الإخلاص‭ ‬لهذه‭ ‬الثوابت‭ ‬■