أحمد شوقي وخليل مطران

أحمد شوقي وخليل مطران

أروي هنا قصة الخلاف الذي ذرّ بين خليل مطران وأحمد شوقي، وكانا صديقين حميمين، ونحمد الله أن هذا الخلاف كان عابرًا، فما لبثت المياه أن عادت إلى مجاريها بين الشاعرين الكبيرين.  من المعروف أن الخليل كان وثيق الصلة بالخديوي عباس حلمي الثاني، الذي كان يسعى إلى تحرير مصر من السيطرة البريطانية، وأدّى ذلك إلى خلعه عن عرش مصر في 19 ديسمبر 1914، وظلّ مطران وفيًا له، رغم أن الكثيرين تخلّوا عنه، فانطوى الخليل على نفسه وابتعد عن الخديوي الجديد الذي جاء به الإنجليز إلى حين تنازل عباس عن حقه في عرش مصر. 

تشاء‭ ‬الأقدار‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الفترة‭ ‬أن‭ ‬يتوفّى‭ ‬الله‭ ‬في‭ ‬ديار‭ ‬الغربة‭ ‬الأمير‭ ‬عبدالقادر،‭ ‬الابن‭ ‬الأصغر‭ ‬للخديوي‭ ‬عباس،‭ ‬مات‭ ‬في‭ ‬ريعان‭ ‬الصّبا،‭ ‬فرثاه‭ ‬خليل‭ ‬مطران‭ ‬بقصيدة‭ ‬هي‭ ‬من‭ ‬فيض‭ ‬قلبه‭ ‬ووفائه‭. ‬

وتصادف‭ ‬وصول‭ ‬رفات‭ ‬الأمير‭ ‬الشاب‭ ‬إلى‭ ‬القاهرة‭ ‬وقتَ‭ ‬أُقيمت‭ ‬أقواس‭ ‬النصر‭ ‬ومعالم‭ ‬الزينة‭ ‬تأهّبًا‭ ‬لاستقبال‭ ‬الملك‭ ‬فؤاد‭ ‬العائد‭ ‬من‭ ‬مصيفه‭ ‬في‭ ‬الإسكندرية‭ - ‬وكانت‭ ‬عادة‭ ‬متّبعة‭ ‬كل‭ ‬عام‭ - ‬فيمرّ‭ ‬موكب‭ ‬الفقيد‭ ‬تحت‭ ‬تلك‭ ‬الأقواس‭ ‬في‭ ‬طريقه‭ ‬إلى‭ ‬مثواه‭ ‬الأخير،‭ ‬ويذكر‭ ‬الخليل‭ ‬هذا‭ ‬الاتفاق‭ ‬في‭ ‬قصيدته،‭ ‬فيقول‭ ‬مخاطبًا‭ ‬الأمير‭ ‬المسجّى‭ ‬في‭ ‬نعشه‭:‬

تعدو‭ ‬البهارجَ‭ ‬كلَّ‭ ‬زُورٍ‭ ‬تحتها

وتمرُّ‭ ‬بالزينات‭ ‬مَرَّ‭ ‬الساخرِ

 

فتثور‭ ‬ثائرة‭ ‬الملك‭ ‬فؤاد‭ ‬عندما‭ ‬بلغه‭ ‬نبأ‭ ‬هذا‭ ‬البيت،‭ ‬ويأبى‭ ‬إلّا‭ ‬أن‭ ‬ينفي‭ ‬الخليل‭ ‬عن‭ ‬مصر،‭ ‬فتجنَّد‭ ‬الوسطاء‭ ‬من‭ ‬أهل‭ ‬الخير‭ ‬ونقلوا‭ ‬إلى‭ ‬الملك‭ ‬أن‭ ‬الشاعر‭ ‬أراد‭ ‬أن‭ ‬يعبّر‭ ‬في‭ ‬بيته‭ ‬هذا‭ ‬عن‭ ‬بهارج‭ ‬الحياة‭ ‬الدنيا‭ ‬الفانية‭ ‬وزينتها‭ ‬الباطلة،‭ ‬وليس‭ ‬عن‭ ‬أقواس‭ ‬النصر‭ ‬ومعالم‭ ‬الزينة‭ ‬المقامة‭ ‬للملك‭.  ‬لم‭ ‬تقف‭ ‬المسألة‭ ‬عند‭ ‬هذا‭ ‬الحدّ،‭ ‬لأنّ‭ ‬مطران‭ ‬لم‭ ‬يكتفِ‭ ‬بأن‭ ‬يعرّض‭ ‬بالملك‭ ‬فؤاد،‭ ‬بل‭ ‬إنه‭ ‬عرّض‭ ‬كذلك‭ ‬بشاعره‭ ‬‏أحمد‭ ‬شوقي،‭ ‬وعزّ‭ ‬عليه‭ ‬ألّا‭ ‬ينهض‭ ‬إلى‭ ‬رثاء‭ ‬الأمير‭ ‬غيره‭ ‬من‭ ‬الشعراء،‭ ‬وفيهم‭ ‬من‭ ‬كان‭ ‬أوثق‭ ‬صلة‭ ‬منه‭ ‬بالخديوي‭ ‬عباس،‭ ‬فعبّر‭ ‬عن‭ ‬غضبته‭ ‬بهذه‭ ‬الأبيات‭ ‬التي‭ ‬ختم‭ ‬بها‭ ‬قصيدته‭: ‬

أرثيك‭ ‬يا‭ ‬ولداه‭ ‬بالحسّ‭ ‬الذي‭ ‬

هو‭ ‬حِسّ‭ ‬مصرَ‭ ‬وكلّ‭ ‬قلبٍ‭ ‬شاعرِ

ولقد‭ ‬ترى‭ ‬وجه‭ ‬اعتذار‭ ‬للأُلى

حَبسوا‭ ‬الدموع‭ ‬فأنت‭ ‬أكرمُ‭ ‬عاذرِ

الخلفُ‭ ‬أبعدُ‭ ‬ما‭ ‬نظرتَ‭ ‬مسافة‭ ‬

في‭ ‬الشرق‭ ‬بين‭ ‬أسِرَّةٍ‭ ‬وسرائرِ

لو‭ ‬مُتَّ‭ ‬في‭ ‬زمنٍ‭ ‬مضى‭ ‬لعلمتَ‭ ‬كم

من‭ ‬ناظمٍ‭ ‬فيه‭ ‬وكم‭ ‬من‭ ‬ناثرِ

 

فيصيب‭ ‬رشاش‭ ‬هذه‭ ‬الغضبة‭ ‬شوقي‭ - ‬وكان‭ ‬قد‭ ‬أثار‭ ‬غضب‭ ‬الملك‭ - ‬ليعتقد‭ ‬أنه‭ ‬هو‭ ‬المقصود‭ ‬بهذا‭ ‬التعرّي،‭ ‬لكن‭ ‬شوقي‭ ‬لم‭ ‬ينم‭ ‬على‭ ‬ضَيم،‭ ‬فلا‭ ‬تلبث‭ ‬أمّ‭ ‬المحسنين‭ ‬أن‭ ‬تعود‭ ‬إلى‭ ‬الديار‭ ‬المصرية‭ ‬بعد‭ ‬غياب‭ ‬طويل‭ ‬في‭ ‬تركيا،‭ ‬وينظم‭ ‬شوقي‭ ‬قصيدته‭ ‬العامرة‭ ‬‮«‬دمعة‭ ‬وابتسامة‮»‬‭ ‬‏يهنّئها‭ ‬فيها‭ ‬بسلامة‭ ‬الإياب‭ ‬ويعزّيها‭ ‬بحفيدها‭ ‬الأمير‭ ‬عبدالقادر،‭ ‬وكان‭ ‬وصول‭ ‬رفاته‭ ‬قد‭ ‬سبق‭ ‬قدومها‭ ‬إلى‭ ‬الوطن،‭ ‬ويردّ‭ ‬على‭ ‬الخليل‭ ‬بقوله‭ ‬مخاطبًا‭ ‬أمّ‭ ‬المحسنين‭: ‬

لا‭ ‬ترومي‭ ‬غيرَ‭ ‬شعري‭ ‬موكبًا

إنّ‭ ‬شعري‭ ‬درجات‭ ‬الخالدينْ

كلّ‭ ‬حمدٍ‭ ‬لم‭ ‬أصُغهُ‭ ‬زائلٌ

خالدُ‭ ‬الحمدِ‭ ‬بما‭ ‬صُغْتُ‭ ‬رهينْ‭ ‬

 

مبارزة‭ ‬شعرية

تنتهي‭ ‬هذه‭ ‬المبارزة‭ - ‬بالشّعر‭ ‬‏لا‭ ‬بالسلاح‭ - ‬بين‭ ‬الشاعرين‭. ‬وتمرّ‭ ‬على‭ ‬الحدث‭ ‬سنتان،‭ ‬فيبدر‭ ‬عن‭ ‬شوقي‭ ‬ما‭ ‬يُغضب‭ ‬الخليل،‭ ‬فيحلُم‭ ‬ولا‭ ‬يعاتب،‭ ‬لكنه‭ ‬يستعين‭ ‬بالشعر‭ ‬على‭ ‬وصف‭ ‬غضبه‭ ‬وما‭ ‬يحزّ‭ ‬في‭ ‬صدره‭ ‬من‭ ‬ألم‭ ‬الوداد‭ ‬المضيّع‭.  ‬ويشاء‭ ‬القدر‭ ‬أن‭ ‬يقبض‭ ‬الله‭ ‬إليه‭ ‬صديقًا‭ ‬حميمًا‭ ‬لمطران،‭ ‬هو‭ ‬محمد‭ ‬أبو‭ ‬شادي،‭ ‬المحامي‭ ‬المشهور،‭ ‬فيرثيه‭ ‬وينفّس‭ ‬عن‭ ‬غضبة‭ ‬الإخاء‭ ‬المستعرة‭ ‬في‭ ‬صدره‭ ‬ليقول‭ ‬وهو‭ ‬يأبى‭ ‬أن‭ ‬يُغمز‭ ‬به‭:‬

أبى‭ ‬اللهُ‭ ‬أن‭ ‬ألفى‭ ‬كغيريَ‭ ‬مُولعًا

بخلعِ‭ ‬أحبّائي‭ ‬كخلع‭ ‬ثيابي

فما‭ ‬أنا‭ ‬مَنْ‭ ‬في‭ ‬كلِّ‭ ‬يومٍ‭ ‬لهُ‭ ‬هوى

ولا‭ ‬كلَّ‭ ‬يومٍ‭ ‬لي‭ ‬جديدُ‭ ‬صوابِ

يراني‭ ‬صديقي‭ ‬منهُ‭ ‬حين‭ ‬إيابِهِ

بحيثُ‭ ‬رآني‭ ‬منهُ‭ ‬حين‭ ‬ذَهابِ

وما‭ ‬ضاقَ‭ ‬صدري‭ ‬بالذينَ‭ ‬ودِدتُهُم

ولا‭ ‬حَرِجَتْ‭ ‬بالنّازلين‭ ‬رحابي

وآنفُ‭ ‬سعيًا‭ ‬في‭ ‬ركابٍ،‭ ‬فكيف‭ ‬بي

ولي‭ ‬كلَّ‭ ‬حولٍ‭ ‬أخذةٌ‭ ‬بركابِ؟

حرامٌ‭ ‬علينا‭ ‬الفخرُ‭ ‬بالشعر‭ ‬إن‭ ‬تقع

نسورُ‭ ‬معاليه‭ ‬وقوعَ‭ ‬ذبابِ

وما‭ ‬كبرياءُ‭ ‬القولِ‭ ‬حين‭ ‬نُفوسُنا

تجاويفُ‭ ‬أرضٍ‭ ‬في‭ ‬انتفاخِ‭ ‬روابي؟

وما‭ ‬زَعْمُنا‭ ‬رَعيَ‭ ‬الذِّمامِ‭ ‬وشدُّنا

بِظُفْرٍ‭ ‬على‭ ‬مَنْ‭ ‬في‭ ‬الأمام‭ ‬ونابِ؟

 

ثم‭ ‬لا‭ ‬يلبث‭ ‬الوئام‭ ‬أن‭ ‬يحدث‭ ‬بين‭ ‬الشاعرين‭ ‬الكبيرين،‭ ‬ويتم‭ ‬إصلاح‭ ‬ذات‭ ‬البَين‭!‬

يقول‭ ‬أحمد‭ ‬محفوظ‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬حياة‭ ‬شوقي‮»‬‭: ‬‮«‬كان‭ ‬شوقي‭ ‬يألف‭ ‬مطران،‭ ‬كانا‭ ‬‏صديقين،‭ ‬وإنّ‭ ‬أدب‭ ‬مطران‭ ‬وكريم‭ ‬خلقه‭ ‬جعلاه‭ ‬صديق‭ ‬الجميع‮»‬‭. ‬وكان‭ ‬شوقي‭ ‬يحبّ‭ ‬مداعبة‭ ‬مطران،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬كان‭ ‬الأخير‭ ‬يُعجب‭ ‬بالجمال،‭ ‬وله‭ ‬صديقات‭ ‬كثيرات‭ ‬من‭ ‬فُضليات‭ ‬اللبنانيات‭ ‬والأجنبيات،‭ ‬وكان‭ ‬ربّما‭ ‬يصحبهنّ‭ ‬إلى‭ ‬المشارب‭ ‬العامة‭ ‬والمنتديات‭.‬

‭ ‬وقد‭ ‬بَصَرَ‭ ‬به‭ ‬شوقي‭ ‬يومًا‭ ‬داخلًا‭ ‬مشرب‭ ‬‮«‬صولت‮»‬،‭ ‬وفي‭ ‬صحبته‭ ‬غادة‭ ‬هيفاء‭ ‬فائقة‭ ‬الحسن،‭ ‬فناداه‭ ‬فجاء‭ ‬وسلّم،‭ ‬وكان‭ ‬شوقي‭ ‬يغار‭ ‬من‭ ‬الشيوخ‭ ‬المتصابين‭ ‬المغرمين،‭ ‬فقال‭: ‬‮«‬يا‭ ‬خليل‭ ‬‏بك،‭ ‬انت‭ ‬لسّه‭ ‬ما‭ ‬همدتش؟‮»‬،‭ ‬فضحك‭ ‬مطران،‭ ‬وكان‭ ‬كيّسًا‭ ‬لبيبًا،‭ ‬وقال‭: ‬‮«‬إنما‭ ‬اصطحبتها‭ ‬لأدلّها‭ ‬على‭ ‬عليّ‭ ‬ابنك‮»‬،‭ ‬فضحك‭ ‬شوقي،‭ ‬وقال‭: ‬‮«‬اطلع‭ ‬من‭ ‬دُول‮»‬‭!  ‬‏هذا‭ ‬هو‭ ‬خليل‭ ‬مطران‭ ‬العمود‭ ‬السابع‭ ‬في‭ ‬قلعة‭ ‬بعلبك‭. ‬‏سقى‭ ‬الله‭ ‬هاتيك‭ ‬الأيام‭ ‬يوم‭ ‬كان‭ ‬الشعراء‭ ‬يختلفون‭ ‬ويتهاجون،‭ ‬لكنّهم‭ ‬يسرعون‭ ‬إلى‭ ‬الألفة‭ ‬والودّ‭ ‬والصفاء‭. ‬

 

الشاعر‭ ‬الرقيق

‏خليل‭ ‬مطران،‭ ‬الشاعر‭ ‬الرقيق‭ ‬الحاشية‭ ‬ذو‭ ‬الكبد‭ ‬المقروحة‭ ‬قرّحها‭ ‬الحب،‭ ‬أحبّ‭ ‬المرأة‭ ‬وتغزّل‭ ‬بها‭ ‬ووصف‭ ‬لواعج‭ ‬قلبه‭ ‬في‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬القصائد،‭ ‬وظلّ‭ ‬يكويه‭ ‬الحب‭ ‬حتّى‭ ‬صَحَّ‭ ‬فيه‭ ‬قول‭ ‬الشاعر‭:‬

‭ ‬فشابَ‭ ‬بنو‭ ‬ليلى‭ ‬وشاب‭ ‬بنو‭ ‬ابنها

وحرقةُ‭ ‬ليلى‭ ‬في‭ ‬الفؤاد‭ ‬كما‭ ‬هِيَا

 

‏‭ ‬في‭ ‬18‭ ‬يونيو‭ ‬1913‭ ‬أُقيمت‭ ‬حفلة‭ ‬تكريم‭ ‬للشاعر‭ ‬خليل‭ ‬مطران‭ ‬بدار‭ ‬الجامعة‭ ‬المصرية،‭ ‬مع‭ ‬إنعام‭ ‬الخديوي‭ ‬عباس‭ ‬حلمي‭ ‬الثاني‭ ‬عليه‭ ‬بوسام،‭ ‬وكانت‭ ‬الحفلة‭ ‬برعاية‭ ‬الأمير‭ ‬محمد‭ ‬علي‭ ‬توفيق،‭ ‬شقيق‭ ‬الخديوي،‭ ‬وألقى‭ ‬شوقي‭ ‬قصيدة‭ ‬يقول‭ ‬فيها‭ ‬مخاطبًا‭ ‬لبنان‭: ‬

هذا‭ ‬أديبُك‭ ‬يُحتفى‭ ‬بوسامِهِ

وبيانُه‭ ‬للمَشْرقَيْنِ‭ ‬وِسامُ

ويُجَلُّ‭ ‬قدْرُ‭ ‬قِلادةٍ‭ ‬في‭ ‬صدره

وله‭ ‬القلائدُ‭ ‬سِمطها‭ ‬الإلهامُ

فمنِ‭ ‬البشِيرُ‭ ‬لبعْلَبَكَّ‭ ‬وبينَها

نسبٌ‭ ‬تُضيءُ‭ ‬بنوره‭ ‬الأيامُ؟

يبْلَى‭ ‬المكينُ‭ ‬الفخْمُ‭ ‬من‭ ‬آثارها

يومًا،‭ ‬وآثارُ‭ ‬الخليل‭ ‬قيامُ‭!‬

 

‏‭ ‬ويوم‭ ‬مبايعة‭ ‬شوقي‭ ‬أنشد‭ ‬مطران‭ ‬في‭ ‬المهرجان‭ ‬الكبير‭ ‬بدار‭ ‬الأوبرا‭ ‬الملكية‭ ‬بالقاهرة‭ ‬تكريمًا‭ ‬له‭ ‬عام‭ ‬1927‭ ‬قصيدة‭ ‬همزيّة‭ ‬مطوّلة‭ ‬من‭ ‬119‭ ‬بيتًا،‭ ‬يقول‭ ‬في‭ ‬مطلعها‭:‬

قبس‭ ‬بدا‭ ‬من‭ ‬جانب‭ ‬الصحراء

هل‭ ‬عاد‭ ‬عهد‭ ‬الوحي‭ ‬في‭ ‬سيناءِ؟

 

‏ويقول‭ ‬فيها‭ ‬مخاطبًا‭ ‬شوقي‭ ‬ومحللًا‭ ‬موهبته‭ ‬الشعرية‭:‬

يا‭ ‬باعثَ‭ ‬المجدِ‭ ‬القديمِ‭ ‬بشعره

ومجدِّدَ‭ ‬العربية‭ ‬العرباءِ

أمّا‭ ‬جزالته‭ ‬فغايةُ‭ ‬ما‭ ‬انتهت

شرفًا‭ ‬إليه‭ ‬جزالةُ‭ ‬الفصحاءِ

وتكاد‭ ‬رقّته‭ ‬تسيل‭ ‬بلفظه

في‭ ‬المهجة‭ ‬الظمأى‭ ‬مسيلَ‭ ‬الماءِ

لولا‭ ‬الجديدُ‭ ‬مِنَ‭ ‬الحِلَى‭ ‬في‭ ‬نظمه

لم‭ ‬تعزُهُ‭ ‬إلّا‭ ‬إلى‭ ‬القدماءِ

ناهيك‭ ‬بالوشيِ‭ ‬الأنيقِ‭ ‬وقد‭ ‬زَها

ما‭ ‬شاء‭ ‬في‭ ‬الديباجة‭ ‬الحسناءِ

إلى‭ ‬أن‭ ‬يقول‭ ‬معبّرًا‭ ‬عن‭ ‬صداقته‭ ‬له‭ ‬وودّه‭:‬

يا‭ ‬من‭ ‬صفا‭ ‬لي‭ ‬وُدُّهُ‭ ‬وصفا‭ ‬له

ودّي‭ ‬على‭ ‬السّراء‭ ‬والضراءِ‭!‬

فأعزّني‭ ‬يوم‭ ‬الحفاظ‭ ‬ولاؤهُ،

وأعزّه‭ ‬يومَ‭ ‬الحفاظِ‭ ‬ولائي

 

مطران‭ ‬يرثي‭ ‬شوقي

في‭ ‬عام‭ ‬1932‭ ‬توفّي‭ ‬أحمد‭ ‬شوقي،‭ ‬فنظم‭ ‬الخليل‭ ‬في‭ ‬رثائه‭ ‬قصيدة‭ ‬همزية‭ ‬أيضًا‭ ‬من‭ ‬108‭ ‬أبيات،‭ ‬يقول‭ ‬في‭ ‬مطلعها‭:‬

عجبًا‭ ‬أتوحشني‭ ‬وأنت‭ ‬إزائي

وضياءُ‭ ‬وجهك‭ ‬مالئٌ‭ ‬سودائي؟

لكنّه‭ ‬حقّ‭ - ‬وإن‭ ‬أبَتِ‭ ‬المُنى‭ -‬

أنّا‭ ‬تفرّقنا‭ ‬لغير‭ ‬لقاءِ

إلى‭ ‬أن‭ ‬يقول‭ ‬مخاطبًا‭ ‬شوقي‭ ‬ومبايعًا‭:‬

مهلًا‭ ‬أميرَ‭ ‬الشعرِ‭ ‬غير‭ ‬مدافَعٍ

ومُعزَّ‭ ‬دولته‭ ‬بغير‭ ‬مِراءِ

يجلو‭ ‬نبوغكَ‭ ‬كل‭ ‬يوم‭ ‬آيةً

عذراءَ‭ ‬من‭ ‬آياته‭ ‬الغرّاءِ

لكَ‭ ‬في‭ ‬قريضكَ‭ ‬خطّةٌ‭ ‬آثرتَها

عزّت‭ ‬على‭ ‬الفُصَحاء‭ ‬والبُلغاءِ

من‭ ‬أيّ‭ ‬بحرٍ‭ ‬درّه‭ ‬متصيّد

وسناهُ‭ ‬من‭ ‬تنزيل‭ ‬أيّ‭ ‬سماءِ؟

شعرٌ‭ ‬سرى‭ ‬مسرى‭ ‬النّسيم‭ ‬بلطفه

وصفا‭ ‬بروعته‭ ‬صفاءُ‭ ‬الماءِ

ويكاد‭ ‬يُلمسُ‭ ‬فيه‭ ‬مشهودُ‭ ‬الرؤى

ويُحسُّ‭ ‬همسُ‭ ‬الظن‭ ‬في‭ ‬الحوباءِ

فلكلّ‭ ‬لفظٍ‭ ‬رونقٌ‭ ‬متجددٌ

ولكلّ‭ ‬قافيةٍ‭ ‬جديدُ‭ ‬رُواءِ

 

‏‏هذا‭ ‬بعض‭ ‬ما‭ ‬قاله‭ ‬الخليل‭ ‬في‭ ‬شوقي‭ ‬مبينًا‭ ‬عبقريّته،‭ ‬ومشيرًا‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬تفرَّد‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬غنائية‭ ‬وديباجة‭ ‬شعرية‭ ‬قلّ‭ ‬أن‭ ‬يوفق‭ ‬إلى‭ ‬مثلهما‭ ‬شاعر‭! ‬

‏ولعلّ‭ ‬أفضل‭ ‬ما‭ ‬نختم‭ ‬به‭ ‬هذا‭ ‬المقال‭ ‬عن‭ ‬الشاعرين‭ ‬الكبيرين‭ ‬اللذين‭ ‬ملآ‭ ‬العصر‭ ‬ما‭ ‬يقوله‭ ‬شوقي‭ ‬في‭ ‬مقدمته‭ ‬للطبعة‭ ‬الأولى‭ ‬من‭ ‬‮«‬الشوقيّات‮»‬‭ ‬عن‭ ‬مطران‭: ‬‮«‬خليل‭ ‬مطران‭ ‬صاحبُ‭ ‬المِنَن‭ ‬على‭ ‬الأدب‭ ‬العربي‮»‬‭ ‬■