ليفربول جمالٌ فاتنٌ وتاريخٌ معتمٌ

ليفربول   جمالٌ فاتنٌ وتاريخٌ معتمٌ

في الصباح، انطلقنا إلى محطة قطارات «لندن يوستن» نقصد مدينة ليفربول، هي إلى الشمال الغربي من إنجلترا، ويصل القطار عبر محطة قطارات «لايم ستريت ليفربول»، في رحلة تستغرق ما يزيد على ساعتَي زمن بقليل. في طريق القطار، أخذنا نقرأ في كتاب شبه مدرسي يتحدث عن تاريخ المدينة الحديث واعتمادها على تجارة الرقّ، وضلوعها في انتهاكات عنصرية، وصولًا إلى تصالحها مع ذاتها ومداواة أمراضها وعللها التاريخية. 

لطالما لهثت الرأسمالية، في سبيل إشباع نهمها بالربح، والذي لا يزال طامعًا بالمزيد، وراء كل أرض وكل إنسان لسرقة قوت الشعوب وقواها، خيراتها وطاقاتها.
ولما كانت قد حظيت بصعود لافت بالتزامن مع الثورة الصناعية في أوربا عمومًا وبريطانيا تحديدًا، فقد أسفرت عن وجهها القبيح حينما كرّست العبودية وشحنت المحاصيل الزراعية من موطن حباه الله بالخيرات وابتلاه بكبريات الشركات العابرات للأصقاع والمحيطات، تحقيقًا لطموحات إمبريالية عطلت من إمكانات التقدم لدى السكان الأصليين، إنها إفريقيا المجروحة بجروح ذاكرة تنكأها بين حين وحين نزعات عنصرية تجسّدها أحداث تتكرر على نشرات الأخبار وتردها استجابات كان إحدى تمظهراتها تلك الاحتجاجات التي عمت العالم رافعة شعار «حياة السّود مهمة». 
وما من ريب في القول إن تنامي الربح وفائض القيمة غاية من غايات الرأسمالية، وما من ريب أيضًا في أن الاستعمار ودوله، والهيمنة الاقتصادية وأذرعها، راهنًا، إنما هي مستمرة في البحث عن مواد وموارد طبيعية وعمالة أجورها متدنية لإنتاج السلع وتسليع العقول بأوهامها، ونشر نمط استهلاكي من الحياة، يغذي عملية الإنتاج لسوق مترامٍ، حدوده الكرة الأرضية.
وهكذا، كان التجار وأصحاب المصانع، خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، على وعي بأهمية وجود قوى إنتاج ليست فقط متدنية الأجور، بل مملوكة تشترى وتباع.
 وهكذا، بدأت تجارة الرق تزدهر في أوربا وأمريكا وإفريقيا حينما استعبدت، عنوة، الملايين من البشر ذوي البشرة السمراء من أنحاء غرب إفريقيا، فيما بات يعرف بالتجارة الثلاثية من خلال نقل الآلاف من الأفارقة إلى الأمريكيتين عبر المحيط الأطلسي في سفن تبحر من منطلقها في موانئ بريطانيا؛ لندن وبريستول وليفربول. 

جولةٌ على ضفافِ نهرِ ميرزي
كنّا قد بلغنا ليفربول ضحى. وكانت محطة لايم ستريت تقع في مركز المدينة. ترجّلنا من القطار متعجلين كعادة الخارجين من سفر. خرجنا من المحطة واتجهنا يسارًا باتجاه الميناء المطل على نهر ميرزي من ضفته الشرقية. الفندق الذي نسكنه ليلتين يقع بين الأزقة والطرقات التي تنتشر فيها المحال التجارية الكبرى، والتي تؤدي إلى منطقة الموانئ البحرية المشرفة على النهر.
مشينا 5 دقائق فقط لنكون عند مدخل الفندق. ليس لدينا وقت لنضيّعه، فقد ارتأينا أن نقضي ما تبقى من اليوم في استكشاف الواجهة النهرية للمدينة قدر المستطاع، لأن اليوم التالي سيكون مخصصًا جلّه لرحلة سفاري، وبعدها سنغادر ليفربول، لكن بقيادة السيارة هذه المرة، للانتقال إلى بحيرة في الشمال، حيث هي آخر محطة لنا في سفرنا هذا. المدينة، ليفربول، جمّة المعالم، والتي فيها «الإنفيلد» ملعب نادي ليفربول، الذي حقق معه النجم العربي المصري واللاعب الدولي محمد صلاح الكثير من الإنجازات الكروية، منها جائزة أفضل لاعب في إنجلترا. متاحف المدينة كثيرة، فقررنا السير في النواحي القريبة ودخول متحف واحد فقط، حفاظًا على الوقت والاطلاع على قدر ممكن من المقتنيات.
خلال القرن الثامن عشر، طوّر الإنجليز طرائق مختلفة لاصطياد المستعبدين من القارة الإفريقية. وعند تواري الأفارقة عن أنظار تلك الحملات التي تقوم بها الشركات الكبرى في تجارة الرقيق، يعمد الصيادون إلى إشعال الحرائق وإضرام النيران بين الأشجار، لتخرج منها جموع الرجال والنساء والأطفال، فيُلقى القبض عليهم ويُقضى على من يُبدي أية مقاومة. ثم يجمعون في الموانئ الإفريقية، ويكدسون في مخازن ومستودعات انتظارًا للشحن إلى العالم الجديد في رحلة من العذاب، وفي أحيان كثيرة، الموت عبر البحار. 
لقد قضى الملايين في سردية العذاب تلك من مشقة السفر ومن وحشية التعامل على ظهر سفن شراعية شيّدت بكيفية تخدم مقاصد التجار الإنجليز المسيطرين على هذه التجارة. ولبئس المرام، إنها أسوأ تجارة عرفها التاريخ الإنساني، إنها سبّة لإنسانية غربية بدأت تتشكل بذورها آنذاك تحت مزاعم علمية وأخرى أخلاقية مطلية بأفكار الليبرالية الكلاسيكية، ويا للمفارقة، كان صاحب «في الحكم المدني»، الفيلسوف الإنجليزي الشهير المناصر لمذهب الحرية والمنادي بفكرة الحقوق الطبيعية، جون لوك (1632 - 1704)، يحوز ضمن ممتلكاته مجموعة من العبيد، بل وكان منخرطًا بقوة في هذه التجارة المخزية.

أرقّاء بهيئة جديدة
إن البشرية كانت ولمّا تزل تحاول الاستشفاء من هذا التاريخ، ويبدو أن مخلّفاتها لا تزال موجودة، كامنة وظاهرة، في بقاع مختلفة من العالم، وهي لا تني تظهر كلما سنحت فرصة، ليس بالصبغة القديمة بالتأكيد، لكنها أخذت تلوح بأشكال مستجدة أساسها عاملان؛ اقتصادي رأسمالي يخلّف أرقّاء بهيئة جديدة، وعنصري عرقي يستند إلى علوم زائفة، لحُسن الحظ جرى تفكيكها من قبل العقل الغربي نفسه، تقدم أعراقًا وتؤخر أعراقًا.
بعد وضع الحقائب، خرجنا إلى مرفأ ليفربول، لم يتطلب منا ذلك سوى عبور الشارع الفاصل بين الخط الساحلي وجوانب المدينة الأخرى، خطوات قليلة كنّا بعدها عند الرصيف البحري المحاذي للطريق. في الزاوية الجنوبية الشرقية من المرفأ، مدخل عتيق مقوس. يبدو المدخل كما لو أنه إطار يحتضن الفضاء النهري البديع. عبرنا البوابة من جسر قصير يجسر القناة المائية، فلاحت لنا، ناحية اليسار، عجلة عملاقة تشبه تلك الموجودة على «تايمز لندن». 
واصلنا المسير قليلًا ثم عرجنا ناحية اليمين، إلى ساحة المرسى، ثم أكملنا السير على طول الرصيف الذي عرفنا، عندما سألنا أحد المارة عن رصيف ألبرت الملكي، أن هذا المرسى يدعى بيت الملح لا رصيف ألبرت، وأن الرصيف الملكي الذي نقصد يقع في الخلف منه، وهو مشرف على النهر مباشرة.
وقال: «إن المكان عبارة عن مستطيلين مائيين أحدهما مفتوح على طريق الكورنيش، هذا الذي نقف عليه الآن، أما المستطيل المائي الآخر فمطلّ على نهر ميرزي وتطوقه المباني الجميلة وهو رصيف ألبرت الذي تسألون عنه».
كانت القوارب والمراكب الشراعية العتيقة، التي تذكّر بقوارب القراصنة في الأفلام القديمة، تتناثر في زوايا المرسى. عبرنا جسرًا قصيرًا آخر يربط بين رصيف بيت الملح ورصيف ألبرت. المنظر من على الجسر بديع ويوفر نظرة بانورامية للمكان. صرنا إلى جانب مبنى مكتب ليفربول للمور فيما أمامنا مبنى قديم كان مخصصًا لشحن الحمولات وإفراغها، له مدخنة جميلة مرتفعة، لكنه أصبح اليوم حانة تبيع المشروبات الكحولية والمشروبات الغازية الخفيفة.

رصيف ألبرت الملكي
يحوي الرصيف متحفين هما المتحف البحري ومتحف قصة فرقة البيتلز، وصالات ومركز معارض فنية ثقافية. كما يضم مطاعم ومقاهي وباراتٍ وبعض المحال التي تبيع منتجات مختلفة، وبالتأكيد معظمها تلك القطع التذكارية لمعالم ليفربول الرئيسية.
وهناك ثلاثة فنادق توفر إطلالة ساحرة على المرفأ. رحنا نتمشى بزوايا الرصيف ونتأمل موجودات المشهد النهري الخلاب، عتاقة المباني ذات الجرانيت الفاتن، أعمدة حمراء تميل إلى البرتقالي تنتصب في واجهة الرصيف، وأخرى على صفحة الماء من أثر الانعكاس. تبدو الأعمدة كأنها تحمل المبنى وخلفها الأروقة التي تسكنها المحال، الراسيات الساكنات؛ سفن ترسو بسكون، مراكب شراعية قديمة نائمة على حائط الرصيف، صيّرها الزمان ذكرى وعبرة، لا وظيفة لها إلا جذب السياح لتأمل عتاقتها وجمالها. 
طيور النورس على الأرض ومحلّقة بارتفاع منخفض، سماء زرقاء بقطع من السحب بيضاء، أطفال يركضون خلف بعضهم البعض. شيخ يجلس وحده على كرسي حديدي أسود اللون يستند إلى عصاه الأنيقة، الحق أن أناقته لا تقتصر على العصا، بل تمتد من أعلى رأسه، بقبّعة تشبه قبّعات الرسامين الطليان، وحتى أخمص قدميه، فتاة وفتى تشي طاقتهما المتبادلة بأنهما عاشقان، نهر يفرز موجات بلون أبيض كلما ارتطمت موجة ضاربة وجه الرصيف، هواء خفيف طيب. مَن يتصفح وجوه الناس يجد فيها نشوة الرضا، كما لو أنهم ألقوا بهمومهم كلها في نهر ميرزي.

جبل ليفربول
انعطفنا مع انعطافة الرصيف، فكان إلى يسارنا مبنى المتحف البحري ملحقًا به المتحف الوطني لقوة الحدود. والتزامًا بمخططنا لهذا اليوم، الذي يقضي بزيارة متحف واحد فقط، فقد آثرنا أن نتجاوزه إلى متحف آخر قد نصادفه في مسيرنا.
نجتاز جسرًا قصيرًا آخر، فنلفي أنفسنا في زاوية أخرى من الميناء، فيها منزل قديم تعود ملكيته لبيير ماستر، المسؤول عن سلامة دخول السفن وخروجها من المرفأ، في الوقت الذي جرى بناؤه عام 1852. 
بقي المنزل صامدًا خلال فترة الحرب العالمية الثانية، وتحوّل عام 2003 إلى متحف يروي قصص المدينة في أثناء الحرب عبر المقتنيات التي تتنوع من الكتب إلى الأثاث القديم، مرورًا بالأقنعة الواقية من الغاز، إلى غير ذلك.
وكان في هذه الزاوية من المرفأ أحجار كبيرة متراكبة على نحو عمودي غرائبي؛ حجر فوق آخر، ويصل ارتفاعها مجتمعة إلى 10 أمتار. كل حجر مصبوغ بلون مختلف فلوري مضيء، يبدأ الحجر الأول باللون الوردي، ثم الأحمر، ثم البرتقالي، ثم الأصفر، أما الحجر الذي في الأعلى فلونه أزرق.
دنونا من العمل الفني اللافت، فإذا عنوانه «جبل ليفربول»، ويعبّر، بحسب بعض الثرثارين الواقفين حوله، عن توازن أحجار الطبيعة رغم الأوزان الثقيلة وعشوائية التكوين، وفي ذلك، بحسبهم، تحدّ لقانون الجاذبية. ولما دخلنا في الرواق القريب من الزاوية وجدنا متحفًا ومركزًا فنيًا، فإذا هو فرع من مركز «غاليري تيت» الثقافي الشهير في المملكة المتحدة، والذي كنا قد مررنا على فرع له على ضفاف التايمز في لندن، المخصص لعرض الأعمال الفنية، لا سيما منها ذات التعبير الفني عن قضايا العدالة والمساواة وحماية البيئة والدفاع عن الأقليات وصيانة الحريات. وقع اختيارنا عليه، إذن، ليكون المتحف الذي سنزوره اليوم. 

تجارةُ الرقيقِ
مثّلت بريطانيا بمرافئها إحدى المحطات المهمة لتجارة الرقيق من إفريقيا إلى الولايات المتحدة فيما يُعرف بتجارة العبيد عبر الأطلسي، أي التي جرت قتامة مضامينها في الفترة من القرن السادس عشر، واستمرت حتى القرن التاسع عشر في عرض بحر الظلمات، ويا مناسبة اللفظ للمعنى الذي نحن بصدده، وهي تجارة لها وقعُها الكبير في التاريخ البشري، حيث يؤتى بالمستعبدين من القارة الإفريقية ليباعوا في المستعمرات بأمريكا الشمالية والجنوبية (العالم الجديد)، للقيام بأعمال مختلفة تتراوح بين زراعة القطن والبن والكاكاو والسكر، مرورًا بمناجم الذهب والفضة، وصولًا إلى أعمال البناء ونقل الأخشاب، وليس انتهاء بالخدمة المنزلية. ويعد مرفأ ليفربول صاحب الدور الأهم في هذه التجارة. 
تاريخيًا، ورغم انتشار تجارة الرقيق فيها متأخرًا عن لندن وبريستول، فإنه بحلول عام 1740، أصبحت ليفربول عاصمة تجارة الرقّ في بريطانيا، بل وأضحى ميناؤها الأول في هذه التجارة على مستوى القارة الأوربية، فقد تجاوز عدد السفن الشراعية التي تنقل الأفارقة عبر الأطلسي، عام 1792، نحو 131 سفينة شراعية تنطلق من ميناء ليفربول وحده، لتحمّل بنحو 40 ألف إفريقي، في حين كان عدد سفن ميناء لندن يبلغ 22، وعدد سفن ميناء بريستول 42. ولموقع مينائها دور كبير في نمو التجارة في ليفربول، إذ يتميز، جغرافيًا وملاحيًا، بسهولة الوصول عبر الأنهار والقنوات المائية. ونتيجة لذلك، عرفت المدينة ازدهارًا في صناعة السفن، بل والسفن التي كانت تصمم خصيصًا لنقل الرقيق. 

عائد جيد
هيمنت ليفربول على تجارة العبيد في شمال الأطلسي، ولم يقتصر الأمر على نقل الرقيق، إذ تحمّل السفن، المنطلقة من ليفربول في رحلة ذهابها إلى الموانئ الإفريقية لشحن الرقيق، بالبضائع التي كانت صناعة المنسوجات والأقمشة تشكّل الجزء الأكبر منها، حيث تبلغ نحو 50 في المئة من إجمالي الشحنات، إلى جانب شحنات البنادق والسكاكين وأدوات الطبخ النحاسية والنبيذ وغيرها.
كانت تلك البضائع تجذب التجار الأفارقة، وتحقق عائدًا جيدًا لبريطانيا، كما كان يجري مقايضة البضائع بالعبيد. أربعون في المئة، تقريبًا، هو حجم الإيرادات الناتجة عن العلاقات التجارية مع القارة الإفريقية. 
ثم تشق السفن عباب البحار متجهة صوب مستعمرات الأمريكتين، لتفرغ شحنات المستعبدين وتحمّل بعدها ببضائع كالسكر والقطن والقهوة والتبغ، عائدة تارة أخرى، إلى حيث بدأت؛ الموانئ الأوربية، في تجارة عرفت تاريخيًا بالتجارة الثلاثية، كما تقدّم، لمحطاتها الثلاث من أوربا إلى إفريقيا إلى الأمريكتين إلى أوربا مجددًا. 
ولعلها خير معبّر عن حراك رأسمالي؛ أمواله أوربية وعمّاله أفارقة وأرضه أمريكية. حققت بها القارة، التي صارت تاليًا عجوزًا، ثروات طائلة جراء عملية اقتصادية انتهبت أراضي لا تمتلكها، واستغلت أيدي عاملة تُعامل بالسخرة، ولا تذوق ثمرة جهدها وعملها وعرقها. إنها مكاسب مجانية لمن لا يملك ولا يعمل، ولكنه مع ذلك يكسب ويجني الأرباح والعوائد. لقد صنعت تجارة الرقيق ثروات طائلة للكثيرين، ومن عوائدها شيدوا المنازل الكبيرة وتوسعوا بالاستثمار في مجالات كالصيرفة والصناعة، وأقاموا، عجبًا، المؤسسات الخيرية!
 والموارد المذكورة تمدّ السوق الأوربية وتغذّيها. لكن ثمة طريقاً جديدًا ازدهر منذ بداية القرن التاسع عشر لم يعد يتبع الطريق الثلاثي، إنه خط المستعمرين الأمريكيين الذين باتوا يتجهون مباشرة من الموانئ الأمريكية، وخصوصًا البرازيل إلى السواحل الإفريقية.

رحلات مخزية
في مقدمة الدول الأوربية المتورطة بتجارة الرقّ تأتي البرتغال وإسبانيا وبريطانيا وفرنسا وهولندا والدنمارك والسويد. غير أن بريطانيا كانت قد بدأت تجارتها واسعة النطاق من خلال الشركات التجارية الخاصة منذ الأربعينيات بعد الألف وستمئة للميلاد. فشركة «رويال أفريكان»، ومقرها لندن، كانت أهم تلك الشركات، إذ إنها احتكرت عمليات التجارة البريطانية منذ عام 1672. لكن هذا الاحتكار لم يدم طويلًا، فالتجار الإنجليز عارضوه طمعًا في نيل المكاسب من التجارة جمّة الربح، وتمكنوا في عام 1698 من إنهاء السيطرة الحصرية لتلك الشركة.   
في الحقبة التاريخية الممتدة بين 1695 و1807، بلغ عدد الرحلات المتجهة إلى السواحل الإفريقية 5300 رحلة منطلقة من ميناء ليفربول بمفرده، في حين كان عدد الرحلات التي خرجت من ميناء لندن 3100، ومن ميناء بريستول 2200. أما الموانئ الأوربية الأخرى كأمستردام وبرشلونة وبوردو ولشبونة وكاديز ونانتس، فلم يتجاوز عددها 450 رحلة.

نهايةُ عهدِ الرقّ
في عام 1807، انتهت رسميًا تجارة الرق بشكلها الكلاسيكي في بريطانيا، وربما تكون ليفربول على كل ما شهدته في تاريخها من قسوة ووحشية وإثراء فاحش ظالم إزاء عار الإنسانية «العبودية»، الذي تقدّر بعض الروايات التاريخية أن ثلاثة أرباع السفن الأوربية جميعها، خصوصًا قبل الإلغاء بعقدين، كانت قد غادرت من ميناء ليفربول، وهذا له دلالة واضحة على الموقع الجغرافي الحيوي للميناء، أقول ربما تكون مثالًا للشفافية وشجاعة النظر إلى الوراء والاعتذار، بل ومحاولة مداواة الذاكرة لا بالنسيان، بل بالاعتراف بالماضي، لكن «الاعتراف» بالحاضر ومكوناته أيضًا عبر إحياء الذكرى السنوية لإلغاء الرقّ وتأسيس بيوت الذاكرة؛ أعني المتاحف التي يبدو أن وظيفتها تجاوزت مسألة حفظ التاريخ إلى صناعة سياق آخر للتاريخ يكتب بحبر التسامح، لكن من دون نسيان.
أقر مجلس المدينة في عام 1999 بالدور المحوري والمخزي الذي اضطلعت به ليفربول في تجارة العبيد، وقدّمت عن ذلك اعتذارًا رسميًا. وهي الآن تعترف بتاريخ العبودية الذي يسكن سواحلها وتكشفه بقايا الموانئ البحرية، وكانت قد افتتحت في عام 2007، أي بعد مرور مئتي عام على إلغاء العبودية في بريطانيا، وتحديدًا في الثالث والعشرين من أغسطس، (وهو يوم الذكرى السنوية للرق)، «المتحف الدولي للعبودية» كجزء من المتحف البحري الواقع في رصيف ألبرت الملكي على مقربة من موضع صناعة وإصلاح السفن المخصصة لتجارة العبيد عبر الأطلسي إبان القرن الثامن عشر. عبر إنشاء المتاحف، تسعى المملكة المتحدة إلى ترميم ذاكرتها والتصدي للنزعات العنصرية البغيضة. 
ومع كل ذلك، ليس من اليسير القول إن الرقّ كان قد انتهى هكذا إلى غير رجعة، لقد عاد بوجه جديد، فغدت العبودية المعاصرة سيدة الموقف مجددًا، إذ يُدفع في راهننا بالآلاف من المستضعفين من الرجال والنساء والولدان من كل بقاع المعمورة إلى رقّ لا يشبه ذلك القديم. 
صحيح أن الرق ألغي من نظام دول العالم، وحرّمه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948، إلا أنّ صورته الراهنة تحمل الشروط والملابسات ذاتها، حين يصبح البشر مجرد أشياء في دنيا العمل الرأسمالي الذي لا يدفع من الأجور إلا ما يسد الرمق، ولا يستوفي ضروريات الحاجات.
 فالحُر مستعبد بقيود العمل وعبودية الأجور، ذهنيًا كان العمل أم جسديًا، ودائم التوجس والقلق من تهديدات فقدان مصدر الرزق، بل إن العامل صار كالبضاعة تُباع وتُشترى وتُمتلك متى شاء صاحب العمل تقييد حركته وسلب حريته وأيام راحته، ولك في تشغيل الأطفال في مجالات للعمل شديدة وقاسية، لا تتناسب وسنّ الطفل القاصر وجسمه الضعيف، شاهد ودليل، وما العبودية إن لم تكن تلك؟ 

متحف «غاليري تيت»
أما موقع المتحف الذي نزوره اليوم، فهو، كما سائر الأبنية التي تحتضن المرسى، كان مستودعًا لمختلف البضائع والشحنات القادمة من آسيا، كالشاي والحرير والتبغ والكحول. وحينما جرى بعث الروح في المكان، في ثمانينيات القرن الماضي، جرى إنشاء عدد من المتاحف التي استغلت المستودعات عبر إعادة توظيف مساحاتها. كما جرى، في الموقع التاريخي، افتتاح عدد من المطاعم والمقاهي والحانات. 
مركز الفن المعاصر المسمى بـ «غاليري تيت»، الذي عُرف وقتها بـ «تيت الشمال»، صار، حسبما تحدثنا قيّمة المعرض، مركزًا جاذبًا؛ بسلسلة المعارض المختصة بالفن الحديث التي يقيمها في قاعاته الواسعة التي تتميز بها طوابقه الأربعة، فضلًا عن الأنشطة المكثفة والبرامج التعليمية الفاعلة الموجهة لفئات المجتمع كافة، مع التركيز على جمهور الشباب.
في عام 1985، جرى تكليف جيمس ستيرلينغ بتصميم مبنى «غاليري تيت» ليفربول. وقد حافظ جيمس على الشكل الخارجي القديم؛ الطوب وأحجار البناء والأعمدة نفسها، بيد أنه عمد إلى تغيير الشكل الداخلي وإعادة تنسيقه ليلائم أغراض المعارض الفنية. وكان المتحف/ المعرض قد افتتح في مايو 1988. ويزوره اليوم ما يزيد على نصف مليون زائر سنويًا، مما يجعله أحد الفضاءات الثقافية والفنية الرئيسية لمتاحف الفن الحديث في أوربا. 
للمتحف تصميم داخلي مميز يجعل الزائر ينتقل بين عوالمه بسلاسة ويُسر، تسلمه قاعة عرض إلى قاعة أخرى في رحلة بصرية تسرّ الناظرين، حيث الغوص في مفردات التشكيل الفني المعبّرة عن التاريخ الاجتماعي لهذه المدينة. بدأنا بتفقّد المكان، بعد أن دخلنا، فكان في الطابق الأرضي متجر ومقهى وشبابيك بيع التذاكر لبعض القاعات التي يتطلب دخولها شراء تذكرة، وإلا فمعظم أرجاء المتحف مفتوحة للزائرين بالمجان. 

«الحافلة»
وإذا توجهت تلقاء المصاعد الكهربائية والسلالم، تصادفك قاعة جيدة المساحة جدرانها تغطيها رسومات بسيطة، كانت وقتها تستضيف عملًا فنيًا جميلًا عبارة عن مجسّم حافلة مشبعة الألوان. العمل من صنع فنانة ألمانية تدعى سول كاليرو، تتناول أعمالها قضايا وثيمات فنية متقاربة من قبيل تمثّلات الذات والهوية، الهجرة والهامش. وهي ثيمات نابعة من التجربة الشخصية للفنانة المغتربة. 
وهذا العمل المعنون بـ «الحافلة» مستلهم من حافلات النقل في أمريكا اللاتينية تحديدًا، إذ تتميز وسيلة النقل هناك بتعدد ألوانها ورسوماتها، كما تعد الحافلات جزءًا مهمًا وملهمًا من حياة المدينة، ويقصدها السياح لعيش تجربة مختلفة. 
داخل الحافلة الفنية، ثمة أجهزة لوحية مثبتة على ظهور المقاعد تعرض فيها الفنانة جولة سياحية افتراضية في أرض متخيلة. وهنا، تشدد كاليرو، بحسب تسجيل لها يُعرض في القاعة، على أهمية الترحال والسفر والسياحة في خلق وعي قلق إزاء التصورات التنميطية السائدة عن بعض الشعوب، وعي يُسائل سوء الفهم المرتبط بأحادية النظرة، ويفتح إمكانية وجود منظورات مختلفة ليس بالضرورة أن يكون الصراع والنزاع هما الصيغة التي تحكم تبادل العلاقات بينها.
ونحن نرجع البصر كرّتين وثلاثًا إلى تفاصيل العمل الفني شعرنا بروح محمود درويش تحضر بكلمات ذلك المسافر الذي لا شيء يعجبه، ويرد على صيحات سائق الحافلة الذي ينبه الراكبين قائلًا: «اقتربنا من محطتنا الأخيرة، فاستعدوا للنزول... فيصرخون: نريد ما بعد المحطة، فانطلق!»، أما هو فيقول: «أنزلني هنا. أنا لا شيء يعجبني، ولكني تعبت من السفر». 
في الطابق الأول، قاعة «مستودع الأفكار»، المخصصة لأطفال المدارس، حيث تعرض لهم أعمالًا لبابلو بيكاسو ونيكولا تايسون وسلفادور دالي وغيرهم، ويمارسون فيها أنشطة تعليمية مكرسة لتعزيز الفنون البصرية لدى الناشئة. وثمة قسم يحتوي على ست حجرات، تتوزع بين هذا الطابق والطابق الثاني، مخصصة للمجموعات الفنية لمتحف تيت، تعطي للناظر فيها صورة عامة عن أهم المدارس الفنية الحديثة في بريطانيا. 

«زهرةُ الخرق»
وإذا كانت الأعمال الفنية التي تملأ صالات العرض معظمها يثير الإعجاب ويجبرك على التوقف لحظات ولحظات لتأمّل معانيها التي قد تستغرق صفحات وصفحات لتفي بمدلولاتها، فإن عملًا فنيًا لفت انتباهنا وألزمنا الوقوف أمامه أكثر من غيره، شعرنا بأن رسائله كبيرة تنوء بالكلمات الواصفة، إنه عمل اسمه «زهرة الخرق» للفنان الإيطالي مايكل أنجلو بيستوليتو، المولود عام 1933، يوظف فيه وسائط تعبير فنية متعددة.
وهو عبارة عن تمثال رخامي كلاسيكي لإلهة الحب والجمال والخصب عند الرومان تعطي ظهرها للناظر، وأمامها كومة من الثياب الحقيقية الملونة الحديثة، لكنّها بالية، يحمل التمثال ثوبًا رخاميًا باليد اليسرى، ويبدو وجهه صادًّا عن الناظر لا يرى. 
ثمة تناقضات ومتضادات، بدت لنا، تسكن العمل الفني هذا؛ في مقدمتها ألوان الثياب المنوعة وأحادية لون المثال الرخامي الرمادي الباهت، وكلاسيكية التمثال مع حداثوية مكونات العمل الأخرى الخرق والثياب، والثقافة المتعالية النخبوية والفن اليومي الشعبي.
إن في الخرق البالية إشارة وعلامة على استيعاب الفن لأشكال وتفاصيل الحياة كافة. وقد كان الفنان الإيطالي أحد الوجوه البارزة لحركة فنية تدعى «آرت بوفيرا» لاقت رواجًا إبان ستينيات القرن المنصرم في إيطاليا، تستخدم كل المواد الرخيصة، بل والمواد المستهلكة كأوراق الصحف والثياب البالية وغيرها، مما لا فائدة منه، وغالبًا ما يرمى في الحاويات. 
وهدفها بالطبع نزع الطابع التجاري المكلف لأدوات صناعة العمل الفني وجعلها متاحة للجميع، مع التركيز على الأفكار المبتكرة القادرة على ابتداع أعمال فنية من أشياء لم يكن في الحسبان أن تكون جزءًا من لوحة فنية بديعة. 

قاعة الفنون البصرية
إلى ذلك، يشتمل الطابق الثاني، أيضًا، على قاعة جميلة تدعى «قاعة الفنون البصرية»، وما يميّزها أرضيتها البديعة التي هي لوحة فنية في حدّ ذاتها؛ خطوط متوازية وأشكال هندسية ذات ألوان متباينة فاقعة. لكن اللوحات والصور المعروضة تتساوق هي أيضًا مع تصميم القاعة وبذات الطريقة من تكرار الألوان وتواتر التشكيلات التي تخدع الناظر وتوهمه بالحركة المستمرة لثابت غير متحرك؛ هل تذكرنا بثنائية «الثابت والمتحول» في تأويل العمل الفني من خلال ما يتراءى للمتفرج من استيهامات تأويلية لمفردات فنية ثابتة؟ أم تذكرنا بثنائية «الشيء في ذاته» و«الشيء كما يظهر لنا» في إبستمولوجيا الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط؟
فلما انتهينا من المتحف، وكان وقت العصر يشرف على الانتهاء، صوبنا خطانا ذات اليمين، ناحية منزل بيتر ماستر الذي كان خلفه بعض التماثيل والنصب التذكارية. ومن جميل ما شاهدنا على شبابيك الرصيف من ناحية النهر، مجموعة كبيرة من الأقفال المختلفة الأشكال، متراصّة جنب بعضها البعض، تركها أصحابها أملًا وذكرى. عبرنا جسرًا قصيرًا آخر، يجسّر القناة المائية الموازية للنهر، فأصبحنا خارج رصيف ألبرت في ناحية أخرى من الواجهة النهرية، قبالتنا مبنى ذو طابع حداثي يتخذ تصميمًا عجيبًا بدا لنا أنه يحاكي شكل سفينة كبيرة ممردة من حجارة بيضاء متموجة تشعر الناظر إليه بأنه ممتط أو مشدود، وفي مقدمته ومؤخرته نوافذ زجاجية كبيرة مؤطّرة بالحجارة، كما لو كانت منصة تشرف على تفاصيل المكان؛ المدينة والميناء ورصيف ألبرت ونهر ميرزي والقناة المائية المتصلة. 
إنه «متحف ليفربول» الذي كان قد افتتح عام 1993، غير أنه أغلق أبوابه في 2006 ليعاد افتتاحه عام 2011 بهيئته الحالية، إذ وضع تصميمه المعماري الدنماركي كيم نيسلون. 

ساحة متحف ليفربول 
تمشينا في ساحته فرأينا بعض المعالم والنُّصب التاريخية. واصلنا فوصلنا إلى بوابة ميناء يستقبل المدن المتحركة، أعني السفن السياحية الضخمة المعرفة بـ «الكروز». وكان ثمة نصب تذكاري لحاكم المملكة المتحدة في أوائل القرن العشرين الملك إدوارد السابع، وهو يمتطي حصانًا. وقريب منه أربعة تماثيل سوداء لأعضاء فرقة البيتلز. تصميم التماثيل يشعر بالحركة كما لو أن هؤلاء الأربعة بيننا يتمشّون ويتسامرون، التماثيل مثبتة بالأرض والناس من حولها يلتقطون الصور التذكارية كما تلتقط الصور مع أحياء المشاهير. في إحدى أغانيها، ذكرت فرقة البيتلز شارعًا في ليفربول يدعى «درب بيني». وبيني هذا هو أحد تجار الرقيق المعروف بتعصّبه ومنافحته عن تجارة العبيد، وكانت له صولات وجولات في معارضته الصريحة لحركة إلغاء تجارة الرقّ بحجة الآثار الاقتصادية التي سيخلّفها إلغاء العبودية. 
وكان يؤكد بكل صلافة، في إفادته أمام مجلس اللوردات، عام 1788، ضمن اعتراضات والتماسات قدّمها هو وغيره من تجار الرقيق في اللجنة التحضيرية لإقرار قانون 1788، أن «العبيد سيحظون هنا بنوم هانئ أفضل من نوم أي رجل محترم على الشاطئ».
ولا غرابة، سيما إذا عرفنا أن المدينة، متورطة بهذه التجارة المخزية، من كبار التجار فيها إلى بعض مواطنيها.
كان كارل ماركس قد اعتبر في «رأس المال» أن التحول إلى الاتجار بذوي البشرة السوداء بعد اصطيادهم من موطنهم إنما هو مؤشر ودليل على بداية عهد جديد من الإنتاج الرأسمالي، فتجارة العبيد كانت جزءًا من «التراكم البدائي لرأس المال»، أي مراكمة الثروة التي هيأت بدورها الظروف المادية المواتية للتحولات الصناعية الكبرى في بريطانيا. 

العطايا الثلاث «ثري غرايسز»
هنا، في الساحة الواسعة، ستجد إلى يمينك ثلاثة مبان متتالية، ضخمة فخمـــة وحسنة المنظر، تعرف بالعطايا الثلاث (ثري غرايسز)، لكن وراء حسنها تاريخ بشع قابع كالحسناء الماكرة تخفي قبحها الباطني بجمالها البارز للعيان. 
فتمويل تشييدها فضلًا عن تطوير الميناء ذاته، بل والازدهار الذي عرفته المدينة بالعموم، يعود إلى عوائد تجارتها الشهيرة داجية اللون مخزية الذكرى. المبنى الأول، أقدم الثلاثة، هو مبنى ميناء ليفــــربول، وقد افتتــــح عام 1907 مقرًا لهيئة الميناء والرصيف البحري لنهر ميرزي. 
بناء مستطيل الشكل وله قبّة مركزية في وسطه، جذابة تذكر بقبّة كاتدرائية ليفربول الأنجليكانية، وهي لم تكن موجودة في أصل تصميم البناء، بل أضيفت لاحقًا. أما المبنى التالي فمبنى كونارد الذي جرى تشييده بين عامي 1914 و1917، على طراز يجمع بين معمار النهضة الإيطالية والفن المعماري الكلاسيكي اليوناني القديم. وكان مقرًا لشركة كونارد للخطوط الملاحية، وبه الآن متحف تاريخ الموسيقى البريطانية. 
والمبنى الأخير هو مبنى ليفر الملكي، ويعود إلى عام 1911 حين صممه والتر أوبري ليكون مقرًا لمجموعة ليفر التجارية الملكية، الشركة التي أسست عام 1850، ولا يزال المبنى يضم مكاتب تجارية ومقارّ لشركات مختلفة. للمبنى برجان، ولكل برج ساعات عملاقة أربع على جميع الاتجاهات، يفوق حجم قطرها تلك الكائنة في برج الساعة أو الـ «بيغ بن» في لندن. ويعلو البرجين طائر الليفر، هذا الكائن الأسطوري الذي يمثّل شعار المدينة، ويعتبر سمة من سمات المعمار فيها. يذكر أن تلك المباني، وكذا المرفأ، مصنفة ضمن قائمة اليونسكو للتراث العالمي في المدن البحرية التجارية. 

«الرأسمالية والعبودية»
تلك المؤسسات والمصارف الكبرى التي تحتل الجانب الساحلي من مدينة ليفربول تعبير دقيق عن علاقة الرأسمالية بتجارة الرق. ولا نضيف جديدًا عندما نقول باعتماد النظام الرأسمالي، سيما في ظل أجواء الثورة الصناعية، على أشكال العبودية المختلفة؛ نقول أشكال العبودية لنؤكد أن العبودية لم تُلغَ كما يظن الكثيرون، إلا في شكلها التقليدي الصارخ، فهي تلبست لبوسًا مختلفًا في زماننا وقبل زماننا بقليل، من الاستعمار إلى الهيمنة والإمبريالية إلى العنصرية والتحيز المفضي إلى التطهير العرقي والفصل العنصري، وغيرها من أشكال العبودية كتجارة الجنس واستغلال الأطفال والعمل القسري، ولكن حتى في شكل العمل ونظام الوظيفة لدى كبريات الشركات العالمية المتعددة الجنسيات، تلك التي تستغل العمالة في البلدان الفقيرة لإنتاج السلع الباهظة، إذ لن يحظى عامل من آسيا ينتج سلعة من سلع العلامات التجارية العالمية سوى بأقل القليل، ليذهب فائض الربح «القيمة» إلى الرأسمالي من دون كبير، ولا قليل حتى، جهد. وبذلك تتراكم الثروات في أيدي أقل من 2 في المئة من سكان العالم يملكون ما لا يملكه بقية 98 في المئة. 
منطق غريب، لكنه، على غرابته، يبدو، في سيادته على الكرة الأرضية، بديهيًا وعاديًا، حيث تعبّد طريق عبوديته الجديدة ما بات يسمّى بــ«العولمة». وما هذا بعجيب ما دام ذلك يجري كله باسم التنمية والتطور والتقدم وزيادة الناتج المحلي الإجمالي. وعلى ما سبق، فإن لتجارة الرق دورًا كبيرًا ومحوريًا في صعود الرأسمالية. ويكفي أن نشير فقط إلى ما كتبه المفكر والكاتب إيريك وليامز (1981 - 1911) في عمله الذائع «الرأسمالية والعبودية» (1944) حول الأساس الذي كوّنت من خلاله بريطانيا ثرواتها الطائلة في القرن الثامن عشر؛ إنها تجارة الرق التي ساهمت في تسريع وتيرة الثورة الصناعية، وأنتجت الشكل الاقتصادي الرأسمالي الحديث. في أطروحة هذا الكتاب ما يغني لمن أراد أن يستزيد فيما يتعلق بدور العبودية في تشكّل الرأسمالية لا في تجارة العبيد وحدها، بل وفي إنتاج هؤلاء المستعبدين لأهم البضائع والسلع في الأسواق الأوربية آنذاك، كالسكر والقطن.

يومٌ في البرية
في الصباح الباكر من اليوم الثاني لنا في ليفربول، استيقظنا من نومنا الذي مدّنا بطاقة فتية نستعين بها على الرحلة المدرجة في برنامج السفر. الشمس تفرش أشعتها على الأرجاء، خيوطها تمتد عبر نافذة الغرفة المطلة على الميناء، فيما زرقة السماء صافية لا شية فيها من أنسجة السحب المعتادة هنا.
بعد تناول الإفطار المكون من البيض والجبن وبعض المربى المحلية الصنع مع رشفات من الشاي الإنجليزي، انطلقت بِنَا الحافلة، في رحلة سفاري، إلى قرية نوزلي، حيث يقع المتنزه المسمى باسم القرية.
للمتنزه بوابة واسعة للسيارات الداخلة إلى ممراته المشتملة على أقسام، والمتصلة ببعضها البعض. في كل قسم طائفة من الحيوانات المتنوعة من المفترسة إلى الأليفة المسليّة؛ من الفهود والأسود والفيلة والزرافات إلى القردة والطيور وبنات آوى، كما أن هناك الحيوانات ذات الفصائل النادرة، كلها توجد على مساحة تمتد إلى نحو 550 هكتارًا. 
يضم المتنزه حديقة حيوان ملحقة وبحيرة جميلة يتوافر فيها تأجير القوارب الصغيرة. وثمة العروض الجميلة المقدمة على مدار اليوم، حضرنا منها عرض الصقور والنسور الذي أبهج جمهور الأطفال والكبار.
توقفنا مليًا أمام ذوات الرقاب الطوال الجميلة المنظر؛ لطالما كانت الزرافات تجذبنا، كيف تكونت لها هذه الهيئة الغرائبية؛ سيقان طوال يعلوها جذع منساب يعلوه عنق فارع، بل والبقع البنية المزخرفة التي تزين جلدها والعيون ذات الرموش الكثيفة؟!
حقًا، في الكون أسرار وبدائع غيب كثير من سحرها وفتنتها آفة العادة الكفيلة بجعل المعجزات عاديات لا تثيــر مزيد غرابة ولا قليلها. ربما نحن بحاجة إلى مطرقة نيتشوية لا تتوقف عند كسر سكون خادع لأشياء عالمنا البشري الاجتماعي والأخلاقي ونظام حياتنا القار، وإنما تهشّم طبيعيات حياة الطبيعة، لتعيد لنا لذة الدهشة ومتعة التأمل، فننظر إلى أعناق الزرافات كيف انتصبت، وإلى خرطوم الفيل كيف لان والتوى، وإلى سلوك القردة والسعادين كيف يحمل منطقًا وعقلًا، وينطوي على قدرات تثير الضحك والعجب في آنٍ. يوم بأكمله يقضى في هذا المتنزه الواقع على أطراف مدينة ليفربول. 

لحظة السفر إلى الشمال
حان وقت المغادرة من ليفربول، مضينا لا نلوي إلّا على فتنة المنظر وبدائع المشهد إلى قرية شمالية تشرف على بحيرة واسعة، في منطقة البحيرات، ليس لجمالها حدود.
طلبنا سيارة أجرة تأخذنا إلى مكتب استئجار السيارات الواقع على أطراف المدينة. سيارة ذات طراز ليس بالحديث ولا بالقديم، بل بين بين، اخترقنا بها خضرة الشمال البريطاني.
ومن المعلوم أن القيادة في بريطانيا هي إلى اليمين، في البداية كان الأمر مربكًا بعض الشيء، على الرغم من أنها لم تكن المرة الأولى في مثل هذه التجربة، إذ كنا قبل سنوات قلائل نقود في جزيرة بوكيت التايلندية التي تتخذ القواعد المرورية ذاتها فيما يخص مقود السيارة.
الطرق السريعة واسعة ومريحة ولافتات الدليل تكفي لمن لا يستخدم التطبيقات الإلكترونية المختصة بالطرق. في طريقنا، مررنا بعدد لا بأس به من محطات الوقود، هي ليست فقط كذلك، إنها تحتوي على المقاهي والمتاجر والمطاعم، وتشرف على مناظر بديعة مع النظافة الاستثنائية التي تتمتع بها. مع تميّز بعضها عن بعض، مما يغري السائح الجديد بالوقوف أكثر من مرة لا للتزود بالوقود طبعًا، بل لمشاهدة تنوع المناظر التي هي بمنزلة إمداد بصري للعين تستريح به النفس. 
كلما غصنا في عمق الطرقات الريفية، تلاشت الطرق السريعة وتقلصت إلى طريق ضيق بالكاد يكفي لسيارتين؛ ذاهبة وقادمة. على ضفتي الطريق، بساط أخضر ممتد، خراف ذات صوف أبيض نظيف، وبقر بيضاء مختلطة بالسواد، صافنات جياد والشمس بعد لمّا تتوارى بالحجاب.
زخات من المطر تضرب زجاج السيارة بصوت يتسارع ويتباطأ، تجبرنا على التمهل في القيادة قدر الإمكان. صعدات ونزلات، ارتفاع وهبوط، حتى لاحت لنا البحيرة البديعة بعد قيادة استمرت نحو ثلاث ساعات من حدود ليفربول، صاحبنا فيها صوت خالد الشيخ بأغانيه المختلفة التي طرقت جلّ أبواب الموسيقى العربية، بل والغربية، خصوصًا منها ذات الجمل الموسيقية النهاوندية؛ يقول في إحداها: «خذني معاك وارحل بعيد... بعيد... لحظة هواك أجمل وأحلى القصيد... عطني وعد واخلف حبيبي لا تجي».
وصلنا إلى الفندق، ولحُسن الحظ، لا يبعد عن البحيرة سوى دقائق قليلة مشيًا على الأقدام. 

وندرمير... جنةُ «ليك ديستريكت»
تعد وندرمير هي البحيـرة الطبيعــية الأكبر في إنجلترا، وتقع في الجانـب الجنــوبي من منطقة البحيرات «ليك ديستــــريكت»، إلى الشمال الغربي من البلاد، ضمـن مقاطعة كمبريا، حيث العناصر الطبيعية مجتمعــة بانسجـــام وتآلف من البحيرات والغابات إلى الجبال. هذه المنطقة البديعة تحتوي على محميات طبيعية وحدائق ذات بهجة محظور فيها النشاط الصناعي أو التجاري، وتضم عددًا من القرى، أبرزها وندرمير، وعددًا من البحيرات تصل إلى 19 بحيرة لكن أعمقها وندرمير أيضًا.
 فلما وردنا البحيرة الساحرة وجدنا عليها مجاميع السياح، يداعبون البجع والبط المختلف ألوانها من الأبيض والأسود والمختلط بالبني، كبيرة وصغيرة. في حين أن المقاهي والمطاعم المحلية - ولم نجد أثرًا لمطاعم الوجبات السريعة ذات العلامات العالمية - تسكن الضفاف. وهناك الزوارق الخشبية والقوارب والسفن المتوسطة الحجم. بيوت صغيرة ذات طابع تقليدي لم يمسسه شيء من حداثة البناء والمعمار. زرنا، سريعًا، متحف كاتبة الطفل المعروفة بياتريس بوتر (1943 - 1866) صاحبة الشخصية الشهيرة «الأرنب بيتر» (بيتر رابت) التي كانت تسكن القرية، وقد جعلت منها مسرحًا لكثير من القصص التي كتبتها. 
وسط وندرمير، جنة الأرض، التي جعلناها آخر محطة لنا في البلاد التي كانت، يومًا، إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس، نسينا كل ما كان وما سيكون، لذة المسافر المترحل المتخفف من قيود الحياة اليومية وصرامتها وبؤسها.

استلاب واهم
 نظام الحياة الحديث ذو الطابع الرأسمالي الممنهج على نحو خفي. حين يصير الإنسان مجرد لاهث وراء اللاشيء الذي يظنه واهمًا شيئًا، وشيئًا عظيمًا، بينما الحياة تفقد وجهها الحقيقي المبهج تحت ضغط استلاب واهم. 
 إلى المنضدات الحديدية المتناثرة على جوانب البحيرة ذات المظلات الصلبة، جلسنا، والسماء ترسل رذاذها، ورائحة البحيرة تعمّ المكان، نطالع الصحف؛ «الغارديان» و«الإندبندنت» ومجلة «لندن بوك ريفيو»، من على شاشة الجهاز اللوحي الذي بات لا يفارقنا، كيف لا وقد صارت تلك الألواح يُكتب فيها من كل شيء؛ ففيها مكتبتك الضخمة المحشورة في ذاكرة رقمية لا نفقه منها إلا اسمها وحجمها؟ كيف لا وهي أضحت ورقة الكاتب وقلمه، ريشة الفنان ولوحته، بل وأكثر من ذلك، نطلبها بقوة بعد أن حلّت محل الألواح الخشبية عند كتاتيب القرى؟ هي أيضًا من عجائب الحياة العجيبة التي صارت عادية تحت وطأة اليومي.
كانت الصحف البريطانية، في هذه الأيام، تنشر، خصوصًا الصفحات الثقافية منها والمجلات، مقالات وتقارير وبعضها ملفات حول تاريخ العبودية واشتباكها مع بذور الرأسمالية في تجارة الرق، إلى جانب المقالات المعتادة منذ مدّة حول الخروج البريطاني من الاتحاد الأوربي «بريكست». 
المناسبة كانت اليوم العالمي المخصص للإلغاء في أغسطس من كل عام، وهو وقت زيارتنا هذه.  فتحنا على تطبيق الكتاب الإلكتروني «آي بوك» نواصل قراءة ديوان عنترة الذي صاحبتنا قصائده في أوقات الفراغ من هذا السفر، فتصادفنا قصيدة له يقول فيها:

إِن كُنتُ في عَدَدِ العَبيدِ فَهِمَّتي
فَوقَ الثُرَيّا وَالسِماكِ الأَعزَلِ
أَو أَنكَرَت فُرسانُ عَبسٍ نِسبَتي
فَسِنانُ رُمحي وَالحُسامُ يُقِرُّ لي
وَبِذابِلي وَمُهَنَّدي نِلتُ العُلا
لا بِالقَرابَةِ وَالعَديدِ الأَجزل ■

 

 

جانب آخر من الرصيف من ناحية عجلة ليفربول

 

 

تحتل المباني التاريخية للمصارف الكبرى الجانب الساحلي من المدينة، وهو أثر يبين اشتباك الرأسمالية بالعنصرية في لحظة من لحظاتها

 

عمل فني معروض في زاوية الرصيف، ويبدو في الخلف متحف تيت

 

تماثيل لأعضاء فرقة البيتلز الأربعة كما لو أنهم يتجولون في الواجهة النهرية

مجموعة كبيرة من الأقفال مختلفة الأحجام والتصاميم والألوان على شبابيك وأعمدة الرصيف، ُتر َكت للذكرى

 

متحف قصة فرقة بيتلز

 

كان مبنى متحف «غاليري بيت» في الأصل مستود ًعا للبضائع القادمة من آسيا كالشاي والحرير

 

قسم الأطفال في المتحف