من رمزيّات يوسف إدريس

من رمزيّات يوسف إدريس

لا أظنُّ أنّ هناك قضيّة قد شغلت وعي يوسف إدريس في الكتابة مثل قضيتَي الحرية والديمقراطية بكلّ المعاني التي يمكن أن تأخذها هاتان الكلمتان، وفي كل الدوائر التي يمكن أن تتلامس معها أو تتداخل وإيّاها.
 يستوي في ذلك أن نتحدثَ عن الأبعاد السياسية الاجتماعية للكتابة، أو عن الأبعاد الفيزيقية أو الميتافيزيقية. وعرف قرّاء يوسف إدريس أن الوعي الفيزيقي عنده هو الوجه الآخر للوعي الميتافيزيقي، وأن السياسي مربوطٌ بالاجتماعي، المربوطٌ بدوره بالاقتصادي والثقافي. 

‬إن‭ ‬أبعاد‭ ‬الكتابة‭ ‬الإدريسية‭ ‬هي‭ ‬أبعاد‭ ‬مُتجاوبة‭ ‬يصعب‭ ‬جدًّا‭ ‬أن‭ ‬تفصلَ‭ ‬بينها،‭ ‬أو‭ ‬تفصل‭ ‬فيها‭ ‬بين‭ ‬السياسي‭ ‬والثقافي‭ ‬والاجتماعي،‭ ‬فكلّ‭ ‬بُعدٍ‭ ‬يُفضي‭ ‬إلى‭ ‬البُعد‭ ‬الآخر‭ ‬على‭ ‬نحوٍ‭ ‬يلفت‭ ‬الانتباه‭ ‬إلى‭ ‬التداخل‭ ‬بين‭ ‬الأبعاد‭ ‬من‭ ‬ناحية،‭ ‬وأهمّ‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬التداخل‭ ‬يشير‭ - ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬أخرى‭ - ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬الكاتب‭ ‬يلجأ‭ ‬دائمًا‭ ‬إلى‭ ‬الحِيَل‭ ‬البلاغية‭ ‬المُعتادة‭ ‬في‭ ‬بلاغة‭ ‬المقموعين،‭ ‬فلا‭ ‬يتحدثُ‭ ‬على‭ ‬نحوٍ‭ ‬صريحٍ‭ ‬أو‭ ‬مباشرٍ‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬الأحوال،‭ ‬وإنّما‭ ‬يلجأ‭ ‬كثيرًا‭ ‬إلى‭ ‬حيل‭ ‬بلاغة‭ ‬المقموعين‭ ‬التي‭ ‬تُنطق‭ ‬المسكوت‭ ‬عنه‭ ‬من‭ ‬الخطاب‭ ‬الاجتماعي‭ ‬والسياسي‭ ‬والديني،‭ ‬لكن‭ ‬على‭ ‬نحوٍ‭ ‬لا‭ ‬يكاد‭ ‬يبين،‭ ‬ومن‭ ‬خلال‭ ‬شفرات‭ ‬لا‭ ‬يستطيع‭ ‬فكّ‭ ‬مغاليقها‭ ‬إلّا‭ ‬الذين‭ ‬خبروا‭ ‬كتابة‭ ‬إدريس‭ ‬وعايشوها‭ ‬طويلًا،‭ ‬وأدركوا‭ ‬الأبعاد‭ ‬المُلغِزة‭ ‬التي‭ ‬تضعنا‭ ‬دائمًا‭ ‬في‭ ‬شبكات‭ ‬من‭ ‬الرموز‭ ‬والكنايات‭ ‬والتوريات‭ ‬والاستعارات‭ ‬التي‭ ‬تُنطق‭ ‬المسكوت‭ ‬عنه،‭ ‬فتقول‭ ‬للقارئ‭ ‬أقصى‭ ‬الحقائق،‭ ‬لكن‭ ‬بما‭ ‬لا‭ ‬يطيح‭ ‬رقبة‭ ‬القاصّ،‭ ‬أو‭ ‬يضعه‭ ‬مباشرة‭ ‬موضع‭ ‬الإدانة‭ ‬من‭ ‬الدولة‭ ‬التي‭ ‬تتربّص‭ ‬بالجميع،‭ ‬وتتوجّس‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬كتابة‭. ‬

ولم‭ ‬يكن‭ ‬من‭ ‬المُصادفة‭ ‬أن‭ ‬إدريس‭ ‬قد‭ ‬صرَّح‭ ‬في‭ ‬حوارٍ‭ ‬منشورٍ‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬إحدى‭ ‬المجلات‭ ‬العربية‭ ‬بأنّ‭ ‬كلّ‭ ‬المُتاح‭ ‬من‭ ‬الحريةِ‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬لا‭ ‬يكفي‭ ‬لكتابة‭ ‬روايةٍ‭ ‬واحدةٍ،‭ ‬وهو‭ ‬تصريح‭ ‬يصعب‭ ‬أن‭ ‬نتّهمه‭ ‬بالمبالغة‭ ‬إذا‭ ‬استعدنا‭ ‬السنوات‭ ‬التي‭ ‬عاشها‭ ‬إدريس،‭ ‬والتي‭ ‬انطلقت‭ ‬فيها‭ ‬كتاباته‭ ‬المُبدِعة‭ ‬بين‭ ‬خمسينيات‭ ‬وستينيات‭ ‬وحتى‭ ‬سبعينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭.‬

‭ ‬فقد‭ ‬وُلِد‭ ‬إدريس‭ ‬في‭ ‬19‭ ‬مايو‭ ‬1927،‭ ‬وتوفي‭ ‬في‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬أغسطس‭ ‬1991،‭ ‬وما‭ ‬بين‭ ‬هذين‭ ‬العامين‭ ‬شهد‭ ‬الوطن‭ ‬العربي‭ ‬أوضاعًا‭ ‬تؤدي‭ ‬إلى‭ ‬شيوع‭ ‬ظاهرة‭ ‬‮«‬بلاغة‭ ‬المقموعين‮»‬،‭ ‬أو‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬الكتابة‭ ‬بالحيلة‮»‬‭.‬

‭ ‬وسواء‭ ‬كنّا‭ ‬نتكلم‭ ‬عن‭ ‬العصر‭ ‬الناصري‭ ‬أو‭ ‬عن‭ ‬الساداتي،‭ ‬فإننا‭ ‬نتحدّث‭ ‬عن‭ ‬فترات‭ ‬من‭ ‬الحُكم‭ ‬القمعي‭ ‬الذي‭ ‬يعتمد‭ ‬اعتمادًا‭ ‬أساسيًّا‭ ‬على‭ ‬تمركُز‭ ‬السُّلطة‭ ‬في‭ ‬يد‭ ‬قائدٍ‭ ‬واحدٍ‭ ‬صارمٍ،‭ ‬والوجه‭ ‬الآخر‭ ‬للبطريركية‭ ‬القديمة‭ ‬التي‭ ‬استمرت‭ ‬في‭ ‬حُكم‭ ‬العالم‭ ‬العربي،‭ ‬والتي‭ ‬قادته‭ ‬إلى‭ ‬هزيمة‭ ‬1967‭ ‬الجارحة،‭ ‬والتي‭ ‬قادت‭ ‬إدريس‭ ‬كذلك‭ - ‬مُرغمًا‭ - ‬إلى‭ ‬استخدام‭ ‬اللغة‭ ‬الأيسوبية‭.‬

‭ ‬فكان‭ ‬عليه‭ ‬أن‭ ‬يُراوغ‭ ‬ويناور‭ ‬في‭ ‬الكتابة‭ ‬بمجالات‭ ‬مُتعددةٍ‭ ‬عُرِفت‭ ‬عنه‭ ‬كما‭ ‬عُرِف‭ ‬بها،‭ ‬وكانت‭ ‬هي‭ ‬السبب‭ ‬في‭ ‬أنّه‭ ‬استطاع‭ ‬أن‭ ‬يقول‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬يقُلهُ‭ ‬غيره؛‭ ‬سواء‭ ‬في‭ ‬الروايات‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬القصص‭ ‬القصيرة‭.‬

 

العملية‭ ‬الكبرى

‭ ‬أظنُّ‭ ‬أنّ‭ ‬البداية‭ ‬البارزة‭ ‬الأولى‭ ‬كانت‭ ‬هي‭ ‬هزيمة‭ ‬1967،‭ ‬تلك‭ ‬الهزيمة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬أشبه‭ ‬بالكارثة‭ ‬الكبرى‭ ‬التي‭ ‬أدّى‭ ‬إليها‭ ‬الاستخفاف‭ ‬والإهمال‭ ‬والقمع‭ ‬على‭ ‬السواء،‭ ‬وحسب‭ ‬قاعدة‭: ‬‮«‬لا‭ ‬بدّ‭ ‬للمصدور‭ ‬أن‭ ‬ينفُث‮»‬،‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬الصعب‭ ‬أن‭ ‬يدع‭ ‬يوسف‭ ‬إدريس‭ ‬كارثة‭ ‬عام‭ ‬1967‭ ‬تمرّ‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬ينسب‭ ‬الكارثة‭ ‬إلى‭ ‬مَن‭ ‬تخيَّل‭ ‬أنه‭ ‬المسؤول‭ ‬عنها،‭ ‬ولذلك‭ ‬كتب‭ ‬قصته‭ ‬القصيرة‭ ‬الرمزية‭ ‬‮«‬العملية‭ ‬الكبرى‮»‬‭.‬

و«العملية‭ ‬الكبرى‮»‬،‭ ‬قصة‭ ‬ذاتُ‭ ‬طابعٍ‭ ‬رمزي،‭ ‬بلاغتها‭ ‬في‭ ‬مجازيّتها،‭ ‬وتميّزها‭ ‬يرجع‭ ‬إلى‭ ‬قدرتها‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬تُنطق‭ ‬المسكوت‭ ‬عنه‭ ‬ممّا‭ ‬حدث‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬67‭ ‬عندما‭ ‬حدثت‭ ‬الكارثة‭ ‬غير‭ ‬المتوقّعة،‭ ‬ودخلنا‭ ‬في‭ ‬حربٍ‭ ‬مع‭ ‬إسرائيل‭ ‬تخيلنا‭ ‬أننا‭ ‬سوف‭ ‬ننتصر‭ ‬فيها‭ ‬بكل‭ ‬سهولةٍ،‭ ‬وذلك‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬أجهزة‭ ‬إعلام‭ ‬ناصرية‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬تقول‭ ‬الحقيقة،‭ ‬بل‭ ‬تُقدِّم‭ ‬للشعب‭ ‬أكاذيب‭ ‬تلو‭ ‬أكاذيب،‭ ‬حتى‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬وقعت‭ ‬الواقعة‭ ‬واتّسع‭ ‬نطاق‭ ‬الكارثة‭. ‬لكن‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يُمكن‭ ‬لإدريس‭ ‬أن‭ ‬يقول‭ ‬ذلك‭ ‬الكلام‭ ‬البسيط‭ ‬والصريح‭ ‬وقت‭ ‬النكسة‭ ‬مُباشرة‭. ‬فلجأ‭ ‬إلى‭ ‬الحِيَل‭ ‬المعروفة‭ ‬لبلاغة‭ ‬المقموعين،‭ ‬ومن‭ ‬ثمّ‭ ‬إلى‭ ‬اللغة‭ ‬الأيسوبية‭ ‬أو‭ ‬المجازات‭ ‬التي‭ ‬تقول‭ ‬كل‭ ‬شيء،‭ ‬رغم‭ ‬أنها‭ ‬في‭ ‬الظاهر‭ ‬لا‭ ‬تقول‭ ‬شيئًا،‭ ‬فهي‭ ‬تُلمِّح‭ ‬ولا‭ ‬تُصرِّح‭. ‬

هكذا‭ ‬تحكي‭ ‬القصة‭ ‬‮«‬حكاية‭ ‬عبدالرؤوف‮»‬،‭ ‬الطبيب‭ ‬الشاب‭ ‬الذي‭ ‬يحكي‭ ‬كارثة‭ ‬العملية‭ ‬الكبرى‭ ‬التي‭ ‬اضطر‭ ‬أن‭ ‬يقومَ‭ ‬بدورٍ‭ ‬هامشي‭ ‬فيها‭ ‬تحت‭ ‬إمرة‭ ‬أستاذه‭ ‬الكبير‭ ‬أو‭ ‬الطبيب‭ ‬الأعظم‭ ‬‮«‬أدهم‮»‬،‭ ‬الذي‭ ‬ينظرُ‭ ‬إليه‭ ‬بوصفه‭ ‬أستاذ‭ ‬الجراحة‭ ‬الكبير‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يُشقّ‭ ‬له‭ ‬غبار،‭ ‬والذي‭ ‬لا‭ ‬يعد‭ ‬رئيس‭ ‬قسم‭ ‬الجراحة‭ ‬فقط،‭ ‬وإنّما‭ ‬كبير‭ ‬أساتذة‭ ‬الجراحة‭ ‬في‭ ‬المستشفى‭ ‬كله‭... ‬‮«‬والجرّاح‭ ‬في‭ ‬المستشفى‭ ‬يحتلُ‭ ‬مكانةً‭ ‬لا‭ ‬يحتلّها‭ ‬زميله‭ ‬طبيب‭ ‬الأمراض‭ ‬الباطنية‭ ‬أو‭ ‬طبيب‭ ‬الأطفال‭ ‬مثلًا‭. ‬إن‭ ‬له‭ ‬بجانب‭ ‬العلم‭ ‬مكانة‭ ‬دنيوية،‭ ‬فهو‭ ‬ليس‭ ‬عالمًا‭ ‬فقط،‭ ‬لكنّه‭ ‬عالمٌ‭ ‬يزاولُ‭ ‬العِلم‭ ‬أمامك‭... ‬وأمامك‭ ‬يُحيي‭ ‬ويُميت‭.‬

‭ ‬ولأنّ‭ ‬المهنة‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬تفرض‭ ‬الخُلق‭ ‬والتصرُّف،‭ ‬فعند‭ ‬الجرّاح‭ ‬أسهل‭ ‬الطرق‭: ‬البتر،‭ ‬وأيّ‭ ‬كلامٍ‭ ‬ليس‭ ‬له‭ ‬فاعلية‭ ‬المَشرط‭ ‬وحسمه،‭ ‬هذرٌ‭ ‬فارغٌ‭ ‬لا‭ ‬يُقال،‭ ‬وما‭ ‬دامت‭ ‬إرادته‭ ‬هي‭ ‬نفسها‭ ‬الدواء،‭ ‬فإحساسه‭ ‬بنفسه‭ ‬يتعاظمُ،‭ ‬وكلمته‭ ‬مهما‭ ‬تكن،‭ ‬أمرٌ‭ ‬واجب‭ ‬النفاذ‭.‬

 

القائد‭... ‬القدوة

  ‬ليس‭ ‬مصادفة‭ ‬أنهم‭ ‬يسمّون‭ ‬حجرة‭ ‬العمليات‭ ‬
بــ‭ ‬‮«‬مسرح‭ ‬العمليات‮»‬،‭ ‬فالجرّاح‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المسرح‭ ‬هو‭ ‬الإرادة‭ ‬الكبرى،‭ ‬والعقل‭ ‬المفكر،‭ ‬والحاضرون‭ ‬جميعًا‭ ‬من‭ ‬بشرٍ‭ ‬أو‭ ‬أجهزةٍ‭ ‬أو‭ ‬عقاقير‭ ‬ليسوا‭ ‬سوى‭ ‬أدوات‭ ‬في‭ ‬يد‭ ‬تلك‭ ‬الإرادة‭ ‬التي‭ ‬تصنع‭ ‬بهم‭ ‬الشفاء‭... ‬كانت‭ ‬شهرة‭ ‬الأستاذ‭ ‬أدهم‭ ‬إذن،‭ ‬كرئيس‭ ‬لا‭ ‬يرحم،‭ ‬تكاد‭ ‬تُعادل‭ ‬شهرته‭ ‬كأستاذ‭ ‬جراحة‭ ‬ممتاز،‭ ‬ولأنّ‭ ‬أطباء‭ ‬الامتياز‭ ‬يحتلّون‭ ‬أدنى‭ ‬مرتبة‭ ‬في‭ ‬سُلّم‭ ‬المستشفى‭ ‬الطَّبقي،‭ ‬فنصيبهم‭ ‬من‭ ‬شتائمه‭ ‬ولكزاته‭ ‬وافر،‭ ‬ومعاملته‭ ‬لهم‭ ‬أسوأ‭ ‬بكثيرٍ‭ ‬من‭ ‬معاملته‭ ‬للمُمرضات‭ ‬أو‭ ‬التمورجية‭. ‬

وويلٌ‭ ‬لمن‭ ‬يفكّرُ‭ ‬في‭ ‬الاحتجاج‭ ‬أو‭ ‬الذود‭ ‬عن‭ ‬كرامته،‭ ‬فمعنى‭ ‬هذا‭ ‬نهايته،‭ ‬فهو‭ ‬لا‭ ‬يجرّ‭ ‬عداوة‭ ‬أو‭ ‬غضب‭ ‬رئيس‭ ‬القِسم‭ ‬فقط،‭ ‬لكن‭ ‬الدكتور‭ ‬أدهم‭ ‬كان‭ ‬أيضًا‭ ‬كبير‭ ‬الأساتذة،‭ ‬والقائم‭ ‬بعمل‭ ‬عميد‭ ‬الكلية،‭ ‬ومستشار‭ ‬وزارة‭ ‬الصحة‮»‬‭.‬

هذا‭ ‬عن‭ ‬أدهم‭ ‬الطبيب‭ ‬العظيم‭ (‬الذي‭ ‬يوازي‭ ‬قائد‭ ‬الدولة‭ ‬العسكري‭)‬،‭ ‬الذي‭ ‬يقود‭ ‬فريقًا‭ ‬من‭ ‬الأطباء‭ ‬والجرّاحين‭ ‬في‭ ‬حجرة‭ ‬العمليات‭ ‬المُلقَّبة‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬مسرح‭ ‬العمليات‮»‬،‭ ‬فالجرّاح‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المسرح‭ ‬هو‭ ‬الإرادة‭ ‬الكبرى‭ ‬والعقل‭ ‬المفكر،‭ ‬‮«‬والحاضرون‭ ‬جميعًا‭... ‬ليسوا‭ ‬سوى‭ ‬أدوات‭ ‬في‭ ‬يد‭ ‬تلك‭ ‬الإرادة‭ ‬التي‭ ‬تصنع‭ ‬بهم‭ ‬الشفاء‮»‬‭. ‬

وواضح‭ ‬أن‭ ‬الدكتور‭ ‬أدهم‭ ‬بهذا‭ ‬المعنى،‭ ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬السياق،‭ ‬ليس‭ ‬مجرد‭ ‬كائن‭ ‬واقعي‭ ‬معتاد،‭ ‬وإنما‭ ‬هو‭ ‬شخصٌ‭ ‬غير‭ ‬عادي،‭ ‬أو‭ ‬حاكم‭ ‬مُطلق‭ ‬له‭ ‬وحده‭ ‬الأمر،‭ ‬وعلى‭ ‬الآخرين‭ ‬السّمع‭ ‬والطاعة،‭ ‬ولذلك‭ ‬ينظرُ‭ ‬إليه‭ ‬الطبيب‭ ‬الشاب‭ ‬عبدالرؤوف‭ ‬الذي‭ ‬يروي‭ ‬القصة،‭ ‬بوصفه‭ ‬‮«‬القائد‮»‬‭ ‬ووسيلته‭ ‬للوصول‭ ‬إلى‭ ‬القيادة،‭ ‬ويرى‭ ‬أن‭ ‬نجاحه‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬يتّبع‭ ‬طريق‭ ‬ذلك‭ ‬القائد‭ ‬الذي‭ ‬يرى‭ ‬فيه‭ ‬قدوته،‭ ‬فيحاول‭ ‬أن‭ ‬يتجسّد‭ ‬فيه،‭ ‬وأن‭ ‬يتأسّى‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬شيء‭. ‬وهكذا‭ ‬أصبح‭ ‬عبدالرؤوف‭ ‬الشاب‭ ‬تلميذًا‭ ‬يحاول‭ ‬أن‭ ‬يتقرّب‭ ‬من‭ ‬أستاذه‭ ‬الأعلى‭ ‬‮«‬أدهم‮»‬،‭ ‬كما‭ ‬ظل‭ ‬يُفني‭ ‬نفسه‭ ‬تمامًا‭ ‬في‭ ‬تنفيذ‭ ‬أوامره،‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬‮«‬قد‭ ‬أصبح‭ ‬رضا‭ ‬الأستاذ‭ ‬أدهم‭ ‬من‭ ‬رضا‭ ‬الضمير،‭ ‬من‭ ‬رضا‭ ‬الله،‭ ‬الله‭ ‬المُتجسد‭ ‬بكل‭ ‬قواه‭ ‬وخيره‭ ‬وكماله‮»‬‭. ‬

هذا‭ ‬التضاد‭ ‬بين‭ ‬الطبيب‭ ‬أو‭ ‬القائد‭ ‬الأعلى،‭ ‬أدهم،‭ ‬والمدرس‭ ‬الشاب‭ ‬التابع،‭ ‬عبدالرؤوف،‭ ‬هو‭ ‬التضاد‭ ‬الأساسي‭ ‬الذي‭ ‬تنبني‭ ‬عليه‭ ‬قصة‭ ‬د‭. ‬إدريس‭ ‬‮«‬العملية‭ ‬الكبرى‮»‬‭. ‬

أما‭ ‬العملية‭ ‬الكبرى‭ ‬نفسها‭ ‬فهي‭ ‬كانت‭ ‬الكارثة‭ ‬التي‭ ‬أدت‭ ‬إلى‭ ‬تدمير‭ ‬الهالة‭ ‬المُقدَّسة‭ ‬التي‭ ‬وضعها‭ ‬التلميذ‭ ‬عبدالرؤوف‭ ‬وغيره‭ ‬من‭ ‬التلامذة‭ ‬حول‭ ‬الأستاذ‭ ‬الأعظم،‭ ‬أدهم،‭ ‬الذي‭ ‬ظل‭ ‬هو‭ ‬الأعلى‭ ‬والأكمل،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬تكشَّف‭ ‬الوهم‭ ‬عن‭ ‬زيفٍ‭ ‬قاتلٍ‭ ‬وعن‭ ‬كارثةٍ‭ ‬مُحقَّقةٍ‭ ‬وقعت‭ ‬بسبب‭ ‬موقف‭ ‬وسلوك‭ ‬الأُستاذ‭ ‬الذي‭ ‬فَجعَ‭ ‬كلّ‭ ‬من‭ ‬وثق‭ ‬به،‭ ‬وألقى‭ ‬بمريضته‭ ‬إلى‭ ‬كارثة‭ ‬الموت،‭ ‬أو‭ ‬إلى‭ ‬كارثة‭ ‬هي‭ ‬والموت‭ ‬سواء‭.‬

 

قرارٌ‭ ‬متسرّع

وبدل‭ ‬أن‭ ‬يضيفَ‭ ‬أدهم،‭ ‬الطبيب‭ ‬العظيم،‭ ‬إلى‭ ‬أمجاده‭ ‬مَجدًا‭ ‬جديدًا،‭ ‬أطاح‭ ‬كلّ‭ ‬ما‭ ‬حقّق‭ ‬من‭ ‬أمجاد،‭ ‬فقد‭ ‬تصادف‭ ‬أن‭ ‬جاءت‭ ‬إلى‭ ‬العيادة‭ ‬الخارجية‭ ‬للمستشفى‭ ‬سيّدة‭ ‬بشكوى‭ ‬بسيطة،‭ ‬مجرد‭ ‬خدر‭ ‬في‭ ‬ساقيها،‭ ‬وإحساس‭ ‬بالتعب‭ ‬السريع‭ ‬إذا‭ ‬مشَت‭ ‬طويلًا‭. ‬وعندما‭ ‬رآها‭ ‬الأستاذ‭ ‬أدهم‭ ‬كان‭ ‬أن‭ ‬اتخذ‭ ‬قرارًا‭ ‬بالغ‭ ‬التسرّع‭ ‬بدخولها‭ ‬قسم‭ ‬الجراحة،‭ ‬وشخَّص‭ ‬حالتها‭ ‬بتشخيصٍ‭ ‬أكثر‭ ‬تسرعًا‭. ‬‮«‬ورم‭ ‬خبيث‭ ‬في‭ ‬العمود‭ ‬الفقري‭... ‬على‭ ‬وجه‭ ‬الدقة‭ ‬سرطان‭ ‬في‭ ‬الغضروف‭ ‬مكانه‭ ‬بين‭ ‬الفقرتين‭ ‬الرابعة‭ ‬والخامسة‭ ‬للبطن‮»‬،‭ ‬وهكذا‭ ‬أُدخلت‭ ‬السيدة‭ (‬الحالة‭) ‬العمليات‭ ‬ليس‭ ‬لعلاجها‭ ‬أساسًا،‭ ‬وإنّما‭ ‬لإجراء‭ ‬الفحوص،‭ ‬وإجراء‭ ‬عملية‭ ‬استكشاف،‭ ‬فيفتح‭ ‬البطن‭ ‬ويفحص‭ ‬الورم،‭ ‬وليُثبت‭ ‬الأستاذ‭ ‬أدهم‭ ‬لنفسه‭ ‬ولمجموعة‭ ‬الأطباء‭ ‬التي‭ ‬تعمل‭ ‬معه‭ ‬أنّه‭ ‬كان‭ ‬على‭ ‬حق،‭ ‬وأنّ‭ ‬رأيه‭ ‬أبدًا‭ ‬لا‭ ‬يخيب‭. ‬‮«‬وفي‭ ‬العاشرة‭ ‬وعشر‭ ‬دقائق‭ ‬كان‭ ‬رأس‭ ‬مشرط‭ ‬الأستاذ‭ ‬أدهم‭ ‬ينغرز‭ ‬قريبًا‭ ‬من‭ ‬‮«‬السُّرّة‮»‬،‭ ‬مُحددًا‭ ‬نقطة‭ ‬البداية،‭ ‬ثم‭ ‬خطٍّ‭ ‬موازٍ‭ ‬لمُنتصف‭ ‬البطن‭ ‬تسحبه‭ ‬اليد‭ ‬الشهيرة‭...‬‮»‬‭.‬

‭ ‬وبدل‭ ‬أن‭ ‬تمضي‭ ‬العملية‭ ‬فيما‭ ‬كان‭ ‬يتخيّله‭ ‬الدكتور‭ ‬أدهم‭ ‬ومن‭ ‬آمنوا‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬نجاحٍ‭ ‬وانتصار،‭ ‬إذا‭ ‬بالأمر‭ ‬ينقلبُ‭ ‬إلى‭ ‬كارثةٍ،‭ ‬وتعقّدت‭ ‬العملية،‭ ‬وتفجّرت‭ ‬الدماء‭ ‬من‭ ‬شرايين‭ ‬السيدة‭ ‬على‭ ‬نحوٍ‭ ‬لا‭ ‬مثيل‭ ‬له‭. ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬أحدٌ‭ ‬يستطيع‭ ‬أن‭ ‬يقول‭ ‬كلمة‭ ‬مخالفة‭ ‬لما‭ ‬ظلّ‭ ‬الدكتور‭ ‬أدهم‭ ‬ماضيًا‭ ‬فيه‭. ‬ذلك‭ ‬لأنّ‭ ‬الجميع‭ ‬قد‭ ‬ترك‭ ‬له‭ ‬التصرّف‭ ‬في‭ ‬الأمر،‭ ‬وهو‭ ‬عَوَّدَ‭ ‬الآخرين‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬الرأي‭ ‬والحل‭ ‬لا‭ ‬بدّ‭ ‬أن‭ ‬يصدر‭ ‬عنه‭ ‬هو‭... ‬‮«‬فهو‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬الإرادة‭ ‬العُليا‮»‬‭.‬

‭ ‬والنتيجة،‭ ‬كانت‭ ‬الكارثة،‭ ‬انفجار‭ ‬شرايين‭ ‬السيدة،‭ ‬وانطلاق‭ ‬الدماء‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬استأصل‭ ‬الأستاذ‭ ‬العبقري‭ ‬الجزء‭ ‬الأعلى‭ ‬من‭ ‬الورم،‭ ‬لكن‭ ‬فجأة‭ ‬انفجر‭ ‬الدم‭ ‬من‭ ‬فتحة‭ ‬البطن،‭ ‬عمود‭ ‬دموي‭ ‬حادّ،‭ ‬وارتطم‭ ‬الدم‭ ‬المُنبثق‭ ‬بزجاج‭ ‬المصباح‭ ‬الكشّاف‭... ‬عمود‭ ‬مفاجئ‭ ‬غير‭ ‬متوقّع‭ ‬أبدًا،‭ ‬شحبت‭ ‬له‭ ‬الوجوه‭ ‬جميعًا،‭ ‬فهو‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬شُريانًا‭ ‬قد‭ ‬انقطع،‭ ‬‮«‬وفي‭ ‬تلك‭ ‬المنطقة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تدور‭ ‬فيها‭ ‬عملية‭ ‬التشريح‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬ثمّة‭ ‬شريان‭ ‬آخر‭ ‬غير‭ ‬أضخم‭ ‬شرايين‭ ‬الجسم‭... ‬الأورطي‭. ‬أتكون‭ ‬قد‭ ‬حدثت‭ ‬الكارثة؟‭ ‬كارثة‭ ‬أبشع‭ ‬من‭ ‬قطع‭ ‬شريان‭ ‬الرقبة،‭ ‬أيكون‭ ‬الأورطي‭ ‬قد‭ ‬قُطِع؟‮»‬‭.‬

 

انتصار‭ ‬شبه‭ ‬كامل

هكذا‭ ‬بدل‭ ‬أن‭ ‬تنتهي‭ ‬العملية‭ ‬الصغيرة‭ ‬إلى‭ ‬الشيء‭ ‬العادي،‭ ‬تحوَّلت‭ ‬إلى‭ ‬عمليةٍ‭ ‬كُبرى،‭ ‬ويتوقف‭ ‬الطبيب‭ ‬الشاب‭ ‬عبدالرؤوف؛‭ ‬ليراقبَ‭ ‬قفزات‭ ‬عقرب‭ ‬الدقائق‭ ‬حتى‭ ‬يملّها،‭ ‬والساعة‭ ‬تقترب‭ ‬من‭ ‬الخامسة،‭ ‬وقد‭ ‬مضت‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ساعتين‭ ‬على‭ ‬العملية‭ ‬الكبرى‭. ‬ولم‭ ‬يستطع‭ ‬إلّا‭ ‬أن‭ ‬يُدرك‭ ‬المأساة،‭ ‬المأساة‭ ‬التي‭ ‬جعلتهم‭ ‬يضعون‭ ‬أدهم‭ ‬في‭ ‬منزلة‭ ‬مَن‭ ‬لا‭ ‬يعلوه‭ ‬شيء،‭ ‬وفي‭ ‬منزلة‭ ‬مَن‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يُراجعه‭ ‬غيره‭. ‬وكان‭ ‬الدكتور‭ ‬أدهم‭ ‬قد‭ ‬تمكَّن‭ ‬بواسطة‭ ‬زُملائه‭ ‬وأساتذته‭ ‬من‭ ‬وقف‭ ‬اندفاع‭ ‬النزيف‭ ‬ظاهريًّا‭ ‬على‭ ‬الأقل،‭ ‬وتركهم‭ ‬إلى‭ ‬الخارج‭ ‬زاعمًا‭ ‬أنه‭ ‬قد‭ ‬حقق‭ ‬انتصارًا‭ ‬شبه‭ ‬كامل‭. ‬ولم‭ ‬يمنعه‭ ‬من‭ ‬الاستكمال‭ ‬إلّا‭ ‬عدم‭ ‬وجود‭ ‬الإمكانات‭ ‬الكافية‭ ‬من‭ ‬أنواع‭ ‬الإبر‭ ‬أو‭ ‬خيوط‭ ‬حرير‭ ‬الجراحة‭. ‬أما‭ ‬هو‭ ‬فلم‭ ‬يُخطئ‭ ‬قطّ،‭ ‬لا‭ ‬في‭ ‬التشخيص،‭ ‬ولا‭ ‬في‭ ‬إجراءات‭ ‬العملية‭ ‬البسيطة‭ ‬التي‭ ‬انتهت‭ ‬بضياع‭ ‬السيدة‭ ‬العجوز‭ ‬البائسة‭ ‬التي‭ ‬أسلمت‭ ‬نفسها‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬الجرّاح‭ ‬الذي‭ ‬قاده‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬الغرور‭ ‬والثقة‭ ‬المُطلقة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يقضي‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬بقيَ‭ ‬في‭ ‬حياتها‭ ‬من‭ ‬أمل‭.‬

وكان‭ ‬الخاطر‭ ‬الذي‭ ‬هبط‭ ‬بثقله‭ ‬على‭ ‬الجميع‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬السيدة‭ ‬قد‭ ‬حُكِم‭ ‬عليها‭ - ‬هكذا‭ - ‬بالموت،‭ ‬وأن‭ ‬العملية‭ ‬التي‭ ‬بدأت‭ ‬لعبة‭ ‬واستكشافًا‭ ‬قد‭ ‬انقلبت‭ ‬إلى‭ ‬مأساةٍ‭ ‬لا‭ ‬حلّ‭ ‬لها‭.‬

‭ ‬أما‭ ‬الأستاذ‭ ‬أدهم‭ ‬فقد‭ ‬أتمّ‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬كما‭ ‬أراد،‭ ‬وأخفى‭ ‬خطأه‭ ‬القاتل‭ ‬بحيلةٍ‭ ‬طبيةٍ‭ ‬ربط‭ ‬معها‭ ‬الأورطي‭ ‬بعيدًا‭ ‬عن‭ ‬أجزائه‭ ‬المهترئة،‭ ‬واستأصل‭ ‬الباقي‭ ‬مع‭ ‬الورم،‭ ‬وامتدّ‭ ‬الجرح‭ ‬إلى‭ ‬الفخذ،‭ ‬واقتطع‭ ‬من‭ ‬شريانه‭ ‬أوسع‭ ‬قطعة‭ ‬وصل‭ ‬بها‭ ‬الأورطي‭. ‬ودار‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬ولا‭ ‬أحد‭ ‬يكاد‭ ‬يصدّق‭ ‬أنه‭ ‬يدور،‭ ‬فكأنه‭ ‬يحدث‭ ‬في‭ ‬منطقةٍ‭ ‬وراء‭ ‬العقل،‭ ‬أو‭ ‬كأنّ‭ ‬غرفة‭ ‬العمليات‭ ‬انقلبت‭ ‬بهم‭ ‬إلى‭ ‬فندقٍ‭ ‬تحوّل‭ ‬فيه‭ ‬الواقع‭ ‬إلى‭ ‬كابوسٍ،‭ ‬والأشخاص‭ ‬والأشياء‭ ‬إلى‭ ‬رموز،‭ ‬وفي‭ ‬ذلك‭ ‬الجو‭ ‬الملبّد‭ ‬المشحون‭ ‬خرج‭ ‬الجراح‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬وترك‭ ‬الجميع‭ ‬كي‭ ‬يتبعوه‭ ‬في‭ ‬الخروج‭ ‬من‭ ‬غرفة‭ ‬العمليات،‭ ‬مُدركين‭ ‬أن‭ ‬الطريقة‭ ‬كانت‭ ‬خاطئة،‭ ‬والفكرة‭ ‬من‭ ‬أوّلها‭ ‬خاطئة‭. ‬‮«‬والخطأ‭ ‬ممتدٌ‭ ‬وبادئ‭ ‬من‭ ‬اللحظة‭ ‬التي‭ ‬قرر‭ ‬فيها‭ ‬أن‭ ‬يحيل‭ ‬عملية‭ ‬الاستكشاف‭ ‬إلى‭ ‬عملية‭ ‬استئصال‭ ‬كبرى،‭ ‬بل‭ ‬الخطأ‭ - ‬هكذا‭ ‬يرى‭ ‬عبدالرؤوف‭ ‬الآن‭ - ‬يمتدّ‭ ‬إلى‭ ‬أبعد،‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬اليوم‭ ‬الذي‭ ‬أصبحت‭ ‬الجراحة‭ ‬عند‭ ‬أستاذه‭ ‬تزاوَل‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الجراحة‭. ‬وأصبحت‭ ‬العمليات‭ ‬وأصحابها‭ ‬تطبيقات‭ ‬لأهواء‭ ‬العبقري‭ ‬الأعظم،‭ ‬د‭. ‬أدهم،‭ ‬وبتفجّر‭ ‬بحر‭ ‬من‭ ‬الدماء‭ ‬اندفع‭ ‬هذه‭ ‬المرة‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬اتجاه‭ ‬يُغرق‭... ‬الأستاذية‮»‬‭. ‬

 

سقوط‭ ‬الأسطورة

هذا‭ ‬ما‭ ‬أدركه‭ ‬الطبيب‭ ‬الشاب‭ ‬عبدالرؤوف‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬خاب‭ ‬ظنّه‭ ‬في‭ ‬أستاذه‭ ‬العظيم،‭ ‬وتعرَّت‭ ‬أمامه‭ ‬حقيقة‭ ‬الأستاذ‭ ‬الأعظم‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬مثله‭ ‬أستاذ‭. ‬وهكذا‭ ‬سقطت‭ ‬أسطورة‭ ‬الدكتور‭ ‬أدهم‭ ‬ولم‭ ‬يعد‭ ‬سوى‭ ‬الواقع،‭ ‬والواقع‭ ‬كئيبٌ‭ ‬ليس‭ ‬فيه‭ ‬سوى‭ ‬غرفة‭ ‬عمليات‭ ‬لم‭ ‬يبقَ‭ ‬فيها‭ ‬سوى‭ ‬الطبيب‭ ‬عبدالرؤوف،‭ ‬الشاب‭ ‬الذي‭ ‬سقطت‭ ‬أسطورة‭ ‬أستاذه‭ ‬مع‭ ‬قطرات‭ ‬الدم‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬يجفّ‭ ‬أغلبها‭ ‬على‭ ‬الأرض،‭ ‬والذي‭ ‬أصبح‭ ‬وحيدًا‭ ‬مع‭ ‬الممرضة‭ ‬البرّاوية‭ ‬انشراح،‭ ‬الغاضبة‭ ‬أبدًا،‭ ‬والتي‭ ‬لا‭ ‬تقبل‭ ‬أيّ‭ ‬تبسّطٍ‭ ‬مع‭ ‬الأطباء،‭ ‬ولكنها‭ ‬أدركت‭ ‬الآن‭ ‬بدورها‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الأسطورة‭ ‬التي‭ ‬آمنت‭ ‬بها‭ ‬مثل‭ ‬عبدالرؤوف‭ ‬قد‭ ‬سقط‭ ‬عنها‭ ‬القناع،‭ ‬وتحوّلت‭ ‬العملية‭ ‬الكبرى‭ ‬إلى‭ ‬خديعةٍ‭ ‬كبرى‭ ‬أو‭ ‬فضيحةٍ‭ ‬كبرى‭. ‬وانسحب‭ ‬الحزن‭ ‬ليترك‭ ‬الغضب‭ ‬الذي‭ ‬تحوَّل‭ ‬إلى‭ ‬نوعٍ‭ ‬من‭ ‬السخرية‭ ‬من‭ ‬أسطورة‭ ‬الدكتور‭ ‬أدهم‭ ‬ومن‭ ‬الأساطير‭ ‬المُماثلة‭ ‬له‭. ‬

ومن‭ ‬الطبيعي‭ ‬أن‭ ‬تقترن‭ ‬عودة‭ ‬الوعي‭ ‬عند‭ ‬عبدالرؤوف‭ ‬وانشراح‭ ‬برفض‭ ‬الآخر‭ ‬في‭ ‬مقابل‭ ‬الوعي‭ ‬المجدد‭ ‬بالأنا‭ ‬أو‭ ‬الوعي‭ ‬الساخر‭ ‬من‭ ‬كلا‭ ‬الاثنين‭ ‬بالموقف‭ ‬كله‭. ‬وهو‭ ‬وعي‭ ‬يتمثلُ‭ ‬في‭ ‬ثنائية‭ ‬ضدية‭ ‬يتقابل‭ ‬فيها‭ ‬الموت‭ ‬والحياة،‭ ‬فكلما‭ ‬تزداد‭ ‬حشرجات‭ ‬السيدة‭ ‬العجوز‭ ‬المُلقاة‭ ‬في‭ ‬غرفة‭ ‬العمليات‭ ‬يتزايد‭ ‬وهج‭ ‬المعرفة‭ ‬الساخرة‭ ‬من‭ ‬المأساة‭ ‬داخل‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬عبدالرؤوف‭ ‬وانشراح‭. ‬فيسعى‭ ‬كلاهما‭ - ‬رمزيًّا‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ - ‬إلى‭ ‬مقابلة‭ ‬الحياة‭ ‬بالموت،‭ ‬أو‭ ‬مواجهة‭ ‬الموت‭ ‬بالحياة،‭ ‬وذلك‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬التلاحم‭ ‬الجنسي‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬نوعٌ‭ ‬من‭ ‬تصدّي‭ ‬الأيروس‭ ‬للثاناتوس‭.‬

 

‭ ‬الحقيقة

هكذا‭ ‬تنتهي‭ ‬هذه‭ ‬القصة‭ ‬الرمزية‭ ‬مُشتبكة‭ ‬الدوالّ‭ ‬والمدلولات،‭ ‬وتتركنا‭ ‬نحن‭ ‬القرّاء‭ ‬لنعرف‭ ‬حقيقة‭ ‬الدكتور‭ ‬أدهم،‭ ‬ونخلع‭ ‬عنه‭ ‬القناع‭ ‬الذي‭ ‬أزاحته‭ ‬كارثة‭ ‬العام‭ ‬السابع‭ ‬والستين،‭ ‬تلك‭ ‬الكارثة‭ ‬التي‭ ‬جُررنا‭ ‬إليها‭ ‬جرًّا‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬كنا‭ ‬داخلين‭ ‬إلى‭ ‬عمليةٍ‭ ‬بسيطةٍ‭ ‬في‭ ‬مسرح‭ ‬العمليات،‭ ‬لكنّ‭ ‬العملية‭ ‬البسيطة‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬تجلَّت‭ ‬لنا‭ ‬على‭ ‬حقيقتها،‭ ‬فتحوّلت‭ ‬إلى‭ ‬عمليةٍ‭ ‬كارثيةٍ‭ ‬لم‭ ‬تعُد‭ ‬حتى‭ ‬تستحق‭ ‬اسم‭ ‬‮«‬العملية‭ ‬الكبرى‮»‬‭ ‬إلّا‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬السخرية‭.‬

ولا‭ ‬تكمن‭ ‬السخرية‭ ‬في‭ ‬المعنى‭ ‬السابق‭ ‬فحسب،‭ ‬فالقصة‭ ‬من‭ ‬أوّلها‭ ‬إلى‭ ‬آخرها‭ ‬سخرية‭ ‬من‭ ‬الدكتور‭ ‬أدهم‭ (‬عبدالناصر‭) ‬والوضع‭ ‬الكارثي‭ ‬الذي‭ ‬وضع‭ ‬فيه‭ ‬الشعب‭ ‬الذي‭ ‬وثق‭ ‬به‭ ‬كل‭ ‬الثقة،‭ ‬فمنحه‭ ‬توكيلًا‭ ‬كاملًا،‭ ‬فلم‭ ‬تكن‭ ‬النتيجة‭ ‬سوى‭ ‬الكارثة‭ ‬التي‭ ‬ترتّب‭ ‬عليها‭ ‬احتلال‭ ‬المزيد‭ ‬من‭ ‬الأراضي‭ ‬العربية،‭ ‬وتشريد‭ ‬المزيد‭ ‬من‭ ‬الملايين‭ ‬من‭ ‬أبناء‭ ‬الشعبين‭ ‬العربي‭ ‬والفلسطيني‭. ‬والنتيجة‭ ‬هي‭ ‬أن‭ ‬القارئ‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬ينتقل‭ ‬بعينيه‭ ‬من‭ ‬نقطة‭ ‬النهاية‭ ‬ليستعيد‭ ‬نقطة‭ ‬البداية،‭ ‬سيجد‭ ‬نفسه‭ ‬يُلقِي‭ ‬السؤال‭: ‬وهل‭ ‬كان‭ ‬ما‭ ‬حدث‭ ‬عملية‭ ‬كبرى‭ ‬فعلًا‭ ‬أم‭ ‬كارثة‭ ‬كبرى‭ ‬أدى‭ ‬إليها‭ ‬الغرور‭ ‬والجهل،‭ ‬وسوء‭ ‬التقدير،‭ ‬وجمع‭ ‬كل‭ ‬سُلطةٍ‭ ‬ومصادرها‭ ‬في‭ ‬يدٍ‭ ‬واحدةٍ‭ ‬لا‭ ‬تعلوها‭ ‬يدٌ‭ ‬أخرى؟‭ ‬أعني‭ ‬اليد‭ ‬الموازية‭ ‬رمزيًّا‭ ‬ليد‭ ‬الدكتور‭ ‬أدهم‭ ‬الذي‭ ‬تحوَّل‭ ‬إلى‭ ‬قناعٍ‭ ‬رمزي‭ ‬لشخصية‭ ‬عبدالناصر،‭ ‬وذلك‭ ‬في‭ ‬نمطٍ‭ ‬من‭ ‬الكتابة‭ ‬الرمزية‭ ‬التي‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يكتب‭ ‬بطريقةٍ‭ ‬غيرها‭ ‬كاتب‭ ‬بعد‭ ‬الكارثة‭ ‬وتوابعها،‭ ‬وما‭ ‬كان‭ ‬ليوسف‭ ‬إدريس‭ - ‬خصوصًا‭ ‬في‭ ‬اندفاعه‭ ‬الناري‭ ‬نحو‭ ‬الكتابة‭ ‬الصادقة‭ - ‬إلّا‭ ‬أن‭ ‬ينفث‭ ‬عن‭ ‬غضبه،‭ ‬وينطق‭ ‬المسكوت‭ ‬عنه‭ ‬بلغة‭ ‬المجاز‭ ‬والرمز؛‭ ‬كي‭ ‬يُرينا‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يفعله‭ ‬استبداد‭ ‬الفرد‭ ‬الحاكم‭ ‬بشعبه‭ ‬إذا‭ ‬ترك‭ ‬الشعب‭ ‬العنان‭ ‬لهذا‭ ‬الحاكم‭ ‬كي‭ ‬يحكمه‭ ‬ويتحكم‭ ‬فيه‭ ‬حسب‭ ‬أهوائه‭ ‬هو،‭ ‬وذلك‭ ‬في‭ ‬عالمٍ‭ ‬يخلو‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬إشارات‭ ‬تصحيح‭ ‬الطريق‭ ‬لكي‭ ‬يصل‭ ‬هذا‭ ‬الشعب‭ ‬في‭ ‬
النهاية‭ - ‬ولكن‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬قد‭ ‬اكتوى‭ ‬بنار‭ ‬الهزائم‭ ‬المُتكررة‭ - ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬يصل‭ ‬بينه‭ ‬وبين‭ ‬أهداف‭ ‬الديمقراطية‭ ‬والحريّة‭ ‬■‭ ‬