خطوات خفيفة
تعبت من الدوران في أرجاء المستشفى الواسع، أعرفه منذ كنت أجيء مع صديقي، كان مريضًا بالسرطان، وكانت حالته عصيبة، ولا بدّ أن يوجد من يرافقه في جلسات «الكيماوي» المؤلمة التي كانت تستغرق ثلاثة أيام متوالية، كمٌّ مزعج من الأوراق لا بدّ من إنهائه في كل مرّة، كمّ أكبر من الإهمال وعدم مراعاة المرضى وآلامهم المضنية، حين تسأل يخبرونك بأنها مستشفيات التأمين الصحي. أعرف أصدقاء كثيرين دخلوا هذا المستشفى ولم يخرجوا منه، وحتى الذين خرجوا لم تمرّ عليهم أيام أو شهور. لا علاج حقيقيًا في هذا البلد، ومَن يقع تحت طائلة المرض لا يجد مَن يقف بجانبه. هكذا قلت لنفسي متذكرًا الدورة التي انتهيت منها، نفس الوجوه والردهات والغرف والأطباء والممرضات، كأنني أعيد تمثيل مسرحية قديمة بشخوص جديدة، تعبت من السير والسعي والجري، وفي النهاية حصلت على العلاج. يمكنني أن أبحث الآن عن مكان أرتاح فيه، فعظامي كلها تئن، ورأسي به صداع، فلمَ لا أذهب إلى صديقي في مكتبه، وأجلس معه بعض الوقت!
تعرف أقدامي الطريق إلى مقر عمله، ليس بعيدًا عن المستشفى، ما إن أخرج وأتجه يمينًا حتى أصل إلى الشارع الكبير، فأعبر نهر العربات المتدفق من كلا الجانبين، لأجد نفسي أمام المتحف، تعرف قدماي الدرجات التي كنّا نصعدها بعدما ننهي مشوار المستشفى، نحصل على الدواء ونقطع الشارع حتى نهايته، ثم نصعد إلى الدور الثاني، حيث الغرفة الكبيرة التي يجلس بها.
مكتبه أسفل نافذة لا تختلف عن نوافذ المستشفيات، زجاجها يرفع إلى الخارج. منذ فترة طويلة لم آتِ إلى هنا، لم أعد أحتمل رؤية زملائه، هو نفسه لم أره منذ ثلاثة أعوام، كنت أذهب إلى بيته فأرى أولاده ولا أراه، لكن منذ أصابني المرض وأنا أجلس في بيتي، لا أقدر على زيارة أحد، بالكاد أنهي مهامي الضرورية وأعود.
ما إن طرقت الباب ودفعته إلى الداخل حتى وجدته جالسًا خلف مكتبه، تمامًا مثلما اعتاد دائمًا، رفع عينيه عن الورق الذي أمامه وابتسم، رحّب بي وأجلسني في الكرسي الذي أمامه، ظهري إلى الباب ووجهي إلى بقية الغرفة بنوافذها العالية وجدرانها الرمادية، كان زملاؤه على مكاتبهم منشغلين بأمورهم، بدا عليهم كما لو أنهم لم يروني أو يسمعوا صوتي، قلتُ في نفسي إنهم تعمّدوا تجاهلي لأنني منذ مدة طويلة لم آت لزيارتهم.
سألني صديقي إن كنت أشرب شيئًا، لكن ما إن جلست حتى شعرت أن عظامي التي كانت تنبح هدأت وارتاحت، وأن الصداع زال عن رأسي، ولم تعد لديّ رغبة في شيء، اكتفيت بالجلوس معه فقط، قائلًا إن ذلك أفضل، ضحك ولم يرفع رأسه عن المكتب، ثم سألني عن سبب عدم مجيئي لرؤيته منذ فترة، اعتذرت بأنها دوّامة المرض، هزّ رأسه بحزن ولم يعلّق، وجدتني أقول إنه أعلم منّي كيف يصبح جسد المرء همًّا عليه، كأنه جوال ملح يتجول به في الليل والنهار. سمعته يدعو لي بالسلامة، وسمعت صافرة انتهاء العمل.
كان زملاؤه قد استعدوا للنزول، وضعوا أقلامهم وأوراقهم في الأدراج ونهضوا، لم يبق على المكاتب الحديدية إلّا علب المناديل الفاخرة التي يحضرها زوار المتحف، جميعها عليها ورود بيضاء، وتطلّ منها مناديل بروائح عطرة، كان زميل له يجاهد في أن يخفي علبة أسفل ملابسه، فإدارة المتحف تمنع الخروج بأي شيء، حين رآه صديقي يجاهد في إخفائها ضحك على نضاله، سأله زميله عمّا سيفعل في علبته، قال إنه سيأخذها في يده، لأنّ أحدًا لا يراه، وليس هناك ما يستدعي كل هذا الخوف. ضحك زميله مؤكدًا فكرته، ثم وضع العلبة في يده وخرج دون أن يسلِّم علي.
نهض صديقي بدوره، فوضع أوراقه وأقلامه في أدراج مكتبه، وأشار لي أن أسبقه في الخروج، مددت يدي على مقبض الباب وجذبته إلى الداخل، وجدت رفيق درب لي أمامه، لم أكن رأيته منذ زمن، فقد فرّقتنا الأيام والسنون، ولم يعد أيّ منا يسمع بأخبار الآخر، ما إن رأيته حتى هتفت باسمه مرحِّبًا، لكنّه بدا كما لو أنه لم يرني، فقد عبر بنظره تجاه صديقي وناوله ملفًا كان في يده، ثم استدار متجهًا إلى السلّم دون أن ينظر إليّ.
حين التفتُ إلى صديقي مندهشًا، وجدته يضع الملف في أحد الأدراج، قائلًا إنه سيراجعه في فترة المساء، ثم دفع بي نحو الخروج، استسلمت معه لنزول الدرجات الرخامية البيضاء، ولضجيج أصوات الموقّعين في دفتر الحضور والانصراف، ونسيت السؤال الذي كنت أنتظر إجابة عنه.
حين خرجت من المتحف إلى الشارع، رأيت نهر العربات يتدفق سريعًا من كلا الجانبين، ولا يتيح لأحد فرصة المرور من خلاله، لكنني بمهارة شديدة عبرت، ثم ولّيت وجهي نحو النفق الذي في نهاية الطريق، شاعرًا بخطوات صديقي وهي تسير خفيفة بجانبي، دون أن أراه ■