رجل وحيد يحكي عن الغربة

وحيدة في مدينة للغرباء
لا أعرف سبب خوفي المستمر من نيويورك، أشعر أنني أتيت إليها متأخرًا جدًا. هي مدينة أكبر من قدرة عقلي على الاحتواء. مدينة تجبرك على الخضوع لمنطقها الخاص. تعرف قدرتها الطاغية على ترويضك. فلا تسألك عن هويتك. لأنك ستكون - بلا شك - تفصيلة صغيرة جدًا فيها. ستسكن تحت جلدك قهرًا، وستترك وشمها الخاص على روحك، دون حتى موافقتك التي لا تعني لها أي شيء.
وفي محاولة بائسة لمصاحبة المدينة الوحش التي تخيفني، قررت أن أجبر نفسي على زياراتها في أيام عطلات نهاية الأسبوع. أترك سيارتي في نيوجيرسي وأركب الحافلات التي تذهب إليها بلا توقُّف أبدًا. أجلس مستمتعًا بصحبة الآلاف من العمال الذين يذهبون لها كل يوم. أنزل في مانهاتن مقررًا الضياع وسط البشر.
رأيتها أمام مدخل متحف المتروبولتان الشهير. شقراء نحيفة للغاية. تحمل في يدها ماريونت لرجل عجوز. تحرّك الماريونت بطريقة مذهلة. الرجل يحكي قصته من جهاز تسجيل صغير تضعه بجوار قدمها. يخبر بأنه والفتاة التي تحرّكه من أسرة واحدة. وأنهم من قرية صغيرة في جورجيا. وأنهما بخدعة سحرية استطاعا الهرب إلى أمريكا.
ساحرة قريتهم العجوز طلبت من أحدهما أن يضحي بحياته من أجل الآخر، فقرر هو أن يصبح دمية خشبية. أنا رجل عجوز وهي شابة متفجّرة بالجمال، يقول الصوت الخارج من جهاز التسجيل بتأثّر. تنزل الدموع من عيون الفتاة الشقراء النحيفة بحزن حقيقي. فتتحرك دمية الرجل العجوز وتحتضن الفتاة. يبدأ الكثير من المارة الانضمام إلى الحلقة التي تتسع لمشاهدة العرض.
تضع الفتاة النحيفة الجد الماريونت في حقيبة كبيرة بجوارها، وتُخرج ماريونت أخرى لسيدة عجوز. والكاسيت الموضوع على الأرض يستمر في الحديث. السيدة الماريونت تقول إنها جدة الفتاة وزوجة الرجل الذي اختفى في الحقيبة. تقول إن زوجها رجل يكذب كثيرًا، لكنّه طيب القلب. تمامًا ككل الرجال العجائز. تقول إن حكاية الساحرة وتضحيته بحياته وهمٌ من خياله المريض. هو فقط يحب أن يعيش دور الضحية. تقول إن حفيدتها الصغيرة طيبة كعصفور صغير، وإنها السبب الوحيد لاحتمالها استمرار الحياة مع عجوز خشبي سكّير من جورجيا. وبطيبة خالصة تحيط ذراعيها بالفتاة الشقراء النحيفة جدًا وتقبّلها. وتنساب بهدوء إلى الحقيبة.
تظهر الدمية الماريونت الثالثة. الدمية هي الفتاة الشقراء النحيفة نفسها. يختفي الكلام وتخرج من جهاز التسجيل موسيقى كمنجات حزينة. والفتاة النحيفة تغمض عيونها. ترفع رأس الماريونت في مستوى رأسها وتمرُّ على المتفرجين في الحلقة الدائرية الواسعة. وعندما تقع عيناي على عيني الماريونت أشعر أن قلبي يدقّ بعنف. وأشعر أن تلك العيون الحية لا يمكن أن تكون لدُمية أبدًا.
وعندما ينتهي الدوران حول حلقة المشاهدين الذين أصابهم جميعًا صمت رهيب تضع الفتاة توأمها الماريونت في وضع القرفصاء بجوار قدمها. ويعود جهاز التسجيل للحديث، بينما الفتاة الشقراء النحيفة تفتح ذراعيها.
أنا فتاة صماء تشعر بالوحدة في مدينة لا تحب أحدًا. عانقني، فأنا أحبك كشخص مازال قادرًا على الحب.
وعندما أصل إلى الفتاة وأحتضن جسدها النحيل أبكي وأكتشف أنها أيضًا غارقة مثلي في البكاء.
هدايا لعاشق متوحد
لباريس في شهر أبريل رائحة خاصة. تلك الرائحة الندية التي تصاحب تفتُّح ملايين البراعم مختلطة بروائح المخبوزات الصباحية والقهوة. وأنا في ذلك الصباح مرتبك قليلًا. سرّ ارتباكي مضحك ويدعو إلى التعجب... ببساطة أنا هنا من أجل موعد قد حددته منذ عشرين سنة. يبدو الأمر كله مجرد مزحة لا تصدق.
منذ عشرين سنة، عندما كنت في زيارة طويلة للمدينة الأقرب إلى قلبي. تعرّفت إلى شاب مغربي اسمه أنور. وديع مصاب بالتوحد بدرجة غير ملحوظة. كان هذا سرّه الأكبر الذي أسرّه لي في لحظة صِدْق لا تنسى.
كنت في تدريب أكاديمي لشهور بمعهد باستير الشهير، وهناك قابلت الشاب الملغز. تقريبًا لا يتحدث مع أحد، لكنّه الأكثر نبوغًا وسط كل طلاب الدكتوراه في المعهد. تجعله النتائج العلمية الباهرة التي يعرّضها في الاجتماع الشهري لقسم الميكروبولوجي موضع حسد من الجميع. وبمصادفة كانت حجرتي في سكن الطلاب بجوار حجرته.
أنور لا ينام لياليه كبقية البشر. يتحدث لساعات طويلة مع حبيبة متخيلة. وكأنه يستعيض بها عن كلّ الصمت الذي يعيشه في صحبة البشر الحقيقيين. كان صوته دائمًا عالياً جدًا، خاصة عندما يتشاجرا ويبدأ بعدها في نوبة طويلة من الاعتذار لحبيبته الوهمية. تنتهي دائمًا بنوبة أطول من البكاء الذي يفطر القلب.
وعلى هذه الحال مرّت لياليّ الطويلة بين انبهاري بأنور الشاب النابغ وحزني عليه وإرهاقي من عدم قدرتي على النوم. إلى اليوم الذي قررت أن أشتري باقة أزهار جميلة وأضعها أمام غرفة أنور المسكين. وفي باقة الأزهار وضعت كارتًا صغيرًا مكتوبًا فيه جملة وحيدة. حبيبي أنور... سامحني على كل جنوني.
ليلتها هدأ صوت أنور تمامًا واستمتعت لأول مرة بالنوم. وعلى مدار الأسابيع التالية اعتدت أن أشتري الهدايا الصغيرة وأضعها أمام حجرة أنور. ومع مرور الوقت استطعت أن أكتسب ثقة جاري العربي المسكين.
حافظ أنور على تلك المسافة من الصمت مع الآخرين. وكنت أنا صديقه الوحيد. نتناول العشاء والقهوة في مقهى صغير أمام معهد باستير. يحكي لي بجمل قصيرة عن حياته الصعبة. أمه التي تركته لجده العجوز ورحلت. والده الذي لم يعرفه أبدًا. وبالطبع عن حبيبته الغريبة الأطوار التي تزوره سرًا بالسكن الجامعي.
إلى الليلة التي سبقت يوم رحيلي عن باريس. ليلتها تناولنا قهوتنا وطلب منّي طلبه العجيب هذا وهو ينظر إلى فنجان قهوته طويلًا. أن نتقابل الأول من أبريل في المكان نفسه بعد عشرين سنة. ساعتها وافقته كي أترك له ذكرى طيبة عن الشخص الوحيد الذي يعتبره صديقه.
وخلال العشرين سنة التي مرّت أسرع مما تخيلت، كنت أتابع أخباره عن بعد. علمت أنه أصبح أحد أهم العلماء بمجاله في العالم. حاولت الاتصال به في مكتبه بالجامعة، لكن سكرتيرة القسم أخبرتني بأنه لا يرد على التليفون أبدًا. أرسلت له منذ سنوات إيميلًا على إيميله الجامعي، لكنه رد بأن العشرين سنة لم تنتهِ بعد. واليوم كنت بمصادفة رتّبها القدَر في فرنسا. فقررت أن أفي بوعدي وأذهب لمقابلة البروفيسور أنور المغربي.
كان هناك على الطاولة نفسها أمامه فنجان الأكسبرسو وكأن شيئًا لم يتغير. أصاب الشيب شعره قليلًا، لكنه بنفس عوده النحيل جدًا ونظرته الغريبة الساهمة. كنت أتمنى معانقته، لكنه اكتفى بالسلام بشدة على يدي. عرفت أنه تزوج وأصبح له أبناء. حكيت له عن سفري الدائم وحياتي، فاستمع صامتًا بطريقته المعتادة. صمت طويلًا حتى شعرت برغبتي في تركه بعد أن اكتفيت بالاطمئنان عليه. لكنّي عندما هممت بالانصراف. أخرج حقيبة صغيرة كان يخبئها تحت الطاولة. وبتأثُّر واضح أخبرني بأنه قطع علاقته بحبيبته التي كانت تزوره سرًا في سكن الطلبة بالجامعة. وأنها طلبت منه أن يعيد لي هداياها.
وبهدوء وقف وعانقني طويلًا. ليتركني ويختفي دون أن يطلب مقابلتي مجددًا. فخرجت من المقهى أمشي وحيدًا في شوارع باريس. أستنشق رائحتها الخاصة المعبّقة بالبراعم التي تتفتح في أبريل مختلطة برائحة المخبوزات والقهوة.
أغنية للجميلة بانبي
فجأة ذاعت شهرتي كطبيب للأفيال في نيوجيرسي. وهو أمر حدث بالمصادفة المربكة، فالأفيال صديقتي من الطفولة. أطوف مدن العالم التي أتمكن من زيارتها قاصدًا حدائق الحيوان، وهناك أقف لساعات مشدودًا للأفيال. أراقبها بمحبّة لا توصف. أقرأ المنشورات العلمية التي تتبع أمراضها. وأتابع حالات النفوق المتكررة التي تحدث للملائكة الضخمة ذوات الأذن الكبيرة بسبب مجرمي تجارة العاج.
حدث ذات مرة أنني كنت أعالج كلبًا عجوزًا بالعيادة التي أعمل بها. وكان لصاحب الكلب العجوز أيضًا حفيدة صغيرة مدهشة لا تكفّ عن النظر إليّ بريبة حقيقية. كان عليّ أن أقوم بإعطاء لقاحات روتينية للكلب المستكين بوداعة. وما إن أحضرت اللقاحات التي سأحقنها في جسد الكلب حتى بدأت الصغيرة في الصراخ. كانت تخاف هي أيضًا من الحقن. تركت حقن الأمصال على طاولة الكشف وبدأت الحديث للصغيرة الخائفة. ولكي أقلل خوفها اختلقت كذبة بيضاء. قلت لها إنني في الأصل طبيب أفيال. عشت عمري أتتبعها في غابات إفريقيا السمراء. أجري وراءها بالأميال حتى أستطيع حقنها بالأمصال التي تجعل عمرها أطول وصحتها أفضل. وأمام نظرة التعجب وعدم التصديق في عيون الصغيرة الخائفة سألتها: هل تعرفين كيف يمكن أن تعطي حقنة لفيل ضخم؟ وبسرعة أحضرت المصل ووضعته في كتف الكلب العجوز الذي لم يحرّك ساكنًا. فضحكت الطفلة وهزّ جدها العجوز رأسه بصمت.
مرّت أيام طويلة على الواقعة التي نسيتها تمامًا. إلى ذلك اليوم الذي انتهيت منه متأخرًا جدًا من العيادة. وعندما أصبحت خارجها متجهًا إلى سيارتي فاجأتني سيارة بألوان عجيبة نزل منها رجل بملابس أشدّ غرابة. وسريعًا حاول تذكيري بنفسه. هززت له رأسي بلطف من دون أن أحرجه، لأنني لا أعرفه. والرجل الذي وصفني بأنني أفضل طبيب بيطري في العالم طلب منّي مصاحبته لزيارة منزلية مهمة. وهو أمر لا أفعله غالبًا. لكن أمام إلحاح الرجل المتكرر ودموعه التي لم يستطع إيقافها، وافقت.
سريعًا بدأت السيارة تأخذنا إلى ضواحي المدينة. ليحكي لي أنه صاحب سيرك جوال صغير وأنه جدّ الفتاة التي أضحكتها بخدعتي التي لا تخلو من طرافة. ليخبرني بحزن شديد أن فيلة السيرك الوحيدة تعاني حالة غريبة لم يشاهدها فيها من قبل. شلّتني المفاجأة. حاولت أن أؤكد للرجل أنني كنت أكذب فقط كي أهدّئ الصغيرة. لكن الرجل لم يرغب في تصديق كلمة واحدة. وبرعونة أمريكية أصيلة فتح درج السيارة وأخرج مسدسًا قديمًا ووضعه على التابلوه وصمت... فخرست.
في حظيرة صغيرة خلف خيمة السيرك المنصوبة كانت هناك فيلة آسيوية تتحرج بهياج كبندول ساعة رافعة خرطومها ومطوّحة إياه في كل الاتجاهات. وبنظرة واحدة كنت قد شخّصت الحالة الشهيرة للضغط النفسي الذي تعانيه الأفيال في الأسْر. وهي حالة رأيت الأفيال تعانيها في حدائق الحيوان بالبلاد الفقيرة التي لا تهتم كثيرًا برعاية مواطنيها تمامًا كالحيوانات. فجأة ظهرت الطفلة الصغيرة التي تذكّرتها. جرت عليّ واحتضنتني وتعلّقت برقبتي وبدأت في البكاء. وأمام الطفلة وجدّها العجوز ومن وجد من لاعبي السيرك الصغير كان عليّ عمل شيء ما.
طلبت من الجميع تركي مع الفيلة التي كان اسمها بانبي. فتحرّك الجميع خارج الحظيرة. وأنا أعلم أنني لن أعدم العيون المتلصصة من خارج الحظيرة التي أغلقت بابها عليّ أنا وبانبي.
أمام الفيلة المكتئبة والمتوترة لم أعرف ماذا عليّ فعله. فجلست أمامها تاركًا مسافة تسمح بالسلسلة الحديدية التي تربط قدمها إلى عمود خشبي عملاق بعدم لمسي. خرطومها بالكاد قد يصل إلى وجهي. جلست خائفًا وحزينًا على حال الفيلة التي تعيش ظروفًا شبيهة بتاريخ العبيد في بلاد العم سام.
جلست ساعة أو أكثر متخشّبًا في مكاني. محاولًا التواصل مع الكائن المسكين. ولمحاربة الوقت بدأت في الغناء. تذكّرت غربتي وحيرتي في الحياة وغنيت. كنت شديد الشبه بالفيلة بانبي. وحيدًا في أرض ليست أرضي. لا أفعل شيئًا في حياتي سوى تقديم عروض لم تكن لي. لو ترك لي الاختيار يومًا لكنت أنا وبانبي نجري معًا في بلاد لا تغيب شمسها أبدًا. خرجت أغنياتي صادقة وحزينة وشجية. وفجأة مدّت بانبي خرطومها الطويل باتجاه وجهي وبدأت تتشمّمني. وفجأة أيضًا توقفت عن حركتها البندولية، وبدأت بالنظر بعيونها الواسعة في عيوني.
أنفاس بانبي دافئة وحنونة. مدّت جسدها ناحيتي معلّقة قدمها المربوطة بسلسلة حديدية سميكة وقذرة في الهواء. كان قلبي يدقّ بعنف. كنت أعلم أنها تريدني أن أقترب أكثر. فزحفت قليلًا ناحيتها. فهزّت أذنيها ولفّت خرطومها حول رأسي. شجعتني الحركة التي لا تصدر سوى عن أحبّة لهم المصير نفسه. فقمت ببطء وأصبحت في حضن العملاقة البديعة البائسة.
نظرة واحدة إلى قدمها المربوطة في السلسلة كانت كافية لأن أرى حجم الجرح العميق الذي تصنعه قيود لم تكن لنا أبدًا ■