رجل وحيد يحكي عن الغربة

 رجل وحيد يحكي عن الغربة

 

وحيدة‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬للغرباء

 

لا‭ ‬أعرف‭ ‬سبب‭ ‬خوفي‭ ‬المستمر‭ ‬من‭ ‬نيويورك،‭ ‬أشعر‭ ‬أنني‭ ‬أتيت‭ ‬إليها‭ ‬متأخرًا‭ ‬جدًا‭. ‬هي‭ ‬مدينة‭ ‬أكبر‭ ‬من‭ ‬قدرة‭ ‬عقلي‭ ‬على‭ ‬الاحتواء‭. ‬مدينة‭ ‬تجبرك‭ ‬على‭ ‬الخضوع‭ ‬لمنطقها‭ ‬الخاص‭. ‬تعرف‭ ‬قدرتها‭ ‬الطاغية‭ ‬على‭ ‬ترويضك‭. ‬فلا‭ ‬تسألك‭ ‬عن‭ ‬هويتك‭. ‬لأنك‭ ‬ستكون‭ - ‬بلا‭ ‬شك‭ - ‬تفصيلة‭ ‬صغيرة‭ ‬جدًا‭ ‬فيها‭. ‬ستسكن‭ ‬تحت‭ ‬جلدك‭ ‬قهرًا،‭ ‬وستترك‭ ‬وشمها‭ ‬الخاص‭ ‬على‭ ‬روحك،‭ ‬دون‭ ‬حتى‭ ‬موافقتك‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تعني‭ ‬لها‭ ‬أي‭ ‬شيء‭.‬

وفي‭ ‬محاولة‭ ‬بائسة‭ ‬لمصاحبة‭ ‬المدينة‭ ‬الوحش‭ ‬التي‭ ‬تخيفني،‭ ‬قررت‭ ‬أن‭ ‬أجبر‭ ‬نفسي‭ ‬على‭ ‬زياراتها‭ ‬في‭ ‬أيام‭ ‬عطلات‭ ‬نهاية‭ ‬الأسبوع‭. ‬أترك‭ ‬سيارتي‭ ‬في‭ ‬نيوجيرسي‭ ‬وأركب‭ ‬الحافلات‭ ‬التي‭ ‬تذهب‭ ‬إليها‭ ‬بلا‭ ‬توقُّف‭ ‬أبدًا‭. ‬أجلس‭ ‬مستمتعًا‭ ‬بصحبة‭ ‬الآلاف‭ ‬من‭ ‬العمال‭ ‬الذين‭ ‬يذهبون‭ ‬لها‭ ‬كل‭ ‬يوم‭. ‬أنزل‭ ‬في‭ ‬مانهاتن‭ ‬مقررًا‭ ‬الضياع‭ ‬وسط‭ ‬البشر‭.‬

رأيتها‭ ‬أمام‭ ‬مدخل‭ ‬متحف‭ ‬المتروبولتان‭ ‬الشهير‭. ‬شقراء‭ ‬نحيفة‭ ‬للغاية‭. ‬تحمل‭ ‬في‭ ‬يدها‭ ‬ماريونت‭ ‬لرجل‭ ‬عجوز‭. ‬تحرّك‭ ‬الماريونت‭ ‬بطريقة‭ ‬مذهلة‭. ‬الرجل‭ ‬يحكي‭ ‬قصته‭ ‬من‭ ‬جهاز‭ ‬تسجيل‭ ‬صغير‭ ‬تضعه‭ ‬بجوار‭ ‬قدمها‭. ‬يخبر‭ ‬بأنه‭ ‬والفتاة‭ ‬التي‭ ‬تحرّكه‭ ‬من‭ ‬أسرة‭ ‬واحدة‭. ‬وأنهم‭ ‬من‭ ‬قرية‭ ‬صغيرة‭ ‬في‭ ‬جورجيا‭. ‬وأنهما‭ ‬بخدعة‭ ‬سحرية‭ ‬استطاعا‭ ‬الهرب‭ ‬إلى‭ ‬أمريكا‭.‬

‭ ‬ساحرة‭ ‬قريتهم‭ ‬العجوز‭ ‬طلبت‭ ‬من‭ ‬أحدهما‭ ‬أن‭ ‬يضحي‭ ‬بحياته‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الآخر،‭ ‬فقرر‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬يصبح‭ ‬دمية‭ ‬خشبية‭. ‬أنا‭ ‬رجل‭ ‬عجوز‭ ‬وهي‭ ‬شابة‭ ‬متفجّرة‭ ‬بالجمال،‭ ‬يقول‭ ‬الصوت‭ ‬الخارج‭ ‬من‭ ‬جهاز‭ ‬التسجيل‭ ‬بتأثّر‭. ‬تنزل‭ ‬الدموع‭ ‬من‭ ‬عيون‭ ‬الفتاة‭ ‬الشقراء‭ ‬النحيفة‭ ‬بحزن‭ ‬حقيقي‭. ‬فتتحرك‭ ‬دمية‭ ‬الرجل‭ ‬العجوز‭ ‬وتحتضن‭ ‬الفتاة‭. ‬يبدأ‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬المارة‭ ‬الانضمام‭ ‬إلى‭ ‬الحلقة‭ ‬التي‭ ‬تتسع‭ ‬لمشاهدة‭ ‬العرض‭.‬

تضع‭ ‬الفتاة‭ ‬النحيفة‭ ‬الجد‭ ‬الماريونت‭ ‬في‭ ‬حقيبة‭ ‬كبيرة‭ ‬بجوارها،‭ ‬وتُخرج‭ ‬ماريونت‭ ‬أخرى‭ ‬لسيدة‭ ‬عجوز‭. ‬والكاسيت‭ ‬الموضوع‭ ‬على‭ ‬الأرض‭ ‬يستمر‭ ‬في‭ ‬الحديث‭. ‬السيدة‭ ‬الماريونت‭ ‬تقول‭ ‬إنها‭ ‬جدة‭ ‬الفتاة‭ ‬وزوجة‭ ‬الرجل‭ ‬الذي‭ ‬اختفى‭ ‬في‭ ‬الحقيبة‭. ‬تقول‭ ‬إن‭ ‬زوجها‭ ‬رجل‭ ‬يكذب‭ ‬كثيرًا،‭ ‬لكنّه‭ ‬طيب‭ ‬القلب‭. ‬تمامًا‭ ‬ككل‭ ‬الرجال‭ ‬العجائز‭. ‬تقول‭ ‬إن‭ ‬حكاية‭ ‬الساحرة‭ ‬وتضحيته‭ ‬بحياته‭ ‬وهمٌ‭ ‬من‭ ‬خياله‭ ‬المريض‭. ‬هو‭ ‬فقط‭ ‬يحب‭ ‬أن‭ ‬يعيش‭ ‬دور‭ ‬الضحية‭. ‬تقول‭ ‬إن‭ ‬حفيدتها‭ ‬الصغيرة‭ ‬طيبة‭ ‬كعصفور‭ ‬صغير،‭ ‬وإنها‭ ‬السبب‭ ‬الوحيد‭ ‬لاحتمالها‭ ‬استمرار‭ ‬الحياة‭ ‬مع‭ ‬عجوز‭ ‬خشبي‭ ‬سكّير‭ ‬من‭ ‬جورجيا‭. ‬وبطيبة‭ ‬خالصة‭ ‬تحيط‭ ‬ذراعيها‭ ‬بالفتاة‭ ‬الشقراء‭ ‬النحيفة‭ ‬جدًا‭ ‬وتقبّلها‭. ‬وتنساب‭ ‬بهدوء‭ ‬إلى‭ ‬الحقيبة‭.‬

تظهر‭ ‬الدمية‭ ‬الماريونت‭ ‬الثالثة‭. ‬الدمية‭ ‬هي‭ ‬الفتاة‭ ‬الشقراء‭ ‬النحيفة‭ ‬نفسها‭. ‬يختفي‭ ‬الكلام‭ ‬وتخرج‭ ‬من‭ ‬جهاز‭ ‬التسجيل‭ ‬موسيقى‭ ‬كمنجات‭ ‬حزينة‭. ‬والفتاة‭ ‬النحيفة‭ ‬تغمض‭ ‬عيونها‭. ‬ترفع‭ ‬رأس‭ ‬الماريونت‭ ‬في‭ ‬مستوى‭ ‬رأسها‭ ‬وتمرُّ‭ ‬على‭ ‬المتفرجين‭ ‬في‭ ‬الحلقة‭ ‬الدائرية‭ ‬الواسعة‭. ‬وعندما‭ ‬تقع‭ ‬عيناي‭ ‬على‭ ‬عيني‭ ‬الماريونت‭ ‬أشعر‭ ‬أن‭ ‬قلبي‭ ‬يدقّ‭ ‬بعنف‭. ‬وأشعر‭ ‬أن‭ ‬تلك‭ ‬العيون‭ ‬الحية‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬لدُمية‭ ‬أبدًا‭.‬

‭ ‬وعندما‭ ‬ينتهي‭ ‬الدوران‭ ‬حول‭ ‬حلقة‭ ‬المشاهدين‭ ‬الذين‭ ‬أصابهم‭ ‬جميعًا‭ ‬صمت‭ ‬رهيب‭ ‬تضع‭ ‬الفتاة‭ ‬توأمها‭ ‬الماريونت‭ ‬في‭ ‬وضع‭ ‬القرفصاء‭ ‬بجوار‭ ‬قدمها‭. ‬ويعود‭ ‬جهاز‭ ‬التسجيل‭ ‬للحديث،‭ ‬بينما‭ ‬الفتاة‭ ‬الشقراء‭ ‬النحيفة‭ ‬تفتح‭ ‬ذراعيها‭.‬

أنا‭ ‬فتاة‭ ‬صماء‭ ‬تشعر‭ ‬بالوحدة‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬لا‭ ‬تحب‭ ‬أحدًا‭. ‬عانقني،‭ ‬فأنا‭ ‬أحبك‭ ‬كشخص‭ ‬مازال‭ ‬قادرًا‭ ‬على‭ ‬الحب‭.‬

وعندما‭ ‬أصل‭ ‬إلى‭ ‬الفتاة‭ ‬وأحتضن‭ ‬جسدها‭ ‬النحيل‭ ‬أبكي‭ ‬وأكتشف‭ ‬أنها‭ ‬أيضًا‭ ‬غارقة‭ ‬مثلي‭ ‬في‭ ‬البكاء‭.‬

 

هدايا‭ ‬لعاشق‭ ‬متوحد

لباريس‭ ‬في‭ ‬شهر‭ ‬أبريل‭ ‬رائحة‭ ‬خاصة‭. ‬تلك‭ ‬الرائحة‭ ‬الندية‭ ‬التي‭ ‬تصاحب‭ ‬تفتُّح‭ ‬ملايين‭ ‬البراعم‭ ‬مختلطة‭ ‬بروائح‭ ‬المخبوزات‭ ‬الصباحية‭ ‬والقهوة‭. ‬وأنا‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الصباح‭ ‬مرتبك‭ ‬قليلًا‭. ‬سرّ‭ ‬ارتباكي‭ ‬مضحك‭ ‬ويدعو‭ ‬إلى‭ ‬التعجب‭... ‬ببساطة‭ ‬أنا‭ ‬هنا‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬موعد‭ ‬قد‭ ‬حددته‭ ‬منذ‭ ‬عشرين‭ ‬سنة‭. ‬يبدو‭ ‬الأمر‭ ‬كله‭ ‬مجرد‭ ‬مزحة‭ ‬لا‭ ‬تصدق‭.‬

منذ‭ ‬عشرين‭ ‬سنة،‭ ‬عندما‭ ‬كنت‭ ‬في‭ ‬زيارة‭ ‬طويلة‭ ‬للمدينة‭ ‬الأقرب‭ ‬إلى‭ ‬قلبي‭. ‬تعرّفت‭ ‬إلى‭ ‬شاب‭ ‬مغربي‭ ‬اسمه‭ ‬أنور‭. ‬وديع‭ ‬مصاب‭ ‬بالتوحد‭ ‬بدرجة‭ ‬غير‭ ‬ملحوظة‭. ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬سرّه‭ ‬الأكبر‭ ‬الذي‭ ‬أسرّه‭ ‬لي‭ ‬في‭ ‬لحظة‭ ‬صِدْق‭ ‬لا‭ ‬تنسى‭.‬

كنت‭ ‬في‭ ‬تدريب‭ ‬أكاديمي‭ ‬لشهور‭ ‬بمعهد‭ ‬باستير‭ ‬الشهير،‭ ‬وهناك‭ ‬قابلت‭ ‬الشاب‭ ‬الملغز‭. ‬تقريبًا‭ ‬لا‭ ‬يتحدث‭ ‬مع‭ ‬أحد،‭ ‬لكنّه‭ ‬الأكثر‭ ‬نبوغًا‭ ‬وسط‭ ‬كل‭ ‬طلاب‭ ‬الدكتوراه‭ ‬في‭ ‬المعهد‭. ‬تجعله‭ ‬النتائج‭ ‬العلمية‭ ‬الباهرة‭ ‬التي‭ ‬يعرّضها‭ ‬في‭ ‬الاجتماع‭ ‬الشهري‭ ‬لقسم‭ ‬الميكروبولوجي‭ ‬موضع‭ ‬حسد‭ ‬من‭ ‬الجميع‭. ‬وبمصادفة‭ ‬كانت‭ ‬حجرتي‭ ‬في‭ ‬سكن‭ ‬الطلاب‭ ‬بجوار‭ ‬حجرته‭.‬

أنور‭ ‬لا‭ ‬ينام‭ ‬لياليه‭ ‬كبقية‭ ‬البشر‭. ‬يتحدث‭ ‬لساعات‭ ‬طويلة‭ ‬مع‭ ‬حبيبة‭ ‬متخيلة‭. ‬وكأنه‭ ‬يستعيض‭ ‬بها‭ ‬عن‭ ‬كلّ‭ ‬الصمت‭ ‬الذي‭ ‬يعيشه‭ ‬في‭ ‬صحبة‭ ‬البشر‭ ‬الحقيقيين‭. ‬كان‭ ‬صوته‭ ‬دائمًا‭ ‬عالياً‭ ‬جدًا،‭ ‬خاصة‭ ‬عندما‭ ‬يتشاجرا‭ ‬ويبدأ‭ ‬بعدها‭ ‬في‭ ‬نوبة‭ ‬طويلة‭ ‬من‭ ‬الاعتذار‭ ‬لحبيبته‭ ‬الوهمية‭. ‬تنتهي‭ ‬دائمًا‭ ‬بنوبة‭ ‬أطول‭ ‬من‭ ‬البكاء‭ ‬الذي‭ ‬يفطر‭ ‬القلب‭.‬

وعلى‭ ‬هذه‭ ‬الحال‭ ‬مرّت‭ ‬لياليّ‭ ‬الطويلة‭ ‬بين‭ ‬انبهاري‭ ‬بأنور‭ ‬الشاب‭ ‬النابغ‭ ‬وحزني‭ ‬عليه‭ ‬وإرهاقي‭ ‬من‭ ‬عدم‭ ‬قدرتي‭ ‬على‭ ‬النوم‭. ‬إلى‭ ‬اليوم‭ ‬الذي‭ ‬قررت‭ ‬أن‭ ‬أشتري‭ ‬باقة‭ ‬أزهار‭ ‬جميلة‭ ‬وأضعها‭ ‬أمام‭ ‬غرفة‭ ‬أنور‭ ‬المسكين‭. ‬وفي‭ ‬باقة‭ ‬الأزهار‭ ‬وضعت‭ ‬كارتًا‭ ‬صغيرًا‭ ‬مكتوبًا‭ ‬فيه‭ ‬جملة‭ ‬وحيدة‭. ‬حبيبي‭ ‬أنور‭... ‬سامحني‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬جنوني‭.‬

ليلتها‭ ‬هدأ‭ ‬صوت‭ ‬أنور‭ ‬تمامًا‭ ‬واستمتعت‭ ‬لأول‭ ‬مرة‭ ‬بالنوم‭. ‬وعلى‭ ‬مدار‭ ‬الأسابيع‭ ‬التالية‭ ‬اعتدت‭ ‬أن‭ ‬أشتري‭ ‬الهدايا‭ ‬الصغيرة‭ ‬وأضعها‭ ‬أمام‭ ‬حجرة‭ ‬أنور‭. ‬ومع‭ ‬مرور‭ ‬الوقت‭ ‬استطعت‭ ‬أن‭ ‬أكتسب‭ ‬ثقة‭ ‬جاري‭ ‬العربي‭ ‬المسكين‭.‬

حافظ‭ ‬أنور‭ ‬على‭ ‬تلك‭ ‬المسافة‭ ‬من‭ ‬الصمت‭ ‬مع‭ ‬الآخرين‭. ‬وكنت‭ ‬أنا‭ ‬صديقه‭ ‬الوحيد‭. ‬نتناول‭ ‬العشاء‭ ‬والقهوة‭ ‬في‭ ‬مقهى‭ ‬صغير‭ ‬أمام‭ ‬معهد‭ ‬باستير‭. ‬يحكي‭ ‬لي‭ ‬بجمل‭ ‬قصيرة‭ ‬عن‭ ‬حياته‭ ‬الصعبة‭. ‬أمه‭ ‬التي‭ ‬تركته‭ ‬لجده‭ ‬العجوز‭ ‬ورحلت‭. ‬والده‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يعرفه‭ ‬أبدًا‭. ‬وبالطبع‭ ‬عن‭ ‬حبيبته‭ ‬الغريبة‭ ‬الأطوار‭ ‬التي‭ ‬تزوره‭ ‬سرًا‭ ‬بالسكن‭ ‬الجامعي‭.‬

إلى‭ ‬الليلة‭ ‬التي‭ ‬سبقت‭ ‬يوم‭ ‬رحيلي‭ ‬عن‭ ‬باريس‭. ‬ليلتها‭ ‬تناولنا‭ ‬قهوتنا‭ ‬وطلب‭ ‬منّي‭ ‬طلبه‭ ‬العجيب‭ ‬هذا‭ ‬وهو‭ ‬ينظر‭ ‬إلى‭ ‬فنجان‭ ‬قهوته‭ ‬طويلًا‭. ‬أن‭ ‬نتقابل‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬أبريل‭ ‬في‭ ‬المكان‭ ‬نفسه‭ ‬بعد‭ ‬عشرين‭ ‬سنة‭. ‬ساعتها‭ ‬وافقته‭ ‬كي‭ ‬أترك‭ ‬له‭ ‬ذكرى‭ ‬طيبة‭ ‬عن‭ ‬الشخص‭ ‬الوحيد‭ ‬الذي‭ ‬يعتبره‭ ‬صديقه‭.‬

وخلال‭ ‬العشرين‭ ‬سنة‭ ‬التي‭ ‬مرّت‭ ‬أسرع‭ ‬مما‭ ‬تخيلت،‭ ‬كنت‭ ‬أتابع‭ ‬أخباره‭ ‬عن‭ ‬بعد‭. ‬علمت‭ ‬أنه‭ ‬أصبح‭ ‬أحد‭ ‬أهم‭ ‬العلماء‭ ‬بمجاله‭ ‬في‭ ‬العالم‭. ‬حاولت‭ ‬الاتصال‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬مكتبه‭ ‬بالجامعة،‭ ‬لكن‭ ‬سكرتيرة‭ ‬القسم‭ ‬أخبرتني‭ ‬بأنه‭ ‬لا‭ ‬يرد‭ ‬على‭ ‬التليفون‭ ‬أبدًا‭. ‬أرسلت‭ ‬له‭ ‬منذ‭ ‬سنوات‭ ‬إيميلًا‭ ‬على‭ ‬إيميله‭ ‬الجامعي،‭ ‬لكنه‭ ‬رد‭ ‬بأن‭ ‬العشرين‭ ‬سنة‭ ‬لم‭ ‬تنتهِ‭ ‬بعد‭. ‬واليوم‭ ‬كنت‭ ‬بمصادفة‭ ‬رتّبها‭ ‬القدَر‭ ‬في‭ ‬فرنسا‭. ‬فقررت‭ ‬أن‭ ‬أفي‭ ‬بوعدي‭ ‬وأذهب‭ ‬لمقابلة‭ ‬البروفيسور‭ ‬أنور‭ ‬المغربي‭.‬

كان‭ ‬هناك‭ ‬على‭ ‬الطاولة‭ ‬نفسها‭ ‬أمامه‭ ‬فنجان‭ ‬الأكسبرسو‭ ‬وكأن‭ ‬شيئًا‭ ‬لم‭ ‬يتغير‭. ‬أصاب‭ ‬الشيب‭ ‬شعره‭ ‬قليلًا،‭ ‬لكنه‭ ‬بنفس‭ ‬عوده‭ ‬النحيل‭ ‬جدًا‭ ‬ونظرته‭ ‬الغريبة‭ ‬الساهمة‭. ‬كنت‭ ‬أتمنى‭ ‬معانقته،‭ ‬لكنه‭ ‬اكتفى‭ ‬بالسلام‭ ‬بشدة‭ ‬على‭ ‬يدي‭. ‬عرفت‭ ‬أنه‭ ‬تزوج‭ ‬وأصبح‭ ‬له‭ ‬أبناء‭. ‬حكيت‭ ‬له‭ ‬عن‭ ‬سفري‭ ‬الدائم‭ ‬وحياتي،‭ ‬فاستمع‭ ‬صامتًا‭ ‬بطريقته‭ ‬المعتادة‭. ‬صمت‭ ‬طويلًا‭ ‬حتى‭ ‬شعرت‭ ‬برغبتي‭ ‬في‭ ‬تركه‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬اكتفيت‭ ‬بالاطمئنان‭ ‬عليه‭. ‬لكنّي‭ ‬عندما‭ ‬هممت‭ ‬بالانصراف‭. ‬أخرج‭ ‬حقيبة‭ ‬صغيرة‭ ‬كان‭ ‬يخبئها‭ ‬تحت‭ ‬الطاولة‭. ‬وبتأثُّر‭ ‬واضح‭ ‬أخبرني‭ ‬بأنه‭ ‬قطع‭ ‬علاقته‭ ‬بحبيبته‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تزوره‭ ‬سرًا‭ ‬في‭ ‬سكن‭ ‬الطلبة‭ ‬بالجامعة‭. ‬وأنها‭ ‬طلبت‭ ‬منه‭ ‬أن‭ ‬يعيد‭ ‬لي‭ ‬هداياها‭.‬

وبهدوء‭ ‬وقف‭ ‬وعانقني‭ ‬طويلًا‭. ‬ليتركني‭ ‬ويختفي‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يطلب‭ ‬مقابلتي‭ ‬مجددًا‭. ‬فخرجت‭ ‬من‭ ‬المقهى‭ ‬أمشي‭ ‬وحيدًا‭ ‬في‭ ‬شوارع‭ ‬باريس‭. ‬أستنشق‭ ‬رائحتها‭ ‬الخاصة‭ ‬المعبّقة‭ ‬بالبراعم‭ ‬التي‭ ‬تتفتح‭ ‬في‭ ‬أبريل‭ ‬مختلطة‭ ‬برائحة‭ ‬المخبوزات‭ ‬والقهوة‭.‬

 

أغنية‭ ‬للجميلة‭ ‬بانبي

فجأة‭ ‬ذاعت‭ ‬شهرتي‭ ‬كطبيب‭ ‬للأفيال‭ ‬في‭ ‬نيوجيرسي‭. ‬وهو‭ ‬أمر‭ ‬حدث‭ ‬بالمصادفة‭ ‬المربكة،‭ ‬فالأفيال‭ ‬صديقتي‭ ‬من‭ ‬الطفولة‭. ‬أطوف‭ ‬مدن‭ ‬العالم‭ ‬التي‭ ‬أتمكن‭ ‬من‭ ‬زيارتها‭ ‬قاصدًا‭ ‬حدائق‭ ‬الحيوان،‭ ‬وهناك‭ ‬أقف‭ ‬لساعات‭ ‬مشدودًا‭ ‬للأفيال‭. ‬أراقبها‭ ‬بمحبّة‭ ‬لا‭ ‬توصف‭. ‬أقرأ‭ ‬المنشورات‭ ‬العلمية‭ ‬التي‭ ‬تتبع‭ ‬أمراضها‭. ‬وأتابع‭ ‬حالات‭ ‬النفوق‭ ‬المتكررة‭ ‬التي‭ ‬تحدث‭ ‬للملائكة‭ ‬الضخمة‭ ‬ذوات‭ ‬الأذن‭ ‬الكبيرة‭ ‬بسبب‭ ‬مجرمي‭ ‬تجارة‭ ‬العاج‭.‬

‭ ‬حدث‭ ‬ذات‭ ‬مرة‭ ‬أنني‭ ‬كنت‭ ‬أعالج‭ ‬كلبًا‭ ‬عجوزًا‭ ‬بالعيادة‭ ‬التي‭ ‬أعمل‭ ‬بها‭. ‬وكان‭ ‬لصاحب‭ ‬الكلب‭ ‬العجوز‭ ‬أيضًا‭ ‬حفيدة‭ ‬صغيرة‭ ‬مدهشة‭ ‬لا‭ ‬تكفّ‭ ‬عن‭ ‬النظر‭ ‬إليّ‭ ‬بريبة‭ ‬حقيقية‭. ‬كان‭ ‬عليّ‭ ‬أن‭ ‬أقوم‭ ‬بإعطاء‭ ‬لقاحات‭ ‬روتينية‭ ‬للكلب‭ ‬المستكين‭ ‬بوداعة‭. ‬وما‭ ‬إن‭ ‬أحضرت‭ ‬اللقاحات‭ ‬التي‭ ‬سأحقنها‭ ‬في‭ ‬جسد‭ ‬الكلب‭ ‬حتى‭ ‬بدأت‭ ‬الصغيرة‭ ‬في‭ ‬الصراخ‭. ‬كانت‭ ‬تخاف‭ ‬هي‭ ‬أيضًا‭ ‬من‭ ‬الحقن‭. ‬تركت‭ ‬حقن‭ ‬الأمصال‭ ‬على‭ ‬طاولة‭ ‬الكشف‭ ‬وبدأت‭ ‬الحديث‭ ‬للصغيرة‭ ‬الخائفة‭. ‬ولكي‭ ‬أقلل‭ ‬خوفها‭ ‬اختلقت‭ ‬كذبة‭ ‬بيضاء‭. ‬قلت‭ ‬لها‭ ‬إنني‭ ‬في‭ ‬الأصل‭ ‬طبيب‭ ‬أفيال‭. ‬عشت‭ ‬عمري‭ ‬أتتبعها‭ ‬في‭ ‬غابات‭ ‬إفريقيا‭ ‬السمراء‭. ‬أجري‭ ‬وراءها‭ ‬بالأميال‭ ‬حتى‭ ‬أستطيع‭ ‬حقنها‭ ‬بالأمصال‭ ‬التي‭ ‬تجعل‭ ‬عمرها‭ ‬أطول‭ ‬وصحتها‭ ‬أفضل‭. ‬وأمام‭ ‬نظرة‭ ‬التعجب‭ ‬وعدم‭ ‬التصديق‭ ‬في‭ ‬عيون‭ ‬الصغيرة‭ ‬الخائفة‭ ‬سألتها‭: ‬هل‭ ‬تعرفين‭ ‬كيف‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تعطي‭ ‬حقنة‭ ‬لفيل‭ ‬ضخم؟‭ ‬وبسرعة‭ ‬أحضرت‭ ‬المصل‭ ‬ووضعته‭ ‬في‭ ‬كتف‭ ‬الكلب‭ ‬العجوز‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يحرّك‭ ‬ساكنًا‭. ‬فضحكت‭ ‬الطفلة‭ ‬وهزّ‭ ‬جدها‭ ‬العجوز‭ ‬رأسه‭ ‬بصمت‭.‬

مرّت‭ ‬أيام‭ ‬طويلة‭ ‬على‭ ‬الواقعة‭ ‬التي‭ ‬نسيتها‭ ‬تمامًا‭. ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬اليوم‭ ‬الذي‭ ‬انتهيت‭ ‬منه‭ ‬متأخرًا‭ ‬جدًا‭ ‬من‭ ‬العيادة‭. ‬وعندما‭ ‬أصبحت‭ ‬خارجها‭ ‬متجهًا‭ ‬إلى‭ ‬سيارتي‭ ‬فاجأتني‭ ‬سيارة‭ ‬بألوان‭ ‬عجيبة‭ ‬نزل‭ ‬منها‭ ‬رجل‭ ‬بملابس‭ ‬أشدّ‭ ‬غرابة‭. ‬وسريعًا‭ ‬حاول‭ ‬تذكيري‭ ‬بنفسه‭. ‬هززت‭ ‬له‭ ‬رأسي‭ ‬بلطف‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬أحرجه،‭ ‬لأنني‭ ‬لا‭ ‬أعرفه‭. ‬والرجل‭ ‬الذي‭ ‬وصفني‭ ‬بأنني‭ ‬أفضل‭ ‬طبيب‭ ‬بيطري‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬طلب‭ ‬منّي‭ ‬مصاحبته‭ ‬لزيارة‭ ‬منزلية‭ ‬مهمة‭. ‬وهو‭ ‬أمر‭ ‬لا‭ ‬أفعله‭ ‬غالبًا‭. ‬لكن‭ ‬أمام‭ ‬إلحاح‭ ‬الرجل‭ ‬المتكرر‭ ‬ودموعه‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬يستطع‭ ‬إيقافها،‭ ‬وافقت‭.‬

سريعًا‭ ‬بدأت‭ ‬السيارة‭ ‬تأخذنا‭ ‬إلى‭ ‬ضواحي‭ ‬المدينة‭. ‬ليحكي‭ ‬لي‭ ‬أنه‭ ‬صاحب‭ ‬سيرك‭ ‬جوال‭ ‬صغير‭ ‬وأنه‭ ‬جدّ‭ ‬الفتاة‭ ‬التي‭ ‬أضحكتها‭ ‬بخدعتي‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تخلو‭ ‬من‭ ‬طرافة‭. ‬ليخبرني‭ ‬بحزن‭ ‬شديد‭ ‬أن‭ ‬فيلة‭ ‬السيرك‭ ‬الوحيدة‭ ‬تعاني‭ ‬حالة‭ ‬غريبة‭ ‬لم‭ ‬يشاهدها‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬قبل‭. ‬شلّتني‭ ‬المفاجأة‭. ‬حاولت‭ ‬أن‭ ‬أؤكد‭ ‬للرجل‭ ‬أنني‭ ‬كنت‭ ‬أكذب‭ ‬فقط‭ ‬كي‭ ‬أهدّئ‭ ‬الصغيرة‭. ‬لكن‭ ‬الرجل‭ ‬لم‭ ‬يرغب‭ ‬في‭ ‬تصديق‭ ‬كلمة‭ ‬واحدة‭. ‬وبرعونة‭ ‬أمريكية‭ ‬أصيلة‭ ‬فتح‭ ‬درج‭ ‬السيارة‭ ‬وأخرج‭ ‬مسدسًا‭ ‬قديمًا‭ ‬ووضعه‭ ‬على‭ ‬التابلوه‭ ‬وصمت‭... ‬فخرست‭.‬

في‭ ‬حظيرة‭ ‬صغيرة‭ ‬خلف‭ ‬خيمة‭ ‬السيرك‭ ‬المنصوبة‭ ‬كانت‭ ‬هناك‭ ‬فيلة‭ ‬آسيوية‭ ‬تتحرج‭ ‬بهياج‭ ‬كبندول‭ ‬ساعة‭ ‬رافعة‭ ‬خرطومها‭ ‬ومطوّحة‭ ‬إياه‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬الاتجاهات‭. ‬وبنظرة‭ ‬واحدة‭ ‬كنت‭ ‬قد‭ ‬شخّصت‭ ‬الحالة‭ ‬الشهيرة‭ ‬للضغط‭ ‬النفسي‭ ‬الذي‭ ‬تعانيه‭ ‬الأفيال‭ ‬في‭ ‬الأسْر‭. ‬وهي‭ ‬حالة‭ ‬رأيت‭ ‬الأفيال‭ ‬تعانيها‭ ‬في‭ ‬حدائق‭ ‬الحيوان‭ ‬بالبلاد‭ ‬الفقيرة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تهتم‭ ‬كثيرًا‭ ‬برعاية‭ ‬مواطنيها‭ ‬تمامًا‭ ‬كالحيوانات‭. ‬فجأة‭ ‬ظهرت‭ ‬الطفلة‭ ‬الصغيرة‭ ‬التي‭ ‬تذكّرتها‭. ‬جرت‭ ‬عليّ‭ ‬واحتضنتني‭ ‬وتعلّقت‭ ‬برقبتي‭ ‬وبدأت‭ ‬في‭ ‬البكاء‭. ‬وأمام‭ ‬الطفلة‭ ‬وجدّها‭ ‬العجوز‭ ‬ومن‭ ‬وجد‭ ‬من‭ ‬لاعبي‭ ‬السيرك‭ ‬الصغير‭ ‬كان‭ ‬عليّ‭ ‬عمل‭ ‬شيء‭ ‬ما‭.‬

طلبت‭ ‬من‭ ‬الجميع‭ ‬تركي‭ ‬مع‭ ‬الفيلة‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬اسمها‭ ‬بانبي‭. ‬فتحرّك‭ ‬الجميع‭ ‬خارج‭ ‬الحظيرة‭. ‬وأنا‭ ‬أعلم‭ ‬أنني‭ ‬لن‭ ‬أعدم‭ ‬العيون‭ ‬المتلصصة‭ ‬من‭ ‬خارج‭ ‬الحظيرة‭ ‬التي‭ ‬أغلقت‭ ‬بابها‭ ‬عليّ‭ ‬أنا‭ ‬وبانبي‭.‬

أمام‭ ‬الفيلة‭ ‬المكتئبة‭ ‬والمتوترة‭ ‬لم‭ ‬أعرف‭ ‬ماذا‭ ‬عليّ‭ ‬فعله‭. ‬فجلست‭ ‬أمامها‭ ‬تاركًا‭ ‬مسافة‭ ‬تسمح‭ ‬بالسلسلة‭ ‬الحديدية‭ ‬التي‭ ‬تربط‭ ‬قدمها‭ ‬إلى‭ ‬عمود‭ ‬خشبي‭ ‬عملاق‭ ‬بعدم‭ ‬لمسي‭. ‬خرطومها‭ ‬بالكاد‭ ‬قد‭ ‬يصل‭ ‬إلى‭ ‬وجهي‭. ‬جلست‭ ‬خائفًا‭ ‬وحزينًا‭ ‬على‭ ‬حال‭ ‬الفيلة‭ ‬التي‭ ‬تعيش‭ ‬ظروفًا‭ ‬شبيهة‭ ‬بتاريخ‭ ‬العبيد‭ ‬في‭ ‬بلاد‭ ‬العم‭ ‬سام‭.‬

‭ ‬جلست‭ ‬ساعة‭ ‬أو‭ ‬أكثر‭ ‬متخشّبًا‭ ‬في‭ ‬مكاني‭. ‬محاولًا‭ ‬التواصل‭ ‬مع‭ ‬الكائن‭ ‬المسكين‭. ‬ولمحاربة‭ ‬الوقت‭ ‬بدأت‭ ‬في‭ ‬الغناء‭. ‬تذكّرت‭ ‬غربتي‭ ‬وحيرتي‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬وغنيت‭. ‬كنت‭ ‬شديد‭ ‬الشبه‭ ‬بالفيلة‭ ‬بانبي‭. ‬وحيدًا‭ ‬في‭ ‬أرض‭ ‬ليست‭ ‬أرضي‭. ‬لا‭ ‬أفعل‭ ‬شيئًا‭ ‬في‭ ‬حياتي‭ ‬سوى‭ ‬تقديم‭ ‬عروض‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬لي‭. ‬لو‭ ‬ترك‭ ‬لي‭ ‬الاختيار‭ ‬يومًا‭ ‬لكنت‭ ‬أنا‭ ‬وبانبي‭ ‬نجري‭ ‬معًا‭ ‬في‭ ‬بلاد‭ ‬لا‭ ‬تغيب‭ ‬شمسها‭ ‬أبدًا‭. ‬خرجت‭ ‬أغنياتي‭ ‬صادقة‭ ‬وحزينة‭ ‬وشجية‭. ‬وفجأة‭ ‬مدّت‭ ‬بانبي‭ ‬خرطومها‭ ‬الطويل‭ ‬باتجاه‭ ‬وجهي‭ ‬وبدأت‭ ‬تتشمّمني‭. ‬وفجأة‭ ‬أيضًا‭ ‬توقفت‭ ‬عن‭ ‬حركتها‭ ‬البندولية،‭ ‬وبدأت‭ ‬بالنظر‭ ‬بعيونها‭ ‬الواسعة‭ ‬في‭ ‬عيوني‭.‬

أنفاس‭ ‬بانبي‭ ‬دافئة‭ ‬وحنونة‭. ‬مدّت‭ ‬جسدها‭ ‬ناحيتي‭ ‬معلّقة‭ ‬قدمها‭ ‬المربوطة‭ ‬بسلسلة‭ ‬حديدية‭ ‬سميكة‭ ‬وقذرة‭ ‬في‭ ‬الهواء‭. ‬كان‭ ‬قلبي‭ ‬يدقّ‭ ‬بعنف‭. ‬كنت‭ ‬أعلم‭ ‬أنها‭ ‬تريدني‭ ‬أن‭ ‬أقترب‭ ‬أكثر‭. ‬فزحفت‭ ‬قليلًا‭ ‬ناحيتها‭. ‬فهزّت‭ ‬أذنيها‭ ‬ولفّت‭ ‬خرطومها‭ ‬حول‭ ‬رأسي‭. ‬شجعتني‭ ‬الحركة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تصدر‭ ‬سوى‭ ‬عن‭ ‬أحبّة‭ ‬لهم‭ ‬المصير‭ ‬نفسه‭. ‬فقمت‭ ‬ببطء‭ ‬وأصبحت‭ ‬في‭ ‬حضن‭ ‬العملاقة‭ ‬البديعة‭ ‬البائسة‭.‬

‭ ‬نظرة‭ ‬واحدة‭ ‬إلى‭ ‬قدمها‭ ‬المربوطة‭ ‬في‭ ‬السلسلة‭ ‬كانت‭ ‬كافية‭ ‬لأن‭ ‬أرى‭ ‬حجم‭ ‬الجرح‭ ‬العميق‭ ‬الذي‭ ‬تصنعه‭ ‬قيود‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬لنا‭ ‬أبدًا‭ ‬■