قاعة مفقودة في متحف نجيب محفوظ
قضيت ساعاتٍ ماتعة في التجوال بمتحف نجيب محفوظ، الذي افتتح صباح الأحد 14 يوليو 2019، في المكان الذي شغلته تكيّة محمد بك أبوالذهب، التي أسست عام 1774 بجوار الجامع الأزهر الشريف بالقاهرة، وعلى وجه التحديد في أرض الزراكشة بمنطقة الأزهر (شارع التبليطة بجوار جامع الأزهر، أمام وكالة الغوري، الدرب الأحمر).
عندما سألت أحد البائعين بالمنطقة عن مكان تكية محمد أبوالذهب قال لي: تقصد متحف نجيب محفوظ؟ رددت: نعم، وقصدت أن أذكر اسم التكية لأنّها المعروفة عندكم في المنطقة منذ حوالي قرنين ونصف القرن، فردّ قائلًا: واسم نجيب محفوظ أيضًا معروف عندنا، لأنه أديب عالمي وعاش في هذه المنطقة.
أخبرني البائع أن المتحف هناك على بُعد خطوات، وبالفعل دلفتُ يمينًا من شارع الأزهر بعد نهاية نفق الأزهر، وكان على يساري بداية الجامع، ثم اتجهت يمينًا في شارع ضيق جدًا، لأجد المتحف في مواجهتي من جهة اليمين، لكنّني - قبل الدخول - كنتُ حريصًا على أن أتحدّث مع بعض الموجودين بالمنطقة عن أهمية هذا المتحف الآن في حياتهم، فجلستُ على مقهى قريب من المتحف، اسمه مقهى «ليالي سليمان»، لكن الكراسي والدكك كانت خاوية، رغم الحركة الدائبة خارجها.
احتسيت فنجان القهوة، وذهبت إلى المتحف المسوَّر بالحديد المطليّ باللون الأزرق، وكان يجلس على بابه بالداخل أمين شرطة (عرفت أن هذه هي البوابة الخلفية الضيقة للتكية، أمّا البوابة الرئيسة المُغلقة، فهي من شارع الأزهر نفسه)، سألته عن الكاتب يوسف القعيد، لأنّني أعلم أنه مدير المتحف الآن، أو المسؤول عنه، فأدخلني - من البوابة الإلكترونية - واستدعى شابًا اسمه محمد، يحمل في يده دفتر تذاكر الزوار، قطع لي تذكرة بخمسة جنيهات (للمصريين) وأخبرني أن القعيد لم يأتِ اليوم.
ثم كان محمد (الذي يعدّ رسالة ماجستير عن الإقناع والإمتاع في روايات يوسف السباعي) هو دليلي بالمتحف الذي يتكوّن من طابقين، حيث يوجد عدد من المكتبات، مكتبة عامة (تضم 165 كتابًا) ومكتبة النقد الأدبي (119 كتابًا) ومكتبة نجيب محفوظ الشخصية (وتضم 1091 كتابًا)، ومكتبة الفنون والآداب (266 كتابًا)، فضلًا عن مكتبة مؤلفات محفوظ وتضم 169 كتابًا، إضافة إلى مكتبة رقمية تحوي مؤلفات أديب «نوبل»، وعدد من المؤلفات التي تتحدث عنه بصيغة pdf مع مجموعة من الصور عن حياة صاحب «الثلاثية» المولود بحيّ الجمالية في 11 ديسمبر 1911.
أوسمة ونياشين
أثناء تجوالنا - في الدور الأرضي - مررنا بقاعتين مخصصتين لإقامة ورش كتابة الرواية والسيناريو والقصة القصيرة وكل الأنشطة الخاصة بالرواية، مثل حفلات التوقيع والندوات.
ثم صعدنا عددًا من السلالم (يوجد مصعد لكنّه لم يجهز للعمل حتى الآن، ربما بسبب قِدَم المبنى نفسه) لندلف إلى قاعتي الأوسمة والنياشين الخاصة بمحفوظ، وهي الشهادات والأوسمة التي حصدها كاتبنا خلال مسيرته، ومنها: جائزة قوت القلوب الدمرداشية عن روايته «رادوبيس» 1942. يقول محفوظ عن تلك الجائزة: «هي أول جائزة حصلت عليها في حياتي، وكانت السيدة قوت القلوب سليلة إحدى العائلات الكبرى في مصر (ابنة محمد الدمرداش باشا - صاحب مستشفى الدمرداش المعروف، وهناك حيّ يعرف باسمه)، وبسبب حبّها للأدب رصدت جائزة لشباب الأدباء قيمتها أربعون جنيهًا، فتقدمتُ لها وفزتُ بها مناصفة مع علي أحمد باكثير؛ هو عن روايته «واإسلاماه»، وأنا عن روايتي «رادوبيس».
كان يرأس لجنة التحكيم د. طه حسين وعضوية أحمد أمين ومحمد فريد أبوحديد. ولا تتصور كم رفعت هذه الجائزة من روحي المعنوية في ذلك الوقت. كنت أعاني فشلي في نشر رواياتي في الصحف السيّارة، التي لم تكن متعودة على نشر الأعمال الأدبية مسلسلةً كما هو حادث الآن. هل تصدق أنني حاولت نشر رواياتي حتى في الصحف غير المعروفة، ومع هذا فشلتُ. وهكذا قررت أن أكتب أعمالي الأدبية وأضعها في الأدراج إلى أن جاءت هذه الجائزة فحرّكت كل شيء». وجائزة وزارة المعارف عن روايته «كفاح طيبة» (1944)، وجائزة مجمع اللغة العربية عن روايته «خان الخليلي» (1946)، وعن هاتين الجائزتين يقول صاحب «نوبل»: «أذكر جائزة قدّمها المجمع اللغوي وتقدّمتُ لها وفزت، وجائزة ثالثة لوزارة المعارف، وكانت جميع تلك الجوائز تقوم على مبالغ زهيدة، لكنّها كانت ذات أهمية كبيرة. فقد كانت كل مؤلفاتي حبيسة درج مكتبي، ولم يكن لديّ أمل في أن يقبل ناشر أن ينشرها، وكان الأمل الوحيد لها في الخروج إلى الحياة الأدبية عن طريق حصولها على جائزة.
جائزة الدولة في الآداب
كانت هذه الجوائز بمنزلة التأكيد الوحيد لي على أن ما أكتبه هو بالفعل أدب، خصوصًا أن معظم هذه الجوائز كانت تشكّل لها لجان تضمّ أكبر الأسماء الأدبية من أمثال طه حسين والعقاد».
ثم فاز كاتبنا بجائزة الدولة في الآداب عن «بين القصرين» (1957) (بين القصرين تُطلق على الثلاثية ككُل)، وحصل على وسام الاستحقاق 1963، وجائزة الدولة التقديرية في الآداب 1968، ووسام الجمهورية 1972، إضافة إلى الدكتوراه الفخرية من جامعة القاهرة، وجوائز من هيئة الإذاعة البريطانية (BBC) وشهادات وتكريمات من مهرجانات السينما، واتحاد الإذاعة والتلفزيون وجائزة كفافيس عام 2004، وقلادة النيل، وعندما سألت دليلي عن «جائزة نوبل» التي حصل عليها عام 1988، أفادني بأنها في قاعة منفردة. وأتذكر ما قاله محفوظ عن بعض هذه الجوائز: «فزتُ بجائزة الدولة مرتين، كانت الأولى هي جائزة الدولة القديمة التي كانت قبل الثورة، وكانت تُعرف باسم «جائزة الملك فؤاد، وكانت قيمتها المالية ألف جنيه، وجائزة الدولة بعد الثورة، وكانت قيمتها ألفين وخمسمئة جنيه، وكلا المبلغين ضاع في الهواء، الأول عندما دفعته لشراء فيلّا على النيل بالمعادي، وقيل إن السيارة انقلبت بأصحاب الجمعية التي تقوم بإنشاء الفيلات وهم في طريقهم إلى الإسكندرية حاملين معهم نقود الحاجزين، ولقوا حتفهم وضاعت أموالنا.
والمرة الثانية خضعت الجائزة للضرائب، حيث حاسبتني الحكومة بأثر رجعي على كل السنوات الماضية من التأليف والنشر.
كنت أودّ شراء قطعة أرض من إحدى الشركات في المعادي، لأبني عليها مسكنًا لنا ولابنتيَّ، وأُنشئ مكتبة عامة لأهل الحي، لكنني اكتشفت أنّني رحت ضحية عملية احتيال ونصب، وضاعت أموال الجائزة، فتأثرت تأثرًا شديدًا أساء إلى صحتي، ونتج عنه مرضي بالسكّري، ولم أثق بأية تعاملات مالية وعقارية بعد ذلك».
قاعة «الحارة»
وننتقل إلى قاعة «الحارة»، حيث كانت نشأة محفوظ بحيّ الجمّالية قد جعلته ينغمس في عالم الحارة، ويستلهم منها مؤلفاته مثل زقاق المدق، والثلاثية (بين القصرين وقصر الشوق والسكّرية) وخان الخليلي وغيرها، ويعرض في تلك القاعة فيلم (مدته 20 دقيقة) عن حارة نجيب محفوظ وتأثيرها عليه. يقول محفوظ عن مفهوم الحارة عنده: «إذا كانت رواية مثل زقاق المدق أو خان الخليلي أو الثلاثية تدور في أماكن محددة، فإنّ الحارة أخذت مفهومًا أوسع من المجتمع، حيث امتدت لتكون موازية للكون كله في أولاد حارتنا».
وعن تأثير الحارة على عمله «الحرافيش» يقول كاتبنا: «كان ممكنًا للحرافيش أن تدور في مكان آخر غير الحارة، له طبيعة مغايرة، إنّما اختيار الحارة هنا راجع إلى أنك عندما تكتب عملًا روائيًا طويلًا، فأنت تحرص على اختيار البيئة التي تحبّها، التي ترتاح إليها، حتى تصبح «القعدة حلوة» من خلالها، أما الخلاء الذي يظهر في عالم الحارة، فاستوحيته من العباسية. أثناء سكني في العباسية، كثيرًا ما كنت أخرج إلى حدود الصحراء، إلى منطقة عيون الماء، حيث كان الاحتفال يقام عادة بالمولد النبوي. هناك كنت أجد نفسي وحيدًا، خاصة أن هذا الخلاء الذي كانت على حافته المقابر، خلاء لا نهائي».
قاعة «سيرة ومسيرة» بالمتحف تضمّ مقتنيات محفوظ الشخصية ولوحات تجسّد أديب نوبل وسط الناس وعائلته ومقتطفات من تاريخ حياته، ومن هذه المقتنيات التي سلّمتها ابنته أم كلثوم لوزارة الثقافة في مطلع عام 2011 أشياء حميمة مثل قلمين (أحدهما حبر والآخر جاف) أهداهما الأديب الكبير توفيق الحكيم، لصديقه محفوظ، فضلًا عن ملابس (مثل البذلة السفاري) وساعته المعدنية ونظارات وعدسة للقراءة ومستلزمات حلاقة الذقن (رغم أنه في سنواته الأخيرة لم يكن يحلقها لضعف بصره، فكان يجرحها) وسبحة وقطعة صخرية من سور برلين الذي كان يفصل العاصمة الألمانية الحالية إلى شطرين في عصر الحرب الباردة.
تجليات وفيلموغرافيا
في قاعة «تجليات» يوجد مكتب محفوظ وكرسيه وخلفهما لقطات له، ويحيط بكل ذلك عدد من الكتب الموضوعة بترتيب رائع على الرفوف الخشبية.
وتوجد قاعة اسمها «فيلموغرافيا» وتحتوي على لقطات لأهم أعمال محفوظ التي تحوّلت لأفلام سينمائية ومسلسلات جسّدها كبار الفنانين والفنانات.
وتعرض قاعة «حلم الرحيل» بعض المقولات التي تحمل رأي محفوظ عن الحياة والموت ومحاولة اغتياله عام 1994 ولحظات مرضه واحتضاره.
أما قاعة جائزة نوبل التي تمنح في الآداب منذ عام 1901 للكاتب الذي قدّم خدمة إنسانية من خلال عمل أدبي، فقد حصل عليها كاتبنا عام 1988 كأول مصري وعربي ينالها. ويوجد في صدر تلك القاعة شهادة الجائزة، وعلى جدرانها يُعرض تاريخ الجائزة وحيثيات فوز محفوظ بها، وكلمته التي ألقيت في حفل تسليمها، إضافة إلى صور لكل الحاصلين عليها منذ تدشينها وحتى اليوم.
«نوبل» محفوظ
يتذكر محفوظ كيف تلقّى خبر فوزه بجائزة نوبل، فيقول: (عرفت موضوع ترشيحي لجائزة نوبل منذ أربع سنوات - قبل حصولي عليها - من خلال جريدة «أخبار اليوم» ولم يكن لديّ علم على الإطلاق بأكثر من هذا. سألت توفيق الحكيم حينئذ عن حقيقة ترشيحي التي تُنشر في الصحف، فقال: هل طلبتْ سفارتنا منك بيانات للجنة نوبل؟ قلت: لا. قال: إذن أنت غير مرشح! لذا فوجئت تمامًا عندما أُعلنت الجائزة.
صباح الخميس 13 أكتوبر 1988 وصلت إلى مكتبي في جريدة الأهرام، بدأ زملائي يتوافدون على مكتبي، جرى الحديث وقال أحد الزملاء: اليوم ننتظر إعلان جائزة نوبل في الأدب. وردّ زميل آخر: أرى أن القائمين على أمر هذه الجائزة مازالوا يتجاهلون أدباء العالم الثالث. فقلت له: أعتقد أن حركة الترجمة تتحمّل جزءًا كبيرًا من المسؤولية، فكيف يصل إنتاجنا إلى هؤلاء، وهو محبوس داخل لغة لا يفهمونها؟ وبعدها انفضت الجلسة.
ذهبت إلى البيت، تناولت غدائي، وذهبت إلى النوم. جاءت زوجتي على غير عادتها توقظني في لهفة، وهي تقول: انهض يا نجيب، «الأهرام» اتصلوا بك يقولون إنك حصلت على «نوبل». كانت دهشتي بالغة؛ أولًا لأنني لم أكن مرشحًا، وثانيًا لأن أيّة جهة أدبية سواء في مصر أو خارجها لم يسبق لها أن فاتحتني في أمر هذا الترشيح. قلت لزوجتي: كفِّي عن المزاح، وأجِّلي الكذبة لأول أبريل. وفجأة رنّ جرس الهاتف في حوالي الساعة الثانية ظهرًا، وكان المتحدث هو محمد باشا الكاتب الصحفي بـ «الأهرام»، ثم مدير التحرير سلامة أحمد سلامة، الذي بادرني بالتهنئة: مبروك عليك الجائزة. جلست ما بين مصدّق ومكذّب، فهل فزتُ حقًا بجائزة نوبل؟ وقبل أن ألتقط أنفاسي رنّ جرس الباب، ودخل علينا خواجه ضخم وزوجته، سألته: مَن أنت؟ قال: أنا سفير السويد لارس أولاف بريليوت، عندئذ أدركت أنها حقيقة).
محفوظ وأبو سيف
في قاعة السينما التي بدأ محفوظ رحلته بها عام 1947، حينما اشترك مع المخرج صلاح أبوسيف في كتابة سيناريو فيلم «المنتقم» أعقبها بعدد آخر من الأفلام، كما شارك في كتابة عدد من سيناريوهات أفلام المخرج يوسف شاهين. ثم توالت الأفلام المأخوذة عن رواياته، فوصلت إلى 21 فيلمًا، كما تحولت 8 أعمال إلى مسلسلات تلفزيونية، وتُعرض في قاعة السينما مقتطفات من أهم أفلام محفوظ، التي مازالت عالقة في ذهن المشاهد.
يتذكر صاحب «ميرامار» فيلم «لك يوم يا ظالم»، فيقول: بعد أن أنجزنا السيناريو ذهبنا به إلى المنتج الكبير جبرائيل تلحمي، وكان خبيرًا في صناعة السينما، وفي أسرارها وخباياها.
قرأ تلحمي السيناريو، وقال لنا في بساطة: هذا فيلم محكوم عليه بالسقوط. ثم بدأ يسرد حيثياته، وكانت بمنزلة حُكم بالإعدام على مجهودنا. قال إن جوَّه مُقبض، حزين، يغرس التشاؤم ويزرع اليأس، وهذا يصرف الجمهور عنه. ثم إن بطلة السيناريو يبدأ ظهورها في الرواية وهي متزوجة، ثم تتزوج رجلًا ثانيًا في منتصف الفيلم، وتنتهي الرواية وهي متزوجة من الثالث، بينما جمهورنا يفضّل أن تظل بطلته بكرًا لآخر لحظة، فكل فرد يرى فيها فتاة أحلامه. ثم إن بطل الفيلم شرير، والجمهور يفضل رجلًا طيبًا.
لكل هذه الأسباب، حكم تلحمي بأن «لك يوم يا ظالم» لن ينجح، واعتذر عن عدم تمويله وإنتاجه، لكن صلاح أبوسيف وأنا رأينا أن الفيلم فيه من الإنسانية ما يكفي لتعاطف الجمهور معه، وبعد أن يئسنا من تسويقه ذهب صلاح وباع مصوغات زوجته، السيدة رفيقة أبوجبل، وحُلّيها، واقترض ما استطاع أن يقترضه وأنتج الفيلم. نجح الفيلم نجاحًا مدويًا، أو «قرقع» بلُغة أهل السينما، وكان هذا الفيلم بالذات ميلادًا جديدًا لصلاح أبوسيف كمخرج جماهيري.
شعبية واضحة الملامح
قبل «لك يوم يا ظالم»، كان المعروف عنه أنه مخرج قدير متمكن من فنّه، لكن ليس لأفلامه الجاذبية الجماهيرية، وبعد هذا الفيلم أصبحت شعبية صلاح بين الجماهير واضحة الملامح. وقيل «إذا كان صلاح أبوسيف قد علَّم نجيب محفوظ الصنعة، فقد منحه محفوظ الشخصية، وبمعنى أدقّ كان محفوظ هو الجانب الأدبي من أبوسيف الذي ينقصه لتكتمل به شخصيته الفنية».
وفي متحف محفوظ يوجد مكان اسمه «التكية» يقع ضمن مجموعة محمد بك أبوالذهب التي تم إنشاؤها عام 1774 وتضم المجموعة، إضافة إلى التكيّة، مسجدًا لتدريس العلوم الشرعية، وملحق بها سبيل وحوض لشرب الدوابّ.
أما أبوالذهب، صاحب التكية، فقد عهد إليه علي بك الكبير قيادة جيش كبير لفتح سورية، أثناء محاولات فصل مصر عن الدولة العثمانية، وما إن تم لمحمد بك فتح دمشق حتى انقلب على علي بك الكبير، وتفاوض سرًا مع رجال الدولة العثمانية لإعادة النفوذ العثماني إلى مصر، وعاد بجيشه إلى مصر سنة 1186هـ/ 1772م، وقامت بينه وعلي بك الكبير حرب انتهت بمقتل الأخير سنة 1187هـ/ 1773م، وعادت مصر ولاية عثمانية وخلصت إماراتها لمحمد بك الذي خرج لسورية مرة أخرى، فأذعنت له الكثير من بلاد الشام، إلّا أنه مات ليلة الأربعاء الثامن من ربيع الأول سنة 1189 هـ /1775 م، فأعاد مماليكه جثمانه لمصر ودُفن بمدرسته في الرواق الشرقي للمسجد.
مقهى الحرافيش
لاحظت في التكية التي تحوّلت إلى «متحف نجيب محفوظ» وجود مكان باسم «مقهى الحرافيش»، حيث توجد عدة كراسي وطاولات بالدور الأرضي، وقد ارتبط اسم «الحرافيش» بأدب محفوظ، وصدرت له رواية بالاسم نفسه في عام 1977، وكان لمحفوظ مجموعة من الأصدقاء في نهاية أربعينيات القرن العشرين يجتمعون بشكل أسبوعي في منزل الكاتب الساخر محمد عفيفي، وأطلق عليهم الفنان أحمد مظهر هذا الاسم، وكان من ضمنهم، إلى جانب مظهر ومحفوظ وعفيفي، الروائي عادل كامل، والمخرج توفيق صالح، والطبيب يحيى الرخاوي وغيرهم من الأدباء والكتّاب والمثقفين، ويضمّ المتحف مقهى يحمل اسم «مقهى الحرافيش»، ليكون ملتقى محبّي محفوظ والحرافيش الجدد.
يقول محفوظ عن تسمية «الحرافيش» إنها «ترجع إلى الفنان أحمد مظهر الذي كان أحد مؤسسيها، بل إنه صاحب هذه التسمية، فكما قال لي إنه قرأ هذا اللفظ «الحرافيش» في كتاب تاريخ قديم - أظنه الجبرتي (أو تخليص الإبريز في تلخيص باريز لرفاعة الطهطاوي)، وفيه جاء أن بعض المقاهي في باريس يؤمُّها علية القوم، وبعضها يؤمّه الحرافيش - وأعجبه اللفظ، فأطلقه على «شلّتنا» عام 1936 لأنه معبّر عنها، فالحرافيش تعني الصعاليك، وكنا نحن أقرب إلى هذا المعنى بالفعل، ولكن لي - يقول محفوظ - تفسير آخر للحرافيش. أعتقد أن الأصل اللغوي للكلمة هو «الحارة مفيش»، أي أنّه بعد ظهور الفتوّات في الحارة، من الطبيعي ألّا يوجد أي إنسان سواهم. وأعتقد أن هذا هو الأصل الذي تعود إليه التسمية».
رحيل وجنازتان
هناك غرفة صغيرة بالمتحف يُباع فيها بعض الكتب والمجلات (متجر كتب)، عن محفوظ، ومنها نسخ للبيع من «دورية نجيب محفوظ» التي يصدرها المجلس الأعلى للثقافة، ويشرف عليها الناقد د. حسين حمودة، وكتب أخرى مؤلّفة عن صاحب «نوبل»، إضافة إلى نسخ من رواياته وأعماله المترجمة لعدد من اللغات. وهو متجر صغير قياسًا باسم محفوظ الكبير.
رحل محفوظ في 30 أغسطس 2006 في عمر الرابعة والتسعين، وخرجت جنازتان له؛ الأولى شعبية أوصى أن تخرج من ميدان الحسين في المنطقة التي استلهم منها معظم رواياته وشخوصه وأحداثه، والثانية كانت رسمية وخرجت من مسجد آل رشدان بمدينة نصر يتقدّمها رئيس الجمهورية في ذلك الوقت، الرئيس الراحل حسني مبارك.
وعلى الرغم من أن زيارة متحف محفوظ لا تستغرق وقتًا طويلًا، فإنّ المرء قد يحتاج إلى أكثر من زيارة لاستلهام روح هذا الأديب المصري العملاق، وروح التحدي والإصرار والدأب، وحب الأدب الذي لم يكن يعادله أيّ حب في حياة أديبنا الكبير.
ولكن ما آخذه على محتويات المتحف هو عدم تخصيص ركن للإسكندرية في حياة محفوظ، الذي كان يكنّ لها كل حب ويقول «إن الإسكندرية أساس في حياتي مثلما الجمالية أساس».
نجيب والإسكندرية
وقد كتب في الإسكندرية وعنها أكثر من عمل نذكر من هذه الأعمال: السمّان والخريف وميرامار وبداية رواية «الطريق»، وغيرها، فضلًا عن أنه كان يقضي شهورًا من الصيف فيها، وعلى صلة قوية بمعظم أدبائها وكتّابها وروائييها، ويكفي أنه قال في بداية رواية «ميرامار» على لسان عامر وجدي:
«الإسكندرية أخيرًا...
الإسكندرية قطر الندى، نفثة السحابة البيضاء، مهبط الشعاع المغسول بماء السماء، وقلب الذكريات المبللة بالشهد والدموع». كما قال في إبداعات أخرى: «لقد تسلّطت الإسكندرية على نفسي في وقت من الأوقات، فكان لا بدّ أن أتحرر منها بالكتابة عنها وفكّ الأسر، ولكني الآن أشتاقها. أشتاق ضحكة ماريانا التي تضحكها مقلدةً نساء الأنفوشي، فأقول لها: أنتِ أنتِ الإسكندرية. أشتاق إلى الحجرة رقم 6 في البنسيون، التي كان يقيم فيها عامر وجدي في الجناح البعيد عن البحر. أشتاق البحر، فذكريات الإسكندرية مشتعلة دائمًا في القلب. كنت أتمنى أن أموت في جناح عامر وجدي. ومثلما عرفتُ الإسكندرية صيفًا، عرفتها شتاءً. إني لأعرفك يا إسكندرية الشتاء. تُخلين ميادينك وشوارعك مع المغيب، فيمرح فيها الهواء والمطر والوحشة، وتعمر حجراتك بالمناجاة والسمر. الإسكندرية ليس كمثلها شيء». لذا كانت الإسكندرية تستحق قاعة خاصة في متحف نجيب محفوظ، وأعتقد أنها القاعة المفقودة في هذا المتحف الصغير الرائع ■