الزرهوني يساهم في تأسيس أضخم مكتبة علمية إلكترونية تقلّد أرفع المناصب الطبية بالجزائر وفرنسا وأمريكا

الزرهوني يساهم في تأسيس  أضخم مكتبة علمية إلكترونية تقلّد أرفع المناصب الطبية بالجزائر وفرنسا وأمريكا

من بين كل العلماء العرب في الغرب الذين التقيتُهم، يصعب ألّا يكون البروفيسور الجزائري إلياس الزرهوني، أول من يقفز إلى ذاكرتي.
 ربما الرجل ليس فائق الشهرة عربيًا، لكنّه وصل إلى أعلى المناصب في البحوث الطبية بأمريكا، إذ ترأس «معاهد الصحة الوطنية» التي تعدّ أضخم مؤسسة عالمية في البحوث المتعلقة بالبيولوجيا والطب، وتموّل بحوثها في العالم، بل إن حلم معظم البحاثة في الدول كافة أن ينالوا اعترافًا لبحوثهم من تلك المعاهد ويتلقوا تمويلًا منها.

  ‬كّرم‭ ‬الزرهوني‭ ‬رئيسان‭ ‬أمريكيان‭ ‬تواليا‭ ‬على‭ ‬السلطة،‭ ‬بالرغم‭ ‬من‭ ‬أنهما‭ ‬من‭ ‬مدرستين‭ ‬متناقضتين‭ ‬في‭ ‬المؤسسة‭ ‬السياسية‭ ‬الأميركية،‭ ‬هما‭ ‬جورج‭ ‬دبليو‭ ‬بوش‭ ‬الذي‭ ‬ترأّس‭ ‬تيار‭ ‬‮«‬المحافظين‭ ‬الجدد‮»‬‭ ‬اليميني،‭ ‬وباراك‭ ‬أوباما‭ ‬الذي‭ ‬ينتمي‭ ‬إلى‭ ‬تيار‭ ‬الليبرالية‭ ‬الدولية،‭ ‬المُصنّف‭ ‬يسارًا‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬المؤسسة‭. ‬

وقد‭ ‬استَحْضَرَتْهُ‭ ‬مجريات‭ ‬جائحة‭ ‬كورونا‭ ‬أخيرًا،‭ ‬عندما‭ ‬تنافس‭ ‬مع‭ ‬الأمريكي‭/ ‬المغربي
د‭. ‬منصف‭ ‬السلاوي،‭ ‬في‭ ‬ترؤس‭ ‬اللجنة‭ ‬التي‭ ‬عيّنها‭ ‬الرئيس‭ ‬السابق‭ ‬دونالد‭ ‬ترامب‭ ‬كي‭ ‬تسرّع‭ ‬بحوث‭ ‬لقاح‭ ‬كورونا‭. ‬

‭ ‬كذلك‭ ‬ضجّ‭ ‬الإعلام‭ ‬الجزائري‭ ‬بالحديث‭ ‬عن‭ ‬الزرهوني‭ ‬في‭ ‬صيف‭ ‬عام‭ ‬2020،‭ ‬حين‭ ‬استقدمه‭ ‬الرئيس‭ ‬الجزائري‭ ‬عبدالمجيد‭ ‬تبوّن‭ ‬مستشارًا‭ ‬خاصًا‭ ‬لـ‭ ‬‮«‬الوكالة‭ ‬الوطنية‭ ‬للأمن‭ ‬الصحي‮»‬،‭ ‬التي‭ ‬تشرف‭ ‬على‭ ‬مجريات‭ ‬وباء‭ ‬كورونا‭ ‬بالجزائر‭.‬

‭ ‬وفي‭ ‬بداية‭ ‬2020‭ ‬اهتم‭ ‬الإعلام‭ ‬العلمي‭ ‬العالمي‭ ‬به،‭ ‬إثر‭ ‬تعيينه‭ ‬في‭ ‬مجلس‭ ‬إدارة‭ ‬شركة‭ ‬واي‭ ‬بوينت‭ ‬كابيتال،‭ ‬التي‭ ‬تعد‭ ‬من‭ ‬كبريات‭ ‬شركات‭ ‬الرعاية‭ ‬الصحية‭ ‬عالميًا‭.‬

وفي‭ ‬خارج‭ ‬وطن‭ ‬المنشأ‭ (‬الجزائر‭) ‬وبَلَد‭ ‬المسار‭ (‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬التي‭ ‬يحمل‭ ‬جنسيتها‭)‬،‭ ‬كرّمه‭ ‬الرئيس‭ ‬الفرنسي‭ ‬الأسبق‭ ‬نيكولا‭ ‬ساركوزي،‭ ‬بأن‭ ‬عيّنه‭ ‬عام‭ ‬2009‭ ‬في‭ ‬منصب‭ ‬مستشار‭ ‬علمي‭ ‬بمختبر‭ ‬البحوث‭ ‬بشركة‭ ‬أفانتيس‭ ‬الفرنسية‭ ‬العملاقة‭ ‬في‭ ‬صناعة‭ ‬الأدوية‭. (‬تُعرف‭ ‬حاليًا‭ ‬باسم‭ ‬سانوفي،‭ ‬بعد‭ ‬أنّ‭ ‬اشتهرت‭ ‬لفترة‭ ‬باسم‭ ‬سانوفي‭ ‬أفانتيس‭ ‬أيضًا‭). 

 

من‭ ‬قرية‭ ‬ندرومة‭ ‬إلى‭ ‬البيت‭ ‬الأبيض

كيف‭ ‬يكون‭ ‬لصبي‭ ‬وُلِدَ‭ ‬في‭ ‬قرية‭ ‬ريفية‭ ‬نائية‭ ‬الجزائر،‭ ‬أن‭ ‬يصل‭ ‬إلى‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬التكريم،‭ ‬بل‭ ‬أن‭ ‬يحتفي‭ ‬به‭ ‬رئيسان‭ ‬في‭ ‬البيت‭ ‬الأبيض؟‭ ‬ما‭ ‬سبب‭ ‬ذلك‭ ‬النجاح؟‭ ‬وما‭ ‬المسار‭ ‬العلمي‭ ‬والفكري‭ ‬الذي‭ ‬أوصله‭ ‬إلى‭ ‬تلك‭ ‬المواقع‭ ‬المتقدمة‭ ‬في‭ ‬العلوم‭ ‬والسياسة؟‭ ‬

وفي‭ ‬سيرة‭ ‬مختصرة،‭ ‬يذكر‭ ‬أن‭ ‬الزرهوني‭ ‬وُلِد‭ ‬في‭ ‬بلدة‭ ‬ندرومة‭ ‬الجزائرية‭ ‬الصغيرة‭ ‬عام‭ ‬1951،‭ ‬وتخرّج‭ ‬طبيبًا‭ ‬في‭ ‬الجزائر‭ ‬عام‭ ‬1975،‭ ‬ثم‭ ‬غادر‭ ‬البلاد‭ ‬في‭ ‬سن‭ ‬الـ‭ ‬24،‭ ‬حاملًا‭ ‬شهادة‭ ‬بكالوريوس‭ ‬الطب‭ ‬عام‭ ‬1975،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬نال‭ ‬منحة‭ ‬لمتابعة‭ ‬الدراسات‭ ‬العليا‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬جونز‭ ‬هوبكنز‭ ‬الأمريكية‭ (‬نالت‭ ‬شهرة‭ ‬ذات‭ ‬طابع‭ ‬خاص‭ ‬في‭ ‬جائحة‭ ‬كورونا‭ ‬عبر‭ ‬أرقامها‭ ‬عن‭ ‬انتشار‭ ‬الوباء‭ ‬عالميًا‭ ‬وأمريكيًا‭)‬،‭ ‬وتخصّص‭ ‬في‭ ‬طب‭ ‬الأشعة،‭ ‬وبسرعة،‭ ‬قفز‭ ‬درجات‭ ‬السلّم‭ ‬الأكاديمي،‭ ‬ليصبح‭ ‬رئيسًا‭ ‬في‭ ‬قسم‭ ‬التصوير‭ ‬الإشعاعي‭ ‬بمستشفى‭ ‬تلك‭ ‬الجامعة‭.‬

‭ ‬انكب‭ ‬الزرهوني‭ ‬على‭ ‬استخدام‭ ‬التصوير‭ ‬الإشعاعي‭ ‬كوسيلة‭ ‬للتشخيص‭ ‬المبكّر‭ ‬للأمراض‭ ‬السرطانية،‭ ‬عبر‭ ‬تحديد‭ ‬نسبة‭ ‬الكالسيوم‭ ‬في‭ ‬الأنسجة‭ ‬السرطانية،‭ ‬مما‭ ‬جعل‭ ‬هذه‭ ‬الطريقة‭ ‬بديلًا‭ ‬عن‭ ‬طُرُق‭ ‬تقليدية،‭ ‬مثل‭ ‬أخذ‭ ‬خزعة‭ ‬بالطرق‭ ‬الجراحية،‭ ‬من‭ ‬أعضاء‭ ‬المريض‭.‬

‭ ‬ويتمثّل‭ ‬الإنجاز‭ ‬الأبرز‭ ‬له،‭ ‬بوضوح،‭ ‬في‭ ‬استعمال‭ ‬التصوير‭ ‬بالأشعة‭ ‬للأصابع،‭ ‬في‭ ‬قياس‭ ‬مدى‭ ‬ترقّق‭ ‬العظام‭. ‬

وفي‭ ‬مجتمع‭ ‬أمريكي‭ ‬لديه‭ ‬ملايين‭ ‬ممن‭ ‬يعانون‭ ‬ذلك‭ ‬المرض،‭ ‬لفت‭ ‬الزرهوني‭ ‬أنظار‭ ‬المجتمع‭ ‬العلمي‭ ‬الأمريكي‭ ‬بشدّة،‭ ‬وطبّق‭ ‬ابتكاراته‭ ‬في‭ ‬علاج‭ ‬الرئيسين‭ ‬السابقين؛‭ ‬الجزائري‭ ‬هواري‭ ‬بومدين،‭ ‬والأمريكي‭ ‬رونالد‭ ‬ريغان‭.‬

 

‭ ‬8‭ ‬براءات‭ ‬اختراع

في‭ ‬ذلك‭ ‬المجال‭ ‬العلمي،‭ ‬حاز‭ ‬البروفيسور‭ ‬8‭ ‬براءات‭ ‬اختراع‭ ‬في‭ ‬التصوير‭ ‬بالأشعة‭ ‬والموجات‭ ‬الصوتية،‭ ‬تتعلّق‭ ‬كلها‭ ‬بكيفية‭ ‬قياس‭ ‬نسب‭ ‬الكالسيوم‭ ‬في‭ ‬أنسجة‭ ‬الجسم،‭ ‬خصوصًا‭ ‬العظام،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬التمييز‭ ‬بين‭ ‬الخلايا‭ ‬الخبيثة‭ ‬والسليمة‭ ‬بتلك‭ ‬الأنسجة‭. ‬

وفي‭ ‬ملمح‭ ‬لافت،‭ ‬اشتغل‭ ‬الزرهوني‭ ‬على‭ ‬الجسور‭ ‬التي‭ ‬امتدت‭ ‬خلال‭ ‬النصف‭ ‬الثاني‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬بين‭ ‬الأمراض‭ ‬المزمنة‭ ‬من‭ ‬جهة‭ (‬ضغط‭ ‬الدم‭ ‬والسكّري‭ ‬وتصلّب‭ ‬الشرايين‭ ‬والخرف‭ ‬المبكر‭) ‬وعلوم‭ ‬الأوبئة‭ ‬من‭ ‬الجهة‭ ‬الأخرى‭. ‬

ولعلّ‭ ‬معايشتنا‭ ‬الحاضرة‭ ‬مع‭ ‬‮«‬كورونا‮»‬‭ ‬قدّمت‭ ‬لنا‭ ‬مثلًا‭ ‬سيبقى‭ ‬محفورًا‭ ‬في‭ ‬ذاكرة‭ ‬أجيال‭ ‬البشرية‭ ‬طويلًا‭ ‬عن‭ ‬معنى‭ ‬الوباء‭. ‬وبصورة‭ ‬مختصرة،‭ ‬يصعب‭ ‬أن‭ ‬تخلو‭ ‬من‭ ‬الخلل،‭ ‬اشتغل‭ ‬العلماء‭ ‬على‭ ‬الأمراض‭ ‬المستعصية،‭ ‬باعتبارها‭ ‬أوبئة،‭ ‬ولنأخذ‭ ‬مثلًا‭ ‬ارتفاع‭ ‬ضغط‭ ‬الدم،‭ ‬كم‭ ‬شخصًا‭ ‬يعانيه‭ ‬في‭ ‬العالم؟‭ ‬إذا‭ ‬عَلَتْ‭ ‬بعض‭ ‬الوجوه‭ ‬ابتسامة‭ ‬حيال‭ ‬هذا‭ ‬السؤال،‭ ‬فلعلّهم‭ ‬على‭ ‬حق؛‭ ‬ثمة‭ ‬عشرات‭ ‬أو‭ ‬مئات‭ ‬الملايين‭ ‬ممن‭ ‬يعانون‭ ‬ارتفاعًا‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬ضغط‭ ‬الدم،‭ ‬إذًا،‭ ‬لِمَ‭ ‬لا‭ ‬نعتبره‭ ‬وباءً؟

‭ ‬وفي‭ ‬مثل‭ ‬واضح‭ ‬على‭ ‬ذلك،‭ ‬وصف‭ ‬الزرهوني‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬السمنة‭ ‬والإصابة‭ ‬بالسكّري،‭ ‬مشيرًا‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬تنفق‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬خُمسْ‭ ‬إجمالي‭ ‬ناتجها‭ ‬الوطني‭ ‬على‭ ‬الصحة،‭ ‬مخصصة‭ ‬72‭ ‬بالمئة‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬الإنفاق‭ ‬على‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬الأمراض‭ ‬المزمنة‭. ‬

ولعلّ‭ ‬بعض‭ ‬متابعي‭ ‬العلوم‭ ‬قد‭ ‬ألفِوا‭ ‬مصطلح‭ ‬‮«‬وباء‭ ‬التمدن‭/ ‬المُدُن‮»‬،‭ ‬في‭ ‬الإشارة‭ ‬الى‭ ‬الانتشار‭ ‬الواسع‭ ‬لأمراض‭ ‬البدانة‭ ‬والسكّري‭ ‬وارتفاع‭ ‬الدهون‭ ‬وتصلّب‭ ‬الشرايين‭ ‬وتضرّر‭ ‬القلب‭ ‬والرئتين،‭ ‬وغيرها‭. ‬

  ‬وينطبق‭ ‬وصف‭ ‬مماثل‭ ‬على‭ ‬الالتهاب‭ ‬الرئوي‭ ‬المزمن‭ ‬المصاحب‭ ‬للتعود‭ ‬على‭ ‬التدخين،‭ ‬ولا‭ ‬داعي‭ ‬للتذكير‭ ‬بمدى‭ ‬انطباق‭ ‬صورة‭ ‬الوباء‭ ‬على‭ ‬أنواع‭ ‬التعود‭ ‬على‭ ‬المواد‭ ‬المختلفة،‭ ‬من‭ ‬الكحول‭ ‬والكوكايين،‭ ‬وصولًا‭ ‬إلى‭ ‬الـ‭ ‬‮«‬إل‭ ‬إس‭ ‬دي‮»‬‭ ‬الشهير،‭ ‬والـ‭ ‬‮«‬فينتانيل‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬يستمر‭ ‬وباؤه‭ ‬في‭ ‬أمريكا‭ ‬الشمالية‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬جائحة‭ ‬كورونا‭. ‬

 

علاقة‭ ‬وطيدة

بالعودة‭ ‬إلى‭ ‬الزرهوني،‭ ‬اشتغل‭ ‬ذلك‭ ‬العالِم‭ ‬الجزائري‭/ ‬الأمريكي‭ ‬على‭ ‬بحوث‭ ‬تتولّى‭ ‬توضيح‭ ‬المعالم‭ ‬الوبائية‭ ‬لأمراض‭ ‬مزمنة،‭ ‬تشمل‭ ‬تحديد‭ ‬الفئات‭ ‬العمرية‭ ‬للإصابة‭ ‬وعناصر‭ ‬الخطورة‭ ‬التي‭ ‬تؤهل‭ ‬للإصابة‭ ‬بها،‭ ‬وأصناف‭ ‬المجتمعات‭ ‬والشرائح‭ ‬التي‭ ‬تنتشر‭ ‬فيها‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬سواها،‭ ‬ومسارها‭ ‬إذا‭ ‬لم‭ ‬تُعالج،‭ ‬ودور‭ ‬التدخّلات‭ ‬العلاجية‭ ‬والوقائية‭ ‬فيها،‭ ‬وما‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭.‬

ونظرًا‭ ‬إلى‭ ‬العلاقة‭ ‬الوطيدة‭ ‬بين‭ ‬المنحى‭ ‬البحثي‭ ‬الطبي‭ ‬الصِّرف‭ ‬وبين‭ ‬البُعد‭ ‬الاجتماعي‭ (‬بما‭ ‬فيه‭ ‬السياسي‭) ‬للبحوث‭ ‬الطبية‭ ‬التي‭ ‬انخرط‭ ‬الزرهوني‭ ‬فيها،‭ ‬فقد‭ ‬تميّز‭ ‬مساره‭ ‬بتوليه‭ ‬مناصب‭ ‬أساسية‭ ‬في‭ ‬مؤسسات‭ ‬علمية‭ ‬دولية‭ ‬تتولى‭ ‬إدارة‭ ‬الجهود‭ ‬العلمية‭ ‬الطبية‭ ‬في‭ ‬مساراتها‭ ‬العامة‭ ‬والواسعة‭ ‬والمتصلة‭ ‬بالمجتمع‭ ‬وخياراته‭.‬

وإضافة‭ ‬إلى‭ ‬المناصب‭ ‬المذكورة‭ ‬آنفًا،‭ ‬نال‭ ‬الزرهوني‭ ‬مرتبة‭ ‬الزمالة‭ ‬في‭ ‬‮«‬مؤسسة‭ ‬ميلندا‭ ‬وبيل‭ ‬غيتس‭ ‬لبرامج‭ ‬الصحة‭ ‬في‭ ‬الدول‭ ‬النامية‮»‬،‭ ‬وعضوية‭ ‬الأكاديمية‭ ‬الفرنسية‭ ‬للطب،‭ ‬وعضوية‭ ‬مجلس‭ ‬الأمناء‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬الملك‭ ‬عبدالله‭ ‬السعودية‭ ‬للعلوم‭ ‬والتكنولوجيا،‭ ‬وغيرها‭.‬

‭ ‬كذلك‭ ‬أسّس‭ ‬‮«‬مجموعة‭ ‬زرهوني‭ ‬المحدودة‭ ‬للاستشارات‭ ‬العالمية‭ ‬للعلوم‭ ‬والصحة‮»‬،‭ ‬التي‭ ‬وصفها‭ ‬بأنها‭ ‬مؤسسة‭ ‬دولية‭ ‬تعنى‭ ‬بتخطيط‭ ‬برامج‭ ‬العلوم‭ ‬والصحة،‭ ‬بالتعاون‭ ‬مع‭ ‬حكومات‭ ‬وشركات‭ ‬متعدّدة‭ ‬الجنسيات،‭ ‬عبر‭ ‬تزويد‭ ‬هذه‭ ‬الأطراف‭ ‬بالبحوث‭ ‬والخبرات‭ ‬والتقنيات‭ ‬العلمية‭ ‬الحديثة‭.‬

 

نقل‭ ‬المعرفة‭ ‬والحق‭ ‬فيها

  ‬التقيتُه‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مرّة‭ ‬في‭ ‬رحاب‭ ‬مكتبة‭ ‬الإسكندرية‭ ‬وضمن‭ ‬مؤتمرات‭ ‬‮«‬بيوفيجن‮»‬،‭ ‬التي‭ ‬تنظمها‭ ‬المكتبة‭ ‬كل‭ ‬عامين،‭ ‬بهدف‭ ‬استعراض‭ ‬أحدث‭ ‬التطورات‭ ‬في‭ ‬العلوم‭ ‬المتصلة‭ ‬بظاهرة‭ ‬الحياة‭ ‬على‭ ‬الأرض،‭ ‬بما‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬دور‭ ‬الذكاء‭ ‬الاصطناعي‭ ‬فيها،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬تقديم‭ ‬رؤية‭ ‬عمّا‭ ‬يحمله‭ ‬المستقبل‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬العلوم‭.‬

‭ ‬وفي‭ ‬العادة،‭ ‬يستضيف‭ ‬‮«‬بيوفيجن‮»‬‭ ‬بعض‭ ‬حَمَلَةْ‭ ‬جوائز‭ ‬نوبل،‭ ‬بل‭ ‬يخصص‭ ‬لهم‭ ‬فعالية‭ ‬مستقلة‭.‬

وضمن‭ ‬ذلك‭ ‬السياق،‭ ‬جاءت‭ ‬لقاءاتي‭ ‬مع‭ ‬الزرهوني،‭ ‬إذ‭ ‬حضر‭ ‬في‭ ‬جلسات‭ ‬ضمن‭ ‬‮«‬بيوفيجن‮»‬،‭ ‬شارك‭ ‬فيها‭ ‬البروفيسور‭ ‬الأمريكي‭ ‬الشهير‭ ‬هارولد‭ ‬فارمس،‭ ‬الذي‭ ‬حاز‭ ‬جائزة‭ ‬نوبل‭ ‬للطب‭ (‬1989‭)‬،‭ ‬تكريمًا‭ ‬لاكتشافه‭ ‬طريقة‭ ‬عمل‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الفيروسات‭ ‬تتسبّب‭ ‬في‭ ‬أنواع‭ ‬من‭ ‬السرطانات‭. ‬

‭ ‬وفي‭ ‬المقابل،‭ ‬ارتقت‭ ‬مكانة‭ ‬الزرهوني‭ ‬في‭ ‬الأوساط‭ ‬العلمية‭ ‬الأمريكية،‭ ‬بفضل‭ ‬إنجازاته‭ ‬في‭ ‬علم‭ ‬التصوير‭ ‬الطبي،‭ ‬خصوصًا‭ ‬توصّله‭ ‬إلى‭ ‬طريقة‭ ‬سهلة‭ ‬تعتمد‭ ‬على‭ ‬استخدام‭ ‬الموجات‭ ‬الصوتية‭ ‬في‭ ‬احتساب‭ ‬كثافة‭ ‬العظام،‭ ‬مما‭ ‬يساعد‭ ‬على‭ ‬التشخيص‭ ‬المبكر‭ ‬للسرطان‭ ‬وأمراض‭ ‬الرئة‭ ‬والقلب،‭ ‬وكذلك‭ ‬ترقّق‭ ‬العظام‭ ‬وهشاشتها‭.‬

لماذا‭ ‬يبرز‭ ‬الزرهوني‭ ‬في‭ ‬ذاكرتي‭ ‬قبل‭ ‬سواه؟‭ ‬في‭ ‬لقاء‭ ‬أوّل‭ ‬معه،‭ ‬اتّخذتُ‭ ‬وضعية‭ ‬الهجوم،‭ ‬وقد‭ ‬تشجّعتُ‭ ‬بما‭ ‬عُرِف‭ ‬عن‭ ‬البروفيسور‭ ‬فارمس‭ ‬من‭ ‬تأييد‭ ‬ضخم‭ ‬لنشر‭ ‬المعرفة‭ ‬بين‭ ‬الشعوب،‭ ‬والعمل‭ ‬على‭ ‬تقليص‭ ‬الفجوة‭ ‬العلمية‭ ‬بينها،‭ ‬بل‭ ‬بذل‭ ‬جهدًا‭ ‬نوعيًا‭ ‬في‭ ‬جعل‭ ‬نشر‭ ‬المعرفة‭ ‬يتخطّى‭ ‬الجدار‭ ‬الضخم‭ ‬الذي‭ ‬تشكّله‭ ‬حقوق‭ ‬الملكية‭ ‬الفكرية‭.‬

‭ ‬وتجلّى‭ ‬ذلك‭ ‬الجهد‭ ‬في‭ ‬صنع‭ ‬المكتبة‭ ‬العلمية‭ ‬المفتوحة‭ ‬‮«‬بلوس‭. ‬أورغ‮»‬،‭ ‬التي‭ ‬تعمل‭ ‬في‭ ‬نشر‭ ‬البحوث‭ ‬العلمية‭ ‬الأكثر‭ ‬تقدمًا،‭ ‬وتتيحها‭ ‬بشكل‭ ‬مفتوح‭ ‬للجميع‭. ‬

تحت‭ ‬تلك‭ ‬الظلال‭ ‬من‭ ‬تأييد‭ ‬الحق‭ ‬في‭ ‬المعرفة،‭ ‬اتخذتُ‭ ‬وضعية‭ ‬الهجوم‭ ‬في‭ ‬الحوار‭ ‬مع‭ ‬الزرهوني‭.‬

‭ ‬لماذا‭ ‬تحتكر‭ ‬الدول‭ ‬الكبرى‭ ‬العلوم‭ ‬وتحرمُ‭ ‬الشعوب‭ ‬منها؟‭ ‬لماذا‭ ‬يدأب‭ ‬‮«‬الكونغرس‮»‬‭ ‬الأمريكي‭ ‬على‭ ‬تمديد‭ ‬فترات‭ ‬الملكية‭ ‬الفكرية،‭ ‬مما‭ ‬يجعل‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬كلمة‭ ‬ومعلومة‭ ‬مفيدة‭ ‬أمرًا‭ ‬مكلفًا‭ ‬وأكثر؟‭ ‬

إذا‭ ‬سَلَّمْنا‭ ‬بأن‭ ‬العلوم‭ ‬تتشكّل‭ ‬ضمن‭ ‬مسار‭ ‬تاريخي‭ ‬تراكمي‭ ‬يتضمن‭ ‬مساهمة‭ ‬الحضارات‭ ‬والشعوب‭ ‬كلها،‭ ‬فلماذا‭ ‬احتكاره‭ ‬في‭ ‬أيد‭ ‬قليلة،‭ ‬وحمايته‭ ‬ببراءات‭ ‬اختراع‭ ‬لا‭ ‬يشكّل‭ ‬ثمنها‭ ‬سوى‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬صعوبة‭ ‬الحصول‭ ‬عليها؟‭ ‬هل‭ ‬لأنّ‭ ‬الموافقة‭ ‬على‭ ‬شرائها‭ ‬أمر‭ ‬ليس‭ ‬أقلّ‭ ‬صعوبة؟

 

مكتبة‭ ‬الوصول‭ ‬العام

أذكرُ‭ ‬جيدًا‭ ‬أن‭ ‬تلك‭ ‬الأسئلة‭ ‬لم‭ ‬تزعج‭ ‬الزرهوني،‭ ‬على‭ ‬الضد‭ ‬من‭ ‬مسعايَ‭ ‬الواضح‭ ‬إلى‭ ‬استفزازه‭ ‬كي‭ ‬يُخرِج‭ ‬مكنوناته،‭ ‬ولا‭ ‬أنسى‭ ‬أن‭ ‬وجهه‭ ‬الحنطي‭ ‬المُشَرَّب‭ ‬بحمرة‭ ‬خفيفة،‭ ‬لم‭ ‬يظهر‭ ‬عليه‭ ‬سوى‭ ‬ابتسامة‭ ‬صغيرة،‭ ‬وفي‭ ‬استعادة‭ ‬عن‭ ‬تجربته‭ ‬بنشر‭ ‬المعرفة،‭ ‬أكّد‭ ‬أنه‭ ‬تابع‭ ‬ما‭ ‬ابتدأه‭ ‬فارمس،‭ ‬فجعل‭ ‬قواعد‭ ‬البيانات‭ ‬الإلكترونية‭ ‬التي‭ ‬تموّلها‭ ‬‮«‬معاهد‭ ‬الصحة‭ ‬الوطنية‮»‬‭ (‬التي‭ ‬ترأسها‭ ‬الزرهوني‭ ‬بضع‭ ‬سنوات‭) ‬متاحة‭ ‬بشكل‭ ‬مفتوح‭ ‬على‭ ‬الإنترنت،‭ ‬بل‭ ‬توسّع‭ ‬كثيرًا‭ ‬في‭ ‬تجربة‭ ‬نشر‭ ‬البحوث‭ ‬العلمية‭ ‬على‭ ‬‮«‬بلوس‭. ‬أورغ‮»‬،‭ ‬ونقلها‭ ‬إلى‭ ‬مستوى‭ ‬أعلى‭.‬

وبيّن‭ ‬أنه‭ ‬أنشأ‭ ‬‮«‬مكتبة‭ ‬الوصول‭ ‬العام‮»‬،‭ ‬أثناء‭ ‬إدارته‭ ‬تلك‭ ‬المعاهد،‭ ‬والتي‭ ‬تعد‭ ‬الأضخم‭ ‬في‭ ‬تمويل‭ ‬البحوث‭ ‬العلمية‭ ‬المتصلة‭ ‬بالطب‭ ‬والبيولوجيا‭ ‬عالميًا‭.‬

وأوضح‭ ‬الزرهوني‭ ‬أن‭ ‬تلك‭ ‬المكتبة‭ ‬الإلكترونية‭ ‬تحتوي‭ ‬على‭ ‬كميات‭ ‬ضخمة‭ ‬من‭ ‬البحوث‭ ‬وبراءات‭ ‬الاختراع‭ ‬على‭ ‬الإنترنت،‭ ‬بشكل‭ ‬مفتوح‭ ‬للشعوب‭ ‬كافة‭. ‬وآنذاك،‭ ‬كان‭ ‬الرئيس‭ ‬الجمهوري‭ ‬جورج‭ ‬دبليو‭ ‬بوش‭ ‬قد‭ ‬كرّمه‭ ‬في‭ ‬البيت‭ ‬الأبيض،‭ ‬ثم‭ ‬عيّنه‭ ‬رئيسًا‭ ‬لـ‭ ‬‮«‬معاهد‭ ‬الصحة‭ ‬الوطنية‮»‬‭ ‬الأمريكية‭ ‬التي‭ ‬تتمتع‭ ‬بميزانية‭ ‬بحوث‭ ‬تلامس‭ ‬الـ‭ ‬30‭ ‬مليار‭ ‬دولار‭.‬

وبعد‭ ‬سنتين،‭ ‬التقيته‭ ‬مجددًا‭ ‬في‭ ‬‮«‬بيوفيجن‮»‬‭ ‬الإسكندرية،‭ ‬وبالأحرى‭ ‬بادر‭ ‬هو‭ ‬إلى‭ ‬دعوتي‭ ‬للحديث‭ ‬معه،‭ ‬وآنذاك،‭ ‬في‭ ‬2010،‭ ‬جاء‭ ‬الزرهوني‭ ‬إلى‭ ‬مصر‭ ‬بوصفه‭ ‬المبعوث‭ ‬العلمي‭ ‬للرئيس‭ ‬الديمقراطي‭ ‬السابق‭ ‬باراك‭ ‬أوباما‭ ‬إلى‭ ‬شمال‭ ‬إفريقيا‭ ‬والخليج‭ ‬العربي،‭ ‬وقد‭ ‬كرّمه‭ ‬أوباما‭ ‬في‭ ‬البيت‭ ‬الأبيض،‭ ‬أثناء‭ ‬تكليفه‭ ‬مهمة‭ ‬المبعوث‭ ‬العلمي‭.‬

 

إشكالية‭ ‬عربية‭ ‬في‭ ‬نُظُم‭ ‬التعليم

في‭ ‬ذلك‭ ‬اللقاء،‭ ‬استهل‭ ‬الزرهوني‭ ‬كلامه‭ ‬بالإشارة‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬أثرته‭ ‬معه‭ ‬قبل‭ ‬سنتين‭ ‬بشأن‭ ‬حق‭ ‬الشعوب‭ ‬في‭ ‬المعرفة،‭ ‬لكنّه‭ ‬هذه‭ ‬المرّة‭ ‬اتخذ‭ ‬بنفسه‭ ‬موقف‭ ‬‮«‬الهجوم‮»‬،‭ ‬إذ‭ ‬طرح‭ ‬سؤالًا‭ ‬عن‭ ‬مدى‭ ‬قدرة‭ ‬الشعوب‭ ‬العربية‭ ‬على‭ ‬الاستفادة‭ ‬من‭ ‬التقدّم‭ ‬العلمي،‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬وصلت‭ ‬أيديها‭ ‬إلى‭ ‬البحوث‭ ‬التي‭ ‬تتقدّم‭ ‬بسرعة‭ ‬الضوء،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬أن‭ ‬النُظُم‭ ‬التعليمية‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬لا‭ ‬تتطور‭ ‬إلا‭ ‬ببطء‭ ‬شديد‭. ‬

وأضاف‭: ‬‮«‬ما‭ ‬هي‭ ‬نسبة‭ ‬إنفاق‭ ‬الدول‭ ‬العربية‭ ‬على‭ ‬البحوث‭ ‬قياسًا‭ ‬إلى‭ ‬مواردها‭ ‬الضخمة؟‭ ‬ما‭ ‬مدى‭ ‬استعدادها‭ ‬للتفاوض‭ ‬مع‭ ‬الشركات‭ ‬على‭ ‬شراء‭ ‬براءات‭ ‬الاختراع؟‭ ‬هل‭ ‬تمتلك‭ ‬خطّة‭ ‬علمية‭ ‬للتصرف‭ ‬والتعامل‭ ‬مع‭ ‬تلك‭ ‬البراءات،‭ ‬إذا‭ ‬استطاعت‭ ‬الحصول‭ ‬عليها»؟

ثم‭ ‬استطرد‭: ‬‮«‬قبل‭ ‬أن‭ ‬نسأل‭ ‬الدول‭ ‬الصناعيّة‭ ‬والشركات‭ ‬عن‭ ‬نقل‭ ‬المعرفة،‭ ‬وذلك‭ ‬سؤال‭ ‬صحيح،‭ ‬يجب‭ ‬التنبّه‭ ‬إلى‭ ‬مدى‭ ‬الجاهزية‭ ‬الذاتيّة‭ ‬للدول‭ ‬النامية‭ ‬في‭ ‬تلقّي‭ ‬العلم،‭ ‬بإمكاني‭ ‬أن‭ ‬أعطيك‭ ‬مثلًا‭ ‬واضحًا‭ ‬يتمثّل‭ ‬في‭ ‬المعلومات‭ ‬عن‭ ‬الجينوم،‭ ‬فبمبادرة‭ ‬من‭ ‬الرئيس‭ ‬بيل‭ ‬كلينتون،‭ ‬وُضِعَتْ‭ ‬تلك‭ ‬المعلومات‭ ‬الضخمة‭ ‬والمتقدّمة‭ ‬في‭ ‬قواعد‭ ‬بيانات‭ ‬إلكترونية‭ ‬مفتوحة‭ ‬على‭ ‬الإنترنت،‭ ‬هل‭ ‬تَعرِفْ‭ ‬الدول‭ ‬التي‭ ‬استفادت‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬القواعد؟‭ ‬يبرز‭ ‬في‭ ‬المقدمة‭ ‬الصين‭ ‬والبرازيل‭ ‬والهند‭ ‬والكوريتان،‭ ‬ولا‭ ‬يزيد‭ ‬نصيب‭ ‬الدول‭ ‬العربية‭ ‬من‭ ‬الدخول‭ ‬على‭ ‬قواعد‭ ‬بيانات‭ ‬الجينوم‭ ‬عن‭ ‬الواحد‭ ‬والنصف‭ ‬في‭ ‬المئة‭! ‬

ثمّة‭ ‬مثل‭ ‬آخر‭ ‬يأتي‭ ‬من‭ ‬السؤال‭ ‬عن‭ ‬نسبة‭ ‬الإنفاق‭ ‬على‭ ‬العلوم‭ ‬والتكنولوجيا‭ ‬وبحوثها‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬الدخل‭ ‬القومي؛‭ ‬إنها‭ ‬لا‭ ‬تتعدّى‭ ‬عربيًا‭ ‬الكسور‭ ‬العشرية،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬امتلاك‭ ‬الدول‭ ‬العربية‭ ‬ثروات‭ ‬ماليّة‭ ‬هائلة‭. ‬هناك‭ ‬مقولة‭ ‬مفادها‭ (‬بدل‭ ‬أن‭ ‬تعطيني‭ ‬سمكًا،‭ ‬علّمني‭ ‬الصيد‭)‬،‭ ‬وتوحي‭ ‬العبارة‭ ‬الاستعداد‭ ‬للتعلّم‭ ‬والقدرة‭ ‬عليه،‭ ‬وأسألك‭ ‬مُجددًا‭: ‬هل‭ ‬العرب‭ ‬مستعدون‭ ‬لتلقي‭ ‬المعرفة؟‭ ‬هل‭ ‬أعدّوا‭ ‬أنفسهم،‭ ‬ونظم‭ ‬التعليم‭ ‬والبحوث‭ ‬عندهم،‭ ‬كي‭ ‬يتلقوا‭ ‬العلوم‭ ‬والتكنولوجيا،‭ ‬إذا‭ ‬نُقِلَتْ‭ ‬إليهم»؟‭ ‬

 

ارتفاع‭ ‬الوعي

في‭ ‬السياق‭ ‬نفسه،‭ ‬أوضح‭ ‬الزرهوني‭ ‬أن‭ ‬الوضع‭ ‬الراهن‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الدول‭ ‬الإفريقية‭ ‬يتميّز‭ ‬بارتفاع‭ ‬الوعي‭ ‬عن‭ ‬أهمية‭ ‬العلوم‭ ‬والتكنولوجيا‭ ‬ودورهما‭ ‬في‭ ‬التنمية،‭ ‬مع‭ ‬إدراك‭ ‬أن‭ ‬60‭ ‬في‭ ‬المئة‭ ‬من‭ ‬الاقتصاد‭ ‬العالمي‭ ‬يعمل‭ ‬استنادًا‭ ‬إلى‭ ‬اكتشافات‭ ‬علمية‭ ‬جرت‭ ‬في‭ ‬العقود‭ ‬الخمسة‭ ‬المنصرمة‭.‬

ورأى‭ ‬أن‭ ‬دول‭ ‬المنطقة‭ ‬تتفاوت‭ ‬فيما‭ ‬بينها‭ ‬علميًا،‭ ‬ويملك‭ ‬بعضها،‭ ‬مثل‭ ‬مصر،‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬إنتاج‭ ‬عقول‭ ‬علمية‭ ‬كثيرة،‭ ‬لكنّها‭ ‬تفتقر‭ ‬إلى‭ ‬آليات‭ ‬للمتابعة‭ ‬والعمل‭ ‬على‭ ‬وضع‭ ‬العلم‭ ‬في‭ ‬مسار‭ ‬يخدم‭ ‬التنمية‭.‬

وأعرب‭ ‬عن‭ ‬اعتقاده‭ ‬بأنّ‭ ‬دول‭ ‬المنطقة‭ ‬عانت‭ ‬انفجارًا‭ ‬سكانيًا‭ ‬هائلًا‭ ‬لم‭ ‬يترافق‭ ‬مع‭ ‬نموّ‭ ‬علمي‭ ‬مناسب،‭ ‬مما‭ ‬جعل‭ ‬ملايين‭ ‬الأدمغة‭ ‬الشابة‭ ‬تفتقد‭ ‬التعليم‭ ‬الملائم‭.‬

ووفق‭ ‬رأي‭ ‬الزرهوني،‭ ‬تتفاوت‭ ‬تلك‭ ‬العوامل‭ ‬بين‭ ‬دولة‭ ‬وأخرى،‭ ‬إلّا‭ ‬أن‭ ‬بلدان‭ ‬المنطقة‭ ‬تتشابه‭ ‬في‭ ‬تشوّقها‭ ‬للوصول‭ ‬إلى‭ ‬التقنيات‭ ‬والمعارف‭ ‬الأشد‭ ‬تقدمًا،‭ ‬ولا‭ ‬ترغب‭ ‬في‭ ‬معرفة‭ ‬من‭ ‬المستويين‭ ‬الثاني‭ ‬ولا‭ ‬الثالث،‭ ‬وبذا،‭ ‬تسعى‭ ‬تلك‭ ‬الدول‭ ‬إلى‭ ‬نسج‭ ‬علاقة‭ ‬مباشرة‭ ‬مع‭ ‬المراكز‭ ‬العلمية‭ ‬الأكثر‭ ‬تطوّرًا،‭ ‬كالمراكز‭ ‬الأمريكية‭. ‬

كذلك‭ ‬تتشابه‭ ‬تلك‭ ‬الدول‭ ‬في‭ ‬ميلها‭ ‬إلى‭ ‬اتخاذ‭ ‬موقف‭ ‬الشريك‭ ‬النديّ‭ ‬في‭ ‬موضوعات‭ ‬استراتيجية‭ ‬تربطها‭ ‬صلة‭ ‬مباشرة‭ ‬بالعلم،‭ ‬كالمياه‭ ‬والغذاء‭ ‬والطاقة‭.‬

الخلاصة‭ ‬أنه‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬تقلّده‭ ‬مناصب‭ ‬لا‭ ‬حصر‭ ‬لها،‭ ‬فإن‭ ‬الموقع‭ ‬الأبرز‭ ‬يبقى‭ ‬متمثلًا‭ ‬في‭ ‬ترؤسه‭ ‬المعاهد‭ ‬الوطنية‭ ‬للصحة‭ ‬في‭ ‬أمريكا،‭ ‬بين‭ ‬عامي‭ ‬2002‭ ‬و2008‭. ‬

وقد‭ ‬خلف‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬المنصب‭ ‬البروفيسور‭ ‬هارولد‭ ‬فارمس‭ ‬الذي‭ ‬تربطه‭ ‬بالزرهوني‭ ‬صداقة‭ ‬شخصية‭ ‬وعلمية‭ ‬عميقة،‭ ‬وباختصار،‭ ‬يجمع‭ ‬بين‭ ‬الرجلين‭ ‬أيضًا‭ ‬اهتمامهما‭ ‬بالعلاقة‭ ‬بين‭ ‬العلم‭ ‬والمجتمع،‭ ‬بما‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬السياسة،‭ ‬باعتبارها‭ ‬أصلًا‭ ‬سبيل‭ ‬إدارة‭ ‬المجتمعات‭.‬

وربما‭ ‬يدلّ‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬فارمس،‭ ‬الذي‭ ‬نال‭ ‬جائزة‭ ‬نوبل‭ ‬في‭ ‬الطب‭ (‬1989‭) ‬عن‭ ‬الفيروسات‭ ‬التي‭ ‬تُسهم‭ ‬في‭ ‬نشوء‭ ‬بعض‭ ‬أنواع‭ ‬السرطانات،‭ ‬وضع‭ ‬كتابًا‭ ‬عنوانه‭ ‬‮«‬فنّ‭ ‬العلم‭ ‬وسياساته‮»‬،‭ ‬وقد‭ ‬شرفتُ‭ ‬بترجمته‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬العربية‮»‬‭ ‬■