د. فريدريك معتوق: العصبيّة فيروس نائم في عُمق التراث الجيني للبشر

د. فريدريك معتوق:  العصبيّة فيروس نائم  في عُمق التراث الجيني للبشر

هو في مقدمة علماء الاجتماع العرب الأكثر اندغامًا في معضلات مجتمعاتهم العربيّة ومحاولات تقديم العلاجات الأنجع لها؛ ولأجل ذلك كرّس ويكرّس عالِم الاجتماع اللبناني، د. فريدريك معتوق، وقته العلمي المفتوح لتفكيك معضلة العصبيّات العربية، التي لا تزال تفتك بنسيجنا الاجتماعي والسياسي والثقافي العربي منذ زمن طويل. غير أن هذا لا يحجب - في المقابل - واقع أن المجتمعات الغربية عمومًا، والتي نظّرت طويلًا لمفهوم الديمقراطية السياسية والاجتماعية، وتحديدًا منذ عصر الأنوار مع كتاب فولتير «بحث في التسامح» عام 1763، وكتاب هيغل «دستور ألمانيا» عام 1800، تعود القهقرى اليوم إلى الزمن العصباني المناقض لمفهوم دولة المواطنة الحديثة، فما نشهده، مثلًا، من هبّات عصبيّة لبعض الأحزاب الشعبويّة في النمسا والدنمارك وفرنسا وألمانيا والولايات المتحدة التي تجاهر بشعارات غير ديمقراطية، بل عنصرية في الصميم، كما يقول د. معتوق ويتساءل: لماذا باتوا يشبهوننا في سلوكهم السياسي العُصباني، فيما كنّا نظن أنهم قد انتقلوا نهائيًا إلى ضفة المجتمعات الديمقراطية المتسامحة؟

من هنا كان سر إصدار د. معتوق ثلاثة كتب تتناول الشأن العصباني تباعًا هي «صراع العصبيّات العربية»، و«مجتمعات ودول العصبيّات... إلى أين؟»... وأخيرًا وليس آخرًا كتابه المسمّى «التقدم الحضاري العربي المعصوب».
وعلى العموم، يرى البروفيسور معتوق أننا كدول عربية، ومجتمعات عربية، سايرنا عصبيّاتنا طويلًا، ظنًا منّا أنها ستكون درعًا واقية لهوياتنا الصغيرة والكبيرة، وإذ بنا نكتشف، بعد «زمن الربيع العربي»، أنها كانت عدونا الأكبر.
فيما يلي حوار حول مدار العصبيّات، العربية منها وغير العربية، مع المفكر الاجتماعي العربي، العميد الأسبق لمعهد العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية، البروفيسور فريدريك معتوق.
●  د. معتوق، انتقلت في كتابك «مجتمعات ودول العصبيّات.. إلى أين؟» (2018)، وفي كتابك الأخير «التقدم الحضاري العربي المعصوب» (2019) لتتوسع أكثر في دائرة البحث في العصبيّات وتفكيكها، عربيًا، إقليميًا وعالميًا، فتحدثت عن حرب السنوات الثلاثين في ألمانيا، وعن نظرية فرانكو في العصبيّة، وكذلك بحثت في العصبيّة الإسرائيلية، ثم تحدثت عن العصبيّات العربية من جديد. ما معنى هذا البحث البانورامي في العصبيّات والربط بين وقائعها؟ وهل تريد القول إنّ العصبيّة ليست مرضًا عربيًا فقط، بل عالميًّا أيضًا؟
- بيّنت في كتابي الأول «صدام العصبيّات العربية» الصادر عام 2017، أن صدام العصبيّات ليس شأنًا لبنانيًا بحتًا، كما كان سائدًا في الاعتقاد العام. أما في كتابَيّ اللاحقين اللذين صدرا عام 2018 وعام 2019 (وقد ذكرت عنوانيهما في سؤالك)، فقد بيّنت بالأدلة والحجج أن الحروب المبنية على عصبيّات، ليست لبنانية أو عربية فحسب، بل هي عالمية أيضًا. 
ويرجع الأمر إلى أن العصبيّة منظومة تفكير وسلوك تعود في نشأتها إلى عهد القطيع البشري الأول؛ فهي عمليًا أول منظومة سياسية عرفتها البشرية بغية تأمين الحماية لجماعاتها الصغيرة المحاطة بحيوانات مفترسة ضخمة، حيث قامت العُصبة البشرية بحياكة نظام من الحماية الذاتية مبني على النعير (الصراخ من عمق الخيشوم) والتذامر (التجمّع)، بهدف الاستماتة دفاعًا عن الجماعة، على حد تعبير ابن خلدون.
لذلك في عمق الوعي واللاوعي البشريين لدى المجتمعات البشرية كافة، لا يزال الوعي العُصباني كامنًا كالفيروس النائم في عمق تراثنا الجيني كجسيم سياسي ينتظر الظروف المناسبة للاستيقاظ.
عاش مفهوم العصبيّة في عزّ طوال آلاف الأعوام، ودخل في شراكات مختلفة مع العشيرة، ثم القبيلة، ثم الممالك والأديان، وصولًا إلى المذاهب، وقد حصل ذلك على امتداد الكوكب. لكن المراجعات الفلسفية الأولى لهذا المفهوم ظهرت في عصر الأنوار مع كتاب فولتير «بحث في التسامح» الذي صدر عام 1763. ثم تبعه هيغل عام 1800 في كتابه «دستور ألمانيا»، مبيّنًا مناقضة الوعي العُصباني لمفهوم دولة المواطنة أو المدنيّة الحديثة.
حاربت الثورة الفرنسية مفهوم العصبيّات المقعّر في التاريخ السياسي للبشرية وقدمت كبديل له، مفهوم المواطنة أو المدنيّة الحديثة. وقد عمّ هذا المفهوم العديد من دساتير البلدان عبر العالم؛ غير أنه لم يتمكّن من اختراقها واختراق مجتمعاتها على نحو كامل ونهائي.
لذلك لا تزال دول كثيرة تعيش بشكل معلن أو غير معلن على وقع عصبيّاتها الدفينة التي تستفيق كالبراكين من حين إلى آخر، في لبنان أو اليمن أو ليبيا أو إسبانيا أو رواندا من دون سابق إنذار في نهاية القرن الماضي وبداية القرن الحالي، أو في النصف الأول من القرن الماضي في ألمانيا النازية وإسبانيا الجنرال فرانكو.
● في مبحث مهم لها في مجلة «فورين أفيرز» الأميركية (عدد يوليو 2018) تتحدث الباحثة الأميركية آمي تشوا عن أنّ الهويات العصبيّة الانكفائية أصبحت تهدد الأمة الأميركية نفسها؛ فالقاعدة الانتخابية التي صوتت للرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، هي نمط من «القبيلة البيضاء» تنتمي إلى أميركا العميقة التي بدأت تستشعر الخطر عليها من داخل التركيبة الأميركية المتنوعة نفسها، ومن خارجها بالطبع... ما تعليقك؟
- هذا ما كنت أشير إليه للتو، وقد فصّلته في كتابي «التقدم الحضاري العربي المعصوب»، حيث بيّنت فيه كيف أنّ العصبيّة مغروسة في عمق لاوعينا الجيني، وهي على أتم الاستعداد للظهور مجددًا، على سطح وعينا، أينما كان في العالم، ومن ضمن ظروف تلائمها.
في العالم العربي والشرق الأوسط وإفريقيا وبعض آسيا، النفوس والدساتير تتيح ذلك؛ فلا نستغربنّ هبّة البوذيين ضد الروهينغا من هنا، وصدامًا بين الهند وباكستان في كشمير من هناك، وصراعًا بين قبائل بنغازي وقبائل طرابلس في ليبيا، أو فلتانًا عصبيًّا في مالي... إلخ.
لكن ما يثير التعجّب فينا، هو هبّات العصبيّة لدى بعض الأحزاب الشعبوية في النمسا والدنمارك وفرنسا وألمانيا، كونها تجاهر بشعارات غير ديمقراطية، بل عنصرية في الصميم، ونتساءل بخشية تبعًا لذلك: ما الذي يحصل هناك؟ لماذا باتوا يشبهوننا في سلوكهم السياسي العُصباني، فيما كنا نظن أنهم قد انتقلوا نهائيًا إلى ضفة المجتمعات الديمقراطية المتسامحة؟
في الحقيقة، توصلت في أبحاثي إلى نتيجة خطيرة ومفادها أن العصبيّة كنظام تفكير وسلوك سياسي، لا تموت، بل إنها تلجأ إلى أحد أسلوبين:
الأول، إما أنها تنكفئ ظاهريًا عن المشهد العام فتغوص في عمق النسيج الاجتماعي والثقافي لجماعاتها، وتبقى تعيش وتتمدد جذوريًا تحت الأرض، بعيدًا عن الأنظار والمساءلة، حتى تشعر بالخطر المصيري على وجودها فتنتفض سياسيًا كـ «القبيلة البيضاء» في أميركا المعروفة تحت تسمية «الواسب»، معلنة الحرب السياسية على أعدائها الاستراتيجيين، من ملوّنين ومكسيكيين وسواهم.
والثاني، إما أنها تدخل في شراكة «حديثة» مع عصبيّات أخرى، فتتقاسم السلطة معها في صيغة «لا غالب ولا مغلوب» فيما سمّيته «جمهوريات العصبيّة».
لكن لا أفق في الولايات المتحدة للعودة إلى أي شكل من أشكال الحرب الأهليّة تحت مسمّى «نصرة العبودية» أو نصرة «القبيلة البيضاء»، ذلك أن الدستور الأميركي، والنظام القضائي، ومصلحة السواد الأعظم من المجتمع الأميركي المتنوّع الراهن، لم يعد يسمح بانتشار وباء عصبيّة «الواسب»، بل إن القبيلة البيضاء في أميركا معزولة فيما يشبه كرنتينا ديمقراطية عميقة الأساسات وشاهقة الأسوار.
لذلك لا أوافق الآراء الكثيرة التي بدأت تظهر في الآونة الأخيرة، عربيًّا ودوليًّا، والقائلة بأن الولايات المتحدة الأمريكية ستشهد انقسامات جديدة حادة، تفضي إلى حروب أهلية متنقلة يكون من نتائجها تفكك المجتمع الأمريكي وانهيار الدولة المركزية الأمريكية.
● وما هو تفسيرك التحليلي لصعود وطغيان النزعات الشعبويّة في أوربا برافديها اليميني واليساري منذ سنوات؟ هل نحن أمام هويّات قبليّة جديدة في العالم تقضي على منجزات الثورة الأنوارية الكبرى التي شهدتها تلك القارة، ومعها الغرب كله، انطلاقًا من فرنسا؟
- لا تستطيع الشعوب أن تمحو تاريخها، لا الماضي، ولا الحديث. إنها تتعامل معه على نحو تفاعليّ حتى تحصل على ما يسمونه بلغة الإبستيمولوجيا بـ «عمليات قطع معرفية».
تتميز المجتمعات التقليدية والـ «نيو/ تقليدية» (التي نحن منها) أنها لم تشهد عمليات قطع إبستيمولوجيّة منذ الأزمنة الغابرة. لذلك فإن حاضرها هو على صورة ماضيها، وتراثها الماضي هو دستور حياتها المعاصرة. وهذا مشهد نلمسه بأمّ العين أينما عاينّا وتفرّسنا في بلدان العالم العربي والشرق الأوسط دونما استثناء، بما فيها إيران والكيان الصهيوني وتركيا التي تدّعي التحوّل إلى دولة حديثة لمجرد أنها تبنّت التكنولوجيا الغربية.
لكن تجربة البلدان الغربية الحديثة لا تقتصر على ثورتها الصناعية وابنتها الثورة التكنولوجية الراهنة، بل إنها قامت على ثورة أولى، هي النهضة الأوربية، كثورة ثقافية وضعت الإنسان في صلب فكر وحياة كانا يتمحوران قبل ذاك حول الغيبيّات؛ ثم بعد قرنين من الزمن أطلقت الثورة الفرنسية الظافرة أنموذجًا إرشاديًا سياسيًا جديدًا أدى إلى نشر دولة المواطنة المدنيّة الحديثة.
لذلك، فإنّ الإنسان الأوربي الغربي، هو اليوم محصّلة لثورات ثلاث؛ ثقافية وسياسية وعلمية. وهو لا يستطيع معرفيًّا أن يعود إلى الوراء لكسر هذه القواعد في نمط التفكير والحياة التي بذل في سبيلها تضحيات لا تُحصى عبر التاريخ.
قد يقوم بمراجعة بعض ما أفرزته من أفكار، مثل كونيّة الإنسان على قاعدة أنموذج الإنسان الغربي (وهو يفعل ذلك) أو موقفه من التعددية الثقافية التي كان يضم إليها أوجه الاختلاف الإثني والديني والمذهبي على حد سواء - وهو ما يحصل في أستراليا مثلًا - لكنه لن يتمكّن من قطع الجسور مع قضيّة حقوق الإنسان الفردية التي عليها بنى دساتيره وقوانينه ونظامه الحياتي برمّته.
فما تشهده بعض البلدان الأوربية من تشنّجات عنصرية لا ترقى إلى مستوى الخروج عن مبادئ الحياة الديمقراطية، بل تنبع من انزعاج سياسي مبرر، في نظر مواطنيها، من مهاجرين وافدين جرى الاهتمام بهم سكنيًا ومعيشيًا، ثم تركهم يفرضون نظام حياتهم وتفكيرهم المغلق والبائد على مضيفيهم. وقد لمست ذلك ميدانيًا خلال زيارات عديدة لي إلى أوربا. لذلك ليس مصادفة، وكما تشير إليه أنت في سؤالك، من أن الشعبويات الرافضة تضمّ أحزابًا يمينية ويسارية على السواء، الأمر الذي يعني أن نزعات التعصبّ هذه انفعالية، وستزول بزوال أسبابها.
● يرى البعض أن أخطر ما توصلنا إليه حتى اليوم في عالمنا العربي المعاصر، هو هذا الدمج القسري للأفكار الديمقراطية والحداثوية في تربة العصبيّات الكامنة والمستنفرة، الأمر الذي ضرب ويضرب في النتيجة كل ما بنيناه من طرائق تفكير وتخطيط وتحديث لمجتمعاتنا النامية... عدنا إلى نقطة الصفر على ما يبدو، وربما إلى أسوأ من نقطة الصفر... ما تعليقك؟
- في اعتقادي أن الوصف المناسب سوسيولوجيًّا للمجتمعات العربية المعاصرة، هو أنها بحسب المثل اللبناني المتداول: «مجتمعات لا مع جدّها بخير ولا مع جدّتها بخير». بمعنى أنها مجتمعات لا تنتمي إلى الزمن المعرفي الحالي، فيما هي تعجز عن الانتماء إلى زمنها المعرفي الماضي. وهذه الظاهرة تسمى في علم الاجتماع
بـ «الأنوميا». ففي الزمن الأنومي نكون في وِضعية لامعيارية، أي في حالة وجدانية خسرنا فيها أبرز ما كنا نعتمده من معايير وأنظمة حياة، بسبب زلزال سياسي كبير أو حرب مدمرة، من دون أن تلوح في الأفق طبيعة المعايير الجديدة التي علينا أن نتبناها لبناء أسس حياتنا الجديدة، فالماضي يكون قد ذهب من دون أن يظهر، في المقابل، المستقبل.
دخل العالم العربي بعد الحرب العالمية الأولى في هذه الحالة، حيث إن زوال السلطنة العثمانية لم يشكّل نكسة سياسية كبرى فحسب (لا نندم عليها بتاتًا)، بل صدمة جرحيّة حضارية كبرى.
ما الذي حصل بعد ذلك؟... في أفضل الأحوال حصلت عمليات دمج. والدمج عند «ابن منظور» من فعل دَمَجَ، الذي يعني حشر حشرًا شيئًا في أصل ليس منه، حيث قمنا بالاحتفاظ بعصبيّاتنا (العرقية في السودان، وقد أدت إلى انقسامه، والإثنية في شمال إفريقيا والمذهبيّة في لبنان وسورية والعراق، والدينية في عديد من البلدان الأخرى) في دساتيرنا وقوانيننا وثقافاتنا الشعبية، ثم حشرنا فيها مجموعة من التحديثات الاستنسابية في المجالين الصناعي والتكنولوجي، معتبرين أن عملية الدمج هذه ستنجح وتدوم.
لكننا اليوم بتنا ندرك أن الدمج لا يدوم، وأن التكامل الحقيقي، الإنساني والحضاري العربي المنشود، لن يحصل طالما أن كل جماعة من جماعاتنا تخفي عصبيّتها في وعيها، كما في لاوعيها الجمعي، متلذذة بها ومدللة إياها، ومتناسية أنه طالما أن هذه الجماعة تستولد عصبيّتها، ستقوم الجماعة المقابلة باستنبات عصبيّتها هي أيضًا، الأمر الذي يعني:
- أن الحرب الأهلية تبقى كامنة في الأذهان وجيّاشة في النفوس وجاهزة للاشتعال.
- أن عملية الدمج بين معايير العصبيّة ومعايير دولة المواطنة المدنيّة لا تصحّ.
- أنه لا بدّ من محو العصبيّة قبل محو الأميّة كي يصحّ التكامل المنشود.
 نهضة نوايا لا نهضة إنجازات
● كلنا يعلم أن ابن خلدون تحدّث عن مسألة العصبيّة في العمق، خصوصًا لناحية أصولها ودواعيها ونتائجها، ولكن على ما يبدو، فإنّ جلّ رجال النهضة العرب الذين أتوا بعد صاحب «المقدمة» بقرون، كانوا غافلين عن تقديم العلاج المناسب لآفة العصبيّة في مجتمعاتهم... ما تعليقك؟
- لا تعوّل كثيرًا على مسألة النهضة في بلادنا يا صديقي؛ فهي كانت نهضة نوايا لا نهضة إنجازات. أنظر إلى أبرز أعمالها مثلًا، وأعني «دائرة المعارف» التي أشرف عليها المعلّم الكبير بطرس البستاني، وقارنها بالإنسيكلوبيديا الفرنسيّة التي أشرف عليها الفيلسوف دنيس ديدرو، فالفضل في ظهور دائرة المعارف العربية (1876 - 1900) يعود إلى شخص أساسي واحد، هو بطرس البستاني الذي كتب جميع موادها، كنابغة، مستلهمًا مقالًا من هنا، ومادة من هناك، ومعتمدًا على ترجمة مضمونها إلى لغة الضاد.
أما إنسيكلوبيديا ديدرو، فكانت مشروعًا فكريًا جماعيًّا أسهم فيه أكثر من 160 كاتبًا بمواد أصيلة أنتجها كل واحد منهم من علمه وتجربته. ومن الذين شاركوا: فولتير ورسو وبوفون ودالمبير ودوبنتون ودولباك وديدرو، وكلهم فلاسفة وعلماء. ولا بدّ من التذكير هنا بأن الموسوعة الفرنسيّة كانت تحمل عنوانًا واسعًا وملزمًا، إذ قدّمت نفسها على أنها «قاموس مُعقلن للعلوم والفنون والصناعات».
اكتفت دائرة المعارف بأن تكون موسوعة أدبية نقليّة، في حين أن الإنسيكلوبيديا الفرنسية (1751 - 1772) كانت مشروعًا فلسفيًا طليعيًا وينبئ بقدوم الثورة الفرنسية، كما الثورة الصناعية.
إضافة إلى ذلك، فإنّ تمويل الإنسيكلوبيديا الفرنسية جاء عبر اكتتابات دفع كل راغب باقتنائها مسبّقًا ثمن مجلدات العشر الأولى منها. بدأ عدد المكتتبين عام 1751 بألف ومئتي مكتتب، ثم سرعان ما ارتفع عام 1757 إلى أربعة آلاف ومئتين من كل أنحاء أوربا.
أما دائرة المعارف، فقد كانت تعتمد في تمويل إصداراتها على الخديوي إسماعيل في مصر. لكن أبرز ما في تجربة الإنسيكلوبيديا، أنّ ملك فرنسا، غداة صدور الجزء الثاني منها، المتضمن مقالًا في المعتقد الديني الطبيعي، أمر بمنع صدورها، فتوقف نشرها بناء لضغط مستشاري الملك المحافظين والقريبين من السلطة الكنسيّة، لكنّ ضغطًا شعبيًا مضادًا سمح عام 1753، أي بعد سنة واحدة، بمتابعة صدورها.
هذا يعني أن فلاسفة الأنوار كانوا فعلًا أصحاب مشروع تنويري حقيقي، فاحتضنهم جمهور واسع، ودافع عنهم، فجاءت النتيجة جريئة ومجدّدة بكل المعايير.
أما المشروع النهضوي عندنا، فجاء باهتًا ونقليًا ومحتضنًا من السلطة، حيث إنه لم يجرؤ على تقديم جديد محليّ، ولا على تعميم البحث العلمي، ولا على المساس بالتراث الفكري والمعتقدي والعصبيّات، فطوّب ما كان قائمًا، ولم يعمل على أي قطع إبستيمولوجي عربي. لذلك أخفقت النهضة، وأضعنا بعدها قرنًا ونصف القرن في انتظار نتائج لم يعمل فعليًا على استيلادها.

وداعًا للعصبيّة
● في القسم الثاني من كتابك «مجتمعات ودول العصبيّات... إلى أين؟» انتقلت بقارئك إلى فضاء التفاؤل تحت عنوان «وداعًا للعصبيّة». وتحدثت عن شعوب ودول نشأت على أعراف عصبيّة مستحكمة، نجحت في تجاوز ما هي عليه، مثل اليابان وجنوب إفريقيا وماليزيا وسنغافورة... فهل أنت واثق بأن هذه الدول أو بعضها، على الأقل، لن يعود ثانية إلى زمن العصبية؟ 
- في المجال الإنساني، البشر هم من يختلق المشكلات، والبشر أنفسهم هم أيضًا من يجد حلولًا لها؛ فالإنسان يبني ما يشاء، لكنه أيضًا يهدم ما يشاء.
احتاجت البشرية، كما أشرت في البداية، في الأزمنة الغابرة، إلى نظام أمني تعاضدي يساعدها على تأمين بقائها، فابتدعت العصبيّة كأول منظومة تفكير وسلوك سياسية وعاشت عليها آلاف السنين في إطار عائلات ممتدة صغيرة، ثم عشائر، ثم قبائل، ثم بطون، ثم ممالك، ثم إمبراطوريات، ثم دول للعصبيّة متطورة نسبيًا.
إلا أن العصبيّة لم تكن أبدًا قدرًا محتومًا على أحد. لذلك، وفي لحظة تاريخية معيّنة، قرر الثوار الفرنسيون، أبناء عصر الأنوار عام 1789 أن يبتدعوا منظومة تفكير وسلوك سياسية جديدة عُرِفت بدولة المواطنة المدنيّة، أي نظام الشأن العام، حيث إن دولة العصبيّة ما كانت عبر تجلياتها المختلفة سوى نظام للشأن الخاص عبر التاريخ.
وعلى خطى النموذج الإرشادي الديمقراطي والمواطني المدني الفرنسي، حصلت تحوّلات في العديد من البلدان، بدأت المسألة في القارة الأوربية، ثم انتقلت إلى القارة الأمريكية، شمالًا وجنوبًا، ولم تصل رياح التغيير الحقيقية إلى القارة الآسيوية، إلا بعد الحرب العالمية الثانية، فيما بلغت جنوب القارة الإفريقية في نهاية القرن العشرين.
صحيح أن الأمور لم تتغيّر في اليابان، ولم تقلع البلاد عن عصبيّتها العتيدة إلا بعدما أعاد الأمريكيون كتابة الدستور الياباني الجديد؛ لكن الأمور نجحت، لأن أهل اليابان أدركوا أن عليهم التخلي عن عصبيّة إمبراطورية قومية لطالما سببت دمارهم. وها هم اليوم يتمسكون بديمقراطيتهم وغير راغبين بالعودة إلى الماضي العُصباني. والأمر يصح أيضًا بالنسبة إلى الصين، حيث حصل أيضًا التخلي القسري عن دولة العصبيّة بضغط من حزب سياسي شيوعي شديد التنظيم عام 1949.
في دولة جنوب إفريقيا، وبضغط داخلي وخارجي على السواء، تخلت دولة «القبيلة البيضاء» رغمًا عنها، لكن دستوريًا، عن عصبيّتها العرقية التأسيسية؛ والأمور ذاهبة في الاتجاه الصحيح سنة بعد سنة، على الرغم من رواسب التعصّبات.
بيد أن أجمل مثال هو ذلك الذي قدّمته سنغافورة التي سبك قادتها وشعبها دولة حديثة بعقولهم وأياديهم، أضحت اليوم نموذجًا يحتذى بين دول العالم قاطبة، خصوصًا الجديدة منها.

بين العصبيّة الوطنية والعصبيّات الأخرى
● كيف يمكننا - برأيك - التفريق بين العصبيّة الوطنية بمعنى الولاء للوطن وبين العصبيّات الأخرى من إثنية وقبليّة ودينيّة متطرّفة... إلخ؟
- ليس هناك شيء اسمه عصبيّة وطنية، بمعنى حب الوطن والانتماء الشديد إليه؛ فالحسّ الوطني، مهما كان قويًا، فإنه لا يستعدي أحدًا، ولا يطمع بالاستيلاء أو الهيمنة على بلد آخر يكون وطنًا لأناس آخرين.
الروح الوطنية جميلة وشاملة وموجودة في مختلف البلدان، الحديثة النظام السياسي منها، كما التقليدية في توجهاتها. 
باختصار، حب الوطن شعور مشروع ونبيل ينبع من غِيرة على أن تكون، مثلًا، بلادي أفضل البلدان وأجملها. لذلك ينبغي التنبّه إلى ما نسمّيه، في التحليل السوسيولوجي، وزن الكلمات. فلكل كلمة وزنها ومعناها ومضمونها. من هنا فإن «الكيلت» (الإزار) السكوتلندي ليس تنورة قصيرة، بل لباس ذكوري بامتياز في بلاده، حيث يبيّن صلابة وقوة الساقين عند الرجل.
طوال السنوات الماضية سعيت لشرح طبيعة العصبيّة ومكوّناتها كنظام تفكير وسلوك بائد لا يعرف التسامح، في مقابل محبة الوطن التي تنتمي إلى أفق نفسي/ اجتماعي مختلف تمامًا من دون أطماع سياسية، حتى أني بيّنت أن ثمة فارقًا نوعيًّا بين العصبيّة الدينية والعصبية المذهبية.
آن لنا، في اعتقادي، أن ندرك المسؤولية التي نتحمّلها لدى استخدامنا لهذا المفهوم أو ذاك؛ فلا يليق بنا أن يكون قسمٌ كبير من مجتمعنا خارج فضاء المسؤولية المعرفية الجدية العامة، والبناء عليها، وحتى نقدها أيضًا. 
لا يجوز أن تبقى الأجيال العربية كافة، ومنذ أكثر من نصف قرن، غائبة عن معاني المفاهيم التي نستخدمها في حياتنا اليومية والعملية، ومفهوم العصبية أخطرها وأخبثها.
فالعصبيّة الدينية ليست من الدين في شيء، والعصبيّة القومية المتزمتة ليست من القومية الحضارية والمنفتحة في شيء أيضًا.
لذلك أشكرك على سؤالك هذا الذي تضمّن استفسارًا وسبرًا مهمًّا، أخذنا بعيدًا وأعادنا من حيث لا ندري إلى الأساسيات والبديهيات... أَوَلَيس هذا ما كان يفعله جدّنا سقراط، أبو العقلانية من زمان؟! ■

 

 

 

د. فريدريك معتوق في حفل مؤسسة الفكر العربي متوجًا بجائزة الإبداع العربي 2017 لأهم كتاب «صدام العصبيات العربية»