الأنموذج الشِّعري تشكُّله وتحكُّمه بالشعر العربي

الأنموذج الشِّعري تشكُّله وتحكُّمه بالشعر العربي

عرف الشعر العربي، في مسار تطوُّره، ظاهرة تحكُّم أنموذج شعريٍّ به، يتحدَّث عنها بعض الباحثين، فيقول «إنَّ مقاييس أزليَّة جعلت الشعر الجاهلي أنموذجًا يتحكَّم بالإنتاج الشعري، على مرِّ التاريخ الثقافي العربي، إلى درجة تحوَّلت فيها هذه المقاييس إلى سلطة تكتسب قوَّة المعيار والقانون الخالد» (انظر، على سبيل المثال، محمد الجابري، تكوين العقل العربي، بيروت؛ دار الطليعة، 1984، ص. 96).
تبدو هذه الرؤية شاملة، وشديدة العمومية؛ الأمر الذي يُفقد أحكامها الدقَّة والموضوعيَّة، إذ إنَّ هذه الأحكام المطلقة العامة تشمل أربعة عشر قرنًا من الإنتاج الشعري الذي كثُر فيه الإبداع والاتّباع في الوقت نفسه، مما يقتضي التمييز بينهما وإصدار الأحكام المبنيَّة على دراسات نقدية تزامنيَّة وتطوُّرية.

ما‭ ‬نودُّ‭ ‬التحدُّث‭ ‬عنه،‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المقالة‭ ‬القصيرة،‭ ‬هو‭ ‬تفسير‭ ‬نشأة‭ ‬هذه‭ ‬الظاهرة‭ ‬وتكوُّنها،‭ ‬وبيان‭ ‬حدود‭ ‬تحكُّم‭ ‬أنموذج‭ ‬الشعر‭ ‬الجاهلي‭ ‬بالشعر‭ ‬العربي‭.‬

‭ ‬أمَّا‭ ‬حركات‭ ‬الخروج‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الأنموذج،‭ ‬فالحديث‭ ‬عنها‭ ‬يطول،‭ ‬وهي‭ ‬كثيرة،‭ ‬ولم‭ ‬تنقطع‭ ‬طوال‭ ‬تاريخ‭ ‬الشعر‭ ‬العربي‭.‬

نحاول‭ ‬تفسير‭ ‬نشأة‭ ‬هذه‭ ‬الظاهرة‭ ‬من‭ ‬منظور‭ ‬مفاده‭ ‬أنَّ‭ ‬التجربة‭ ‬الحياتية‭ ‬الشعرية‭ ‬التاريخية‭: ‬السياسية‭ ‬الاقتصادية‭ ‬الاجتماعية‭ ‬الثقافية،‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬تملي‭ ‬النَّصَّ‭ ‬الشعري‭ ‬الذي‭ ‬يتخذ‭ ‬موقعًا‭ ‬في‭ ‬البناء‭ ‬المجتمعي‭ ‬يؤدِّي‭ ‬منه‭ ‬دورًا،‭ ‬تمكِّنه‭ ‬من‭ ‬أدائه‭ ‬فاعليته‭ ‬الجمالية‭ ‬الدلالية‭.‬

فما‭ ‬هي‭ ‬هذه‭ ‬التجربة‭ ‬التاريخية‭ ‬التي‭ ‬أملت‭ ‬هذه‭ ‬الظاهرة؟

في‭ ‬الإجابة‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬السؤال‭ ‬نقول‭: ‬حدث،‭ ‬في‭ ‬أواخر‭ ‬العصر‭ ‬الجاهلي،‭ ‬تحوُّلٌ‭ ‬تاريخي‭ ‬تتحدَّث‭ ‬عنه‭ ‬كتب‭ ‬التاريخ،‭ ‬ويمكن‭ ‬لقول‭ ‬الحطيئة‭ ‬الاَتي‭ ‬الدلالة‭ ‬عليه‭: ‬‮«‬لقد‭ ‬جُعت‭ ‬حتى‭ ‬أكلت‭ ‬النَّوى‭ ‬المحرّق،‭ ‬وقد‭ ‬مشيت‭ ‬حتى‭ ‬انتعلت‭ ‬الدم،‭ ‬حتى‭ ‬تمنيت‭ ‬أنَّ‭ ‬وجهي‭ ‬حذاء‭ ‬لقدمي‭ ...‬‮»‬،‭ (‬التكسب‭ ‬بالشعر‭ ‬لجلال‭ ‬خياط،‭ ‬ص‭. ‬15‭).‬

‭ ‬أفضى‭ ‬هذا‭ ‬التحول‭ ‬المتمثل‭ ‬بتمركز‭ ‬الثروة‭ ‬في‭ ‬أيدي‭ ‬طبقة‭ ‬معيّنة‭ ‬إلى‭ ‬تكسُّب‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الشعراء،‭ ‬وغدوِّ‭ ‬التكسُّب‭ ‬ظاهرة‭ ‬ملموسة،‭ ‬وإلى‭ ‬أن‭ ‬يقول‭ ‬الشعراء‭ ‬المتكسِّبون‭ ‬على‭ ‬لسان‭ ‬الحطيئة‭ ‬لمن‭ ‬يطلب‭ ‬منهم‭ ‬ترك‭ ‬التكسُّب‭: ‬‮«‬إذًا‭ ‬يموت‭ ‬عيالي‭ ‬جوعًا،‭ ‬هذا‭ ‬مكسبي،‭ ‬ومنه‭ ‬معاشي‮»‬‭ (‬الأغاني،‭ ‬2‭/ ‬186‭)‬،‭ ‬ثم‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يقول‭ ‬الفرزدق‭ ‬في‭ ‬عصرٍ‭ ‬تالٍ‭: ‬‮«‬الدنيا‭ ‬مطلوبة،‭ ‬وهي‭ ‬في‭ ‬أيدي‭ ‬بني‭ ‬أميَّة‮»‬،‭ ‬وإلى‭ ‬أن‭ ‬يجيب‭ ‬عندما‭ ‬سُئل‭ ‬عن‭ ‬تقلُّب‭ ‬مواقفه‭ ‬بين‭ ‬أصحاب‭ ‬السلطان‭: ‬‮«‬نكون‭ ‬مع‭ ‬الواحد‭ ‬منهم‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬الله‭ ‬معه،‭ ‬فإذا‭ ‬تخلَّى‭ ‬عنه‭ ‬انقلبنا‭ ‬عليه‮»‬‭ (‬راجع‭: ‬الأغاني،‭ ‬3‭/ ‬393‭ ‬و399‭). ‬

هذا‭ ‬القول،‭ ‬كما‭ ‬يُلاحظ،‭ ‬يربط‭ ‬ما‭ ‬يقوم‭ ‬به‭ ‬الشاعر‭ ‬بإرادة‭ ‬الله،‭ ‬ويجعل‭ ‬منه‭ ‬طاعةً‭ ‬له‭. ‬

أدَّى‭ ‬هذا‭ ‬الموقف‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬تسميته‭ ‬بالاحتراف‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يلبث‭ ‬أن‭ ‬غدا‭ ‬ظاهرة‭ ‬سائدة،‭ ‬والاحتراف‭ ‬الشعري‭ ‬هو‭ ‬توظيف‭ ‬الشاعر‭ ‬قوَّة‭ ‬عمله‭ ‬الشعرية‭ ‬في‭ ‬خدمة‭ ‬السلطان‭ ‬القائم‭: ‬مَن‭ ‬كان‭ ‬الله‭ ‬معه،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬الصدور‭ ‬عن‭ ‬التجربة‭ ‬الذاتية‭ ‬الخاصة،‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الدنيا‭ ‬المطلوبة،‭ ‬وهي‭ ‬في‭ ‬أيدي‭ ‬السلطان‭.‬

ولعلَّ‭ ‬بيت‭ ‬جرير‭ ‬الاَتي‭ ‬يعبِّر‭ ‬خير‭ ‬تعبير‭ ‬عن‭ ‬العلاقة‭ ‬التي‭ ‬قامت‭ ‬بين‭ ‬الشاعر‭ ‬والسلطان،‭ ‬قال‭ ‬جرير‭:‬

سأشكر‭ ‬أن‭ ‬رَدَدْتَ‭ ‬عليَّ‭ ‬ريشي

وأنبتَّ‭ ‬القوادمَ‭ ‬في‭ ‬جناحي

فالسلطان‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬يكسو‭ ‬الشاعر‭/ ‬الطائر‭ ‬ريشه،‭ ‬فيطير‭ ‬شاكرًا‭/ ‬مغرِّدًا‭ ‬في‭ ‬خدمة‭ ‬مشروعه‭ ‬السياسي‭.‬

بغية‭ ‬بيان‭ ‬مدى‭ ‬توظُّف‭ ‬الشاعر‭ ‬في‭ ‬خدمة‭ ‬السلطان،‭ ‬نسأل‭: ‬هل‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬ينشط‭ ‬طائر‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬ريش؟‭! ‬والجواب‭ ‬هو‭: ‬ما‭ ‬كان‭ ‬ليكون‭ ‬طائرًا‭ ‬لو‭ ‬غدا‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬ريش،‭ ‬مما‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬السلطان‭ ‬يعطيه‭ ‬هويَّته‭ ‬وفاعليته،‭ ‬وقد‭ ‬يكون‭ ‬الخبر‭ ‬الآتي‭ ‬ذا‭ ‬دلالة‭ ‬بالغة‭ ‬على‭ ‬موقع‭ ‬الشاعر‭ ‬المحترف‭ ‬ودوره‭ ‬في‭ ‬البناء‭ ‬المجتمعي،‭ ‬وخصوصًا‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬أجهزة‭ ‬السلطان‭. ‬

جاء‭ ‬في‭ ‬‮«‬طبقات‮»‬‭ ‬ابن‭ ‬سلام‭: ‬فوفد‭ ‬الحجاج‭ ‬على‭ ‬عبدالملك‭...‬،‭ ‬فأهدى‭ ‬إليه‭ ‬‮«‬جريرًا‮»‬‭ ‬والسلطان،‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬معروف،‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬الحاكم‭ ‬السياسي‭ ‬فحسب،‭ ‬وإنما‭ ‬كان‭ ‬يتحكَّم،‭ ‬اَنذاك،‭ ‬بالإنتاج‭ ‬وتوزيعه،‭ ‬في‭ ‬إجراء‭ ‬عُرف‭ ‬باسم‭ ‬‮«‬العطاء‮»‬‭. ‬

كان‭ ‬السلطان‭ ‬يريد‭ ‬من‭ ‬الشاعر‭ ‬أن‭ ‬يقود‭ ‬الناس‭ ‬إعلاميًا،‭ ‬فيتوجه‭ ‬إليهم‭ ‬بخطابٍ‭ ‬يعتمد‭ ‬أنموذجًا‭ ‬شعريًا‭ ‬مقبولًا‭ ‬ورائجًا،‭ ‬بغية‭ ‬أن‭ ‬ينتشر‭ ‬هذا‭ ‬الخطاب‭ ‬ويؤثر‭. ‬والشاعر،‭ ‬محترف‭ ‬التكسب،‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يستطيع‭ ‬أن‭ ‬يبدع‭ ‬أنموذجًا‭ ‬جديدًا‭ ‬تمليه‭ ‬تجربته‭ ‬الوجدية‭ ‬الذاتية‭ ‬الخاصة،‭ ‬لأنّه‭ ‬فقد‭ ‬هذه‭ ‬التجربة،‭ ‬وارتهن‭ ‬إلى‭ ‬تجربة‭ ‬أخرى‭ ‬أملت‭ ‬عليه‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬مرتَهَنًا‭ ‬للسلطان،‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬الخطاب،‭ ‬وإلى‭ ‬الرأي‭ ‬العام،‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬شكل‭ ‬الأنموذج‭ ‬الشعري‭.‬

فما‭ ‬هو‭ ‬هذا‭ ‬الشكل؟‭ ‬ولماذا‭ ‬تم‭ ‬اختياره؟

كان‭ ‬السلطان،‭ ‬آنذاك،‭ ‬عربيًا،‭ ‬وكانت‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬عاملًا‭ ‬أساسًا‭ ‬في‭ ‬بسط‭ ‬سلطانه،‭ ‬ويروى‭ ‬أن‭ ‬الخليفة‭ ‬عبدالملك‭ ‬بن‭ ‬مروان‭ ‬قال‭ ‬لمَّا‭ ‬لاحظ‭ ‬أن‭ ‬ابنه‭ ‬الوليد‭ ‬يلحن‭: ‬‮«‬لا‭ ‬ينبغي‭ ‬أنّ‭ ‬يلي‭ ‬أمر‭ ‬العرب‭ ‬إلّا‭ ‬من‭ ‬يتكلم‭ ‬بكلامها‮»‬‭ (‬تاريخ‭ ‬النحو‭ ‬لسعيد‭ ‬الأفغاني،‭ ‬ص‭. ‬15‭)‬،‭ ‬فعمل‭ ‬الوليد‭ ‬على‭ ‬تقويم‭ ‬لسانه‭.‬

فرضت‭ ‬أهمية‭ ‬إجادة‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬وإتقانها،‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬العصر،‭ ‬اهتمامًا‭ ‬كبيرًا‭ ‬بالشعر‭ ‬الجاهلي،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬بمنزلة‭ ‬المعجم‭ ‬اللغوي،‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬المرحلة،‭ ‬وكان‭ ‬هذا‭ ‬سببًا‭ ‬من‭ ‬الأسباب‭ ‬التي‭ ‬أدت‭ ‬إلى‭ ‬إحيائه‭ ‬وسيطرته‭. ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬هذا‭ ‬السبب‭ ‬الوحيد،‭ ‬في‭ ‬حدوث‭ ‬هذا‭ ‬الأمر،‭ ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬هناك‭ ‬أسباب‭ ‬أخرى‭ ‬لا‭ ‬تقلُّ‭ ‬أهمية‭ ‬عنه،‭ ‬منها‭:‬

1‭ - ‬استخدام‭ ‬العلماء‭ ‬الشعر‭ ‬الجاهلي‭ ‬في‭ ‬فهم‭ ‬النص‭ ‬القرآني‭ ‬وتفسيره،‭ ‬وبيان‭ ‬إعجازه‭.‬

2‭ - ‬استخدام‭ ‬هذا‭ ‬الشعر‭ ‬في‭ ‬التأديب،‭ ‬التربية‭ ‬والتعليم‭ ‬بلُغة‭ ‬أيامنا،‭ ‬فقد‭ ‬اختار‭ ‬المؤدِّبون‭ ‬نصوصًا‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الشعر،‭ ‬واستخدموها‭ ‬في‭ ‬تأديب‭ ‬النشء،‭ ‬وهذا‭ ‬هو‭ ‬السبب‭ ‬الذي‭ ‬جعل‭ ‬هذه‭ ‬المختارات‭ ‬متلائمة‭ ‬مع‭ ‬منظومة‭ ‬القيم‭ ‬العربية‭ ‬الإسلامية،‭ ‬لأنّ‭ ‬اختيارها‭ ‬تمّ‭ ‬من‭ ‬منظور‭ ‬هذه‭ ‬القيم،‭ ‬ولعلَّ‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬لم‭ ‬يلحظ‭ ‬هذه‭ ‬المسألة‭ ‬عندما‭ ‬رأى‭ ‬أنَّ‭ ‬ما‭ ‬وصلنا‭ ‬من‭ ‬الشعر‭ ‬الجاهلي‭ ‬يمثّل‭ ‬منظومة‭ ‬القيم‭ ‬الإسلامية،‭ ‬ولهذا‭ ‬كانت‭ ‬هذه‭ ‬الخصيصة‭ ‬أحد‭ ‬أسباب‭ ‬شكِّه‭ ‬بالشعر‭ ‬الجاهلي‭. ‬

3‭ - ‬استخدام‭ ‬هذا‭ ‬الشعر‭ ‬في‭ ‬تأسيس‭ ‬العلوم‭ ‬العربية‭: ‬نحو‭ ‬وصرف،‭ ‬وضع‭ ‬معاجم،‭ ‬بلاغة،‭ ‬نقد‭ ‬أدبي،‭ ‬عروض‭...‬،‭ ‬فقد‭ ‬حرص‭ ‬العلماء‭ ‬على‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬نماذج‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الشعر‭ ‬لوضع‭ ‬هذه‭ ‬العلوم‭.‬

أدت‭ ‬هذه‭ ‬العوامل‭ ‬إلى‭ ‬رواج‭ ‬الشعر‭ ‬الجاهلي،‭ ‬ولمّا‭ ‬كانت‭ ‬تجربة‭ ‬الشاعر‭ ‬محترف‭ ‬التكسب‭ ‬تتمثّل‭ ‬في‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬أنموذج‭ ‬شعري‭ ‬رائج‭ ‬يصبُّ‭ ‬فيه‭ ‬معانيَ‭ ‬محدَّدة‭ ‬سلفًا،‭ ‬ولمّا‭ ‬كان‭ ‬السلطان‭ ‬يريد‭ ‬لخطابه‭ ‬أن‭ ‬ينتشر‭ ‬ويؤثّر،‭ ‬كان‭ ‬اختيار‭ ‬أنموذج‭ ‬الشعر‭ ‬الجاهلي‭ ‬قالبًا‭ ‬يتضمن‭ ‬خطاب‭ ‬المديح‭ ‬السياسي‭.‬

وقد‭ ‬أدَّى‭ ‬هذا‭ ‬إلى‭ ‬تكوين‭ ‬أنموذج‭ ‬تبنَّاه‭ ‬معظم‭ ‬نقّاد‭ ‬ذلك‭ ‬العصر،‭ ‬بوصفه‭ ‬أنموذجًا‭ ‬للشعر‭ ‬الجيد،‭ ‬فيفضل‭ ‬يونس‭ ‬الأخطل‭ ‬روايةً‭ ‬عن‭ ‬علماء‭ ‬‮«‬ماشوا‭ ‬الكلام‭ ‬وطرَّقوه‮»‬،‭ ‬لأنّه‭ ‬‮«‬كان‭ ‬أكثرهم‭ ‬عدد‭ ‬طوال‭ ‬جياد،‭ ‬ليس‭ ‬فيها‭ ‬سقط‭ ‬ولا‭ ‬فُحش،‭ ‬وأشدّهم‭ ‬تهذيبًا‭ ‬لشعره‮»‬،‭ ‬فمن‭ ‬يملك‭ ‬الحكم‭ ‬بالجودة‭ ‬هم‭ ‬العلماء‭ ‬الذين‭ ‬‮«‬ماشوا‭ ‬الكلام‭ ‬وطرَّقوه‮»‬،‭ ‬أي‭ ‬العلماء‭ ‬الذين‭ ‬وضعوا‭ ‬العلوم‭ ‬العربيَّة‭.‬

لم‭ ‬يكن‭ ‬هذا‭ ‬النوع‭ ‬من‭ ‬الشعر‭ ‬نسخةً‭ ‬عن‭ ‬الشعر‭ ‬الجاهلي،‭ ‬وإنّما‭ ‬كان‭ ‬مختلفًا‭ ‬عنه‭ ‬تمام‭ ‬الاختلاف،‭ ‬وقد‭ ‬يكون‭ ‬الحطيئة‭ ‬أوَّل‭ ‬من‭ ‬أدرك‭ ‬هذا‭ ‬الاختلاف،‭ ‬وحدَّد‭ ‬الفرق‭ ‬بين‭ ‬الشعرين،‭ ‬وعبَّر‭ ‬عنه‭ ‬بلُغة‭ ‬مكثفة،‭ ‬فقال‭ ‬لدى‭ ‬المقارنة‭ ‬بين‭ ‬الشاعر‭ ‬الجاهلي‭ ‬والشاعر‭ ‬المتكسب‭: ‬‮«‬ولكن‭ ‬الضراعة‭ ‬أفسدته،‭ ‬يقصد‭ ‬الشاعر‭ ‬المتكسب‭. ‬كما‭ ‬أفسدت‭ ‬جرولًا‭ - ‬يعني‭ ‬نفسه‭ -‬،‭ ‬والله‭ ‬لولا‭ ‬الطمع‭ ‬لكنت‭ ‬أشعر‭ ‬الماضين،‭ ‬أما‭ ‬الباقون‭ ‬فلا‭ ‬شكّ‭ ‬في‭ ‬أنّي‭ ‬أشعرهم‮»‬‭. ‬يميِّز‭ ‬الحطيئة‭ ‬بين‭ ‬ماضين‭ ‬وباقين،‭ ‬ويرى‭ ‬أنَّ‭ ‬الطمع‭ ‬يمنعه‭ ‬من‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬مرتبة‭ ‬الماضين‭: ‬وهم‭ ‬الجاهليون،‭ ‬أما‭ ‬الباقون‭: ‬المتكسبون‭ ‬فهو‭ ‬أشعرهم‭.‬

كان‭ ‬شاعر‭ ‬المديح‭ ‬يحتذي‭ ‬شكل‭ ‬الأنموذج‭ ‬الجاهلي،‭ ‬ويضمِّنه‭ ‬خطاب‭ ‬السلطان،‭ ‬فيتشكل‭ ‬أنموذج‭ ‬شعري‭ ‬جديد‭ ‬محوره‭ ‬الممدوح،‭ ‬تصبُّ‭ ‬جميع‭ ‬سواقيه‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المحور،‭ ‬مما‭ ‬يتيح‭ ‬لنا‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬الوحدة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الأنموذج‭ ‬الشعري‭ ‬هي‭ ‬وحدة‭ ‬تكاملية‭ ‬تتمثّل‭ ‬في‭ ‬تعاضد‭ ‬جميع‭ ‬مكونات‭ ‬القصيدة‭ ‬لتؤدي‭ ‬غرض‭ ‬المدحية‭ ‬الأساس،‭ ‬وهو‭ ‬شخصية‭ ‬الممدوح‭ ‬ومشروعه‭ ‬السياسي‭. ‬

وشَبَه‭ ‬هذا‭ ‬الشعر‭ ‬بالشعر‭ ‬الجاهلي‭ ‬يقتصر‭ ‬على‭ ‬اتِّباع‭ ‬بعض‭ ‬حركات‭ ‬القصيدة،‭ ‬واتِّباع‭ ‬نسق‭ ‬نَظْمي‭ ‬يتمثّل‭ ‬في‭ ‬عدد‭ ‬المقاطع‭ ‬ونظام‭ ‬توزيعها،‭ ‬مما‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬الشاعر‭ ‬محترف‭ ‬المديح‭ ‬كان‭ ‬يختار‭ ‬من‭ ‬أنموذج‭ ‬الشعر‭ ‬الجاهلي‭ ‬ما‭ ‬يوائم‭ ‬تجربته‭. ‬

وكان‭ ‬شعراء‭ ‬المديح‭ ‬يجوِّدون‭ ‬شعرهم،‭ ‬قال‭ ‬الأخطل‭ ‬لعبدالملك‭: ‬‮«‬أقمت‭ ‬في‭ ‬مدحتك‭: ‬خفَّ‭ ‬القطين‭ ‬سنة،‭ ‬فما‭ ‬بلغت‭ ‬ما‭ ‬أردت‮»‬،‭ ‬وكان‭ ‬السلطان‭ ‬يُصدر‭ ‬حكمه،‭ ‬فيقول‭ ‬عبدالملك‭ ‬للأخطل‭: ‬‮«‬أتريد‭ ‬أن‭ ‬أكتب‭ ‬للآفاق‭ ‬أنّك‭ ‬أشعر‭ ‬العرب‮»‬‭.. ‬مما‭ ‬يشير‭ ‬إلى‭ ‬دور‭ ‬السلطان،‭ ‬في‭ ‬اختيار‭ ‬الشاعر‭ ‬المحترف‭ ‬ذلك‭ ‬القالب‭ ‬خضوع‭ ‬أبي‭ ‬نواس،‭ ‬الخارج‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬محظور،‭ ‬لإرادة‭ ‬السلطان‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الشأن،‭ ‬فنقرأ‭ ‬له‭:‬

أعِر‭ ‬شِعركَ‭ ‬الأطلالَ‭ ‬والمنزلَ‭ ‬القفرا‭ ‬

فقد‭ ‬طالما‭ ‬أزرى‭ ‬به‭ ‬نعتُك‭ ‬الخمرا‭ ‬

دعاني‭ ‬إلى‭ ‬نعت‭ ‬الطلول‭ ‬مُسلَّطٌ‭ ‬

تضيق‭ ‬ذراعي‭ ‬أن‭ ‬أردَّ‭ ‬له‭ ‬أمرا‭ ‬

‭ ‬إلى‭ ‬المرتبة‭ ‬التي‭ ‬صار‭ ‬إليها‭ ‬الأخطل،‭ ‬كان‭ ‬يسعى‭ ‬محترف‭ ‬المديح،‭ ‬ومن‭ ‬لم‭ ‬يمدح‭ ‬ويهجو‭ ‬من‭ ‬الشعراء،‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يعدُّ‭ ‬شاعرًا،‭ ‬فيقول‭ ‬أبوالفرج‭ ‬الأصفهاني،‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭: ‬‮«‬فحريث‭ ‬بن‭ ‬عنَّباب‭ ‬إسلامي،‭ ‬من‭ ‬شعراء‭ ‬الدولة‭ ‬الأموية،‭ ‬ليس‭ ‬بمذكور‭ ‬في‭ ‬الشعراء،‭ ‬لأنه‭ ‬كان‭ ‬بدويًا‭ ‬مقلًّا،‭ ‬غير‭ ‬متصدٍّ‭ ‬للناس‭ ‬في‭ ‬مدحٍ‭ ‬ولا‭ ‬هجاء،‭ ‬ولا‭ ‬يعدو‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬أمر‭ ‬ما‭ ‬يخصُّه‮»‬‭ (‬الأغاني،‭ ‬14‭ /‬382‭).‬

‭ ‬والسؤال‭ ‬المطروح‭ ‬هنا‭: ‬كم‭ ‬من‭ ‬شاعر‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬أمر‭ ‬ما‭ ‬يخصه،‭ ‬ولم‭ ‬يُعدّ‭ ‬من‭ ‬منظور‭ ‬أولئك‭ ‬النقاد‭ ‬من‭ ‬الشعراء؟‭! ‬عن‭ ‬هؤلاء‭ ‬الشعراء‭ ‬الذين‭ ‬لم‭ ‬يُعدُّوا‭ ‬شعراء‭ ‬ينبغي‭ ‬للباحثين‭ ‬في‭ ‬التراث‭ ‬الشعري‭ ‬العربي‭ ‬أن‭ ‬يبحثوا‭. 

إنَّ‭ ‬شعر‭ ‬مديح‭ ‬محترفي‭ ‬مديح‭ ‬السلطان‭ ‬كان‭ ‬خطاب‭ ‬هذا‭ ‬السلطان‭ ‬المُتضمَّن‭ ‬في‭ ‬شكل‭ ‬شعري‭ ‬رائج،‭ ‬وهو‭ ‬شعر‭ ‬الدولة‭ ‬الرسمي‭ ‬الذي‭ ‬شاع‭ ‬وانتشر‭ ‬وتمَّ‭ ‬تداوله،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬قلَّ‭ ‬الاهتمام‭ ‬قديمًا‭ ‬بالشعر‭ ‬الاَخر‭ ‬المختلف،‭ ‬والمأمول‭ ‬أن‭ ‬يزداد‭ ‬الاهتمام‭ ‬بهذا‭ ‬الشعر،‭ ‬فيتمُّ‭ ‬البحث‭ ‬عنه‭ ‬وتحقيقه‭ ‬ونشره‭ ‬وتداوله‭. ‬والمهمّةَ‭ ‬الأساس‭ ‬تتمثّل‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬يقرأ‭ ‬الناقد‭ ‬الإنتاج‭ ‬الشعري‭: ‬السائد‭ ‬منه‭ ‬والمقصيّ،‭ ‬المؤتلف‭ ‬والمختلف،‭ ‬ويدرسه،‭ ‬ويميِّزه،‭ ‬ثم‭ ‬يُصدر‭ ‬أحكامه‭ ‬المبنيَّة‭ ‬على‭ ‬استقراء‭ ‬وافٍ،‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬من‭ ‬الممكن‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬الاستقراء‭ ‬كاملًا‭ ‬■