جونكور 2020... كاتب وجائزة

جونكور 2020... كاتب وجائزة

يجب أن نعترف بأنه طوال مئة وعشرين عامًا، هو عمر هذه الجائزة الأقدم، والأهم في أوربا، الخاصة بالأدب المكتوب باللغة الفرنسية، فإنها الجائزة الوحيدة التي لم يعترض أحد على نتائجها، سواء بالنسبة للقيمة الأدبية للعمل الفائز، أو الكاتب نفسه الذي يكون في أغلب الأحيان شابًا أمامه مستقبل واسع من المجد، فتكون الجائزة بمنزلة الدرب السهل للدخول إلى عالم الخلود، وذلك عكس جائزة نوبل، الجائزة الأشهر في العالم، والأكثر قيمة من ناحية القيمة المالية.

أثارت جائزة نوبل طوال الـ 120 عامًا الجدل، وأنها ذات تحيّزات ومواقف سياسية، وفي بعض الأحيان كان الكاتب المعلن اسمه يرفضها، رغم قيمتها المادية والمعنوية، لكن في تاريخ جائزة جونكور لم يحدث هذا الأمر أبدًا، وهناك أسباب تدعو إلى ذلك.
 فالجائزة تمنحها أكاديمية أدبية تحمل اسم الأخوين اللذين أسسا الجائزة قبل نهاية القرن التاسع عشر، وعلى مدى العمر، فإن الأدباء الفرنسيين ظلوا مسؤولين عن اختيار اسم الرواية الفائزة، ومع الزمن اعتلى الفائزون القدامى مقاعد المسؤولية في إدارة أكاديمية جونكور، وبذلك فإنهم تخلّصوا - في الغالب - من عقدة أن مَن لم يحصل عليها صار في إمكانه منحها. 
 كما أن الجائزة تتّبع نظامًا صارمًا دقيقًا سارت عليه كل الجوائز اللاحقة، ومنها بوليتزر الأمريكية، وبووكر البريطانية وسربانتس الإسبانية، وهي أن الجائزة تمنح للرواية الأفضل الصادرة باللغة الفرنسية خلال العام المنصرم، ويتم استقبال الروايات الصادرة، من دون أي ترشيحات، لا من الأشخاص ولا من دور النشر، وتتم تصفية الروايات من خلال مراحل عدة، حتى تصل إلى قائمة قصيرة من 6 روايات، وفي الجلسة الختامية، التي يحضرها أعضاء مجلس إدارة الأكاديمية الدائمون، يعطي كل عضو صوته للرواية المرشحة للفوز، ولكل عضو صوت واحد عدا رئيس الأكاديمية الذي يصبح له صوتان في حالة تساوي الأصوات، وبالتالي فلم يحدث أن تعطّلت الجائزة عن الإعلان حتى في أزمنة الحروب.
 ليست للجائزة قيمة مالية، بل هي عبارة عن حفل عشاء يحضره أعضاء الأكاديمية على مائدة واحدة مع الفائز، وتأتي الأرباح من المبيعات العالية للرواية الفائزة، ولذا، فما أسعد دار النشر التي يفوز كاتبها، إذ تضمن توزيعًا عاليًا. 

مرة واحدة
 الجائزة لا تذهب إلى اسم الكاتب، بل إلى الرواية ذات القيمة الأعلى، فقد يتفوّق كاتب شاب ينشر للمرة الأولى على روائي مخضرم، وكم فاز بالجائزة روائيون ينشرون للمرة الأولى، مثل جان رووه صاحب رواية «ساحات الشرف»، وقد فاز بالجائزة أحيانًا أدباء اقتربوا من الثمانين، مثل مارجريت دوراس، ولوسيان بودار، والجائزة لا تُمنح إلا مرة واحدة للكاتب، ولذا يتم استبعاد الفائزين من قبل من الترشيحات، وقد تحايل رومان جاري الروائي الفائز بالجائزة عام 1956، ونشر رواية باسم مستعار فازت بالجائزة، وكانت الفضيحة، ليس للجائزة، بل للكاتب.
فاز بالجائزة من الأسماء المعروفة لدينا كل من سيمون دي بوفوار، ومارسيل مارسو، وميشيل تورنييه، ومن الكتّاب العرب فاز كل من الطاهر بن جلون، وأمين معلوف.
 هذا العام تم إعلان الجائزة في أواخر نوفمبر، بسبب وباء كوفيد 19، وجاء إلى القائمة اسم كاتب جديد، هو هيرفيه لوتلييه، الذي لم يكن أحد يعرفه من قبل.
 نحن أمام كاتب من العيار الثقيل، مختلف عن أقرانه؛ سواء من جيله أو من الكتّاب الشباب، فهو المولود في عام 1957، تجاوز سن المبتدئين، لكنه متنوع العطاء فيما لا يفيده أحيانًا، فرغم أنه يعرف أن كتابة القصة القصيرة والمسرحيات صارت من أحداث الماضي، فإنه يكتبهما إلى جوار الرواية، إضافة إلى عمله الصحفي، وهو أيضًا يكتب النصوص الأوبرالية، بما يعني أنه شاعر، وقد تنوعت إسهاماته وانتماءاته، وحصل على الكثير من الجوائز الأدبية.

 مراحل متعددة
 في أعماله المسرحية كانت له شريكة بالكتابة في مراحل متعددة، مثل «ملك الحصاة» (2003)، و«متعدد الألوان» (2006)، و«مدام كولبير» (2007)، و«معركة جيرجوني» (2008)، و«أنا وفرانسوا ميتران» (2016)، ثم «عشائي مع وينستون»، وهو لم ينفرد في حياته بكتابة هذه النصوص، حيث توجد معه كاتبة يرتبط بها لسنوات عدة، وكم انتقل في التعاون من كاتبة إلى أخرى.
 وقد تكرر الأمر أيضًا في النصوص الأوبرالية الثلاثة التي كتبها، ومنها: «الغرفة»، كما أن الكاتب تعاون مع ورشة من الكتّاب شاركوا في تأليف نصوص أدبية، وقصص لمجلات الحكايات المصورة، ولعل في هذا تفسير لعدم ذيوع اسمه رغم الجوائز التي حصل عليها، فهي تقديرات لا تقترب قط من مجد جائزة جونكور، وقد اتسمت كل هذه الأعمال بروح الفكاهة.
والغريب أنه لم يقتـــرب من الإبداع السينمائي، لكن الواضح أننا أمام كاتب على هواه ينتقل بسهولة بين الأنواع، ففي مجال الشعر أصدر ديوانه «ريندان» عام 2000، في الوقت الذي نشر كتابًا للطرائف باسم «كنيسة سكستين» 2004، وينشر رواية في حلقات على غير العادة باسم «اختفاء برك» 1997، وكان للمجموعات القصصية نصيب من التناول في أربع إصدارات، منها «بعض الفرسان» (1998)، و«موسوعة غير مجدية» (2002)، ثم «مدن الذكريات» (2002)، كل هذه الكتابات وجوائزها التي حصل عليها لم تجلب له الشهرة، وربما تم النظر إليه على أنه «غاوي كتابة»، فطوال أكثر من ربع قرن لم يقدّم سوى عدد قليل من الروايات منها على التوالي: «لص الحنين» (1992)، و«رجل واقف» (1995)، و«ارتبط بسهولة» (2007)، ثم رواية «اللامألوف» عام 2020، التي فازت بجائزة جونكور.

مجموعة رسائل
 يهمنا في المقام الأول التعرف على عالمه الروائي، وهو يذكّرني بالكاتب الفرنسي فردريك بيجبيديه صاحب رواية «يدوم الحب ثلاث سنوات».
 في رواية «لص الحنين» نرى حالة من التجريب، حيث إنها بمنزلة روايات داخل رواية، وفيها يحاول أشخاص سرقة ذكريات آخرين يعيشون بينهم، إنها المرة الأولى التي يمارس فيها أبطال روايات سرقة الذكريات، وقد أشار النقاد إلى التشابه الواضح بين عالم المؤلف وكتابات إيطالو كالفينو التي تصنف من الفانتازيا.
 أما رواية «إينوكشوك، رجل واقف» فهي أيضًا حول العالم نفسه، فهي بمنزلة مجموعة من الرسائل حول كيان اسمه إينوكشوك، ولعلّ هناك تشابهًا بين الذكريات المسروقة والمكتوبة في الرسائل، هذا الكيان عبارة عن عدد من المباني الحجرية القديمـــة التـــي تـبوح بما شهدته عبر الأزمنة.
 أما رواية «ارتبط بسهولة شديدة»، فهي أقرب إلى قصص الرحلات، وقد اقتبس الكاتب العنوان من رواية للكاتب رومان جاري السابق الإشارة إليه، لكنّ الموضوع يختلف، فهو يذكر أسماء الأبطال بإشارات من طراز «بطلنا» و«بطلتنا»، وتدور الأحداث في أسكتلندا لتحكي قصة حبّ مأسوية، أقرب إلى حياة جاري مع زوجته الممثلة الشابة جين سبرج، وقد فازت الرواية بجائزة الرواية الرومانسية عام 2007، مما شجع المؤلف على المضي في حكي قصص عشاق مرّوا على حياته، فالرواية التالية «توقّفي عن الحب» عبارة عن فصول قصيرة أقرب إلى قصائد الشعر، وفيها اعترافات امرأتين، كل منهما إلى الأخرى بقصص الحب التي عاشتها، كيف تألمت، وكيف شعرت بالسعادة المنقوصة، كل امرأة تجاوزت الأربعين من العمر، وترى أن قصص الحب التي ولّت أكثر عددًا من القادمة.

 أسلوب خاص
ولمرة جديدة، فإن المؤلف يستخدم أسلوبه الخاص، كالاختصارات، والتكثيف، واللجوء إلى حكي القصص الحقيقية، ومن الواضح أنه استفاد كثيراً من اللغة الحوارية في المسرح، ومن المباشرة في الشعر. 
أما روايته التالية، فهي بعنوان «إليكترو واو» هي تدور في تسعة أيام على لسان فانسان بالمييه الذي يسافر إلى مدينة لشبونة بالبرتغال، وهناك يلتقي بصديقه القديم أنطونيو فلوريس، الذي لم يقابله منذ سنوات، فإنسان صحفي يعمل تحقيقًا عن جريمة قتل، وفي أثناء وجوده بالمدينة يلتقي حبّه القديم أثناء سنوات الصبا، لا تزال حبيبته تنتظره، كأنها بنيليوبي التي تنتظر عودة أوليس القادم من البحر، ويبدو الكاتب وقد استفاد من التراث، فهو يعيد إحياء أجواء «أوديسا» هوميروس.
 أما الرواية الحاصلة على جائزة جونكور بعنوان «اللامألوف» فإن المؤلف هيرفيه لوتيلييه يسير في الطريق الذي سلكه الروائي جورج بيرك، حيث يلعب بحروف الكلمات كما يشاء، فماذا يمكن أن يحدث لجملة ما قام صاحبها بتغيير أو تبديل أو حذف حروفها لتبدو جديدة ومغايرة، وقد لاحظنا ذلك في كتاب بيريك «الحياة نمـــوذج وظيفــــي»، ولذا فــإن هذه الروايات يصعب ترجمتها إلى لغات أخرى، كأنها مكتوبة للغة واحدة فقـــط، ويتم تقســيم العمل إلى ثلاثة أقـــسام هي «أسود مثل السماء»، و«يقولون الحلم حيـــاة»، ثم «أغنيــة العدم»، وهي عبارة عن عناوين لثلاثــــة مقاطع من قصـــائد للشاعر ريمون كوينو.

عالم سرّي
 تدور الأحداث في المستقبل القريب، في شهر يونيو من العام الحالي 2021، على متن طائرة ضخمة تقلع من باريس إلى نيويورك، حيث سيحدث شيء سيقلب الحياة تمامًا بالنسبة لمئات من الأشخاص. من هؤلاء الركاب بلاك، وهو رجل وقور عاش حياته كلها بلا مشاكل كبرى أمام الناس، وهو ربّ لأسرة تحيا حياة عادية جدًا، لكنّه في الواقع قاتل ارتكب العديد من الجرائم الدموية دون أن يكتشفه أحد، أما الرجل النيجيري سليمبو، فهو عازف ومغنّي أغاني البوب، أصابه الملل من العيش في كذبات متتالية، ويريد أن يكون في عالَم أكثر صدقًا، أما جوانا فهي محامية يطاردها الفشل، وأما فيكتور ميسيل فهو كاتب واقعي تحوّل فجأة إلى مؤمن بعالم الخرافات والسحر.
 شخصيات الرواية في هذه الرحلة يؤمن كل منهم بأن له عالم سري آخر عليه، إما المحافظة عليه أو الخروج منه، وهذه هي الطائرة تحلّق بهم فوق المحيط، حيث تنتظرهم كارثة أن تسقط أو تنفجر. الرواية مزدحمة بالبشر تحت سقف الطائرة التقوا من دون اتفاق على موعد، يعمل كل منهم في وظيفة مختلفة، هناك الأستاذ الجامعي ونجمة سينمائية، ورجل منفصل لتوّه عن زوجته، وشابات مقبلات على الحياة، إنهم خليط من البشر، عليهم أن يتقبّلوا المصائر المنتظرة، لعلّه مصير واحد أو مصائر متعددة حسب قدرة الطائرة على الهبوط بسلام، أو الانسياق للريح.
قلب حياته في كافة الاتجاهات
كي يعرف إذا كانت الأمور منطقية
وسأل الكثير من الناس 
مسرورًا مبتهجًا لإبداء رأيهم في الحياة
رأيهم
أبخرة دخان المدمنين تتجاوز الدراويش
الحياة لا تساوي شيئًا لا شيء لا شيء 
الحياة لا تساوي شيئاً ■