مشاهد من كوابيس الرأسمالية.. كيف قدّمت السينما الأزمة المالية العالمية؟

مشاهد من كوابيس الرأسمالية.. كيف قدّمت  السينما الأزمة  المالية العالمية؟

ثمّة تساؤل مؤسس يمكننا اختباره قبل أن نبدأ بخصوص مدى أخلاقية العمل المصرفي، شغل عقول الكتّاب قبل وجود السينما؛ هذا العمل الذي شيطنه الأديب وليام شكسبير في مسرحيته «تاجر البندقية» من خلال شخصية شايلوك، تمامًا كما شيطنه تشارلز ديكنز في روايته «أنشودة عيد الميلاد» وغيرها كثير من الكتابات التي احتقرت المصرفيين وهوسهم بالمال على حساب إنسانيتهم ومن حولهم.

مرّت‭ ‬سنوات‭ ‬كثيرة،‭ ‬وأصبحت‭ ‬النظرة‭ ‬إلى‭ ‬العمل‭ ‬المصرفي‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬رأسمالي‭ ‬تمامًا‭ ‬أكثر‭ ‬تركيبًا،‭ ‬رافقتها‭ ‬نظرة‭ ‬الفنان‭ ‬وسينماه‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬العالم؛‭ ‬هنا‭ ‬والآن‭ ‬ماذا‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬موظفًا‭ ‬في‭ ‬بنك؟‭ ‬العمل‭ ‬الذي‭ ‬تساءل‭ ‬ديكنز‭ ‬إن‭ ‬كان‭ ‬عملًا‭ ‬أخلاقيًا‭ ‬من‭ ‬الأساس‭.‬

‭ ‬لحُسن‭ ‬الحظ‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬على‭ ‬دراية‭ ‬بتلك‭ ‬المقولة‭ ‬حينما‭ ‬تلقيت‭ ‬عرض‭ ‬العمل‭ ‬في‭ ‬البنك‭ ‬الذي‭ ‬أعمل‭ ‬به‭ ‬منذ‭ ‬سنوات،‭ ‬لم‭ ‬أصدقها‭ ‬تمامًا‭ ‬منذ‭ ‬دراستي‭ ‬للاقتصاد‭ ‬والسياسة،‭ ‬لكن‭ ‬لكي‭ ‬أكون‭ ‬أكثر‭ ‬صدقًا،‭ ‬لا‭ ‬أظنّ‭ ‬معرفتي‭ ‬كانت‭ ‬تؤثر‭ ‬على‭ ‬قراري‭ ‬بقبول‭ ‬الوظيفة‭.‬

بعد‭ ‬مرور‭ ‬خمسة‭ ‬عشر‭ ‬عامًا‭ ‬من‭ ‬العمل،‭ ‬يسعدني‭ ‬تأكيد‭ ‬أنها‭ ‬مقالة‭ ‬متجنية‭ ‬إلى‭ ‬حدّ‭ ‬كبير،‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬في‭ ‬نظري،‭ ‬في‭ ‬الأخير‭ ‬هو‭ ‬عمل‭ ‬كغيره‭ ‬من‭ ‬الأعمال،‭ ‬لا‭ ‬تتماشى‭ ‬الأمور‭ ‬دونه‭ ‬في‭ ‬عالَم‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الحداثة،‭ ‬مرهق‭ ‬وروتيني،‭ ‬تغيّبي‭ ‬عن‭ ‬العمل‭ ‬لأيام‭ ‬يورّط‭ ‬البعض‭ ‬في‭ ‬تأخّر‭ ‬حصولهم‭ ‬على‭ ‬الرواتب‭ ‬وأشياء‭ ‬أخرى،‭ ‬رغم‭ ‬أن‭ ‬ظلالًا‭ ‬كثيرة‭ ‬تحيط‭ ‬بما‭ ‬تفعله‭ ‬بعض‭ ‬البنوك‭ ‬أحيانًا‭ ‬حينما‭ ‬تأخذها‭ ‬سياساتها‭ ‬في‭ ‬اتجاهات‭ ‬غير‭ ‬أخلاقية،‭ ‬وآثار‭ ‬هذه‭ ‬الاتجاهات‭ ‬قد‭ ‬تكون‭ ‬مدمرة‭ ‬للغاية،‭ ‬لكنّها‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬لا‭ ‬تختلف‭ ‬عن‭ ‬غيرها‭ ‬من‭ ‬المؤسسات‭ ‬سوى‭ ‬في‭ ‬فداحة‭ ‬وشمولية‭ ‬توابعها‭ ‬حينما‭ ‬تتمادى‭ ‬فيها‭ ‬وتخرج‭ ‬عن‭ ‬السيطرة؛‭ ‬البنك‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬المبنى‭ ‬الفخم‭ ‬اللامع‭ ‬الذي‭ ‬يزيّن‭ ‬أهم‭ ‬شوارع‭ ‬مدينتك،‭ ‬ليس‭ ‬الفرع‭ ‬الصغير‭ ‬الذي‭ ‬يعمل‭ ‬فيه‭ ‬أرستقراطيون‭ ‬نابهون‭ ‬ببزّات‭ ‬أنيقة‭ ‬ولافتة،‭ ‬حقيقتها‭ ‬تتجاوز‭ ‬كونها‭ ‬مؤسسات‭ ‬أو‭ ‬شركات‭ ‬لتصبح‭ ‬قلب‭ ‬الاقتصاد‭ (‬والحياة‭ ‬العصرية‭ ‬برمّتها‭ ‬تباعًا‭) ‬النابض‭ ‬الذي‭ ‬يتسيّد‭ ‬على‭ ‬شرايينه‭ ‬ودورته‭ ‬الدموية،‭ ‬وغنيّ‭ ‬عن‭ ‬الذكر‭ ‬ما‭ ‬الذي‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يجري‭ ‬لجسد‭ ‬يعاني‭ ‬قلبه‭ ‬الفساد‭ ‬أو‭ ‬العطب‭. ‬

 

عالَم‭ ‬المال‭ ‬والأعمال

شخصيًا،‭ ‬ودون‭ ‬الالتفات‭ ‬إلى‭ ‬الديباجة‭ ‬السابقة،‭ ‬لست‭ ‬ممن‭ ‬يحبون‭ ‬مصطلح‭ ‬‮«‬عالم‭ ‬المال‭ ‬والأعمال‮»‬،‭ ‬ربما‭ ‬لأننا‭ ‬حينما‭ ‬نطلق‭ ‬لفظة‭ ‬‮«‬عالَم‮»‬‭ ‬على‭ ‬مجال‭ ‬ما‭ ‬نقوم‭ ‬بتغريبه‭ ‬أو‭ ‬النظر‭ ‬إليه‭ ‬نظرة‭ ‬المراقب‭ ‬البعيد‭ ‬غير‭ ‬المتورط،‭ ‬ينطبق‭ ‬هذا‭ ‬عليه‭ ‬كما‭ ‬على‭ ‬تقسيمات‭ ‬العوالم‭ ‬الأخرى؛‭ ‬عالم‭ ‬الفن‭ ‬وعالم‭ ‬الرياضة‭ ‬وغيرها،‭ ‬جميعها‭ ‬عوالم‭ ‬لأنّه‭ ‬يمكن‭ ‬النظر‭ ‬إليها‭ ‬من‭ ‬بعيد‭ ‬نوعًا‭ ‬ما،‭ ‬لكن‭ ‬المال‭ ‬والأعمال،‭ ‬ليس‭ ‬عالمًا‭ ‬منفصلًا،‭ ‬هو‭ ‬عالمنا،‭ ‬تجاهلك‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬عدم‭ ‬تأثيره‭ ‬عليك‭ ‬عزيزي‭ ‬القارئ،‭ ‬كل‭ ‬تفصيلة‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬أيّ‭ ‬منّا‭ ‬تتأثر‭ ‬بشكل‭ ‬مباشر‭ ‬وصريح‭ ‬بما‭ ‬يحدث‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬العالم،‭ ‬من‭ ‬قمته‭ ‬العالية‭ ‬في‭ ‬شارع‭ ‬‮«‬وول‭ ‬ستريت‮»‬‭ ‬ومكاتب‭ ‬صناديق‭ ‬الاستثمار‭ ‬والإقراض‭ ‬والبنوك‭ ‬المركزية،‭ ‬حتى‭ ‬معاملاتنا‭ ‬اليومية‭ ‬ووظائفنا،‭ ‬ما‭ ‬نأكله‭ ‬وما‭ ‬نستخدمه‭ ‬من‭ ‬سلع‭ ‬وخدمات،‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬يمكن‭ ‬فهمه‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الكيفية‭ ‬التي‭ ‬يتحرك‭ ‬بها‭ ‬المال‭.‬

بالرغم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬وقوع‭ ‬الكساد‭ ‬العظيم‭ ‬عام‭ ‬1929،‭ ‬الذي‭ ‬ترك‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬في‭ ‬أسوأ‭ ‬كارثة‭ ‬اقتصادية‭ ‬وإنسانية‭ ‬تعرّضت‭ ‬لها‭ ‬في‭ ‬تاريخها،‭ ‬كان‭ ‬محفزًا‭ ‬لصانع‭ ‬الفيلم‭ ‬عبر‭ ‬عشرات‭ ‬السنين‭ ‬بعده،‭ ‬فإن‭ ‬معظم‭ ‬الأفلام‭ ‬جاءت‭ ‬لتصوير‭ ‬تأثُّر‭ ‬حيوات‭ ‬أبطالها‭ ‬بالأزمة‭ ‬وتبعاتها،‭ ‬من‭ ‬مجموعة‭ ‬أفلام‭ ‬العصابات‭ ‬التي‭ ‬صارت‭ ‬نوعًا‭ ‬مستقلًا‭ ‬بذاته،‭ ‬وجاءت‭ ‬لتصور‭ ‬ثقافة‭ ‬الجريمة‭ ‬المتصاعدة‭ ‬بسبب‭ ‬الظروف‭ ‬الاقتصادية‭ ‬الطاحنة،‭ ‬إلى‭ ‬الأفلام‭ ‬الدرامية‭ ‬العظيمة،‭ ‬مثل‭ ‬‮«‬أماكن‭ ‬في‭ ‬القلب‮»‬‭ ‬و‮«‬عن‭ ‬الرجال‭ ‬والفئران‮»‬،‭ ‬حيث‭ ‬يتخبّط‭ ‬أبطالها‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬ظروف‭ ‬طاحنة‭ ‬ومحطمة‭ ‬لمقومات‭ ‬الحياة‭ ‬الإنسانية‭ ‬الكريمة،‭ ‬محاولين‭ ‬إيجاد‭ ‬أمل‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬عتمتها‭. ‬

منذ‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭ ‬إلى‭ ‬الآن،‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬السينما‭ ‬ومعها‭ ‬الدراما‭ ‬التلفزيونية‭ ‬أيضًا‭ ‬تتجه‭ ‬إلى‭ ‬التعاطي‭ ‬بشكل‭ ‬أكثر‭ ‬تقنية،‭ ‬وخوضًا‭ ‬في‭ ‬تفاصيل‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭ ‬بالغ‭ ‬التأثير‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬وقت،‭ ‬بالرغم‭ ‬من‭ ‬شعورنا‭ ‬بوجوده‭ ‬في‭ ‬حالات‭ ‬الخطر‭ ‬فقط،‭ ‬كما‭ ‬وقع‭ ‬في‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬لحظة‭ ‬قاتمة‭ ‬في‭ ‬السنوات‭ ‬الأخيرة،‭ ‬بالتالي‭ ‬كانت‭ ‬توابع‭ ‬الأزمات‭ ‬الاقتصادية‭ ‬تخلق‭ ‬أبطالًا‭ ‬وعوالم‭ ‬شخصية‭ ‬تغري‭ ‬صنّاع‭ ‬الدراما‭ ‬والسينما‭.‬

 

لحظة‭ ‬فارقة

كانت‭ ‬هذه‭ ‬الدنيا‭ ‬جذابة‭ ‬بطبيعة‭ ‬الحال‭ ‬لصانع‭ ‬الدراما‭ ‬منذ‭ ‬سنين‭ ‬طويلة‭ ‬وليست‭ ‬أفلامًا‭ ‬مثل‭ ‬Wall‭ ‬Street‭ ‬لأوليفر‭ ‬ستون‭ ‬عام‭ ‬1987‭ - ‬بجزأيه‭ - ‬ببعيدة‭. ‬لكن‭ ‬الانتقال‭ ‬الملاحظ‭ ‬ثانية‭ ‬من‭ ‬تصوير‭ ‬الصراعات‭ ‬الداخلية‭ ‬بين‭ ‬كهنة‭ ‬هذه‭ ‬الدنيا‭ ‬أو‭ ‬بينهم‭ ‬وبين‭ ‬الطامحين‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬تعد‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬ثروات‭ ‬ضخمة‭ ‬ومداخيل‭ ‬غزيرة‭ ‬للعاملين‭ ‬به،‭ ‬إلى‭ ‬تصوير‭ ‬كيف‭ ‬تساهم‭ ‬هذه‭ ‬المؤسسات‭ ‬العملاقة‭ ‬في‭ ‬تكريس‭ ‬خضوع‭ ‬عموم‭ ‬الناس‭ ‬في‭ ‬المجتمعات‭ ‬الغربية‭ ‬على‭ ‬الأخص‭ ‬لشبكات‭ ‬الديون‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تنتهي،‭ ‬وكيف‭ ‬تدعم‭ ‬ثقافة‭ ‬الاستهلاك،‭ ‬لكونها‭ ‬رأس‭ ‬الحربة‭ ‬الحقيقي‭ ‬للرأسمالية‭ ‬اللاعقلانية،‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تهدف‭ ‬سوى‭ ‬تعظيم‭ ‬أرباحها،‭ ‬بغضّ‭ ‬النظر‭ ‬عن‭ ‬أي‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬أنواع‭ ‬القيم‭ ‬الإنسانية‭ ‬أو‭ ‬الاستدامة؛‭ ‬سواء‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬الغربي‭ ‬وبشكل‭ ‬أكثر‭ ‬توحشًا‭ ‬واستغلالًا‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬الثالث‭ ‬والدول‭ ‬النامية‭. ‬

ما‭ ‬وقع‭ ‬عام‭ ‬2008‭ ‬كان‭ ‬لحظة‭ ‬فارقة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الاتجاه،‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬بسبب‭ ‬حجم‭ ‬الكارثة‭ ‬الاقتصادية‭ ‬التي‭ ‬وقعت‭ ‬وانهيار‭ ‬بنوك‭ ‬وشركات‭ ‬تأمين‭ ‬بالكامل‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬لبعضها‭ ‬أن‭ ‬تقوم‭ ‬له‭ ‬قائمة‭ ‬لولا‭ ‬تدخُّل‭ ‬الحكومة‭ ‬الأمريكية‭ ‬بضخّ‭ ‬باقات‭ ‬إنقاذ‭ ‬هائلة‭ ‬الحجم‭ ‬للإبقاء‭ ‬عليها‭ ‬وحمايتها،‭ ‬لكن‭ ‬لأنّ‭ ‬هذه‭ ‬الأزمة‭ ‬بشكل‭ ‬خاص‭ ‬جاءت‭ ‬بشكل‭ ‬شبه‭ ‬كامل‭ ‬بسبب‭ ‬الممارسات‭ ‬الفاسدة،‭ ‬غير‭ ‬خاضعة‭ ‬للرقابة‭ ‬التي‭ ‬انتهجتها‭ ‬تلك‭ ‬البنوك‭ ‬والشركات‭ ‬وصناديق‭ ‬الاستثمار‭ ‬والأزمات‭ ‬الاقتصادية‭ ‬العنيفة‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬النوع‭ ‬ليست‭ ‬نادرة،‭ ‬وهناك‭ ‬واحدة‭ ‬منها‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬عقد‭ ‬منذ‭ ‬بدايات‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬لكن‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الواقعة‭ ‬بالذات،‭ ‬لم‭ ‬يبدأ‭ ‬الأمر‭ ‬مدفوعًا‭ ‬أو‭ ‬محفزًا‭ ‬بأيّ‭ ‬عوامل‭ ‬سياسية‭ ‬أو‭ ‬مناخية،‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬عوامل‭ ‬اقتصادية‭ ‬واقعية‭ ‬على‭ ‬الأرض،‭ ‬بل‭ ‬كان‭ ‬وقع‭ ‬الأمر‭ ‬بشكل‭ ‬كامل‭ ‬جراء‭ ‬توسُّع‭ ‬البنوك‭ ‬في‭ ‬الإقراض‭ ‬العقاري‭ ‬بشكل‭ ‬غير‭ ‬منظم‭ ‬أو‭ ‬خاضع‭ ‬للاحتياطات‭ ‬الواجبة‭ ‬المتعارف‭ ‬عليها‭. ‬

 

تحايل‭ ‬على‭ ‬القوانين

جاء‭ ‬هذا‭ ‬بسبب‭ ‬فكرة‭ ‬خبيثة‭ ‬للتحايل‭ ‬على‭ ‬قوانين‭ ‬البنوك‭ ‬المركزية‭ ‬التي‭ ‬تفرض‭ ‬على‭ ‬البنوك‭ ‬الإبقاء‭ ‬على‭ ‬احتياطي‭ ‬نقدي‭ ‬غير‭ ‬مستخدم‭ ‬كنسبة‭ ‬من‭ ‬الودائع‭ ‬لديها‭ ‬يكون‭ ‬مساويًا‭ ‬لكمية‭ ‬القروض‭ ‬التي‭ ‬تمنحها،‭ ‬وظيفة‭ ‬هذا‭ ‬الاحتياطي‭ ‬هي‭ ‬تأمين‭ ‬أموال‭ ‬المودعين‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬فشل‭ ‬المقترضين‭ ‬في‭ ‬رد‭ ‬الأموال‭ ‬التي‭ ‬حصلوا‭ ‬عليها،‭ ‬فكانت‭ ‬الفكرة‭ ‬التي‭ ‬خرجت‭ ‬من‭ ‬أحد‭ ‬مؤتمرات‭ ‬المصرفيين‭ ‬الأمريكيين‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬تحرير‭ ‬هذه‭ ‬الاحتياطيات‭ ‬العملاقة‭ ‬واستخدامها‭ ‬في‭ ‬الإقراض‭ ‬لتحقيق‭ ‬المزيد‭ ‬من‭ ‬الأرباح،‭ ‬وهي‭ ‬أن‭ ‬يتم‭ ‬التأمين‭ ‬على‭ ‬القروض‭ ‬التي‭ ‬يمنحها‭ ‬البنك‭ ‬لدى‭ ‬شركة‭ ‬تأمين‭ ‬مستقلة،‭ ‬وبالتالي‭ ‬تكون‭ ‬هذه‭ ‬الشركة‭ ‬مسؤولة‭ ‬عن‭ ‬ردّ‭ ‬الأموال‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬فشل‭ ‬المقترض‭ ‬في‭ ‬ذلك،‭ ‬ولم‭ ‬تكذّب‭ ‬شركات‭ ‬التأمين‭ ‬خبرًا،‭ ‬فقد‭ ‬دعمت‭ ‬هذا‭ ‬الاتجاه،‭ ‬وباعت‭ ‬بدورها‭ ‬ملايين‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الوثائق‭ ‬التأمينية‭ ‬وحوّلتها‭ ‬إلى‭ ‬أوراق‭ ‬ومشتقات‭ ‬مالية‭ ‬يتم‭ ‬تداولها‭ ‬بشكل‭ ‬مفتوح‭ ‬في‭ ‬البورصات‭.‬

وحقق‭ ‬الجميع‭ ‬مليارات‭ ‬الدولارات‭ ‬من‭ ‬الأرباح‭ ‬منذ‭ ‬ذلك‭ ‬الحين،‭ ‬وباتت‭ ‬البنوك‭ ‬تمنح‭ ‬قروضًا‭ ‬لكل‭ ‬من‭ ‬هبَّ‭ ‬ودبّ‭ ‬بشكل‭ ‬حرفي‭ ‬بأقل‭ ‬درجة‭ ‬ممكنة‭ ‬من‭ ‬التحقق‭ ‬أو‭ ‬الاستعلام‭ ‬أو‭ ‬الضمانات،‭ ‬لأنّ‭ ‬الجميع‭ ‬كان‭ ‬خاضعًا‭ ‬للوهم‭ ‬بأن‭ ‬هناك‭ ‬قاعدة‭ ‬صلبة‭ ‬يستند‭ ‬عليها‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬حدوث‭ ‬مشاكل‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬نوع،‭ ‬لتتضخم‭ ‬الفقاعة‭ ‬التي‭ ‬انفجرت‭ ‬سنة‭ ‬2008‭ ‬في‭ ‬أيام‭ ‬معدودة‭ ‬لتفقد‭ ‬السوق‭ ‬تريليونات‭ ‬من‭ ‬الدولارات،‭ ‬ويفقد‭ ‬الملايين‭ ‬من‭ ‬الأمريكيين‭ ‬وظائفهم‭ ‬ومنازلهم،‭ ‬ويمتد‭ ‬تأثير‭ ‬الكارثة‭ ‬عبر‭ ‬العالم‭ ‬ليتعرّض‭ ‬القطاع‭ ‬المالي‭ ‬واقتصادات‭ ‬عشرات‭ ‬الدول‭ ‬لهزّة‭ ‬لم‭ ‬يشهد‭ ‬لها‭ ‬مثيلًا‭ ‬منذ‭ ‬سنوات‭ ‬طويلة‭. ‬

واجه‭ ‬صنّاع‭ ‬السينما‭ ‬مشكلة‭ ‬حقيقية‭ ‬حينما‭ ‬قرروا‭ ‬أن‭ ‬يتعاملوا‭ ‬مع‭ ‬حدث‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬النوع،‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬التفاصيل‭ ‬التقنية‭ ‬التي‭ ‬عملت‭ ‬على‭ ‬خلقه‭ ‬كانت‭ ‬معقّدة‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬كبير،‭ ‬للدرجة‭ ‬التي‭ ‬دفعت‭ ‬مخرج‭ ‬الوثائقيات‭ ‬الكبير،‭ ‬مايكل‭ ‬مور،‭ ‬إلى‭ ‬السخرية‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬النقطة‭ ‬بالذات‭ ‬في‭ ‬فيلمه‭ ‬Capitalism‭ .. ‬A‭ ‬love‭ ‬story‭.‬،‭ ‬حينما‭ ‬استضاف‭ ‬أستاذًا‭ ‬للاقتصاد‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬هارفارد،‭ ‬وطلب‭ ‬منه‭ ‬شرح‭ ‬المشتقات‭ ‬المالية‭ ‬التي‭ ‬يتم‭ ‬تداولها‭ ‬في‭ ‬البورصات‭ ‬بشكل‭ ‬مبسط،‭ ‬فتلعثم‭ ‬الرجل،‭ ‬ولم‭ ‬يتمكن‭ ‬من‭ ‬تقديم‭ ‬معلومات‭ ‬مفيدة‭ ‬بأي‭ ‬شكل،‭ ‬رغم‭ ‬هذا‭ ‬كانت‭ ‬الأفلام‭ ‬الوثائقية‭ ‬بطبيعة‭ ‬الحال‭ ‬أقدر‭ ‬على‭ ‬توضيح‭ ‬التفاصيل‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬النوع،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬تخيّل‭ ‬صناع‭ ‬الدراما‭ ‬أنهم‭ ‬لن‭ ‬يتمكنوا‭ ‬منه،‭ ‬وأن‭ ‬الطريقة‭ ‬المثلى‭ ‬هي‭ ‬تقديم‭ ‬الأزمة‭ ‬من‭ ‬الخارج‭ ‬والتركيز‭ ‬على‭ ‬تأثيراتها‭ ‬وتتابعات‭ ‬الصدمات‭ ‬التي‭ ‬تسببت‭ ‬فيها‭.‬

 

تأثير‭ ‬سلبي

قليلون‭ ‬كرّسوا‭ ‬حياتهم‭ ‬الفنية‭ ‬مثل‭ ‬مور‭ ‬للحديث‭ ‬عن‭ ‬التأثير‭ ‬السلبي‭ ‬للاقتصاد‭ ‬والمصارف‭ ‬على‭ ‬حيوات‭ ‬البشر،‭ ‬المخرج‭ ‬والكاتب‭ ‬ستيفن‭ ‬براير‭ ‬منذ‭ ‬أول‭ ‬أفلامه،‭ ‬تمامًا‭ ‬كآدم‭ ‬مكاي‭ ‬الذي‭ ‬سيطر‭ ‬عليه‭ ‬هوس‭ ‬حقارة‭ ‬الرأسمالية‭ ‬التي‭ ‬يكرهها‭ ‬وسلّط‭ ‬عليها‭ ‬عدسة‭ ‬كاميرته‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬فيلمه‭ ‬الكوميدي‭ ‬‮«‬إخوة‭ ‬غير‭ ‬أشقاء‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬المخرج‭ ‬كين‭ ‬لوتش‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬يقدّم‭ ‬أبطاله‭ ‬وأزماتهم‭ ‬التي‭ ‬تسببها‭ ‬الرأسمالية؛‭ ‬منذ‭ ‬أن‭ ‬شاهد‭ ‬الناس‭ ‬في‭ ‬السينما‭ ‬فيلم‭ ‬‮«‬إنه‭ ‬عالم‭ ‬حُر‮»‬‭ (‬حصل‭ ‬على‭ ‬جائزة‭ ‬السيناريو‭ ‬من‭ ‬مهرجان‭ ‬البندقية‭) ‬يحكي‭ ‬قصة‭ ‬إنجي‭ ‬التي‭ ‬تُطرد‭ ‬من‭ ‬وظيفتها‭ ‬وتحاول‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬وظائف‭ ‬للمهاجرين‭.‬

وعن‭ ‬أزمة‭ ‬المراهق‭ ‬والعمل‭ ‬قدّما‭ ‬‮«‬السادسة‭ ‬عشرة‭ ‬الجميلة‮»‬،‭ ‬الذي‭ ‬يحكي‭ ‬قصة‭ ‬مراهق‭ ‬يحاول‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬عمل‭ ‬له‭ ‬ولوالدته‭ ‬المسجونة‭. ‬قصة‭ ‬حب‭ ‬مختلفة‭ ‬قدّمت‭ ‬في‭ ‬‮«‬اسمي‭ ‬جو‮»‬‭ ‬لرجل‭ ‬موقوف‭ ‬عن‭ ‬العمل‭ ‬بسبب‭ ‬تعاطيه‭ ‬الخمور‭ ‬ومعالِجته‭ ‬سارة‭ ‬التي‭ ‬تنشأ‭ ‬بينهما‭ ‬قصة‭ ‬حب‭ ‬على‭ ‬كوبري‭ ‬الاحتياج،‭ ‬وصولًا‭ ‬إلى‭ ‬فيلم‭ ‬‮«‬آسف‭ ‬سوف‭ ‬نفتقدك‮»‬‭. ‬

حتى‭ ‬تمكّن‭ ‬آدم‭ ‬مكاي‭ ‬في‭ ‬The‭ ‬Big‭ ‬Short‭ ‬عام‭ ‬2015‭ ‬من‭ ‬إخراجه‭ ‬وكتابته‭ ‬بالتعاون‭ ‬مع‭ ‬تشارلز‭ ‬راندولف‭ ‬من‭ ‬تجاوز‭ ‬عقبة‭ ‬صعوبة‭ ‬تبسيط‭ ‬التفاصيل‭ ‬التقنية‭ ‬بشكل‭ ‬ذكي‭ ‬وساخر،‭ ‬حيث‭ ‬بدآ‭ ‬بالاعتراف‭ ‬الصريح‭ ‬بأن‭ ‬الدقائق‭ ‬الاقتصادية‭ ‬والمالية‭ ‬وراء‭ ‬الأزمة‭ ‬معقّدة‭ ‬ومملّة‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬كبير،‭ ‬وبالتبعية،‭ ‬فقد‭ ‬وضعا‭ ‬مشاهد‭ ‬فاصلة‭ ‬لا‭ ‬علاقة‭ ‬لها‭ ‬بالسياق‭ ‬الدرامي‭ ‬في‭ ‬الفيلم،‭ ‬حيث‭ ‬يقوم‭ ‬ممثلون‭ ‬بشرح‭ ‬سريع‭ ‬ومبسط‭ ‬بطريقة‭ ‬غير‭ ‬تقليدية‭.‬

 

هوة‭ ‬سحيقة

فعلى‭ ‬سبيل‭ ‬المثال،‭ ‬قامت‭ ‬الممثلة‭ ‬مارجو‭ ‬روبي‭ ‬بشرح‭ ‬الفكرة‭ ‬الأساسية‭ ‬من‭ ‬الفيلم‭ ‬والسياق‭ ‬المالي‭ ‬من‭ ‬ورائها‭ ‬والمتعلق‭ ‬برهانات‭ ‬المضاربين‭ ‬في‭ ‬البورصة‭ ‬على‭ ‬خسائر‭ ‬السندات‭ ‬العقارية،‭ ‬بينما‭ ‬تحتسى‭ ‬مشروبًا‭ ‬في‭ ‬حوض‭ ‬الحمام‭ ‬المليء‭ ‬بفقاقيع‭ ‬الشامبو‭.‬

أو‭ ‬حينما‭ ‬يقوم‭ ‬الشيف‭ ‬الشهير‭ ‬أنتوني‭ ‬بوردين‭ ‬بتبسيط‭ ‬ماذا‭ ‬يفعل‭ ‬المضاربون‭ ‬بأنواع‭ ‬السندات‭ ‬المختلفة‭ ‬الجيد‭ ‬منها‭ ‬والسيئ،‭ ‬بينما‭ ‬يقف‭ ‬في‭ ‬مطبخ‭ ‬مطعمه‭... ‬وهكذا‭.‬

الفيلم‭ ‬في‭ ‬العموم‭ ‬يتتبّع‭ ‬قصة‭ ‬بعينها‭ ‬بدأت‭ ‬في‭ ‬التطور‭ ‬منذ‭ ‬بدأت‭ ‬الفقاعة‭ ‬في‭ ‬التضخم‭ ‬وفي‭ ‬خضم‭ ‬سياق‭ ‬الأزمة،‭ ‬حيث‭ ‬تنبأت‭ ‬قلة‭ ‬من‭ ‬صغار‭ ‬اللاعبين‭ ‬في‭ ‬السوق‭ ‬بأن‭ ‬هذه‭ ‬الفقاعة‭ ‬في‭ ‬طريقها‭ ‬إلى‭ ‬الانفجار‭ ‬قريبًا،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬راهنوا‭ ‬على‭ ‬سقوط‭ ‬أسعار‭ ‬السندات‭ ‬العقارية‭ ‬باستخدام‭ ‬مشتق‭ ‬مالي‭ ‬مثير‭ ‬للجدل‭ ‬وهو‭ ‬shorting،‭ ‬الذي‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬من‭ ‬يستعمل‭ ‬هذه‭ ‬الأداة‭ ‬لا‭ ‬يربح‭ ‬إلّا‭ ‬لو‭ ‬انخفض‭ ‬سعر‭ ‬السهم‭ ‬أو‭ ‬السند‭ ‬الذي‭ ‬يختاره،‭ ‬وهي‭ ‬مقامرة‭ ‬مالية‭ ‬صريحة‭ ‬بلا‭ ‬مواربة‭. ‬

بطبيعة‭ ‬الحال،‭ ‬ولأنّ‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬استشفوا‭ ‬الاتجاه‭ ‬الذي‭ ‬تتجه‭ ‬إليه‭ ‬السوق‭ ‬كان‭ ‬قليلًا‭ ‬نسبيًا،‭ ‬وسط‭ ‬سوق‭ ‬لا‭ ‬يدرك‭ ‬حجم‭ ‬الهوة‭ ‬السحيقة‭ ‬التي‭ ‬يتجه‭ ‬إليها‭ ‬سريعًا،‭ ‬وكانت‭ ‬المراهنة‭ ‬ضد‭ ‬سوق‭ ‬مستقرة‭ ‬مثل‭ ‬العقارات‭ ‬ضرب‭ ‬من‭ ‬الجنون‭ ‬بالنسبة‭ ‬لغالبية‭ ‬الخبراء،‭ ‬لذا،‭ ‬فور‭ ‬أن‭ ‬وقعت‭ ‬الواقعة‭ ‬تمكّنت‭ ‬هذه‭ ‬القلة‭ ‬من‭ ‬الأفراد‭ ‬من‭ ‬جني‭ ‬مليارات‭ ‬الدولارات‭ ‬من‭ ‬الأرباح،‭ ‬بينما‭ ‬كانت‭ ‬بقية‭ ‬السوق‭ ‬تحت‭ ‬صدمة‭ ‬الانهيار‭ ‬الكارثي،‭ ‬في‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬أغرب‭ ‬قصص‭ ‬قيام‭ ‬الفرد‭ ‬بإمكانات‭ ‬ضئيلة‭ ‬بخداع‭ ‬النظام‭ ‬الكبير‭ ‬المسيطر‭ ‬واستغلال‭ ‬فساده‭ ‬وثغراته‭ ‬ضده‭. ‬

بشكل‭ ‬أقل‭ ‬بهرجة‭ ‬وخفّة‭ ‬وأكثر‭ ‬تركيزًا‭ ‬على‭ ‬وقت‭ ‬حدوث‭ ‬الكارثة،‭ ‬قام‭ ‬جي‭ ‬سي‭ ‬شاندور‭ ‬في‭ ‬فيلم‭ ‬Margin‭ ‬Call‭ ‬من‭ ‬إخراجه‭ ‬وكتابته‭ ‬عام‭ ‬2011‭ ‬بتكثيف‭ ‬القصة‭ ‬وتصوير‭ ‬اللحظة‭ ‬التي‭ ‬اكتشف‭ ‬فيها‭ ‬أحد‭ ‬العاملين‭ ‬بمؤسسة‭ ‬استثمارية‭ ‬ضخمة‭ ‬من‭ ‬قراءته‭ ‬للأرقام‭ ‬أن‭ ‬الكارثة‭ ‬ستقع‭ ‬في‭ ‬غضون‭ ‬ساعات‭.‬

وعبر‭ ‬24‭ ‬ساعة،‭ ‬هي‭ ‬كل‭ ‬الزمن‭ ‬الذي‭ ‬يصوره‭ ‬الفيلم،‭ ‬نشهد‭ ‬تصاعد‭ ‬الدراما‭ ‬مع‭ ‬إدراك‭ ‬الطبقات‭ ‬العليا‭ ‬من‭ ‬الإدارة‭ ‬في‭ ‬الشركة‭ ‬ما‭ ‬سيحدث‭ ‬وعقدهم‭ ‬اجتماعات‭ ‬محمومة‭ ‬لم‭ ‬تخلُ‭ ‬من‭ ‬تبادل‭ ‬الاتهامات‭ ‬ومحاولة‭ ‬التنصل‭ ‬من‭ ‬المسؤولية‭ ‬عمّا‭ ‬سيأتي‭ ‬من‭ ‬انهيار‭ ‬مالي‭.‬

 

تطور‭ ‬كبير

إيقاع‭ ‬الفيلم‭ ‬كان‭ ‬جيدًا‭ ‬جدًا،‭ ‬ولم‭ ‬يسقط‭ ‬في‭ ‬فخ‭ ‬التطويل‭ ‬أو‭ ‬الميلودرامية‭ ‬المُبالغ‭ ‬فيها،‭ ‬ساعده‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬شخصياته‭ ‬متورطة‭ ‬بشكل‭ ‬إرادي‭ ‬مدفوع‭ ‬بالجشع‭ ‬والطموح‭ ‬الجامح‭ ‬بشكل‭ ‬أو‭ ‬بآخر،‭ ‬فلم‭ ‬يقدّم‭ ‬الفيلم‭ ‬ضحايا‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬قدّم‭ ‬شخصيات‭ ‬تستفيق‭ ‬من‭ ‬غيبوبة‭ ‬وضعوا‭ ‬أنفسهم‭ ‬فيها‭ ‬وتدرك‭ ‬فداحة‭ ‬مشاركتها‭ ‬في‭ ‬جريمة‭ ‬بحق‭ ‬ملايين‭ ‬البشر‭ ‬الذين‭ ‬سيفقدون‭ ‬منازلهم‭ ‬ووظائفهم‭ ‬كنتيجة‭ ‬مباشرة‭ ‬لهذه‭ ‬الممارسات‭. ‬

إلى‭ ‬جانب‭ ‬الأفلام‭ ‬التي‭ ‬تناولت‭ ‬أزمة‭ ‬2008‭ ‬بعينها،‭ ‬شهدنا‭ ‬تطورًا‭ ‬كبيرًا‭ ‬في‭ ‬الطريقة‭ ‬التي‭ ‬تتعامل‭ ‬بها‭ ‬الدراما‭ ‬مع‭ ‬الفساد‭ ‬العالمي‭ ‬النطاق‭ ‬الذي‭ ‬تمارسه‭ ‬الشركات‭ ‬الضخمة‭ ‬والبنوك‭ ‬مدعومة‭ ‬بظهيرها‭ ‬السياسي‭ ‬عبر‭ ‬اللوبيّات‭ ‬وجماعات‭ ‬المصالح،‭ ‬فلم‭ ‬تعد‭ ‬الوثائقية‭ ‬أو‭ ‬القصص‭ ‬الخيالية‭ ‬التي‭ ‬تستلهم‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭ ‬وتقوم‭ ‬بشيطنة‭ ‬هذه‭ ‬المؤسسات‭ ‬بشكل‭ ‬كاريكاتيري‭ ‬مُبالغ،‭ ‬توصّل‭ ‬بعض‭ ‬صناع‭ ‬الفيلم‭ ‬إلى‭ ‬قناعة‭ ‬بأن‭ ‬هذه‭ ‬المؤسسات‭ ‬العملاقة‭ ‬لا‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬روايات‭ ‬متخيلة‭ ‬لتقوم‭ ‬بشيطنتها‭ ‬أو‭ ‬الإشارة‭ ‬إلى‭ ‬الفساد‭ ‬الذي‭ ‬تمارسه،‭ ‬بل‭ ‬إنّ‭ ‬ما‭ ‬نكتشفه‭ ‬عبر‭ ‬الوقت؛‭ ‬سواء‭ ‬بشكل‭ ‬علني‭ ‬أو‭ ‬عبر‭ ‬تسريبات،‭ ‬مثل‭ ‬أوراق‭ ‬بنما،‭ ‬يكفي‭ ‬ويفيض‭ ‬ليرسم‭ ‬صورة‭ ‬واقعية‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭ ‬الفاسد‭ ‬ذي‭ ‬الواجهة‭ ‬الأنيقة‭ ‬البراقة،‭ ‬تكفي‭ ‬فقط‭ ‬قصص‭ ‬مثل‭ ‬ما‭ ‬كانت‭ ‬تنويه‭ ‬شركة‭ ‬من‭ ‬أضخم‭ ‬شركات‭ ‬التأمين،‭ ‬والتي‭ ‬كانت‭ ‬من‭ ‬الأطراف‭ ‬المتسببة‭ ‬بشكل‭ ‬مباشر‭ ‬في‭ ‬الأزمة،‭ ‬من‭ ‬توزيع‭ ‬ما‭ ‬يربو‭ ‬على‭ ‬200‭ ‬مليون‭ ‬دولار‭ ‬حوافز‭ ‬لكبار‭ ‬المديرين‭ ‬عام‭ ‬2009‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬الذي‭ ‬كانت‭ ‬تتلقى‭ ‬دعمًا‭ ‬حكوميًا‭ ‬للإنقاذ‭ ‬من‭ ‬الإفلاس،‭ ‬وبينما‭ ‬كان‭ ‬العالم‭ ‬يصرخ‭ ‬من‭ ‬آثار‭ ‬الأزمة‭!‬

كنموذج‭ ‬مثالي‭ ‬لهذه‭ ‬الفكرة،‭ ‬يأتي‭ ‬فيلم‭ ‬The‭ ‬Laundromat‭ ‬عام‭ ‬2019‭ ‬الذي‭ ‬عرض‭ ‬على‭ ‬منصة‭ ‬Netflix‭.‬

في‭ ‬هذا‭ ‬الفيلم‭ ‬نشاهد‭ ‬عددًا‭ ‬من‭ ‬الحكايات‭ ‬المنفصلة‭ ‬تتقاطع‭ ‬جميعًا‭ ‬حول‭ ‬فساد‭ ‬شركات‭ ‬التأمين‭ ‬والبنوك،‭ ‬وكيف‭ ‬تستخدم‭ ‬الملاذات‭ ‬الضريبية‭ ‬عبر‭ ‬البحار‭ ‬وألاعيب‭ ‬شركات‭ ‬المحاماة‭ ‬لإخفاء‭ ‬أرباحها‭ ‬والتهرب‭ ‬من‭ ‬الضرائب‭ ‬ومن‭ ‬دفع‭ ‬التعويضات‭ ‬لعملائها‭ ‬المستحقين‭.‬

الفيلم‭ ‬الذي‭ ‬أخرجه‭ ‬ستيفن‭ ‬سودربرج‭ ‬استخدم‭ ‬أيضًا‭ ‬طريقة‭ ‬كسر‭ ‬الحائط‭ ‬الرابع،‭ ‬وتقديم‭ ‬مشاهد‭ ‬تشرح‭ ‬الشبكات‭ ‬المعقدة‭ ‬التي‭ ‬تتعمّد‭ ‬تلك‭ ‬المؤسسات‭ ‬نسجها‭ ‬لتضييع‭ ‬حقوق‭ ‬عملائها‭ ‬والتهرب‭ ‬من‭ ‬الجهات‭ ‬التنظيمية‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬ذاته‭. ‬

وسواء‭ ‬كانت‭ ‬القصص‭ ‬حقيقية‭ ‬أو‭ ‬متخيلة،‭ ‬سيبقى‭ ‬فساد‭ ‬الرأسمالية‭ ‬بشكلها‭ ‬الحالي‭ ‬واستغلالها‭ ‬للحكومات‭ ‬والشعوب‭ ‬لتحقيق‭ ‬أكبر‭ ‬أرباح‭ ‬ممكنة‭ ‬منبعًا‭ ‬خصبًا‭ ‬لصانع‭ ‬الدراما،‭ ‬ليطلق‭ ‬منه‭ ‬اعتراض‭ ‬الفن‭ ‬على‭ ‬السلوكيات‭ ‬الاستغلالية‭ ‬التي‭ ‬قلّما‭ ‬تجد‭ ‬من‭ ‬يعترضها‭ ‬بشكل‭ ‬جدّي‭ ‬على‭ ‬أرض‭ ‬الواقع‭ ‬اعتراضًا‭ ‬يتجاوز‭ ‬حدود‭ ‬الغرامات‭ ‬التقليدية‭ ‬والقوانين‭ ‬المستحدثة‭ ‬المليئة‭ ‬بالثغرات‭ ‬إلى‭ ‬خلق‭ ‬بيئة‭ ‬عمل‭ ‬منظمة‭ ‬بشكل‭ ‬حقيقي‭ ‬تمنع‭ ‬أو‭ ‬تحدّ‭ ‬كثيرًا‭ ‬من‭ ‬ممارساتها‭. ‬

 

فقاعة‭ ‬متنامية

هل‭ ‬أدت‭ ‬الأزمة‭ ‬الكبيرة‭ ‬التي‭ ‬جرت‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬تعي‭ ‬المصارف‭ ‬وهيئات‭ ‬المال‭ ‬الكبيرة‭ ‬الدرس‭ ‬وتمارس‭ ‬الانضباط‭ ‬الكافي‭ ‬لمنع‭ ‬تكرار‭ ‬الكارثة؟‭ ‬مع‭ ‬الأسف‭ ‬إجابة‭ ‬هذا‭ ‬السؤال‭ - ‬لو‭ ‬كانت‭ ‬له‭ ‬واضحة‭ - ‬لن‭ ‬تسعد‭ ‬الكثيرين‭.‬

في‭ ‬مقال‭ ‬ديزموند‭ ‬ليتشمان‭ ‬في‭ ‬‮«‬نيويورك‭ ‬تايمز‮»‬‭ ‬عام‭ ‬2017،‭ ‬يقول‭ ‬إن‭ ‬العالم‭ ‬يتجه‭ ‬حتمًا‭ ‬إلى‭ ‬أزمة‭ ‬مالية‭ ‬مشابهة‭ ‬لما‭ ‬حدث‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬2008،‭ ‬لكنّها‭ ‬ستكون‭ ‬أضخم‭ ‬بكثير‭ ‬وأكبر‭ ‬تأثيرًا،‭ ‬حيث‭ ‬نرى‭ ‬جذور‭ ‬الأزمة‭ ‬في‭ ‬الفقاعة‭ ‬المتنامية‭ ‬للسندات‭ ‬الحكومية‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬أدوات‭ ‬الدَّين‭ ‬الحكومي،‭ ‬ولن‭ ‬يقتصر‭ ‬الأمر‭ ‬على‭ ‬السوق‭ ‬الأمريكي‭ ‬هذه‭ ‬المرة،‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬الفقاعة‭ ‬تتضخم‭ ‬بشكل‭ ‬متزامن‭ ‬ملحوظ‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬العالم،‭ ‬وبإضافة‭ ‬تأثير‭ ‬جائحة‭ ‬كورونا‭.‬

وقد‭ ‬وصلت‭ ‬الأرقام‭ ‬العالمية‭ ‬للديون‭ ‬عمومًا،‭ ‬حكومية‭ ‬وخاصة‭ ‬وشخصية،‭ ‬إلى‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ثلاثة‭ ‬أضعاف‭ ‬الناتج‭ ‬الإجمالي‭ ‬القومي‭ ‬للعالم‭ ‬بالكامل،‭ ‬وهي‭ ‬نسبة‭ ‬مخيفة‭ ‬جدًا‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬تخيّلنا‭ ‬أنّ‭ ‬الانهيار‭ ‬التسلسلي‭ ‬السريع‭ ‬الذي‭ ‬وقع‭ ‬عام‭ ‬2008‭ ‬قد‭ ‬يتكرر‭ ‬بالنمط‭ ‬نفسه‭ ‬وعلى‭ ‬هذا‭ ‬النطاق‭. ‬

في‭ ‬الأخير،‭ ‬لن‭ ‬يعدم‭ ‬الفن‭ ‬كما‭ ‬يفعل‭ ‬دائمًا‭ ‬أن‭ ‬يتعاطى‭ ‬ويصوّر‭ ‬تفاصيل‭ ‬وآثار‭ ‬هذه‭ ‬التفاعلات‭ ‬الاقتصادية‭ ‬وإرهاصاتها‭ ‬من‭ ‬أفكار‭ ‬ورغبات‭ ‬مَن‭ ‬هم‭ ‬في‭ ‬مواقع‭ ‬القوة‭ ‬والتأثير،‭ ‬وتوابعها‭ ‬على‭ ‬الإنسان‭ ‬العادي‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يريد‭ ‬من‭ ‬الحياة‭ ‬سوى‭ ‬أن‭ ‬ينتهي‭ ‬يومه‭ ‬بخير‭ ‬وبلا‭ ‬صدمات‭.‬

كل‭ ‬ما‭ ‬نأمله‭ ‬أن‭ ‬تبقى‭ ‬الأزمة‭ ‬القادمة‭ ‬على‭ ‬الفنانين‭ ‬ليصنعوا،‭ ‬وعلينا‭ ‬لنشاهد،‭ ‬أو‭ ‬ألّا‭ ‬تأتي‭ ‬من‭ ‬الأساس،‭ ‬فإن‭ ‬ذاك‭ ‬سيكون‭ ‬بالتأكيد‭ ‬أفضل‭ ‬كثيرًا،‭ ‬لكنّ‭ ‬الفنون‭ ‬سينمائيًا‭ ‬وأدبيًا‭ ‬ستصبح‭ ‬ربما‭ ‬وسيلة‭ ‬النجاة‭ ‬الوحيدة‭ ‬لمن‭ ‬يرغب‭ ‬في‭ ‬معرفة‭ ‬عوالم‭ ‬المال‭ ‬والاقتصاد‭ ‬رقميًا‭ ‬بشكل‭ ‬تسجيلي،‭ ‬أو‭ ‬ترفيهيًا‭ ‬باستخدام‭ ‬تلك‭ ‬القصص‭ ‬في‭ ‬قالب‭ ‬روائي‭ ‬ماتع‭.‬

ستظل‭ ‬مقاربات‭ ‬اقتصاد‭ ‬السينما‭ ‬وسينما‭ ‬الاقتصاد‭ ‬وسيلة‭ ‬الجمهور‭ ‬الأفضل‭ ‬ربما،‭ ‬فالسينما‭ ‬في‭ ‬أوقات‭ ‬مثل‭ ‬التي‭ ‬نعيشها‭ ‬في‭ ‬‮«‬كورونا‮»‬‭ ‬والركود‭ ‬الذي‭ ‬صنعته،‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬الاقتصاديون،‭ ‬هي‭ ‬مثل‭ ‬أحمر‭ ‬الشفاه‭ ‬تمامًا‭ ‬للنساء،‭ ‬فهن‭ ‬يُقبلن‭ ‬على‭ ‬شرائه‭ ‬بكميات‭ ‬كبيرة‭ ‬عند‭ ‬حدوث‭ ‬التلاطؤ‭ ‬أو‭ ‬الركود،‭ ‬لأنهنّ‭ ‬لن‭ ‬يعدن‭ ‬قادرات‭ ‬على‭ ‬شراء‭ ‬حقائب‭ ‬اليد‭ ‬والأحذية‭ ‬الباهظة‭ ‬السعر،‭ ‬وربما‭ ‬واقعيًا‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬لا‭ ‬يمكننا‭ ‬أن‭ ‬نغيّر‭ ‬واقع‭ ‬ووطأة‭ ‬نظام‭ ‬الاقتصاد‭ ‬الحالي،‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬حاليًا،‭ ‬علينا‭ ‬استهلاك‭ ‬المنتجات‭ ‬التي‭ ‬تتحدث‭ ‬عنه،‭ ‬ربما‭ ‬تأتي‭ ‬الفرصة‭ ‬يومًا‭ ‬ما‭ ‬■