التشكيلي المغربي أحمد جاريد: الحذف في الكتابة تردُّد وفي التشكيل انتحار

التشكيلي المغربي أحمد جاريد:  الحذف في الكتابة تردُّد وفي التشكيل انتحار

الفنان التشكيلي المغربي أحمد جاريد، من مواليد عام 1954 في مدينة الدار البيضاء، عمل مدرسًا لمادتي علم النفس التربوي والفلسفة، كما اشتغل بمدرسة الفنون الجميلة، ومحاضرًا أكاديميًا حول فلسفة الفن، وهو إلى جانب ذلك عضو في جمعيات ثقافية وفنية وطنية وأجنبية. حظيت أعماله الفنية بترحيب النقد التشكيلي بها، داخل المغرب وخارجه، بمثل ما حظيت بمتابعات نقدية وتحليلية كثيرة، اعتبارًا لما تتميز به تجربته الفنية من تنويع في أساليبها وتقنياتها وأدواتها، وفي أفكارها وموضوعاتها وأبعادها الفلسفية وقضاياها، وكذا في مغامراتها البصرية ومساراتها الإنسانية المفعمة بالذوق والجمال. 

يمكن‭ ‬اعتبار‭ ‬الفنان‭ ‬جاريد‭ ‬فنانًا‭ ‬فيلسوفًا‭ ‬ومثقفًا‭ ‬وأديبًا‭ ‬ومتصوفًا‭ ‬وباحثًا،‭ ‬وهو‭ ‬الذي‭ ‬نجده‭ ‬دائمًا‭ ‬في‭ ‬بحث‭ ‬حثيث‭ ‬متواصل‭ ‬عن‭ ‬أساليب‭ ‬فنية‭ ‬ولغات‭ ‬وتمرينات‭ ‬ومرجعيات‭ ‬وآفاق‭ ‬جديدة‭ ‬لتنويع‭ ‬مغامراته‭ ‬الفنية‭ ‬وتطويرها،‭ ‬بما‭ ‬يوازي‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬إشهاره‭ ‬لآرائه‭ ‬الفكرية‭ ‬والنقدية‭ ‬ولمواقفه‭ ‬المدافعة‭ ‬عن‭ ‬الرسم‭ ‬والفن‭ ‬التشكيلي،‭ ‬خارج‭ ‬بعض‭ ‬المفاهيم‭ ‬والأفكار‭ ‬والمقاربات‭ ‬والكليشيهات‭ ‬والقيم‭ ‬الاستتيقية‭ ‬والتأليفات‭ ‬الاصطلاحية‭ ‬المعيارية‭ ‬السائدة‭.‬

في‭ ‬هذا‭ ‬الإطار،‭ ‬يعتبر‭ ‬الفنان‭ ‬جاريد‭ ‬من‭ ‬كبار‭ ‬الفنانين‭ ‬التشكيليين‭ ‬المحترفين‭ ‬اليوم‭ ‬بالمغرب،‭ ‬ومن‭ ‬أهمهم‭ ‬تجربة‭ ‬وحضورًا‭ ‬وحداثة‭ ‬ودفاعًا‭ ‬عن‭ ‬التجربة‭ ‬التشكيلية‭ ‬الوطنية،‭ ‬وإشاعتها‭ ‬في‭ ‬المحافل‭ ‬الفنية‭ ‬العربية‭ ‬والدولية،‭ ‬وقد‭ ‬غدت‭ ‬تجربته‭ ‬الفنية‭ ‬مرجعًا‭ ‬لفنانين‭ ‬آخرين،‭ ‬في‭ ‬تقليدهم‭ ‬لها‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬انتحالهم‭ ‬لبعض‭ ‬أساليبها‭ ‬وأدواتها‭.‬

يُعرف‭ ‬عن‭ ‬جاريد‭ ‬حضوره‭ ‬الفني‭ ‬الوازن،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬معارضه‭ ‬المؤثرة‭ ‬ومشاركاته‭ ‬المضيئة‭ ‬والوازنة،‭ ‬في‭ ‬عديد‭ ‬المعارض‭ ‬الفنية‭ ‬والسيمبوزيومات‭ ‬والبيناليات‭ ‬المحلية‭ ‬والدولية،‭ ‬بمثل‭ ‬ما‭ ‬يُعرف‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬حضور‭ ‬إبداعي‭ ‬وفكري‭ ‬محايث‭ ‬لتجربته‭ ‬الفنية،‭ ‬ومن‭ ‬إسهام‭ ‬جمعوي‭ ‬مؤثر،‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬الجمعيات‭ ‬الثقافية‭ ‬ودور‭ ‬الفن‭ ‬المعاصرة‭ ‬والنقابات‭ ‬الفنية،‭ ‬داخل‭ ‬المغرب‭ ‬وخارجه،‭ ‬بما‭ ‬عهدناه‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬ترافُع‭ ‬وجرأة‭ ‬ودفاع‭ ‬عن‭ ‬الحركة‭ ‬التشكيلية‭ ‬بالمغرب‭ ‬والعالم‭ ‬العربي‭.‬

واعتبــــارًا‭ ‬لأهميـــــة‭ ‬التجـــربــــــــة‭ ‬التشكيلية‭ ‬للفنان‭ ‬جاريد،‭ ‬فقد‭ ‬عرفت‭ ‬لوحاته‭ ‬طريقها‭ ‬إلى‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الفضاءات‭ ‬والمؤسسات‭ ‬البنكية‭ ‬والمتاحف‭ ‬الدولية‭ ‬والجهات‭ ‬الرسمية،‭ ‬منها‭ ‬المجموعة‭ ‬الملكية،‭ ‬ومجموعة‭ ‬الأميرة‭ ‬وجدان‭ ‬الهاشمي،‭ ‬والمجلس‭ ‬الوطني‭ ‬للثقافة‭ ‬والفنون‭ ‬والآداب‭ ‬بالكويت،‭ ‬ومتحف‭ ‬عمّان‭ ‬بالأردن،‭ ‬وبنك‭ ‬القاهرة‭ ‬عمان،‭ ‬وصندوق‭ ‬التنمية‭ ‬الثقافية‭ ‬بالقاهرة،‭ ‬وغيرها‭.‬

لهذا‭ ‬كلّه،‭ ‬كان‭ ‬لنا‭ ‬هذا‭ ‬الحوار‭ ‬مع‭ ‬الفنان‭ ‬جاريد،‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬هذا‭ ‬الركن‭ ‬التاريخي‭ ‬من‭ ‬مجلتنا‭ ‬الرائدة،‭ ‬في‭ ‬ترحيبها‭ ‬القديم‭ ‬والمتواصل‭ ‬بالمفكرين‭ ‬والأدباء‭ ‬والفنانين‭ ‬المغاربة‭.‬

 

دروس‭ ‬الحجر

●‭ ‬يعيش‭ ‬العالم‭ ‬اليوم‭ ‬تجربة‭ ‬قاسية‭ ‬مع‭ ‬وباء‭ ‬كورونا،‭ ‬ومما‭ ‬لا‭ ‬شك‭ ‬فيه‭ ‬أن‭ ‬الممارسة‭ ‬الفنية‭ ‬التشكيلية،‭ ‬مثل‭ ‬غيرها‭ ‬من‭ ‬الممارسات‭ ‬الإبداعية‭ ‬الأخرى،‭ ‬قد‭ ‬تأثرت‭ ‬بشكل‭ ‬أو‭ ‬بآخر،‭ ‬بهذه‭ ‬الجائحة‭. ‬فهل‭ ‬يمكن‭ ‬لهلع‭ ‬الوباء‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬موضوعًا‭ ‬ملهمًا‭ ‬للفنان‭ ‬التشكيلي؟

‭- ‬أعتقد‭ ‬أن‭ ‬المغرب‭ ‬والعالم‭ ‬كله‭ ‬عرف‭ ‬جوائح‭ ‬أكثر‭ ‬شراسة،‭ ‬مثل‭ ‬وباءات‭ ‬الطاعون‭ ‬والكوليرا‭ ‬والملاريا‭ ‬وغيرها‭. ‬الفارق‭ ‬اليوم‭ ‬هو‭ ‬تقدّم‭ ‬العلم،‭ ‬حيث‭ ‬أصبح‭ ‬بوسعه‭ ‬أن‭ ‬يكتشف‭ ‬لقاحًا‭ ‬لوباء‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬أقل‭ ‬من‭ ‬سنة‭.‬

ومهما‭ ‬يكن،‭ ‬فمع‭ ‬فيروس‭ ‬ووهان‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬القلوب‭ ‬انكسرت،‭ ‬إذ‭ ‬ليس‭ ‬هناك‭ ‬مِنّا‭ ‬مَنْ‭ ‬لم‭ ‬يفقد‭ ‬عزيزًا‭ ‬بين‭ ‬الأهل‭ ‬أو‭ ‬بين‭ ‬الأصدقاء‭. ‬تدهورت‭ ‬المعنويات‭ ‬بفعل‭ ‬العزل‭ ‬الصحي‭ ‬وتفشّى‭ ‬القلق‭ ‬والتوتر‭ ‬النفسي‭ ‬في‭ ‬الأُسَر‭ ‬نتيجة‭ ‬الخوف‭ ‬من‭ ‬شبح‭ ‬الموت‭ ‬الأعمى‭ ‬الذي‭ ‬يطوف‭ ‬ِبمِحَشّه‭ ‬الطويل‭ ‬في‭ ‬الطرقات‭ ‬والأسواق‭. ‬كائن‭ ‬مجهري‭ ‬نشر‭ ‬الهلع‭ ‬على‭ ‬مدار‭ ‬كوكب‭ ‬الأرض‭ ‬وألزم‭ ‬الحشود‭ ‬جُحورهم‭. ‬هكذا‭ ‬تختار‭ ‬الطبيعة‭ ‬متى‭ ‬تقول‭ ‬كلمتها‭ ‬الأخيرة‭. 

آثار‭ ‬‮«‬كوفيد‮»‬‭ ‬لم‭ ‬تنته‭ ‬بعد،‭ ‬وإن‭ ‬كانت‭ ‬مخلفاته‭ ‬الاقتصادية‭ ‬قاسية،‭ ‬فإنّه‭ ‬ألهم‭ ‬الأفراد‭ ‬كما‭ ‬ألهم‭ ‬الحشود،‭ ‬فكان‭ ‬منصفًا‭ ‬ولم‭ ‬يميّز‭ ‬بين‭ ‬الفئات‭ ‬والطبقات‭. ‬ألهم‭ ‬الحشد‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬التصحيح؛‭ ‬إذ‭ ‬لقّن‭ ‬الحجر‭ ‬الصحي‭ ‬دروسًا‭ ‬تَهُم‭ ‬علاقات‭ ‬الناس‭ ‬بأنفسهم‭ ‬وعلاقاتهم‭ ‬بالآخرين‭ ‬وعلاقتهم‭ ‬بالطبيعة‭ ‬التي‭ ‬كثيرًا‭ ‬ما‭ ‬يجحدونها‭.‬

وبالفعل،‭ ‬لم‭ ‬تنجُ‭ ‬أي‭ ‬ممارسة‭ ‬من‭ ‬تأثيره،‭ ‬سواء‭ ‬إبداعية‭ ‬أو‭ ‬غيرها،‭ ‬ليس‭ ‬من‭ ‬تأثير‭ ‬الوباء‭ ‬مباشرة‭ ‬وإنّما‭ ‬بفعل‭ ‬العزل‭ ‬القسري‭ ‬والطوعي‭ ‬المترتب‭ ‬عنه‭. ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬الانفعالات‭ ‬القوية‭ ‬كانت‭ ‬دائمًا‭ ‬ملهمة‭. ‬فالقلق‭ ‬والخوف‭ ‬والحب‭ ‬والعزلة‭ ‬والفراق،‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬المشاعر،‭ ‬عامل‭ ‬ديناميكي‭ ‬في‭ ‬الإبداع،‭ ‬سواء‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬الإحساس‭ ‬بالرضا‭ ‬أو‭ ‬حالة‭ ‬التوتر‭. ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الزاوية‭ ‬يمكن‭ ‬القول‭ ‬إنّ‭ ‬العزل‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬هو‭ ‬حرمان‭ ‬فردي‭ ‬وجماعي‭ ‬له‭ ‬نصيب‭ ‬وافر‭ ‬في‭ ‬استنفار‭ ‬الإبداع،‭ ‬وحتى‭ ‬في‭ ‬غير‭ ‬وضعية‭ ‬العزل،‭ ‬كان‭ ‬الحرمان‭ ‬دائمًا‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬مصادر‭ ‬الخلق‭ ‬والإبداع،‭ ‬لأنه‭ ‬يختلق‭ ‬تعويضًا‭ ‬وبديلًا،‭ ‬وقد‭ ‬يكون‭ ‬هذا‭ ‬الحرمان‭ ‬من‭ ‬التعبير‭ (‬سياسيًا‭) ‬أو‭ ‬جنسيًا‭ (‬أخلاقيًا‭) ‬أو‭ ‬بقية‭ ‬أوجه‭ ‬الحرمان‭ ‬الاجتماعي‭. ‬

 

خيار‭ ‬وحيد

●‭ ‬عطفًا‭ ‬على‭ ‬سؤالي‭ ‬السابق،‭ ‬هل‭ ‬لك‭ ‬أن‭ ‬تقرّبنا‭ ‬من‭ ‬طبيعة‭ ‬تفاعلك‭ ‬مع‭ ‬أجواء‭ ‬هذا‭ ‬الوباء؟‭ ‬هل‭ ‬أثّر‭ ‬بشكل‭ ‬ما،‭ ‬إيجابًا‭ ‬أو‭ ‬سلبًا،‭ ‬في‭ ‬طقوس‭ ‬إبداعك‭ ‬الفني؟‭ ‬وهل‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نزعم‭ ‬بأن‭ ‬القلق‭ ‬المترتب‭ ‬عن‭ ‬التوجس‭ ‬الذي‭ ‬يولده‭ ‬هذا‭ ‬الفيروس،‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يضيف‭ ‬شيئًا‭ ‬للإبداع‭ ‬أم‭ ‬أنه‭ ‬يعطّله‭ ‬فقط؟

‭- ‬أجواء‭ ‬الخلود‭ ‬القسري‭ ‬للحجر‭ ‬المنزلي‭ ‬كان‭ ‬خيارًا‭ ‬وحيدًا‭ ‬مقابل‭ ‬الانتحار‭. ‬هذا‭ ‬الوضع‭ ‬أضف‭ ‬إليه‭ ‬الركود‭ ‬الاقتصادي،‭ ‬تولّد‭ ‬عنه‭ ‬تدريجيًا‭ ‬شعور‭ ‬بالقنوط‭ ‬وفقدان‭ ‬الإحساس‭ ‬بالمتعة‭. ‬وبدأ‭ ‬يتحول‭ ‬إلى‭ ‬قلق‭ ‬فصرنا‭ ‬نلاحظ‭ ‬تفشي‭ ‬حالات‭ ‬الاكتئاب‭ ‬وما‭ ‬يترتب‭ ‬عنها‭ ‬من‭ ‬استسلام‭ ‬وإحساس‭ ‬بالتعاسة،‭ ‬وكأن‭ ‬الإنسان‭ ‬مخلوق‭ ‬حُرِمَ‭ ‬من‭ ‬قَدَرِه،‭ ‬روحه‭ ‬تائهة‭ ‬يترصدها‭ ‬الموت‭ ‬كل‭ ‬حين،‭ ‬وكل‭ ‬سعي‭ ‬يشبه‭ ‬خطو‭ ‬المسيح‭ ‬نحو‭ ‬صليبه‭. ‬وهذه‭ ‬الأجواء‭ ‬أصبحت‭ ‬مُعْدِية‭ ‬بسبب‭ ‬مواقع‭ ‬التواصل‭ ‬ومحطات‭ ‬الإعلام‭. ‬ومهما‭ ‬تحصنا‭ ‬ضد‭ ‬هذه‭ ‬الأجواء‭ ‬فإننا‭ ‬لن‭ ‬نفلت‭ ‬من‭ ‬عدوى‭ ‬القلق‭.‬

إلا‭ ‬أنَّ‭ ‬القلق‭ ‬ليس‭ ‬دائمًا‭ ‬نابع‭ ‬من‭ ‬أسباب‭ ‬خارجية،‭ ‬بل‭ ‬أيضًا‭ ‬هو‭ ‬قلق‭ ‬الأعماق‭.  ‬كان‭ ‬أرسطو‭ ‬يرى‭ ‬أن‭ ‬القلق‭ ‬والاكتئاب‭ ‬سمة‭ ‬أساسية‭ ‬من‭ ‬سمات‭ ‬الإبداع‭ ‬ومسحة‭ ‬من‭ ‬جنون‭ ‬العبقرية‭.‬

ثم‭ ‬إن‭ ‬هذا‭ ‬الوباء‭ ‬هو‭ ‬مخاطرة،‭ ‬وكل‭ ‬مخاطرة‭ ‬تولد‭ ‬التعلق‭ ‬بالحياة‭. ‬لذلك،‭ ‬نجد‭ ‬أن‭ ‬كثيرًا‭ ‬من‭ ‬الإبداعات‭ ‬التي‭ ‬نشرها‭ ‬أصحابها‭ ‬على‭ ‬مواقعهم‭ ‬أو‭ ‬مواقع‭ ‬التواصل‭ ‬كانت‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬صرخة‭ ‬في‭ ‬وجه‭ ‬المخاطرة‭. ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الناحية،‭ ‬فإن‭ ‬‮«‬كوفيد‮»‬‭ ‬وما‭ ‬ترتب‭ ‬عنه‭ ‬من‭ ‬حجر‭ ‬صحي‭ ‬استنفر‭ ‬تعابير‭ ‬فنية‭ ‬كثيرة‭. 

وفيما‭ ‬يخصني‭ ‬تغلبتُ‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الوضع‭ ‬بالعمل‭ ‬في‭ ‬مرسمي‭ ‬يوميًا،‭ ‬وساعدتني‭ ‬بيئة‭ ‬الطبيعة‭ ‬التي‭ ‬أكون‭ ‬بها‭ ‬على‭ ‬توفير‭ ‬الخلوة‭ ‬والسكينة‭ ‬التي‭ ‬تتطلبها‭ ‬القراءة‭. ‬كما‭ ‬أني‭ ‬تقدمتُ‭ ‬في‭ ‬كتابة‭ ‬مشروعي‭ ‬الروائي‭ ‬بنسبة‭ ‬كبيرة،‭ ‬وبفضل‭ ‬التأمل‭ ‬ألهمني‭ ‬العزل‭ ‬الصحي‭ ‬حِكَمًا‭ ‬كثيرة،‭ ‬ثم‭ ‬إن‭ ‬الحجر‭ ‬الصحي‭ ‬بالنسبة‭ ‬لي‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬شيئًا‭ ‬جديدًا‭ ‬تمامًا‭ ‬باعتبار‭ ‬أن‭ ‬نمط‭ ‬حياتي‭ ‬ليس‭ ‬مختلفًا،‭ ‬اللهم‭ ‬الأسفار‭ ‬التي‭ ‬حُرمت‭ ‬منها‭ ‬ومن‭ ‬معارضي‭ ‬وأبنائي‭ ‬وأصدقائي‭. ‬

 

علاقة‭ ‬قديمة

●‭ ‬أشرتَ‭ ‬إلى‭ ‬انشغالك‭ ‬اليوم‭ ‬بمشروع‭ ‬روائي؛‭ ‬بما‭ ‬هو‭ ‬خبر‭ ‬جميل‭ ‬ومرحب‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬وسطنا‭ ‬الأدبي،‭ ‬وإن‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬مفاجئًا،‭ ‬بالنظر‭ ‬لانشغالك‭ ‬الموازي‭ ‬بالسؤال‭ ‬الإبداعي‭ ‬الأدبي،‭ ‬بالشعر‭ ‬تحديدًا،‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬ممارستك‭ ‬الفنية‭ ‬الطويلة‭ ‬للتشكيل،‭ ‬باعتباره‭ ‬النشاط‭ ‬الإبداعي‭ ‬المهيمن‭ ‬في‭ ‬مسيرك‭ ‬الإبداعي‭ ‬العام‭. ‬فما‭ ‬سرّ‭ ‬هذا‭ ‬الانعطاف‭ ‬لديك‭ ‬نحو‭ ‬كتابة‭ ‬الرواية،‭ ‬هل‭ ‬يشكل‭ ‬ذلك‭ ‬انخراطًا‭ ‬منك‭ ‬في‭ ‬الزمن‭ ‬الإبداعي‭ ‬العام،‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬زمن‭ ‬الرواية‭ ‬بامتياز،‭ ‬مثلما‭ ‬هي‭ ‬الحال‭ ‬لدى‭ ‬كتّاب‭ ‬آخرين‭ ‬كثر‭ ‬جاؤوا‭ ‬إلى‭ ‬الرواية‭ ‬من‭ ‬اهتمامات‭ ‬أخرى،‭ ‬أم‭ ‬أنك‭ ‬وجدت‭ ‬أن‭ ‬التشكيل‭ ‬والشعر‭ ‬لا‭ ‬يمكنهما‭ ‬معًا‭ ‬أن‭ ‬يستوعبا‭ ‬قلق‭ ‬عالم‭ ‬اليوم‭ ‬وأسئلته؟

‭- ‬هو‭ ‬ليس‭ ‬انعطافًا،‭ ‬فعلاقتي‭ ‬بالأدب‭ ‬والفلسفة‭ ‬علاقة‭ ‬قديمة،‭ ‬والكتابة‭ ‬كانت‭ ‬دائمًا‭ ‬مخدعًا‭ ‬ألُوذُ‭ ‬إليه‭ ‬كي‭ ‬أفكر‭ ‬في‭ ‬الرسم،‭ ‬وهي‭ ‬ليست‭ ‬بديلًا‭ ‬للرسم،‭ ‬فأنا‭ ‬أدين‭ ‬للرسم‭ ‬أكثر‭ ‬منه‭ ‬للكتابة،‭ ‬لأني‭ ‬نشأتُ‭ ‬في‭ ‬كنفه،‭ ‬فهو‭ ‬مَنْ‭ ‬هذَّبَ‭ ‬العين‭ ‬التي‭ ‬أرى‭ ‬بها‭ ‬العالم‭ ‬من‭ ‬حولي‭ ‬جميلًا،‭ ‬ووجَّه‭ ‬يدي‭ ‬لتحويل‭ ‬الحلم‭ ‬إلى‭ ‬صور‭ ‬على‭ ‬لوحات،‭ ‬ومكنني‭ ‬من‭ ‬روح‭ ‬تحلّق‭ ‬بي‭. ‬

وإذا‭ ‬كان‭ ‬الرسم‭ ‬قد‭ ‬علّمني‭ ‬التأمل‭ ‬وعرَّفَني‭ ‬على‭ ‬نفسي،‭ ‬فالرواية‭ ‬عرَّفَتْني‭ ‬على‭ ‬أشخاص‭ ‬كثيرين‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬أعرفهم‭ ‬والذين‭ ‬هم‭ ‬أنا‭. ‬وتبقى‭ ‬الفلسفة‭ ‬طبعًا‭ ‬هي‭ ‬البيت‭ ‬الكبير،‭ ‬فداخله‭ ‬سمعتُ‭ ‬سقراط‭ ‬أول‭ ‬من‭ ‬قال‭: ‬‮«‬اعرف‭ ‬نفسك‮»‬،‭ ‬ووصلَتْ‭ ‬متأخرة‭ ‬إلى‭ ‬مسامع‭ ‬علم‭ ‬النفس‭.‬

ومن‭ ‬غير‭ ‬المنصف‭ ‬أن‭ ‬نفاضل‭ ‬بين‭ ‬الأدب‭ ‬والفن،‭ ‬فلكل‭ ‬منا‭ ‬اختياره‭ ‬وميوله‭ ‬التعبيرية‭ ‬نحو‭ ‬هذا‭ ‬الجنس‭ ‬أو‭ ‬ذاك،‭ ‬ولكل‭ ‬منهما‭ ‬جوانب‭ ‬قوة‭ ‬وجوانب‭ ‬ضعف‭. ‬ففي‭ ‬الأدب؛‭ ‬الشعر‭ ‬والرواية‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬الخصوص،‭ ‬أوْ‭ ‬دَعْني‭ ‬أقول‭ ‬الكتابة‭ ‬عامة،‭ ‬لها‭ ‬علاقة‭ ‬مرنة‭ ‬ودياكرونية‭ ‬بالزمن،‭ ‬بحيث‭ ‬تسمح‭ ‬لك‭ ‬بالذهاب‭ ‬والإياب‭ ‬في‭ ‬اللحظة‭ ‬ذاتها،‭ ‬أي‭ ‬أن‭ ‬الزمن‭ ‬في‭ ‬الكتابة‭ ‬ليس‭ ‬جامدًا،‭ ‬إذ‭ ‬يمكنك‭ ‬أن‭ ‬تشطب‭ ‬على‭ ‬شيء‭ ‬ثم‭ ‬تعود‭ ‬إليه‭ ‬فيما‭ ‬بعد،‭ ‬وقد‭ ‬تحذف‭ ‬شيئًا‭ ‬من‭ ‬مكانه‭ ‬لتضعه‭ ‬في‭ ‬مكان‭ ‬آخر‭.‬

غير‭ ‬أن‭ ‬الصباغة‭/ ‬الرسم‭ ‬لا‭ ‬يسمح‭ ‬لك‭ ‬بذلك،‭ ‬فالحذف‭ ‬والمحو‭ ‬أمر‭ ‬نهائي‭ ‬وحاسم‭ ‬ويستحيل‭ ‬استرجاع‭ ‬ما‭ ‬محوناه‭. ‬الزمن‭ ‬في‭ ‬الرسم‭ ‬جامد‭ ‬وثابت،‭ ‬أما‭ ‬في‭ ‬الكتابة‭ ‬فمتحرك‭.‬

الحذف‭ ‬في‭ ‬الكتابة‭ ‬تردد‭ ‬وفي‭ ‬التشكيل‭ ‬انتحار،‭ ‬فالصباغة‭ ‬‮«‬ساموراي‮»‬‭ ‬بالقياس‭ ‬للكتابة،‭ ‬لكن‭ ‬يمكن‭ ‬أنْ‭ ‬نجعل‭ ‬من‭ ‬المحو‭ ‬بلاغة،‭ ‬وهذا‭ ‬مستوى‭ ‬آخر‭. 

هذا‭ ‬ما‭ ‬للكتابة،‭ ‬أما‭ ‬ما‭ ‬للرسم‭ ‬فهو‭ ‬أنَّ‭ ‬المشهد‭ ‬البصري‭ ‬يتلقاه‭ ‬المشاهد‭ ‬للوهلة‭ ‬الأولى‭ ‬ودفعة‭ ‬واحدة،‭ ‬على‭ ‬خلاف‭ ‬النص‭ ‬فهو‭ ‬يحتاج‭ ‬إلى‭ ‬وقت،‭ ‬فالقارئ‭ ‬يتلقاه‭ ‬على‭ ‬دفعات‭ ‬أو‭ ‬لحظات‭ ‬ممتدة‭ ‬في‭ ‬الزمن‭. ‬الكتابة‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬كلمات‭ ‬وحيز‭ ‬زماني‭ ‬كي‭ ‬تكون،‭ ‬أي‭ ‬لتبلغ‭ ‬الخبر،‭ ‬وهو‭ ‬أمر‭ ‬تحرر‭ ‬منه‭ ‬الرسم،‭ ‬لأنّ‭ ‬العين‭ ‬أسرع‭ ‬الحواس‭.‬

 

جادة‭ ‬ريان

●‭ ‬هل‭ ‬لك‭ ‬أن‭ ‬تقرّب‭ ‬القراء‭ ‬من‭ ‬موضوع‭ ‬روايتك‭ ‬القادمة،‭ ‬في‭ ‬انتظار‭ ‬أن‭ ‬نقرأها‭ ‬ونستمتع‭ ‬بعوالمها،‭ ‬وهل‭ ‬لنشاطك‭ ‬الفني‭ ‬التشكيلي‭ ‬أثر‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬كتابتك‭ ‬لروايتك‭ ‬الأولى،‭ ‬مع‭ ‬إقرارنا‭ ‬القبلي‭ ‬بطبيعة‭ ‬العلاقة‭ ‬القائمة‭ ‬أصلًا‭ ‬بين‭ ‬التشكيل‭ ‬والرواية،‭ ‬شكلاً‭ ‬وموضوعًا،‭ ‬خاصة‭ ‬وأنك‭ ‬تُعتبر‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬التشكيليين‭ ‬العرب‭ ‬القلائل‭ ‬الذين‭ ‬انعطفوا،‭ ‬ولو‭ ‬جزئيًا،‭ ‬نحو‭ ‬كتابة‭ ‬الرواية؟

‭- ‬الواقع‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬في‭ ‬نيتي‭ ‬مطلقًا‭ ‬أن‭ ‬أكتب‭ ‬رواية‭. ‬كنت‭ ‬سنة‭ ‬2012‭ ‬قد‭ ‬كتبت‭ ‬صفحتين،‭ ‬وشاءت‭ ‬الصفحتان‭ ‬أنْ‭ ‬تصبحا‭ ‬250‭ ‬صفحة‭ ‬أنهيتها‭ ‬سنة‭ ‬2014‭ ‬تحت‭ ‬عنوان‭ ‬‮«‬جادة‭ ‬ريان‮»‬‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬الشخصية‭ ‬الرئيسة‭. ‬ولم‭ ‬تكن‭ ‬لديّ‭ ‬أية‭ ‬إرادة‭ ‬في‭ ‬نشرها،‭ ‬إلى‭ ‬أنْ‭ ‬شاءت‭ ‬الظروف‭ ‬واطّلع‭ ‬عليها‭ ‬ثلاثة‭ ‬أو‭ ‬أربعة‭ ‬من‭ ‬أصدقائي‭ ‬لهم‭ ‬دراية‭ ‬أدبية‭ ‬محترمة،‭ ‬حتى‭ ‬أنَّ‭ ‬من‭ ‬بينهم‭ ‬ناقد‭ ‬معروف‭. ‬ومع‭ ‬ذلك،‭ ‬بقيتُ‭ ‬متحفظًا‭ ‬على‭ ‬عرضها‭ ‬للنشر‭ ‬حتى‭ ‬2018‭. ‬وبعد‭ ‬6‭ ‬سنوات‭ ‬من‭ ‬كتابتها‭ ‬عرضتْ‭ ‬على‭ ‬الناشر،‭ ‬فلم‭ ‬يتردد‭ ‬في‭ ‬برمجتها‭ ‬ووقّعنا‭ ‬عقد‭ ‬النشر‭. ‬وبما‭ ‬أن‭ ‬ناشري‭ ‬يطبع‭ ‬إصداراته‭ ‬في‭ ‬بيروت،‭ ‬وكان‭ ‬لبنان‭ ‬قد‭ ‬تعرّض‭ ‬حينها‭ ‬لهزة‭ ‬سياسية‭ ‬خانقة‭ ‬وانعكست‭ ‬بسرعة‭ ‬البرق‭ ‬على‭ ‬حياة‭ ‬لبنان‭ ‬الاقتصادية،‭ ‬تلتها‭ ‬مباشرة‭ ‬كارثة‭ ‬الحريق‭ ‬وانفجارات‭ ‬مخازن‭ ‬الميناء‭ ‬التي‭ ‬زلزلت‭ ‬لبنان،‭ ‬ومع‭ ‬‮«‬كوفيد‭ ‬19‮»‬‭ ‬غرق‭ ‬هذا‭ ‬البلد‭ ‬الطيب‭ ‬في‭ ‬أزمة‭ ‬مميتة‭ ‬وتوقّف‭ ‬برنامج‭ ‬الطبع،‭ ‬بما‭ ‬فيه‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬جادة‭ ‬ريان‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬هذه‭ ‬الساعة‭. ‬

ومنذ‭ ‬2017‭ ‬شرعتُ‭ ‬في‭ ‬كتابة‭ ‬الجزء‭ ‬الثاني‭ ‬من‭ ‬الرواية‭ ‬تحت‭ ‬عنوان‭ ‬‮«‬تفاحة‭ ‬سيزان‮»‬،‭ ‬وكنتُ‭ ‬قد‭ ‬بعثت‭ ‬بالصفحات‭ ‬الأولى‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬المشروع‭ ‬لصديق‭ ‬تقع‭ ‬بيني‭ ‬وبينه‭ ‬مراسلات،‭ ‬وقبل‭ ‬أسبوعين‭ ‬من‭ ‬الآن‭ ‬أصدر‭ ‬هذا‭ ‬الأخير‭ ‬كتابًا‭ ‬له‭ ‬يحمل‭ ‬هذا‭ ‬العنوان‭ ‬بالذات‭ ‬‮«‬تفاحة‭ ‬سيزان‮»‬‭. ‬لذلك‭ ‬لا‭ ‬يمكنني‭ ‬أن‭ ‬أقول‭ ‬لك‭ ‬شيئًا‭ ‬عن‭ ‬مضمون‭ ‬الجزء‭ ‬الثاني‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬المشروع‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬بطلة‭ ‬الرواية‭ ‬جادة‭ ‬ريان،‭ ‬وهي‭ ‬في‭ ‬مطار‭ ‬بروكسل،‭ ‬اقتنت‭ ‬كتابًا‭ ‬حول‭ ‬الفن‭ ‬بعنوان‭ ‬‮«‬تفاحة‭ ‬سيزان‮»‬‭. ‬وشاءت‭ ‬غرائب‭ ‬المصادفات‭ ‬أنْ‭ ‬تلتقي‭ ‬بمؤلف‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬في‭ ‬الطائرة‭ ‬نفسها‭ ‬المتجهة‭ ‬إلى‭ ‬اليونان،‭ ‬وحصل‭ ‬بينهما‭ ‬تعارف‭. ‬ولما‭ ‬قرأتْ‭ ‬بضع‭ ‬صفحات‭ ‬من‭ ‬الكتاب‭ ‬تجاذبا‭ ‬أطراف‭ ‬الحديث‭ ‬حول‭ ‬مضمونه،‭ ‬وهو‭ ‬يصغي‭ ‬إليها‭ ‬استطاب‭ ‬مزاجها‭ ‬وأعجب‭ ‬بنباهتها‭ ‬قائلًا‭: ‬‮«‬ما‭ ‬من‭ ‬مؤلف‭ ‬إلّا‭ ‬وله‭ ‬قارئٌ‭ ‬مطلق،‭ ‬أما‭ ‬أنا‭ ‬فبعد‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬التجربة‭ ‬سأكتشف‭ ‬اليوم‭ ‬أن‭ ‬قارئي‭ ‬المطلق‭ ‬يوجد‭ ‬في‭ ‬السماء‮»‬،‭ ‬لتنشأ‭ ‬قصة‭ ‬حب‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭. ‬

فالشاهد‭ ‬الوحيد‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬حصل‭ ‬لقصة‭ ‬العنوان‭ ‬هذه‭ ‬هو‭ ‬شخصية‭ ‬جادة‭ ‬ريان‭ ‬بطلة‭ ‬الرواية‭.‬

 

علاقة‭ ‬الفكر‭ ‬بالفن

●‭ ‬عطفًا‭ ‬على‭ ‬سؤالي‭ ‬السابق،‭ ‬وارتباطًا‭ ‬بانشغالك‭ ‬الإبداعي‭ ‬المهيمن‭ ‬والممتد‭ ‬بالكتابة‭ ‬التشكيلية،‭ ‬إذا‭ ‬جاز‭ ‬التعبير،‭ ‬متوسلًا‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬بمعرفة‭ ‬فلسفية‭ ‬وجمالية‭ ‬وصوفية‭ ‬خصبة،‭ ‬تمكنت‭ ‬بعمق‭ ‬وخبرة‭ ‬كبيرين،‭ ‬من‭ ‬استيحائها‭ ‬واستثمارها‭ ‬فنيًا‭ ‬ومن‭ ‬استدراجها‭ ‬إلى‭ ‬فضاءات‭ ‬لوحاتك‭.‬

فكيف‭ ‬تتم‭ ‬عملية‭ ‬استدراج‭ ‬تلك‭ ‬المعارف‭ ‬وغيرها‭ ‬وعجنها‭ ‬فنيًا‭ ‬داخل‭ ‬كيمياء‭ ‬لوحاتك،‭ ‬في‭ ‬تنوعها‭ ‬وتوترها‭ ‬اللامتناهي؟

‭- ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نعَنْون‭ ‬هذا‭ ‬الموضوع‭ ‬الذّي‭ ‬تفضلتَ‭ ‬به‭ ‬هنا‭ ‬بــ‭: ‬علاقة‭ ‬الفكر‭ ‬بالفن‭. ‬ويمكن‭ ‬أن‭ ‬نَسْتَشْكِله‭ ‬بــ‭:‬ماذا‭ ‬يمكن‭ ‬للفكر‭ ‬أن‭ ‬يقدّم‭ ‬للفن؟‭ ‬أو‭ ‬ماذا‭ ‬ينتظر‭ ‬الفن‭ ‬من‭ ‬الفكر؟‭ ‬فأنا‭ ‬من‭ ‬نوع‭ ‬الفنانين‭ ‬الذين‭ ‬جاؤوا‭ ‬من‭ ‬الفكر‭ ‬إلى‭ ‬الفن‭. ‬قَدِمْتُ‭ ‬إلى‭ ‬الرسم‭ ‬من‭ ‬الفلسفة‭. ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬هذا‭ ‬شغفي‭ ‬الأول؛‭ ‬إذ‭ ‬منذ‭ ‬الطفولة‭ ‬كنت‭ ‬أهوى‭ ‬الرسم،‭ ‬وهذا‭ ‬جانب‭ ‬آخر‭ ‬من‭ ‬المسألة‭ ‬يمكن‭ ‬الكلام‭ ‬عنه‭ ‬على‭ ‬حدة‭.‬

فمنذ‭ ‬العصور‭ ‬القديمة‭ ‬إلى‭ ‬اليوم‭ ‬والفلسفة‭ ‬تتساءل‭ ‬عن‭ ‬الفن،‭ ‬بل‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬هناك‭ ‬فرق‭ ‬كبير‭ ‬بين‭ ‬الفن‭ ‬والتقنية‭ ‬باعتبارها‭ ‬معرفة‭ ‬علمية‭ ‬وتفكيرًا‭ ‬نافعًا‭. ‬ومع‭ ‬عصر‭ ‬الأنوار‭ ‬سيستقل‭ ‬الفن‭ ‬بنفسه‭ ‬وسيستقر‭ ‬مفهومه‭ ‬على‭ ‬فكرة‭ ‬الجمال،‭ ‬التي‭ ‬سيلعب‭ ‬فيها‭ ‬إيمانويل‭ ‬كانط‭ ‬دورًا‭ ‬بارزًا‭. ‬ومند‭ ‬بداية‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر،‭ ‬وبالضبط‭ ‬مع‭ ‬فرنسيسكو‭ ‬دي‭ ‬غويا،‭ ‬انفصلت‭ ‬فكرة‭ ‬الفن‭ ‬عن‭ ‬فكرة‭ ‬الجمال‭. ‬

وفي‭ ‬هذه‭ ‬اللحظة‭ ‬التاريخية‭ ‬بالذات‭ ‬وُلد‭ ‬الفن‭ ‬الحديث،‭ ‬فبدأت‭ ‬فكرة‭ ‬الاستيتيقا‭ ‬في‭ ‬التلاشي،‭ ‬مما‭ ‬مهّد‭ ‬للفن‭ ‬المعاصر‭ ‬أن‭ ‬يجعل‭ ‬للفن‭ ‬دورًا‭ ‬اختراقيًا؛‭ ‬اختراق‭ ‬الأخلاق‭ ‬واختراق‭ ‬السياسة‭ ‬واختراق‭ ‬المقدس‭.‬

فإذا‭ ‬كان‭ ‬الفن‭ ‬يغيّر‭ ‬من‭ ‬مفهومه‭ ‬ودوره‭ ‬على‭ ‬مر‭ ‬العصور،‭ ‬فهذا‭ ‬يدل‭ ‬على‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬باستمرار‭ ‬خاضعًا‭ ‬لتفكير‭ ‬الفنانين‭ ‬فيه‭. ‬فالمنجز‭ ‬الفني‭ ‬ليس‭ ‬عملًا‭ ‬تقنيًا‭ ‬صرفًا‭ ‬يحترم‭ ‬قواعد‭ ‬معيّنة‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬فضلًا‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬هو‭ ‬منجز‭ ‬يخضع‭ ‬لتفكير‭ ‬صاحبه‭ ‬فيه،‭ ‬فهو‭ ‬رؤية‭ ‬الفنان‭ ‬لذاته‭ ‬وللعالم،‭ ‬وليس‭ ‬للفلسفة‭ ‬من‭ ‬مهمة‭ ‬أخرى‭ ‬غير‭ ‬هذه‭. ‬لكن‭ ‬الفارق‭ ‬بينهما‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬الفلسفة‭ ‬تنتج‭ ‬المفاهيم،‭ ‬بيد‭ ‬أنه‭ ‬ليس‭ ‬من‭ ‬المنتظر‭ ‬من‭ ‬الفن‭ ‬أن‭ ‬ينتج‭ ‬مفاهيم‭. ‬

فتعريف‭ ‬الفن‭ (‬المعاصر‭)‬،‭ ‬اليوم،‭ ‬هو‭ ‬اختراق‭ ‬المفاهيم‭ ‬لا‭ ‬إنتاجها،‭ ‬هو‭ ‬خلخلة‭ ‬القيم‭. ‬وهنا‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭ ‬تعانق‭ ‬الفلسفة‭ ‬الفن،‭ ‬إذ‭ ‬كلاهما‭ ‬منشغل‭ ‬بتحقيق‭ ‬الدهشة‭ ‬وخلق‭ ‬الذهول،‭ ‬وبما‭ ‬أن‭ ‬الفلسفة‭ ‬في‭ ‬تراجع‭ ‬يومًا‭ ‬عن‭ ‬يوم‭ ‬عن‭ ‬عصورها‭ ‬الذهبية،‭ ‬فقد‭ ‬أخذ‭ ‬الفن‭ ‬يحتل‭ ‬مكانها‭ ‬ليقوم‭ ‬بدور‭ ‬المذهل‭ ‬والمزعج،‭ ‬وهكذا‭ ‬سيسمح‭ ‬لنفسه،‭ ‬بمساعدة‭ ‬وسائل‭ ‬الإعلام‭ ‬والدعاية‭ ‬والأروقة‭ ‬والمتاحف‭ ‬والمزادات،‭ ‬بأن‭ ‬يجعل‭ ‬من‭ ‬القبيح‭ ‬والبشع‭ ‬والشنيع،‭ ‬وحتى‭ ‬المقزز،‭ ‬موضوعًا‭ ‬‮«‬جماليًا‮»‬‭ ‬وغدا‭ ‬خلب‭ ‬النظر‭ ‬آخر‭ ‬انشغالاته‭.‬

وإذا‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬التحديد‭ ‬لا‭ ‬يناسبني‭ ‬شخصيًا،‭ ‬لكن‭ ‬المقصود‭ ‬هو‭ ‬للإجابة‭ ‬عن‭ ‬سؤالك،‭ ‬بأن‭ ‬المُحَصِّلة‭ ‬هي‭ ‬كيف‭ ‬يفكر‭ ‬الفن‭ ‬في‭ ‬نفسه‭ ‬ولا‭ ‬يستورد‭ ‬التفكير‭ ‬من‭ ‬خارجه‭. ‬ولدينا‭ ‬أمثلة‭ ‬جليّة‭ ‬من‭ ‬كاندانسكي‭ ‬الفنان‭ ‬الروسي‭ ‬الأصل،‭ ‬أبي‭ ‬التجريدية‭ ‬والمدرسة‭ ‬الطليعية،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬كتابه‭ ‬بصدد‭ ‬الروحانية‭ ‬في‭ ‬الفن،‭ ‬التي‭ ‬تدور‭ ‬أطروحته‭ ‬حول‭ ‬الضرورة‭ ‬الداخلية‭ / ‬الروحية‭ ‬للإبداع‭.‬

ومفادها‭ ‬أن‭ ‬قيمة‭ ‬العمل‭ ‬الفني‭ ‬ليست‭ ‬في‭ ‬جماليته،‭ ‬بل‭ ‬في‭ ‬قدرته‭ ‬على‭ ‬إثارة‭ ‬خفقان‭ ‬الروح‭ ‬مادام‭ ‬الفن‭ ‬هو‭ ‬لغة‭ ‬الروح‭ ‬بامتياز‭. ‬فما‭ ‬بعد‭ ‬الشكل‭ ‬والتكوين،‭ ‬أي‭ ‬حينما‭ ‬تصمت‭ ‬الألوان‭ ‬والخطوط،‭ ‬حينما‭ ‬تنتهي‭ ‬الفكرة‭ ‬وتبدأ‭ ‬اللوحة،‭ ‬حينئذ‭ ‬يهتز‭ ‬الوجدان‭. ‬فكما‭ ‬أن‭ ‬للإنسان‭ ‬باطنًا،‭ ‬فللوحة‭ ‬باطن‭ ‬أيضًا‭. ‬وتنتهي‭ ‬الفكرة‭ ‬عندما‭ ‬يستنير‭ ‬الباطن‭ ‬بالباطن‭. ‬بهذا‭ ‬المعنى،‭ ‬الفن‭ ‬هو‭ ‬لغة‭ ‬الروح،‭ ‬وهناك‭ ‬أمثلة‭ ‬من‭ ‬ماليفتش‭ ‬وطابييس،‭ ‬وغيرهما‭ ‬كثر‭ ‬من‭ ‬الفنانين‭ ‬الذين‭ ‬فكروا‭ ‬ودونوا‭ ‬أطروحاتهم‭ ‬حول‭ ‬الفن‭.‬

ولهؤلاء‭ ‬يرجع‭ ‬الفضل‭ ‬فيما‭ ‬وصل‭ ‬إليه‭ ‬الرسم‭ ‬اليوم‭ ‬وليس‭ ‬للفنانين‭ ‬الذين‭ ‬يمتهنون‭ ‬صنعة‭ ‬لا‭ ‬غير‭. ‬فالفنانون‭ ‬المغاربة‭ ‬الذين‭ ‬طبعوا‭ ‬مسار‭ ‬التشكيل‭ ‬في‭ ‬المغرب،‭ ‬على‭ ‬قلتهم،‭ ‬هم‭ ‬الفنانون‭ ‬الذين‭ ‬كانت‭ ‬لهم‭ ‬رؤية‭ ‬فكرية‭ ‬كأحمد‭ ‬الشرقاوي‭ ‬ومحمد‭ ‬القاسمي‭. ‬وقد‭ ‬يحدث‭ ‬مصادفة‭ ‬وجود‭ ‬فنانين‭ ‬على‭ ‬درجة‭ ‬من‭ ‬الرؤية‭ ‬الفكرية،‭ ‬لكن‭ ‬‮«‬منجزهم‮»‬‭ ‬في‭ ‬حاجة‭ ‬إلى‭ ‬مرافعة‭ ‬كبيرة‭ ‬لتبرئة‭ ‬عملهم‭ ‬من‭ ‬تُهَمِ‭ ‬الانتحال‭ ‬الموجهة‭ ‬لهم‭.‬

وبالمناسبة،‭ ‬فلقائي‭ ‬بأسماء‭ ‬فكرية‭ ‬وأدبية‭ ‬وثقافية‭ ‬عبر‭ ‬مساري‭ ‬الفني‭ ‬لعب‭ ‬دورًا‭ ‬لا‭ ‬غبار‭ ‬عليه‭ ‬كي‭ ‬أطل‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬أنْجِزُ‭ ‬عبر‭ ‬ذلك‭ ‬الشيء‭ ‬الروحي‭ ‬الكبير‭ ‬الذي‭ ‬بداخلي‭.‬

ومن‭ ‬نافلة‭ ‬القول‭ ‬أنْ‭ ‬أضيف‭ ‬أن‭ ‬العملية‭ ‬الإبداعية‭ ‬لا‭ ‬تُحقق‭ ‬نجاحها‭ ‬إلّا‭ ‬إذا‭ ‬حافظت‭ ‬على‭ ‬طراوتها‭ ‬وصدقها،‭ ‬لأنّ‭ ‬الإسراف‭ ‬في‭ ‬التفكير‭ ‬وعقلنة‭ ‬الفعل‭ ‬الإبداعي‭ ‬يورثان‭ ‬أعطابًا‭ ‬وتكلفًا‭ ‬يفقد‭ ‬المنجز‭ ‬الفني‭ ‬تلقائيته‭. ‬

‭ ‬

مراحل‭ ‬مميزة

●‭ ‬جوابك‭ ‬هذا،‭ ‬يدفعني‭ ‬إلى‭ ‬طرح‭ ‬سؤال‭ ‬موازٍ‭ ‬يهم‭ ‬مسيرك‭ ‬الإبداعي‭ ‬الفني،‭ ‬في‭ ‬محطاته‭ ‬الزمنية‭ ‬والجمالية‭ ‬المختلفة،‭ ‬وأيضًا‭ ‬في‭ ‬منجزاته‭ ‬وتنوّعه‭ ‬وغناه‭. ‬فمما‭ ‬لا‭ ‬شك‭ ‬فيه‭ ‬أن‭ ‬تجربتك‭ ‬التشكيلية‭ ‬الطويلة‭ ‬قد‭ ‬مرت،‭ ‬منذ‭ ‬بداياتها،‭ ‬بمراحل‭ ‬فنية‭ ‬مميزة‭ ‬لها،‭ ‬في‭ ‬تلويناتها‭ ‬وأساليبها‭ ‬وأفكارها‭ ‬ومرجعياتها‭ ‬الخاصة‭. ‬فهل‭ ‬لك‭ ‬أن‭ ‬تحدثنا،‭ ‬بتركيز،‭ ‬عن‭ ‬بعض‭ ‬فصول‭ ‬هذه‭ ‬التجربة‭ ‬الممتدة‭ ‬في‭ ‬الزمن‭ ‬وفي‭ ‬مشهدنا‭ ‬التشكيلي‭ ‬العربي،‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬محطاتها‭ ‬الكبرى‭ ‬المؤثرة،‭ ‬وما‭ ‬هي،‭ ‬في‭ ‬نظرك،‭ ‬المحطة‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬لها‭ ‬أثر‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬تجربتك‭ ‬الفنية‭ ‬ووقع‭ ‬خاص‭ ‬في‭ ‬التجربة‭ ‬التشكيلية‭ ‬بالمغرب‭ ‬وخارجه؟

‭-  ‬كان‭ ‬بدء‭ ‬أول‭ ‬الغيث‭ ‬في‭ ‬الجامع‭ ‬أو‭ ‬المسيد‭ ‬كما‭ ‬يسميه‭ ‬أهل‭ ‬فاس،‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬الفقيه‭ ‬يكلفني‭ ‬بتزيين‭ ‬لوح‭ ‬من‭ ‬أنهى‭ ‬من‭ ‬الطلبة‭ ‬حفظ‭ ‬حزب‭ ‬من‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم‭. ‬وأنا‭ ‬حينها‭ ‬مازلت‭ ‬في‭ ‬الحزب‭ ‬الأول‭. ‬ويتوج‭ ‬الأمر‭ ‬بانتخاب‭ ‬الفقيه‭ ‬لثلة‭ ‬من‭ ‬أقران‭ ‬‮«‬المحضار‮»‬،‭ ‬كي‭ ‬يخرجوا‭ ‬من‭ ‬الكُتّاب‭ ‬وهم‭ ‬يهللون،‭ ‬يتقدمهم‭ ‬الطالب‭ ‬مزهوًا‭ ‬مسندًا‭ ‬لوحه،‭ ‬الذي‭ ‬كنتُ‭ ‬زخرفتُ‭ ‬حواشيه،‭ ‬على‭ ‬صدره،‭ ‬يتوسطها‭ ‬بخط‭ ‬مغربي‭ ‬عريض‭ ‬بقلم‭ ‬الفقيه‭ ‬‮«‬إنا‭ ‬فتحنا‭ ‬لك‭ ‬فتحًا‭ ‬مبينًا‮»‬،‭ ‬قاصدين‭ ‬بيت‭ ‬صاحب‭ ‬‮«‬التخريجة‮»‬‭.‬

وعبر‭ ‬الزقاق‭ ‬ننتشي‭ ‬بزغاريد‭ ‬الأمهات‭ ‬الجارات،‭ ‬ثم‭ ‬نزدرد‭ ‬الحلوى‭ ‬ونلتهم‭ ‬الرغيف‭ ‬أو‭ ‬الإسفنج،‭ ‬ونتلو‭ ‬ما‭ ‬تيسر‭ ‬من‭ ‬القرآن،‭ ‬ونعود‭ ‬أدراجنا‭ ‬إلى‭ ‬الكُتّاب‭ ‬حاملين‭ ‬صينية‭ ‬مجهزة‭ ‬بالتمر‭ ‬والرغيف‭ ‬والشاي‭ ‬وبعض‭ ‬النقود‭ ‬إلى‭ ‬الفقيه‭ ‬الذي‭ ‬ينتظرها‭ ‬بلهفة‭. ‬

وعندما‭ ‬انتقلتُ‭ ‬من‭ ‬المسيد‭ ‬إلى‭ ‬المدرسة،‭ ‬كان‭ ‬المعلّم‭ ‬يلاحظ‭ ‬ما‭ ‬أنمّق‭ ‬به‭ ‬دفاتري‭ ‬من‭ ‬تخطيطات‭ ‬وما‭ ‬أظفر‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬أعلى‭ ‬نقطة‭ ‬في‭ ‬الرسم‭ ‬والخط،‭ ‬مما‭ ‬حفزني‭ ‬في‭ ‬عرض‭ ‬رسومي‭ ‬عليه،‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يعلّقها‭ ‬على‭ ‬جدار‭ ‬حجرة‭ ‬الدرس،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يرفع‭ ‬من‭ ‬همّتي‭ ‬ويورطني‭ ‬في‭ ‬الرسم‭ ‬أكثر،‭ ‬خاصة‭ ‬لما‭ ‬كان‭ ‬يكلفني‭ ‬بتخطيط‭ ‬وتزيين‭ ‬أوراق‭ ‬‮«‬البريستول‮»‬‭ ‬الكبيرة‭ ‬الحجم‭ ‬للجداول‭ ‬السنوية‭ ‬والشهرية‭... ‬وعند‭ ‬حفل‭ ‬نهاية‭ ‬السنة‭ ‬الدراسية،‭ ‬كانت‭ ‬دائمًا‭ ‬هناك‭ ‬جوائز‭ ‬توزع‭ ‬على‭ ‬المتفوقين،‭ ‬وكان‭ ‬نصيبي‭ ‬معروفًا‭ ‬دائمًا،‭ ‬وهو‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬دفاتر‭ ‬الرسم‭ ‬وملونات‭ ‬وأدوات‭ ‬الرسم‭ ‬التي‭ ‬كنتُ‭ ‬في‭ ‬حاجة‭ ‬ماسة‭ ‬إليها‭ ‬بسبب‭ ‬ضيق‭ ‬ذات‭ ‬يد‭ ‬أبي‭. ‬

ولما‭ ‬بلغتُ‭ ‬المرحلة‭ ‬الثانوية،‭ ‬سيكتشف‭ ‬الأساتذة‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭ ‬موهبتي‭. ‬وكان‭ ‬أول‭ ‬كتاب‭ ‬حول‭ ‬‮«‬الرسم‭ ‬في‭ ‬المغرب‮»‬‭ ‬وهو‭ ‬مجلد‭ ‬فاخر‭ ‬أهدته‭ ‬لي‭ ‬أستاذة‭ ‬اللغة‭ ‬الفرنسية‭ (‬كان‭ ‬وقتها‭ ‬الأجانب‭)‬،‭ ‬لا‭ ‬أنسى‭ ‬وقع‭ ‬هذه‭ ‬الهدية،‭ ‬بل‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬رائحة‭ ‬ذلك‭ ‬المجلد‭ ‬في‭ ‬خياشيمي‭ ‬إلى‭ ‬اليوم‭.‬

ويتوج‭ ‬هذا‭ ‬الميول‭ ‬عندي‭ ‬بمعرض‭ ‬في‭ ‬رواق‭ ‬جناح‭ ‬العلوم،‭ ‬وكانت‭ ‬للأساتذة‭ ‬أيادٍ‭ ‬بيضاء‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬المبادرة،‭ ‬فمنهم‭ ‬من‭ ‬ساعدني‭ ‬في‭ ‬نقل‭ ‬لوحاتي‭ ‬بسيارته‭ ‬ومنهم‭ ‬من‭ ‬كتب‭ ‬لي‭ ‬بطاقات‭. ‬وبيع‭ ‬معرضي‭ ‬بين‭ ‬المدير‭ ‬والأساتذة‭ ‬عن‭ ‬آخره‭. ‬وكانت‭ ‬حينها،‭ ‬وأنا‭ ‬في‭ ‬سن‭ ‬السادسة‭ ‬عشرة‭ ‬من‭ ‬عمري،‭ ‬أول‭ ‬مرة‭ ‬أحصل‭ ‬على‭ ‬مداخل‭ ‬مالية‭ ‬مهمة‭ ‬من‭ ‬الرسم،‭ ‬الشيء‭ ‬الذي‭ ‬استغرب‭ ‬له‭ ‬أبي‭ ‬الممانع‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬أصرف‭ ‬وقتي‭ ‬في‭ ‬الرسم‭.‬

وفي‭ ‬السنة‭ ‬النهائية‭ ‬من‭ ‬الثانوي،‭ ‬ستدرسني‭ ‬السيدة‭ ‬لطيفة‭ ‬العراقي‭ ‬مادة‭ ‬اللغة‭ ‬الفرنسية،‭ ‬ولمّا‭ ‬دعتني‭ ‬لبيتها،‭ ‬سأتعرف‭ ‬إلى‭ ‬زوجها‭ ‬مليم‭ ‬لعروسي‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬حينها‭ ‬معلمًا‭ ‬ابتدائيًا،‭ ‬وسيهتم‭ ‬فيما‭ ‬بعد‭ ‬على‭ ‬إثر‭ ‬علاقته‭ ‬بعبدالحي‭ ‬الديوري‭ ‬بموضوع‭ ‬الثقافة‭ ‬الشعبية،‭ ‬وسيتعاطى‭ ‬فيما‭ ‬بعد‭ ‬الفنون‭ ‬التشكيلية،‭ ‬واستمرت‭ ‬علاقتنا‭ ‬فأنجزنا‭ ‬كتابًا‭ ‬فنيًا‭ ‬في‭ ‬نسخ‭ ‬محدودة‭ ‬عنوانه‭ ‬‮«‬قناديل‭ ‬الليالي‭ ‬العشر‮»‬‭.‬

وقبلها‭ ‬وأنا‭ ‬في‭ ‬الجامعة‭ ‬سأصمم،‭ ‬بطلب‭ ‬من‭ ‬الشاعر‭ ‬محمد‭ ‬بنيس،‭ ‬أول‭ ‬قصيدة‭ ‬كاليكرافية‭ ‬للزعيم‭ ‬ماو‭ ‬تسي‭ ‬تونغ‭ ‬في‭ ‬منتصف‭ ‬السبعينيات‭ ‬بمجلة‭ ‬الثقافة‭ ‬الجديدة‭. ‬وستكون‭ ‬أول‭ ‬قصيدة‭ ‬بصرية‭ ‬تفتح‭ ‬الباب‭ ‬أمام‭ ‬ما‭ ‬سمّي‭ ‬بالقصيدة‭ ‬الفضائية،‭ ‬حيث‭ ‬سيطبع‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬الشعراء‭ ‬دواوينهم‭ ‬على‭ ‬غرار‭ ‬الملزمة‭ ‬الشعرية‭ ‬الكرافيكية‭ ‬التي‭ ‬صممتها‭ ‬خصيصًا‭ ‬لمجلة‭ ‬محمد‭ ‬بنيس‭.‬

وفي‭ ‬عام‭ ‬1980،‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬أذكر،‭ ‬كانت‭ ‬أول‭ ‬مشاركة‭ ‬لي‭ ‬في‭ ‬لقاء‭ ‬وطني‭ ‬مهم،‭ ‬قبل‭ ‬جداريات‭ ‬مستشفى‭ ‬الأمراض‭ ‬العقلية‭ ‬في‭ ‬برشيد،‭ ‬جمع‭ ‬كل‭ ‬الفنانين‭ ‬الراسخين‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬مكناس‭. ‬كان‭ ‬لهذا‭ ‬اللقاء‭ ‬بالنسبة‭ ‬لي‭ ‬أثر‭ ‬مهم‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬الاتصال‭ ‬بالفنانين‭ ‬والجمهور،‭ ‬وبعدها‭ ‬بقليل‭ ‬سأتعرف‭ ‬إلى‭ ‬السينمائي‭ ‬المرحوم‭ ‬محمد‭ ‬الركاب‭ ‬الذي‭ ‬قدّم‭ ‬أعمالي‭ ‬للمخرج‭ ‬سهيل‭ ‬بنبركة‭ ‬صاحب‭ ‬رواق‭ ‬الداوليز‭ ‬بالدار‭ ‬البيضاء،‭ ‬حيث‭ ‬دعاني‭ ‬لتنظيم‭ ‬أول‭ ‬معرض‭ ‬فردي‭ ‬عام‭ ‬1987،‭ ‬ومنذ‭ ‬ذلك‭ ‬الحين‭ ‬سيتلوها‭ ‬معارض‭ ‬فردية‭ ‬وجماعية‭ ‬بالمغرب‭ ‬وبالخارج‭.‬

وفي‭ ‬بداية‭ ‬التسعينيات‭ ‬كانت‭ ‬جماعة‭ ‬الواسطي‭ ‬بزنقة‭ ‬جون‭ ‬جوريس‭ ‬بالبيضاء‭ (‬حسن‭ ‬الصميلي‭ ‬وجلال‭ ‬ومليم‭ ‬وربيع‭) ‬كانت‭ ‬دائرة‭ ‬فنية‭ ‬وثقافية،‭ ‬حيث‭ ‬نظمتُ‭ ‬معرض‭ ‬‮«‬وجهًا‭ ‬لوجه‮»‬‭ ‬بصحبة‭ ‬مليم‭ ‬لعروسي‭. ‬وستكون‭ ‬هذه‭ ‬الجماعة‭ ‬خلية‭ ‬بقيادة‭ ‬حسن‭ ‬الصميلي‭ ‬في‭ ‬وضع‭ ‬مشاريع‭ ‬التعليم‭ ‬الفني‭ ‬وإصلاح‭ ‬مدرسة‭ ‬الفنون‭ ‬الجميلة،‭ ‬حيث‭ ‬درَّسْتُ‭ ‬بها‭ ‬الجرافيك‭ ‬ودرس‭ ‬في‭ ‬فلسفة‭ ‬الفن‭.‬

علاقتي‭ ‬بمحمد‭ ‬الأشعري‭ ‬محطة‭ ‬أخرى‭ ‬أيضًا‭ ‬منذ‭ ‬أن‭ ‬شغل‭ ‬رئيسًا‭ ‬لاتحاد‭ ‬كتاب‭ ‬المغرب،‭ ‬حيث‭ ‬صممت‭ ‬في‭ ‬عهده‭ ‬كل‭ ‬المنشورات‭ ‬من‭ ‬كتب‭ ‬ومجلات‭ ‬وملصقات،‭ ‬ببهاء‭ ‬يشهد‭ ‬له‭ ‬الجميع‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬تقلّد‭ ‬المنصب‭ ‬الوزاري،‭ ‬حيث‭ ‬اشتغلنا‭ ‬جنبًا‭ ‬إلى‭ ‬جنب،‭ ‬وأنجزنا‭ ‬أشياء‭ ‬كثيرة‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬الفن‭ ‬والنشر‭.  ‬ثم‭ ‬تأتي‭ ‬مرحلة‭ ‬مجلة‭ ‬زنار،‭ ‬المختصة‭ ‬بالفن‭ ‬المعاصر،‭ ‬كانت‭ ‬رفقة‭ ‬جماعة‭ ‬جميلة‭ ‬أذكر‭ ‬منها‭ ‬المرحوم‭ ‬إدمون‭ ‬عمران‭ ‬المالح،‭ ‬وحسان‭ ‬بورقية،‭ ‬وغيرهما،‭ ‬ليضيق‭ ‬المجال‭ ‬هنا‭ ‬لذكر‭ ‬كل‭ ‬الأسماء‭ ‬التي‭ ‬ألهمتني‭ ‬في‭ ‬مساري‭ ‬الفني؛‭ ‬سواء‭ ‬بالمغرب‭ ‬أو‭ ‬بالخارج،‭ ‬وربما‭ ‬يستدعي‭ ‬ذلك‭ ‬لقاء‭ ‬آخر‭.‬

 

حضور‭ ‬وازن

●‭ ‬عطفًا‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الحضور‭ ‬الفني‭ ‬الوازن‭ ‬وطنيًا،‭ ‬منذ‭ ‬بدايات‭ ‬تجربتك‭ ‬الفنية‭ ‬موازاة‭ ‬مع‭ ‬محطات‭ ‬تطورها‭ ‬وامتداداتها،‭ ‬ما‭ ‬فتئت‭ ‬تواصل‭ ‬اعتبار‭ ‬أعمالك‭ ‬التشكيلية‭ ‬بمنزلة‭ ‬تمرينات‭ ‬عن‭ ‬رسم‭ ‬لم‭ ‬يكتمل‭ ‬بعد،‭ ‬أنت‭ ‬المعروف‭ ‬ببحثك‭ ‬الدائم‭ ‬والمتجدد‭ ‬عن‭ ‬التقنية‭ ‬وعن‭ ‬روائح‭ ‬جديدة‭ ‬لرسوماتك،‭ ‬بمثل‭ ‬بحثك‭ ‬المتواصل‭ ‬عن‭ ‬مواد‭ ‬جديدة‭ ‬لمعنى‭ ‬لوحاتك،‭ ‬مستخلصة‭ ‬من‭ ‬النبات‭ ‬والتراب‭ ‬والخشب،‭ ‬ومن‭ ‬مساحيق‭ ‬المعادن‭ ‬والصلصال‭ ‬والرخام‭ ‬والفحم‭ ‬وغيرها،‭ ‬في‭ ‬انحيازك‭ ‬الملحوظ‭ ‬إلى‭ ‬الجمال،‭ ‬مما‭ ‬يولّد‭ ‬لك‭ ‬ولنا‭ ‬ضوءًا‭ ‬داخليًا‭ ‬خاصًا،‭ ‬عبر‭ ‬ما‭ ‬تفرزه‭ ‬الألوان‭ ‬في‭ ‬أعماقنا‭ ‬من‭ ‬صفاء‭ ‬يلج‭ ‬بنا‭ ‬داخل‭ ‬كُنه‭ ‬الأشياء،‭ ‬عبر‭ ‬إعادة‭ ‬اكتشافها‭ ‬باستمرار‭. ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬يجعلنا،‭ ‬بشهادة‭ ‬الجميع،‭ ‬أمام‭ ‬فنان‭ ‬له‭ ‬أسلوبه‭ ‬الخاص‭ ‬والمتفرد،‭ ‬في‭ ‬تحاشيه‭ ‬للتكرار‭ ‬وفي‭ ‬انشداده‭ ‬الفني‭ ‬إلى‭ ‬مستقبل‭ ‬يحلم‭ ‬فيه‭ ‬بلوحة‭ ‬شبيهة‭ ‬بصوت‭ ‬المغني‭ ‬الجزائري‭ ‬الراحل‭ ‬الشيخ‭ ‬محمد‭ ‬العنقة،‭ ‬وصوت‭ ‬آرمسترونغ‭. ‬فهل‭ ‬لك‭ ‬أن‭ ‬تقرّبنا،‭ ‬من‭ ‬جديد،‭ ‬مما‭ ‬تشتغل‭ ‬عليه‭ ‬اليوم‭ ‬فنيًا؟

‭- ‬منذ‭ ‬آخر‭ ‬معرض‭ ‬فردي‭ ‬لي‭ ‬داخل‭ ‬الوطن،‭ ‬بدأت‭ ‬تظهر‭ ‬على‭ ‬لوحتي‭ ‬تباشير‭ ‬انزياحات‭ ‬نحو‭ ‬التشخيص‭. ‬وأعتقد‭ ‬أن‭ ‬بداية‭ ‬الميل‭ ‬هذه‭ ‬ترجع‭ ‬لسببين‭ ‬اثنين،‭ ‬هما‭ ‬أن‭ ‬لوحتي‭ ‬كانت‭ ‬منذ‭ ‬1987‭ ‬إلى‭ ‬اليوم،‭ ‬أي‭ ‬34‭ ‬سنة‭ ‬لوحة‭ ‬تجريدية‭. ‬ومع‭ ‬العمر‭ ‬انتابتني‭ ‬رغبة‭ ‬في‭ ‬الحكي‭ ‬وفي‭ ‬الحاجة‭ ‬إلى‭ ‬السرد‭ ‬بعد‭ ‬ثلاثة‭ ‬عقود‭ ‬من‭ ‬التجريد‭ (‬لاحظ‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الفيروس‭ ‬يضرب‭ ‬أيضًا‭ ‬عددًا‭ ‬من‭ ‬الأدباء‭ ‬الذين‭ ‬كانوا‭ ‬يكتبون‭ ‬الشعر‭ ‬ثم‭ ‬اتجهوا‭ ‬للرواية،‭ ‬بحُكم‭ ‬أن‭ ‬الشعر‭ ‬أقوى‭ ‬الأنماط‭ ‬الأدبية‭ ‬تجريدًا‭). ‬أما‭ ‬السبب‭ ‬الثاني،‭ ‬فهو‭ ‬منذ‭ ‬استقراري‭ ‬في‭ ‬مرسمي‭ ‬بالمزرعة‭ ‬في‭ ‬بلدة‭ ‬بنسليمان‭ ‬أخذت‭ ‬الطبيعة‭ ‬تأخذ‭ ‬منّي‭ ‬كل‭ ‬مأخذ،‭ ‬فكيف‭ ‬لي‭ ‬أن‭ ‬أتجاهل‭ ‬الأخضر‭ ‬الذي‭ ‬يحيط‭ ‬بي‭ ‬أو‭ ‬الألوان‭ ‬عبر‭ ‬فصولها‭ ‬ولا‭ ‬الضياء‭. ‬اللون‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬الدار‭ ‬البيضاء‭ ‬معاناة‭. ‬لذلك‭ ‬تركتها‭ ‬إلى‭ ‬حيث‭ ‬الضوء‭ ‬الصافي‭ ‬الذي‭ ‬يسمح‭ ‬بالتأمل،‭ ‬وإلى‭ ‬هواء‭ ‬غير‭ ‬مشوب‭ ‬بأدخنة‭ ‬المصانع‭ ‬والمركبات‭. ‬وهكذا‭ ‬أخذت‭ ‬تزحف‭ ‬الطبيعة‭ ‬إلى‭ ‬لوحتي،‭ ‬فوجدت‭ ‬توافقًا‭ ‬نفسيًا‭ ‬ينسجم‭ ‬وميولاتي‭ ‬الروحية‭ ‬والصوفية‭.‬

وبالرجوع‭ ‬إلى‭ ‬لوحة‭ ‬تشبه‭ ‬حناجر‭ ‬آرمسترونغ‭ ‬والشيخ‭ ‬العنقة،‭ ‬فالمقصود‭ ‬به‭ ‬هو‭ ‬ذلك‭ ‬التعبير‭ ‬غير‭ ‬المتكلف‭ ‬والتلقائي‭ ‬الذي‭ ‬ينطلق‭ ‬حقيقيًا‭ ‬من‭ ‬الدواخل‭ ‬غير‭ ‬مشذب‭ ‬وغير‭ ‬مزيف،‭ ‬ولك‭ ‬أن‭ ‬تلاحظ‭ ‬هذا‭ ‬ليس‭ ‬في‭ ‬الصوت‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬أيضًا‭ ‬في‭ ‬الرسم‭ ‬وفي‭ ‬الأدب‭ ‬وفي‭ ‬الطبخ‭ ‬وفي‭ ‬المعمار‭ ‬وفي‭ ‬الصداقة،‭ ‬بل‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬الأوجه‭ ‬الحقيقية‭ ‬للحياة‭. ‬واللوحة‭ ‬التي‭ ‬بصددها‭ ‬الآن‭ ‬تدخل‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬السياق،‭ ‬وهي‭ ‬قماش‭ ‬من‭ ‬مترين‭ ‬على‭ ‬ثلاثة‭ ‬أمثار‭.‬

 

أيادٍ‭ ‬بيضاء‭ ‬للكويت

●‭ ‬نعرف‭ ‬أن‭ ‬لك‭ ‬مشاركات‭ ‬كبيرة‭ ‬ووازنة‭ ‬في‭ ‬معارض‭ ‬عربية‭ ‬ودولية‭ ‬ذات‭ ‬صيت‭ ‬واسع،‭ ‬أخص‭ ‬منها‭ ‬معارضك‭ ‬ببعض‭ ‬البلدان‭ ‬العربية‭ ‬العديدة،‭ ‬بما‭ ‬فيها‭ ‬بلدان‭ ‬الخليج‭ ‬العربي،‭ ‬كما‭ ‬هي‭ ‬الحال‭ ‬بالنسبة‭ ‬لمعرضك‭ ‬الأخير‭ ‬بدولة‭ ‬الكويت،‭ ‬برعاية‭ ‬المجلس‭ ‬الوطني‭ ‬للثقافة‭ ‬والفنون‭ ‬والآداب‭. ‬في‭ ‬نظرك،‭ ‬وأنت‭ ‬تساهم‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬معارضك‭ ‬في‭ ‬التعريف‭ ‬بالحركة‭ ‬التشكيلية‭ ‬بالمغرب‭ ‬وإشاعتها‭ ‬خارجيًا،‭ ‬ومن‭ ‬خلال‭ ‬احتكاكك‭ ‬برواد‭ ‬معرضك‭ ‬وبالمسؤولين‭ ‬عن‭ ‬الفنون‭ ‬هناك،‭ ‬ما‭ ‬الذي‭ ‬أثار،‭ ‬في‭ ‬نظرك،‭ ‬المتلقي‭ ‬لتجربتك‭ ‬الفنية‭ ‬في‭ ‬الكويت؛‭ ‬هذا‭ ‬البلد‭ ‬العربي‭ ‬المعروف‭ ‬بحركته‭ ‬التشكيلية‭ ‬الرائدة‭ ‬وبرعايته‭ ‬المتواصلة‭ ‬للفن‭ ‬التشكيلي،‭ ‬بمثل‭ ‬ما‭ ‬يُعرف‭ ‬بجمهوره‭ ‬الواسع‭ ‬المتذوق‭ ‬للتشكيل؟

‭- ‬تجمعني‭ ‬علاقات‭ ‬صداقة‭ ‬مع‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬الزملاء‭ ‬التشكيليين‭ ‬الكويتيين‭ ‬أو‭ ‬المقيمين‭ ‬في‭ ‬الكويت‭. ‬وعلى‭ ‬رأسهم‭ ‬قيدوم‭ ‬الفنانين‭ ‬النحات‭ ‬الكويتي‭ ‬المعروف‭ ‬محمد‭ ‬سامي‭ ‬وعدد‭ ‬آخر‭ ‬لا‭ ‬أسمّي‭ ‬أحدًا‭ ‬تجنبًا‭ ‬لنسيان‭ ‬البعض‭. ‬

فأنا‭ ‬أشغل‭ ‬أمين‭ ‬سر‭ ‬اتحاد‭ ‬التشكيليين‭ ‬العرب‭ ‬الذي‭ ‬ترأسه‭ ‬الكويت‭ ‬ومقره‭ ‬بالكويت‭ ‬منذ‭ ‬2013‭. ‬كما‭ ‬أني‭ ‬سبق‭ ‬وتشرفت‭ ‬هناك‭ ‬بجائزة‭ ‬بيينالي‭ ‬الخرافي‭ ‬سنة‭ ‬2006،‭ ‬وكنت‭ ‬عضوًا‭ ‬لبعض‭ ‬لجان‭ ‬تحكيم‭ ‬جوائز‭. ‬ونظمت‭ ‬معرضا‭ ‬برواق‭ ‬بوشهري،‭ ‬رافقني‭ ‬فيه‭ ‬الفنان‭ ‬السوداني‭ ‬المعروف‭ ‬راشد‭ ‬دياب‭ ‬وقدّمه‭ ‬الناقد‭ ‬فاروق‭ ‬يوسف‭ ‬بنص‭ ‬جميل‭. ‬وحضرت‭ ‬عدة‭ ‬دعوات‭ ‬فنية،‭ ‬وحظيت‭ ‬باستقبال‭ ‬سمو‭ ‬ولي‭ ‬العهد‭ ‬الراحل‭ ‬الشيخ‭ ‬سعد‭ ‬العبدالله‭ ‬آنذاك‭ ‬في‭ ‬مكتبه‭. ‬ويتوافر‭ ‬متحف‭ ‬الكويت‭ ‬على‭ ‬إحدى‭ ‬لوحاتي‭. ‬أما‭ ‬آخر‭ ‬مشاريعي‭ ‬بالكويت،‭ ‬فكانت‭ ‬كما‭ ‬أشرتَ،‭ ‬تنظيم‭ ‬معرض‭ ‬شخصي‭ ‬بدعوة‭ ‬من‭ ‬المجلس‭ ‬الوطني‭ ‬للثقافة‭ ‬والفنون‭ ‬والآداب،‭ ‬الذي‭ ‬ساعدني‭ ‬في‭ ‬تنسيقه‭ ‬الصديق‭ ‬العزيز‭ ‬سليمان‭ ‬العوضي‭. ‬وعرف‭ ‬المعرض‭ ‬إقبالاً‭ ‬ملحوظًا،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬عهدته‭ ‬في‭ ‬الجمهور‭ ‬الكويتي‭ ‬الرائع،‭ ‬وكما‭ ‬تفضلتَ‭ ‬جمهور‭ ‬متذوق‭ ‬للتشكيل‭. ‬ينبغي‭ ‬ألا‭ ‬ننسى‭ ‬أنه‭ ‬قبل‭ ‬حرب‭ ‬العراق‭ ‬على‭ ‬الكويت،‭ ‬كانت‭ ‬الكويت‭ ‬تتبوأ‭ ‬مكانة‭ ‬الواجهة‭ ‬في‭ ‬المشهد‭ ‬الثقافي‭ ‬العربي‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬النشر‭ ‬والمعارض‭ ‬والأنشطة،‭ ‬وهي‭ ‬تسترجع‭ ‬موقعها‭ ‬اليوم‭ ‬مع‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الكياسة،‭ ‬ولها‭ ‬أيادٍ‭ ‬بيضاء‭ ‬في‭ ‬حلّ‭ ‬التوتر‭ ‬الأخير‭ ‬بين‭ ‬دول‭ ‬مجلس‭ ‬التعاون‭ ‬الخليجي‭ ‬■