فيلم البداية جذور الاستعباد وصناعة الاستبداد

فيلم البداية جذور الاستعباد وصناعة الاستبداد

يعدّ فيلم البداية أحد أبرز الأفلام المصرية التي عالجت ظاهرة التسلط في المجتمع العربي. وقد قارب المخرج المصري صلاح أبو سيف هذه الظاهرة الواقعية في إطار فني عميق، وتركيبة رمزية تستمد قيمتها من الخطاب السينمائي اللامباشر الذي يوظف كل عناصر البلاغة السينمائية، لخدمة المحتوى والقصد والرسالة.
 وفي هذا يقول رائد السينما الواقعية في العالم العربي: «حاولت أن أقدّم فيلمًا خياليًا، لكنني وجدته يأخذ شكلًا من واقع الحياة يظهر ذلك التسلط في مجموعة بشرية سقطت بهم طائرة في واحة صحراء مصر، بينهم الفلاح والعامل والمثقف والعالم ورجل الأعمال الانتهازي الذي يفرض سلطة على موارد الواحة ممارسًا حكمًا شموليًا على هذه المجموعة من البشر مرتكزًا على سلاحه وذكائه وجبروته». الفيلم خرج إلى الوجود في ثمانينيات القرن الماضي (1986)، وهو من بطولة أحمد زكي، ويسرا، وجميل راتب.

عنوان‭ ‬الفيلم‭ ‬له‭ ‬بُعد‭ ‬تأريخي،‭ ‬مرتبط‭ ‬بسيرورة‭ ‬زمنية‭ ‬تعلن‭ ‬عن‭ ‬انطلاق‭ ‬ظاهرة‭ ‬من‭ ‬الظواهر،‭ ‬أو‭ ‬حالة‭ ‬من‭ ‬الحالات‭. ‬إنه‭ ‬مؤشر‭ ‬تأسيسي‭ ‬يعلن‭ ‬عن‭ ‬تشكُّل‭ ‬حادثة‭ ‬أو‭ ‬واقعة‭ ‬انطلاقًا‭ ‬من‭ ‬رصد‭ ‬أصولها‭ ‬وملامحها‭ ‬الأولى‭. ‬وبما‭ ‬أن‭ ‬قصة‭ ‬الفيلم‭ ‬تتحدث‭ ‬عن‭ ‬ظاهرة‭ ‬الاستبداد‭ ‬والتسلط‭ ‬في‭ ‬مجتمع‭ ‬الواحة‭ ‬الصغيرة،‭ ‬فإنّ‭ ‬المخرج‭ ‬استهدف‭ ‬التقاط‭ ‬أساس‭ ‬ظهورها،‭ ‬وعلل‭ ‬تشكُّلها،‭ ‬وعوامل‭ ‬استنباتها‭ ‬في‭ ‬المجتمعات‭ ‬العربية‭ ‬التي‭ ‬رمز‭ ‬إليها،‭ ‬في‭ ‬الفيلم،‭ ‬بالواحة‭ ‬الصحراوية‭ ‬وطبقاتها‭ ‬الاجتماعية‭ ‬المختلفة‭ (‬محام‭ ‬ورجل‭ ‬أعمال‭ - ‬فنان‭ - ‬صحفية‭ - ‬أستاذة‭ ‬جامعية‭ - ‬ملاكم‭ - ‬العامة‭).‬

والفيلم‭ ‬يمثّل‭ ‬أحد‭ ‬أبرز‭ ‬الأعمال‭ ‬السينمائية‭ ‬التي‭ ‬تكشف‭ ‬مدى‭ ‬تشوّق‭ ‬الغريزة‭ ‬البشرية‭ ‬إلى‭ ‬السلطة،‭ ‬وارتباطها‭ ‬الدائم‭ ‬بالرغبة‭ ‬في‭ ‬السيطرة‭ ‬والتسلّط‭ ‬من‭ ‬جهة،‭ ‬ومدى‭ ‬ضعفها‭ ‬وهشاشتها‭ ‬أمام‭ ‬قوى‭ ‬التسلّط،‭ ‬وقابليتها‭ ‬إلى‭ ‬الاستعباد‭ ‬الطوعي،‭ ‬والرضا‭ ‬بواقع‭ ‬الخضوع‭ ‬والخنوع‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬أخرى‭.‬

  ‬يروي‭ ‬الفيلم‭ ‬قصة‭ ‬طائرة‭ ‬تعطّلت‭ ‬محركاتها‭ ‬وهي‭ ‬في‭ ‬الجو،‭ ‬وذلك‭ ‬بسبب‭ ‬ارتفاع‭ ‬درجة‭ ‬الحرارة‭ ‬في‭ ‬الصيف،‭ ‬فاضطر‭ ‬قائدها‭ ‬إلى‭ ‬الهبوط‭ ‬وسط‭ ‬الصحراء،‭ ‬وسرعان‭ ‬ما‭ ‬انفجرت‭ ‬بعد‭ ‬هروب‭ ‬جميع‭ ‬الركاب‭ ‬منها‭. ‬هؤلاء‭ ‬الركّاب‭ ‬الذين‭ ‬لعبت‭ ‬المصادفة‭ ‬دورًا‭ ‬كبيرًا‭ ‬في‭ ‬إنقاذهم‭ ‬من‭ ‬أنقاض‭ ‬البيداء،‭ ‬فهبوط‭ ‬الطائرة‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬موقع‭ ‬قريب‭ ‬من‭ ‬واحة‭ ‬مليئة‭ ‬بالنخيل‭ ‬والماء،‭ ‬وقد‭ ‬كان‭ ‬عليهم‭ ‬السَّير‭ ‬بضعة‭ ‬كيلومترات‭ ‬للوصول‭ ‬إليها‭. ‬هكذا‭ ‬وبعد‭ ‬تعب‭ ‬وشقاء‭ ‬كبيرين،‭ ‬تمكّن‭ ‬الركاب‭ ‬من‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬الواحة،‭ ‬وبادروا‭ ‬في‭ ‬أيامهم‭ ‬الأولى‭ ‬إلى‭ ‬إضرام‭ ‬النيران‭ ‬للفت‭ ‬انتباه‭ ‬الطائرات‭ ‬الأخرى‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تُحلّق‭ ‬فوقهم‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬إنقاذهم،‭ ‬لكنّهم‭ ‬فشلوا‭ ‬في‭ ‬ذلك‭.‬

هنا،‭ ‬وبعد‭ ‬تأكدهم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬مسألة‭ ‬إقامتهم‭ ‬في‭ ‬الواحة‭ ‬ستطول،‭ ‬كان‭ ‬عليهم‭ ‬أن‭ ‬يشكّلوا‭ ‬مجتمعهم‭ ‬الخاص،‭ ‬وأن‭ ‬يقوموا‭ ‬بتوزيع‭ ‬المهامّ‭ ‬والموارد‭ ‬فيما‭ ‬بينهم‭ ‬وفق‭ ‬مبدأي‭ ‬العدل‭ ‬والمساواة،‭ ‬لأنّ‭ ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬الضامن‭ ‬الوحيد‭ ‬لبقائهم‭ ‬قيد‭ ‬الحياة‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الواحة‭ ‬التي‭ ‬تحاصرها‭ ‬الصحراء‭ ‬من‭ ‬الجهات‭ ‬كافة‭.‬

 

رمزية‭ ‬عميقة

بعد‭ ‬ذلك‭ ‬ستبدأ‭ ‬ملامح‭ ‬التسلط‭ ‬والتفرد‭ ‬تتشكّل‭ ‬وتتأسس‭ ‬انطلاقًا‭ ‬من‭ ‬السعي‭ ‬الحثيث‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬ينتاب‭ ‬المحامي‭ ‬ورجل‭ ‬الأعمال‭ (‬جميل‭ ‬راتب‭) ‬لبسط‭ ‬نفوذه‭ ‬وسيطرته‭ ‬على‭ ‬الواحة،‭ ‬مقترحًا‭ ‬إقامة‭ ‬قُرعة‭ (‬على‭ ‬شكل‭ ‬لعبة‭ ‬مراهَنة‭) ‬بينه‭ ‬وبين‭ ‬أصدقائه‭ ‬لتحديد‭ ‬المالك‭ ‬المتحكم‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الفضاء،‭ ‬ثم‭ ‬الاستيلاء‭ ‬بالاحتيال‭ ‬والتلاعب‭ ‬على‭ ‬خيراتها‭ ‬وممتلكاتها‭ ‬من‭ ‬البلح‭ ‬والمياه‭.‬

‭ ‬وهذا‭ ‬الاختيار‭ ‬له‭ ‬رمزية‭ ‬عميقة‭ ‬توحي‭ ‬الطرق‭ ‬التي‭ ‬يتولى‭ ‬بها‭ ‬الحكام‭ ‬العرب‭ ‬الحكم‭ ‬في‭ ‬البلدان‭ ‬العربية،‭ ‬وهي‭ ‬طرق‭ ‬تفتقد‭ ‬أدنى‭ ‬شروط‭ ‬الديمقراطية‭ ‬والتشاركية‭ (‬انتخاب‭ ‬الشعب‭)‬،‭ ‬وتميل‭ ‬إلى‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬الاستبداد‭ ‬الشامل،‭ ‬والتسلط‭ ‬الدائم،‭ ‬والهيمنة‭ ‬المطولة‭ ‬على‭ ‬كراسي‭ ‬الحكم‭ ‬وعلى‭ ‬خيرات‭ ‬الوطن‭.‬

بذلك‭ ‬سيؤسس‭ ‬المحامي‭ ‬نبيل‭ ‬مملكته‭ ‬العظيمة‭ ‬والتي‭ ‬سماها‭ ‬‮«‬نابيهاليا‮»‬‭ ‬تيمنًا‭ ‬باسمه،‭ ‬وإعلانًا‭ ‬على‭ ‬تفرّده‭ ‬بالحُكم‭ ‬والقيادة‭. ‬وتقع‭ ‬هذه‭ ‬المملكة‭ ‬في‭ ‬واحة‭ ‬مليئة‭ ‬بالثمار‭ ‬والبلح،‭ ‬وسط‭ ‬صحراء‭ ‬جرداء‭ ‬قاحلة‭. ‬والهيماء‭ ‬القاحلة‭ ‬في‭ ‬الفيلم‭ ‬لها‭ ‬ارتباط‭ ‬وثيق‭ ‬بالوطن‭ ‬العربي‭ ‬وبعض‭ ‬حكامه‭ ‬الذين‭ ‬جردوه‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬خيراته،‭ ‬واحتكروا‭ ‬كل‭ ‬نعمه‭ ‬ومنافعه‭ ‬لمصلحة‭ ‬أنفسهم‭ ‬وعائلاتهم‭ ‬وأقربائهم‭. ‬فثمار‭ ‬البلح‭ ‬التي‭ ‬استحوذ‭ ‬عليها‭ ‬الحاكم‭ ‬نبيه‭ ‬بيه،‭ ‬والتي‭ ‬كان‭ ‬يكلّف‭ ‬بجمعها‭ ‬وتحصيلها‭ ‬كل‭ ‬ساكني‭ ‬الواحة،‭ ‬هي‭ ‬رمز‭ ‬لخيرات‭ ‬الوطن‭ ‬العربي‭ ‬وموارده‭ ‬العديدة،‭ ‬والتي‭ ‬يشقى‭ ‬عليها‭ ‬المواطن‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬كدّ‭ ‬وعناء،‭ ‬ثم‭ ‬يستفيد‭ ‬منها‭ ‬الزعيم‭ ‬المتعسف‭ ‬على‭ ‬حقوق‭ ‬الأبرياء،‭ ‬القاهر‭ ‬لكرامة‭ ‬الفقراء،‭ ‬الجائر‭ ‬في‭ ‬حكمه‭ ‬على‭ ‬الضعفاء‭. ‬إذًا،‭ ‬فقد‭ ‬قرر‭ ‬الزعيم‭ ‬نبيه‭ ‬بيه‭ ‬تقسيم‭ ‬العمل‭ ‬في‭ ‬مملكته‭ ‬الصغيرة‭ (‬الواحة‭) ‬بين‭ ‬الجميع‭: ‬الرياضي‭ (‬الملاكم‭) ‬الذي‭ ‬يتكلف‭ ‬بمنصب‭ ‬الأمن‭ ‬والحماية‭ ‬الشخصية‭ ‬للزعيم،‭ ‬ثم‭ ‬الدكتورة‭ ‬العالِمة‭ ‬التي‭ ‬يعشقها‭ ‬الزعيم‭ ‬ويحاول‭ ‬التقرّب‭ ‬منها،‭ ‬ثم‭ ‬الصحفية‭ ‬الانتهازية‭ ‬التي‭ ‬تتنقل‭ ‬من‭ ‬هنا‭ ‬وهناك‭ (‬تارة‭ ‬تروج‭ ‬لحملة‭ ‬الزعيم،‭ ‬وتارة‭ ‬تتقرب‭ ‬من‭ ‬آراء‭ ‬المعارضين‭)‬،‭ ‬ثم‭ ‬فئة‭ ‬المعارضين‭ ‬الذين‭ ‬كلّفوا‭ ‬بمهمة‭ ‬جمع‭ ‬البلح،‭ ‬وتحمّلوا‭ ‬عناء‭ ‬الشقاء‭ ‬والضراء‭: ‬الفنان‭ (‬أحمد‭ ‬زكي‭)‬،‭ ‬ورفيقته‭ ‬مضيفة‭ ‬الطيران‭ (‬يسرا‭)‬،‭ ‬والفلاح،‭ ‬وقائد‭ ‬الطائرة‭ ‬ومساعداه،‭ ‬وأخيرًا‭ ‬الطفل‭ ‬الصغير‭ ‬بطل‭ ‬السباحة‭.‬

 

دلالة‭ ‬تصريحية

‭ ‬تصبح‭ ‬هذه‭ ‬الواحة‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬مستوطنة‭ ‬جديدة،‭ ‬تسير‭ ‬بتنظيم‭ ‬مُحكم‭ ‬من‭ ‬طرف‭ ‬الحاكم‭ (‬نبيه‭) ‬قصد‭ ‬ترويض‭ ‬العامة‭ (‬بقية‭ ‬الشخصيات‭ ‬في‭ ‬الفيلم‭). ‬وترويضهم‭ ‬يستلزم‭ ‬اختيار‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الخطط،‭ ‬وتدبير‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬المكائد،‭ ‬وإنجاز‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬التدابير‭ ‬الأساسية‭ ‬بهدف‭ ‬ترسيخ‭ ‬السلطة‭ ‬التفردية‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المملكة‭ ‬الصغيرة‭.‬وبما‭ ‬أنّ‭ ‬الزعيم‭ ‬كلّف‭ ‬العامة‭ ‬والمعارضين‭ ‬بالعمل‭ ‬الشاق‭ (‬جمع‭ ‬البلح‭)‬،‭ ‬فإنه،‭ ‬وفي‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الأحيان،‭ ‬كان‭ ‬يلجأ‭ ‬إلى‭ ‬تلفيق‭ ‬التُّهم،‭ ‬وتوزيع‭ ‬الادعاءات‭ ‬على‭ ‬هؤلاء‭ ‬العمال‭ ‬بسرقة‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الثمار‭ ‬الناضجة‭ ‬التي‭ ‬تمثّل‭ ‬مصدر‭ ‬عيشهم،‭ ‬ومنبع‭ ‬رزقهم،‭ ‬وقوت‭ ‬حياتهم‭.‬

وهذا‭ ‬التلفيق‭ ‬له‭ ‬دلالة‭ ‬تصريحية‭ (‬واضحة‭) ‬على‭ ‬كل‭ ‬الاتهامات‭ ‬التي‭ ‬ينتقيها‭ ‬الحكام‭ ‬المستبدون‭ ‬ضد‭ ‬الأطراف‭ ‬المعارضة،‭ ‬المهددة‭ ‬لمصالحهم،‭ ‬والمبعثرة‭ ‬لأوراق‭ ‬حساباتهم‭. ‬فلوقف‭ ‬أصوات‭ ‬القوى‭ ‬الممانعة،‭ ‬يلجأ‭ ‬المستبد‭ ‬إلى‭ ‬تلجيم‭ ‬الأفواه،‭ ‬وتهديد‭ ‬الأرواح،‭ ‬عبر‭ ‬نسج‭ ‬خيوط‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الادعاءات‭ ‬المضللة،‭ ‬وإعداد‭ ‬سيناريوهات‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الجرائم‭ ‬الباطلة،‭ ‬وافتراء‭ ‬كَمٍّ‭ ‬من‭ ‬التُّهم‭ ‬المختلقة‭.‬

ولضبط‭ ‬أمن‭ ‬مملكته‭ ‬الصغيرة،‭ ‬وتوفير‭ ‬الحماية‭ ‬الشخصية‭ ‬لنفسه،‭ ‬وتأميم‭ ‬خيرات‭ ‬الواحة‭ ‬وثمارها‭ ‬لمصلحة‭ ‬أطماعه،‭ ‬عيّن‭ ‬الزعيم‭ ‬نبيه‭ ‬بيه‭ ‬حارسًا‭ ‬شخصيًا‭ ‬ومكلفًا‭ ‬بالأمن‭ ‬والدفاع‭ ‬عن‭ ‬مصالحه‭. ‬إنه‭ ‬الملاكم‭ ‬الرياضي‭ ‬صالح،‭ ‬الذي‭ ‬يمتاز‭ ‬ببنيته‭ ‬القوية‭ ‬وقوامه‭ ‬الصلب،‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬أي‭ ‬تمرُّد‭ ‬أو‭ ‬ثورة‭ ‬قد‭ ‬يتعرّض‭ ‬لها‭ ‬الزعيم‭. ‬وقد‭ ‬أغرى‭ ‬هذا‭ ‬الأخير‭ ‬الرياضي‭ ‬بحصة‭ ‬مضاعفة‭ ‬من‭ ‬البلح،‭ ‬مكافأة‭ ‬منه‭ ‬على‭ ‬إخلاصه،‭ ‬وإيمانه‭ ‬بمشروع‭ ‬مملكة‭ ‬نبيهاليا‭.‬

 

مبررات‭ ‬واهية

وقع‭ ‬البطل‭ ‬الرياضي‭ ‬فريسة‭ ‬سهلة‭ ‬لخداع‭ ‬نبيل‭ ‬بيه،‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يختلق‭ ‬مبررات‭ ‬واهية‭ ‬للإيقاع‭ ‬بالمعارضين‭: ‬اتهامهم‭ ‬بالزندقة‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تردادهم‭ ‬الدائم‭ ‬لمصطلح‭ ‬الديمقراطية،‭ ‬وإيهام‭ ‬الرياضي‭ ‬الساذج‭ ‬بأن‭ ‬هذا‭ ‬المفهوم‭ ‬شاذّ‭ ‬وغريب،‭ ‬ويدعو‭ ‬إلى‭ ‬الإلحاد‭ ‬والخروج‭ ‬على‭ ‬القانون،‭ ‬لذا‭ ‬فإنه‭ ‬سيقبل‭ ‬بعرض‭ ‬نبيه،‭ ‬ويوجّه‭ ‬قوته‭ ‬وطاقته‭ ‬للإخلاص‭ ‬الأعمى،‭ ‬والتصديق‭ ‬الأسمى‭ ‬بدولة‭ ‬‮«‬نبيهاليا‮»‬‭. ‬إن‭ ‬رمزية‭ ‬هذا‭ ‬الدور‭ ‬السينمائي‭ ‬الذي‭ ‬اختاره‭ ‬أبو‭ ‬سيف‭ ‬ببراعة‭ ‬وإتقان،‭ ‬تجرّنا‭ ‬مباشرة‭ ‬إلى‭ ‬وظيفة‭ ‬قوى‭ ‬الأمن‭ ‬والعسكر‭ ‬في‭ ‬الأوطان‭ ‬العربية‭. ‬هؤلاء‭ ‬الذين‭ ‬يغرر‭ ‬بهم،‭ ‬باسم‭ ‬الوطنية‭ ‬والدفاع‭ ‬عن‭ ‬الكيان‭ ‬والأمة،‭ ‬لمصلحة‭ ‬خدمة‭ ‬مصالح‭ ‬الأنظمة‭ ‬والحكام‭ ‬ضد‭ ‬الشعوب‭ ‬التواقة‭ ‬إلى‭ ‬الديمقراطية‭ ‬والعدل‭ ‬والحرية‭ ‬والمساواة‭.‬

ولا‭ ‬يستقيم‭ ‬دورهم‭ ‬في‭ ‬نظام‭ ‬البلد‭ ‬وتشكيلة‭ ‬الوطن‭ ‬إلّا‭ ‬بدفاعهم‭ ‬المستميت‭ ‬عن‭ ‬الاستبداد،‭ ‬وحشد‭ ‬قوتهم‭ ‬وسلطتهم‭ ‬لغاية‭ ‬حماية‭ ‬الطاغية‭. ‬ولهذا‭ ‬يلجأ‭ ‬هذا‭ ‬الأخير،‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الأحيان،‭ ‬إلى‭ ‬إغراقهم‭ ‬بالنّعم‭ ‬والهدايا‭ ‬والمناصب،‭ ‬ويدفعهم،‭ ‬كل‭ ‬مرة،‭ ‬إلى‭ ‬التنافس‭ ‬والصراع‭ ‬والطمع‭ ‬بهدف‭ ‬التقرّب‭ ‬منه‭. ‬ولا‭ ‬يصير‭ ‬ذلك‭ ‬ناجعًا‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬الأداء‭ ‬المشرف‭ ‬للوظيفة،‭ ‬والتفاني‭ ‬اللازم‭ ‬في‭ ‬المهمة،‭ ‬وأي‭ ‬مهمة‭ ‬هي؟‭!‬

إن‭ ‬رجال‭ ‬الأمن‭ ‬أو‭ ‬العسكريين‭ ‬ملتزمون‭ ‬بقهر‭ ‬الشعوب‭ ‬إذا‭ ‬تحدثت،‭ ‬ومجابهة‭ ‬إرادتها‭ ‬إذا‭ ‬اتحدت،‭ ‬وإسكات‭ ‬صوتها‭ ‬إذا‭ ‬نطقت،‭ ‬وحراسة‭ ‬نظامها‭ ‬إذا‭ ‬استكانت،‭ ‬وتبليد‭ ‬فكرها‭ ‬إذا‭ ‬استفاقت،‭ ‬وتكميم‭ ‬أفواهها‭ ‬إذا‭ ‬ضاقت،‭ ‬وتسليم‭ ‬أمرها‭ ‬إذا‭ ‬حارت‭. ‬واسم‭ ‬الرياضي‭ (‬صالح‭)‬،‭ ‬دالٌّ‭ ‬على‭ ‬مهمته‭ ‬التي‭ ‬كلّف‭ ‬بها‭ ‬من‭ ‬طرف‭ ‬الحاكم‭: ‬مهمة‭ ‬الإصلاح‭ ‬والتأديب‭ ‬والضبط‭ ‬والرقابة‭.‬

وفي‭ ‬مقابل‭ ‬ذلك‭ ‬تبذل‭ ‬هذه‭ ‬الشخصية‭ ‬قصارى‭ ‬جهدها‭ ‬لحماية‭ ‬الحاكم،‭ ‬والدفاع‭ ‬عن‭ ‬ممتلكاته،‭ ‬وحراسة‭ ‬مصالحه،‭ ‬والذود‭ ‬عن‭ ‬أهدافه،‭ ‬وتبرير‭ ‬قراراته،‭ ‬وتنفيذ‭ ‬أوامره،‭ ‬وشرعنة‭ ‬مواقفه،‭ ‬وصيانة‭ ‬مشاريعه،‭ ‬وصون‭ ‬مخططاته‭.‬

 

اليد‭ ‬القوية

إنها،‭ ‬باختصار،‭ ‬اليد‭ ‬القوية‭ ‬التي‭ ‬يُنْعِمُ‭ ‬عليها‭ ‬المستبد،‭ ‬فَيَنْعَمُ‭ - ‬نتيجة‭ ‬ذلك‭ - ‬باستقرار‭ ‬في‭ ‬الحكم،‭ ‬وأمان‭ ‬في‭ ‬الحلم،‭ ‬وثقة‭ ‬في‭ ‬الحسم‭. ‬فكيف‭ ‬لا‭ ‬يحسم‭ ‬المستبدون‭ ‬قراراتهم‭ ‬ضد‭ ‬شعوبهم‭ ‬وهم‭ ‬محصّنون‭ ‬بقوى‭ ‬القمع‭ ‬والردع‭ ‬والتنكيل؟‭!‬

مجال‭ ‬آخر‭ ‬مساهم‭ ‬في‭ ‬إشهار‭ ‬الفعل‭ ‬التسلطي‭ ‬ركزت‭ ‬عليه‭ ‬عدسة‭ ‬أبو‭ ‬سيف،‭ ‬وهو‭ ‬مجال‭ ‬الصحافة‭ ‬والإعلام‭. ‬فالصحفية‭ ‬شهيرة،‭ ‬التي‭ ‬رافقت‭ ‬الناجين‭ ‬في‭ ‬رحلة‭ ‬الصحراء،‭ ‬هي‭ ‬نموذج‭ ‬للشخصية‭ ‬المتقلبة‭ ‬والمتحولة‭ ‬بتحول‭ ‬الظروف‭ ‬والسياق‭ ‬والأوضاع‭. ‬وإذا‭ ‬كانت‭ ‬ترافق‭ ‬المناضلين‭ ‬والمعارضين‭ ‬وتحرّضهم‭ ‬على‭ ‬الدفاع‭ ‬عن‭ ‬حقوقهم‭ ‬وكرامتهم‭ ‬ضد‭ ‬الحاكم‭ ‬في‭ ‬الظاهر،‭ ‬فإنّ‭ ‬عمق‭ ‬الأحداث‭ ‬وتطوّر‭ ‬التفاصيل،‭ ‬سيكشفان‭ ‬لنا‭ ‬أن‭ ‬وظيفة‭ ‬هذه‭ ‬الصحفية‭ ‬ذات‭ ‬بُعد‭ ‬تضليلي‭ ‬وتمويهي‭. ‬وهي‭ ‬بتحميسها‭ ‬للمعارضين‭ ‬لا‭ ‬تتوخّى‭ ‬قلب‭ ‬النظام‭ ‬وإحلال‭ ‬العدل‭ ‬والديمقراطية،‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬خطة‭ ‬ذكية‭ ‬لتخديرهم‭ ‬وتمويههم‭ ‬وإلهائهم‭ ‬عن‭ ‬شرعنة‭ ‬المواقف‭ ‬إلى‭ ‬أفعال‭ ‬في‭ ‬الواقع‭. ‬

إن‭ ‬الصحفية‭ ‬في‭ ‬الحقيقة‭ ‬هي‭ ‬بوق‭ ‬رسمي‭ ‬لنبيه‭ ‬بيه،‭ ‬وساعد‭ ‬أساسي‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مخططاته‭ ‬ومشاريعه‭. ‬فقد‭ ‬استعان‭ ‬بها‭ ‬الزعيم‭ ‬للوساطة‭ ‬بينه‭ ‬وبين‭ ‬المعارضين،‭ ‬بهدف‭ ‬خداعهم‭ ‬والاحتيال‭ ‬عليهم،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬ترويضهم‭ ‬وتعطيل‭ ‬أصواتهم‭ ‬وتأجيل‭ ‬طلباتهم‭. ‬

وكثيرًا‭ ‬ما‭ ‬كنا‭ ‬نصادف‭ ‬حضور‭ ‬هذه‭ ‬الصحفية‭ ‬بين‭ ‬المعارضين‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬إقناعهم‭ ‬وحثّهم‭ ‬على‭ ‬المساهمة‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬دولة‭ ‬نبيهاليا،‭ ‬وتأسيس‭ ‬وحداتها‭ ‬الأساسية،‭ ‬ورص‭ ‬لبناتها‭ ‬الرئيسية‭. ‬بل‭ ‬إنها‭ ‬كانت‭ ‬تخترق‭ ‬نظامهم،‭ ‬وتغوص‭ ‬في‭ ‬أفكارهم،‭ ‬وتطلع‭ ‬على‭ ‬أهدافهم،‭ ‬وتوشي‭ ‬بأسرارهم،‭ ‬وتوجّه‭ ‬خططهم‭. ‬وفي‭ ‬أحيان‭ ‬أخرى‭ ‬كانت‭ ‬تساعد‭ ‬الزعيم‭ ‬في‭ ‬تدبير‭ ‬حكمه،‭ ‬وتوجيه‭ ‬مساره،‭ ‬وتعديل‭ ‬قراراته،‭ ‬وتصويب‭ ‬أخطائه،‭ ‬وإصلاح‭ ‬أمر‭ ‬واحته‭.‬

 

فكرتان‭ ‬ذكيّتان‭ ‬للتحكُّم

لهذا،‭ ‬فقد‭ ‬اقترحت‭ ‬على‭ ‬الزعيم‭ ‬نبيه‭ ‬بيه‭ ‬فكرتين‭ ‬ذكيتين‭ ‬للتحكم‭ ‬في‭ ‬أهل‭ ‬الواحة،‭ ‬وإخضاع‭ ‬معارضيها،‭ ‬وتسخير‭ ‬رجالها،‭ ‬وتدجين‭ ‬نسائها‭:‬

‭- ‬الفكرة‭ ‬الأولى‭: ‬تمثّلت‭ ‬في‭ ‬إقناع‭ ‬الزعيم‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الموافقة‭ ‬على‭ ‬تأسيس‭ ‬مجلة‭ ‬خاصة‭ ‬بأهل‭ ‬الواحة،‭ ‬وغايتها‭ ‬الأساسية‭ ‬هو‭ ‬التنفيس‭ ‬عن‭ ‬غضبهم،‭ ‬وجعلها‭ ‬وسيلة‭ ‬للتعبير‭ ‬عن‭ ‬همومهم‭ ‬وقضاياهم‭ ‬ومشاكلهم‭. ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬نستشفه‭ ‬في‭ ‬تبرير‭ ‬الصحفية‭ ‬لمطلبها‭ ‬أمام‭ ‬نبيه‭ ‬بيه‭: ‬‮«‬المجلة‭ ‬طاقة‭ ‬ينفّسوا‭ ‬بها‭ ‬بدل‭ ‬ما‭ ‬يحتكوا‭ ‬بك‮»‬‭.‬

‭- ‬الفكرة‭ ‬الثانية‭: ‬الاهتمام‭ ‬بمجال‭ ‬الإعلام‭ ‬البصري‭ ‬والتلفزة،‭ ‬وهذا‭ ‬يبرز‭ ‬لنا‭ ‬في‭ ‬اللقطات‭ ‬التي‭ ‬تصور‭ ‬استمتاع‭ ‬الطاغية‭ ‬نبيه‭ ‬ببرامج‭ ‬التلفزة‭ ‬الممجدة‭ ‬له،‭ ‬والمثنية‭ ‬على‭ ‬أعماله،‭ ‬والمعظّمة‭ ‬لقدره،‭ ‬والمشيدة‭ ‬بنهجه،‭ ‬والمزكيّة‭ ‬لطرحه‭ ‬ووجهة‭ ‬نظره‭. ‬وبالرغم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬التلفزة‭ ‬غير‭ ‬حقيقية‭ (‬مشخصة‭ ‬من‭ ‬طرف‭ ‬سكان‭ ‬الواحة‭)‬،‭ ‬نظرًا‭ ‬لاستحالة‭ ‬وجود‭ ‬تلفزة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المكان‭ ‬الجدب،‭ ‬فإن‭ ‬الطاغية‭ ‬نبيه‭ ‬استمتع‭ ‬بالعروض‭ ‬التي‭ ‬قدّمها‭ ‬أفراد‭ ‬الواحة‭ - ‬واحدًا‭ ‬واحدًا‭ - ‬في‭ ‬إطار‭ ‬مستطيل‭ ‬على‭ ‬شكل‭ ‬تلفاز‭.‬

‭ ‬ويمدح‭ ‬المقدمون‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬التلفزة‭ ‬الافتراضية‭ ‬كل‭ ‬مشاريع‭ ‬الحاكم‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬المجالات‭: ‬السياسية‭ ‬والاقتصادية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬والثقافية‭ ‬والرياضية‭ ‬والفنية‭. ‬فكل‭ ‬مرة‭ ‬كان‭ ‬يطالعنا‭ ‬مقدم‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬معيّن‭ (‬ثقافة،‭ ‬اقتصاد،‭ ‬رياضة،‭ ‬فن‭...) ‬يطري‭ ‬على‭ ‬مشاريع‭ ‬نبيهاليا،‭ ‬ويشيد‭ ‬بدور‭ ‬نبيه‭ ‬بيه‭ ‬في‭ ‬صنع‭ ‬الملاحم‭ ‬والأعاجيب‭ ‬في‭ ‬شتى‭ ‬هذه‭ ‬الميادين،‭ ‬فهو‭ ‬السياسي‭ ‬البارع‭ ‬في‭ ‬تدبيره،‭ ‬والاقتصادي‭ ‬المميز‭ ‬في‭ ‬تخطيطه،‭ ‬والرياضي‭ ‬الباهر‭ ‬في‭ ‬نتائجه،‭ ‬والفنان‭ ‬الممتع‭ ‬في‭ ‬أدائه،‭ ‬والفلاح‭ ‬المخلص‭ ‬في‭ ‬عمله،‭ ‬والصانع‭ ‬المتقن‭ ‬لحرفته،‭ ‬والتاجر‭ ‬الناجح‭ ‬في‭ ‬تعاملاته‭... ‬إلخ‭. ‬واسم‭ ‬الصحفية‭ ‬شهيرة‭ ‬يوحي‭ ‬التشهير‭ ‬والإعلان‭ ‬والإيذاع‭... ‬تشهير‭ ‬بالطاغية‭ ‬وتجميل‭ ‬لصورته‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬وسائل‭ ‬الإعلام‭.‬

 

رمزية‭ ‬الإعلام

إن‭ ‬رمزية‭ ‬الإعلام‭ ‬في‭ ‬الفيلم‭ ‬تحيلنا‭ ‬مباشرة‭ ‬إلى‭ ‬دوره‭ ‬الرئيسي‭ ‬في‭ ‬صناعة‭ ‬التسلط‭ ‬والمتسلط‭ ‬في‭ ‬المجتمعات‭ ‬العربية،‭ ‬فمن‭ ‬دون‭ ‬الإعلام‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬للدكتاتور‭ ‬أن‭ ‬يبسط‭ ‬سيادته‭ ‬على‭ ‬مجتمعه،‭ ‬ومن‭ ‬دون‭ ‬الصحافة‭ ‬لا‭ ‬يمكنه‭ ‬التأثير‭ ‬على‭ ‬الرأي‭ ‬العام‭ ‬والجماهير‭ ‬الساخطة،‭ ‬ومن‭ ‬دون‭ ‬التلفاز‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬له‭ ‬أن‭ ‬يتيح‭ ‬الطريق‭ ‬لأفكاره‭ ‬ورؤاه‭ ‬أن‭ ‬تشاع‭ ‬بين‭ ‬الناس‭.‬

إن‭ ‬الإعلام‭ ‬أصبح‭ ‬المؤثر‭ ‬الأول‭ ‬في‭ ‬وعي‭ ‬المجتمعات‭ ‬العالمية‭ ‬في‭ ‬عصرنا‭ ‬الحالي،‭ ‬لهذا‭ ‬يستثمره‭ ‬المستبد‭ ‬في‭ ‬تجميل‭ ‬صورته،‭ ‬وتسطيع‭ ‬قيمته،‭ ‬وإعلاء‭ ‬صوته،‭ ‬وإيصال‭ ‬نواياه،‭ ‬وإبلاغ‭ ‬مقاصده‭ ‬ورسائله‭.‬

وإذا‭ ‬كانت‭ ‬وسائل‭ ‬الإعلام‭ ‬قد‭ ‬ساهمت‭ ‬كثيرًا‭ - ‬في‭ ‬عصرنا‭ ‬الراهن‭ - ‬في‭ ‬التلاعب‭ ‬بعقول‭ ‬الجماهير،‭ ‬فإن‭ ‬الطاغية‭ ‬سيوظفها‭ ‬في‭ ‬الغاية‭ ‬نفسها‭ ‬والمبتغى،‭ ‬بهدف‭ ‬السيطرة‭ ‬على‭ ‬مشاعرها،‭ ‬وضبط‭ ‬نوازعها،‭ ‬وإحكام‭ ‬القبض‭ ‬على‭ ‬ثوراتها،‭ ‬لذا‭ ‬تختار‭ ‬الأنظمة‭ ‬أن‭ ‬تردع‭ ‬الخصوم‭ ‬بإعلامها‭ ‬ورجاله‭ ‬الذين‭ ‬تنتقيهم‭ ‬على‭ ‬المقاس،‭ ‬لكي‭ ‬يقوموا‭ ‬بدورهم‭ ‬على‭ ‬أكمل‭ ‬وجه‭.‬

فالإعلام‭ ‬بمختلف‭ ‬أنواعه،‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي،‭ ‬هو‭ ‬بوق‭ ‬للنظام‭: ‬يغني‭ ‬ليلاه،‭ ‬ويخاطب‭ ‬بقيادته،‭ ‬ويتواصل‭ ‬بلغته،‭ ‬ويرسم‭ ‬مشاريعه،‭ ‬ويجسّد‭ ‬أهدافه‭. ‬ونجد‭ ‬أن‭ ‬الصحف‭ ‬والمجلات‭ ‬والبرامج‭ ‬التلفزيونية‭ ‬العربية‭ ‬تخصص‭ ‬مساحات‭ ‬واسعة‭ ‬للتغني‭ ‬بالزعيم،‭ ‬والإشادة‭ ‬ببرامجه،‭ ‬وتمجيد‭ ‬رؤيته‭ ‬وطموحه‭. ‬إنها‭ ‬صحافة‭ ‬التملّق‭ ‬والمنفعة‭ ‬الشخصية،‭ ‬التي‭ ‬تخطو‭ ‬وراء‭ ‬مصالحها،‭ ‬مقابل‭ ‬خدمة‭ ‬أوامر‭ ‬النظام‭.‬

كذلك‭ ‬التلفزة،‭ ‬تسير‭ ‬بالخطى‭ ‬نفسها‭ ‬في‭ ‬سبيل‭ ‬إشهار‭ ‬دور‭ ‬الزعيم،‭ ‬وعرض‭ ‬إنجازاته‭ ‬العظيمة‭ ‬التي‭ ‬تصور‭ ‬في‭ ‬هيئة‭ ‬الخوارق‭ ‬والملاحم‭ (‬في‭ ‬جميع‭ ‬المجالات‭). ‬والهدف‭ ‬الأسمى‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬هو‭ ‬التأثير‭ ‬في‭ ‬رأي‭ ‬الجماهير،‭ ‬وتملك‭ ‬وعيها،‭ ‬وتوجيه‭ ‬أفكارها‭ ‬وأذواقها‭ ‬وفق‭ ‬أهواء‭ ‬المستبد‭ ‬ورغباته‭.‬

 

كشف‭ ‬ألاعيب‭ ‬المستبدين

دور‭ ‬آخر‭ ‬ركّبه‭ ‬المخرج‭ ‬صلاح‭ ‬أبو‭ ‬سيف‭ ‬في‭ ‬الفيلم‭ ‬بعناية‭ ‬فنية‭ ‬بالغة،‭ ‬وقصد‭ ‬جمالي‭ ‬رفيع،‭ ‬توخّى‭ ‬من‭ ‬خلاله‭ ‬كشف‭ ‬ألعوبة‭ ‬المستبدين‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬مملكتهم‭ ‬الدكتاتورية‭ ‬المتغطرسة‭. ‬هذا‭ ‬الدور‭ ‬جسّدته‭ ‬الأستاذة‭ ‬الجامعية‭ ‬في‭ ‬العلوم‭ (‬سميحة‭ ‬طاهر‭)‬،‭ ‬التي‭ ‬عشقها‭ ‬نبيه‭ ‬بيه‭ ‬منذ‭ ‬اليوم‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬إقامته‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الواحة‭. ‬وقد‭ ‬خصصت‭ ‬هذه‭ ‬الدكتورة‭ ‬نشاطها‭ ‬للبحث‭ ‬والتنقيب‭ ‬عن‭ ‬الخصائص‭ ‬الجيولوجية‭ ‬التي‭ ‬تميّز‭ ‬المنطقة،‭ ‬والتي‭ ‬يمكن‭ ‬استثمارها‭ ‬في‭ ‬جعل‭ ‬هذا‭ ‬الفضاء‭ ‬مركزًا‭ ‬غنيًا‭ ‬بالثروات‭ ‬الطبيعية‭ ‬والخيرات‭ ‬الربانية‭.‬

ولهذا،‭ ‬فقد‭ ‬قرر‭ ‬الزعيم‭ ‬نبيه‭ ‬بيه‭ ‬التقرب‭ ‬منها،‭ ‬ونصب‭ ‬الشراك‭ ‬لها‭ ‬لتقع‭ ‬هي‭ ‬الأخرى‭ ‬في‭ ‬غرامه،‭ ‬مستهدفًا‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الاستفادة‭ ‬من‭ ‬أبحاثها‭ ‬ودراساتها‭ ‬العلمية،‭ ‬لتكريس‭ ‬هيمنته،‭ ‬وتكديس‭ ‬ممتلكاته،‭ ‬وتأسيس‭ ‬مشروعه‭. ‬لقد‭ ‬أوهمها‭ ‬بالحب‭ ‬وخدعها‭ ‬بالعشق‭ ‬بهدف‭ ‬التعرف‭ ‬إلى‭ ‬أفكارها‭ ‬العلمية‭ ‬وتخصيصها‭ ‬لخدمة‭ ‬أعماله‭ ‬وخططه،‭ ‬وبطبيعة‭ ‬الحال،‭ ‬فالنعم‭ ‬التي‭ ‬سيجنيها‭ ‬الزعيم‭ ‬كثيرة‭ ‬ووفيرة‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الأبحاث‭ ‬التي‭ ‬توخت‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬الدكتورة‭ ‬تحويل‭ ‬الواحة‭ ‬إلى‭ ‬جنة‭ ‬من‭ ‬الثروات‭ ‬والمشاريع‭ ‬الاقتصادية‭. ‬ولعقد‭ ‬صفقته‭ ‬المشبوهة‭ ‬مع‭ ‬الدكتورة،‭ ‬تودد‭ ‬نبيه‭ ‬بيه‭ ‬إليها‭ ‬وادّعى‭ ‬حبه‭ ‬لها،‭ ‬وجعلها‭ ‬من‭ ‬كبار‭ ‬المقربين‭ ‬منه‭ ‬الذين‭ ‬يجب‭ ‬خدمتهم‭ - ‬من‭ ‬طرف‭ ‬أهل‭ ‬الواحة‭ - ‬والولاء‭ ‬إليهم‭ ‬وتمتيعهم‭ ‬بمختلف‭ ‬وسائل‭ ‬الرفاهية‭ ‬والنعيم،‭ ‬وكل‭ ‬أشكال‭ ‬المكافآت‭ ‬والهدايا،‭ ‬وجميع‭ ‬أنواع‭ ‬العطاء‭ ‬والجزاء‭.‬

 

ارتباط‭ ‬وثيق

إن‭ ‬دلالة‭ ‬هذا‭ ‬الدور‭ ‬مرتبطة‭ ‬أشد‭ ‬الارتباط‭ ‬بوظيفة‭ ‬المثقف‭ ‬والعالم‭ ‬في‭ ‬عالَم‭ ‬اليوم،‭ ‬وفي‭ ‬مجتمعنا‭ ‬العربي‭ ‬بالخصوص‭. ‬فالمثقف‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ - ‬كما‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬السابق‭ - ‬ذلك‭ ‬الصوت‭ ‬الثوري‭ ‬المناضل‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬حقوق‭ ‬المستضعفين‭ ‬والمهمّشين،‭ ‬ولم‭ ‬يبق‭ ‬مؤشرًا‭ ‬لصرخة‭ ‬الشعب،‭ ‬وغضب‭ ‬الأمة،‭ ‬وانتفاضة‭ ‬الطبقة،‭ ‬بل‭ ‬أصبح‭ ‬يصنّف‭ ‬ضمن‭ ‬القوى‭ ‬التي‭ ‬تصنع‭ ‬عالم‭ ‬اليوم‭ ‬بأشراره‭ ‬ومخاوفه‭ ‬وتهديداته،‭ ‬وإلا‭ ‬فمَن‭ ‬يساهم‭ ‬في‭ ‬اختراع‭ ‬كل‭ ‬معدات‭ ‬الحروب‭ ‬والاقتتال‭ ‬والصراع‭ (‬قنابل‭ ‬نووية‭ ‬وهيدروجينية‭ - ‬صواريخ‭ - ‬طائرات‭ ‬حربية‭... ‬إلخ‭)‬؟‭! ‬ومَن‭ ‬يدرّ‭ ‬بأبحاثه‭ ‬العلمية‭ ‬الملايين‭ ‬والمليارات‭ ‬مقابل‭ ‬بيعه‭ ‬براءة‭ ‬اختراعاته‭ ‬لمصلحة‭ ‬القوى‭ ‬السياسية‭ ‬والاقتصادية‭ ‬التي‭ ‬تحكم‭ ‬العالم؟‭! ‬ألم‭ ‬يساهم‭ ‬ألبرت‭ ‬أينشتاين‭ ‬بدور‭ ‬مركزي‭ ‬في‭ ‬صناعة‭ ‬القنبلة‭ ‬النووية؟‭! ‬ألم‭ ‬يخترع‭ ‬العالم‭ ‬الذي‭ ‬توزع‭ ‬باسمه‭ ‬جوائز‭ ‬نوبل‭ (‬ألفريد‭ ‬نوبل‭) ‬الديناميت‭ ‬مدمّر‭ ‬البشرية،‭ ‬ومخرب‭ ‬الحضارة؟‭!‬

الأمر‭ ‬نفسه‭ ‬ينطبق‭ ‬على‭ ‬المثقف‭ ‬العربي،‭ ‬الذي‭ ‬عاش‭ ‬منذ‭ ‬القدم‭ ‬منصهرًا‭ ‬في‭ ‬كنف‭ ‬الخلفاء‭ ‬وحضرة‭ ‬الأمراء،‭ ‬يمدحهم‭ ‬ويتغنى‭ ‬بخصالهم‭ ‬مقابل‭ ‬دريهمات‭ ‬تلبّي‭ ‬مآربه‭ ‬الشخصية‭. ‬فالحاكم‭ ‬العربي‭ (‬في‭ ‬الماضي‭ ‬والحاضر‭) ‬ظل‭ ‬مركّزًا‭ ‬على‭ ‬قيمة‭ ‬النخبة‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬ودورهم‭ ‬الرئيسي‭ ‬في‭ ‬تنويره‭ ‬وتثقيفه،‭ ‬ومن‭ ‬هنا‭ ‬كان‭ ‬لزامًا‭ ‬عليه‭ ‬كبح‭ ‬هذه‭ ‬القوة‭ ‬الفكرية‭ ‬الخلاقة،‭ ‬وتحويل‭ ‬طاقتها‭ ‬بشكل‭ ‬مدروس‭ ‬معكوس‭.‬

فبحث‭ ‬بعض‭ ‬حكّام‭ ‬عالَمنا‭ ‬العربي‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬الطرق‭ ‬التي‭ ‬بواسطتها‭ ‬سيحولون‭ ‬ولاء‭ ‬المثقف‭ ‬إليهم،‭ ‬وطاعته‭ ‬لهم،‭ ‬وأعماله‭ ‬في‭ ‬سبيلهم،‭ ‬حيث‭ ‬قدّموا‭ ‬كل‭ ‬أصناف‭ ‬الهدايا‭ ‬والجوائز‭ ‬والنوال،‭ ‬وبسطوا‭ ‬أياديهم‭ ‬لكل‭ ‬أشكال‭ ‬المنحة‭ ‬والهبة‭ ‬والعطيّة،‭ ‬والهدف‭ ‬الأسمى‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬شراء‭ ‬ضمير‭ ‬العالم،‭ ‬وخاطر‭ ‬المثقف،‭ ‬وذمّة‭ ‬المفكر‭.‬

 

استغلال‭ ‬صوت‭ ‬المثقفين

إن‭ ‬نخبة‭ ‬اليوم‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬تخلّت‭ ‬عن‭ ‬مبادئها‭ ‬وصوتها‭ ‬النقدي‭ - ‬التوعوي،‭ ‬واغترت‭ ‬بالمناصب‭ ‬التي‭ ‬قدّمت‭ ‬لها،‭ ‬وانجذبت‭ ‬إلى‭ ‬الإغراءات‭ ‬التي‭ ‬نصبت‭ ‬لها،‭ ‬وطمعت‭ ‬في‭ ‬النعم‭ ‬التي‭ ‬خصصت‭ ‬لها،‭ ‬حيث‭ ‬حاول‭ ‬بعض‭ ‬الحكام‭ ‬استغلال‭ ‬صوت‭ ‬المثقفين،‭ ‬وضمهم‭ ‬إلى‭ ‬سفينة‭ ‬التسلط‭ ‬التي‭ ‬يقودونها،‭ ‬وذلك‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬أدوارهم‭ ‬الجديدة‭ ‬التي‭ ‬ستنقلب‭ ‬من‭ ‬التنوير‭ ‬إلى‭ ‬التمويه،‭ ‬ومن‭ ‬التثقيف‭ ‬إلى‭ ‬التتفيه،‭ ‬ومن‭ ‬التأديب‭ ‬إلى‭ ‬التسفيه،‭ ‬ومن‭ ‬التهذيب‭ ‬إلى‭ ‬الترفيه‭. ‬فبعد‭ ‬أن‭ ‬كانت‭ ‬النخبة‭ ‬هي‭ ‬ضياء‭ ‬العقول‭ ‬والنور‭ ‬الذي‭ ‬يرفض‭ ‬الذبول،‭ ‬أضحت‭ ‬وسيلة‭ ‬للتشهير‭ ‬بآراء‭ ‬الحكام،‭ ‬والوقوف‭ ‬ضد‭ ‬مطالب‭ ‬العوام‭.‬

إن‭ ‬وظيفتهم‭ ‬الأساسية‭ ‬تستهدف‭ ‬تلميع‭ ‬صورة‭ ‬الطاغية،‭ ‬والوقوف‭ ‬في‭ ‬صفّه‭ ‬بكل‭ ‬القرارات،‭ ‬مع‭ ‬تضليل‭ ‬الشعب‭ ‬وتدليس‭ ‬الحقائق‭ ‬وافتراء‭ ‬الوقائع‭ ‬لتبرير‭ ‬كل‭ ‬عمل‭ ‬يقوم‭ ‬به،‭ ‬وتسويغ‭ ‬أي‭ ‬قرار‭ ‬يتخذه‭.‬

ومن‭ ‬هنا‭ ‬فواقع‭ ‬الحال‭ ‬يقول‭ ‬إن‭ ‬النخبة‭ ‬الحاكمة‭ ‬قد‭ ‬تمكّنت‭ ‬من‭ ‬ضم‭ ‬صوت‭ ‬المثقف‭ ‬لمصلحة‭ ‬خدمة‭ ‬أجنداتها،‭ ‬وإلهاء‭ ‬المواطن‭ ‬العربي‭ ‬المقهور‭ ‬في‭ ‬قضايا‭ ‬تعطل‭ ‬التفكير،‭ ‬وتحدّ‭ ‬من‭ ‬النقد‭ ‬والتمحيص،‭ ‬وتقف‭ ‬حاجزًا‭ ‬أمام‭ ‬النضج‭ ‬والوعي‭ ‬والتفكير‭. ‬قضايا‭ ‬غايتها‭ ‬الأساسية‭ ‬هي‭ ‬غضّ‭ ‬الطرف‭ ‬وصم‭ ‬الآذان‭ ‬وتلجيم‭ ‬الصوت‭ ‬أمام‭ ‬ما‭ ‬يقع‭ ‬للشعوب‭ ‬من‭ ‬خروقات‭ ‬استبدادية،‭ ‬وتجاوزات‭ ‬تسلطية،‭ ‬وتراجعات‭ ‬حقوقية‭.‬

 

تحالف‭ ‬ثنائي

ويبرز‭ ‬المخرج‭ ‬أبو‭ ‬سيف‭ ‬هذا‭ ‬التحالف‭ ‬الثنائي‭ ‬بين‭ ‬الحاكم‭ ‬والمثقف‭ ‬في‭ ‬المشهد‭ ‬الذي‭ ‬يصور‭ ‬صنع‭ ‬نبيه‭ ‬بيه‭ ‬لشراب‭ ‬مسكر‭ - ‬بإشراف‭ ‬الدكتورة‭ ‬الجامعية‭ - ‬كانت‭ ‬غايته‭ ‬الأساسية‭ ‬هي‭ ‬إسكار‭ ‬أهل‭ ‬نابيهاليا،‭ ‬وإلهائهم‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬المطالب‭ ‬الإصلاحية‭ (‬الاجتماعية‭ ‬والسياسية‭) ‬التي‭ ‬قدّموها‭ ‬إلى‭ ‬حاكم‭ ‬الواحة‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬تفعيل‭ ‬الحكم‭ ‬الديمقراطي‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المملكة‭ ‬الصغيرة‭.‬

وهذا‭ ‬المشهد‭ ‬له‭ ‬بُعد‭ ‬إيحائي‭ ‬يرمز‭ ‬إلى‭ ‬سياسة‭ ‬المستبدين‭ ‬التي‭ ‬تهدف‭ ‬إلى‭ ‬تخدير‭ ‬الشعوب‭ ‬وإلهائها،‭ ‬وذلك‭ ‬بتوفير‭ ‬جميع‭ ‬أنواع‭ ‬المُتع‭ ‬الحسية‭ ‬والجسدية،‭ ‬وكل‭ ‬وسائل‭ ‬اللذة‭ ‬الإنسانية‭ ‬والروحية‭. ‬وإشراف‭ ‬الدكتورة‭ ‬على‭ ‬العملية‭ ‬دليل‭ ‬على‭ ‬تحالف‭ ‬النخب‭ ‬العلمية‭ ‬مع‭ ‬المستبد‭ ‬في‭ ‬مهمته‭ ‬الأساسية‭ ‬التي‭ ‬تصبو‭ ‬إلى‭ ‬القضاء‭ ‬على‭ ‬فكر‭ ‬الشعب،‭ ‬وتحطيم‭ ‬نفسيته،‭ ‬وتعطيل‭ ‬حسّه،‭ ‬وكبح‭ ‬روحه،‭ ‬وذلك‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬إغراقه‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬أنواع‭ ‬المخدرات‭ ‬والأفيون‭ ‬والحشيش‭ ‬والخمر‭ ‬والجنس‭... ‬إلخ‭. ‬أضف‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬اسم‭ ‬الدكتورة‭ ‬سميحة‭ (‬من‭ ‬التسامح‭) ‬يؤشر‭ ‬إلى‭ ‬تقارب‭ ‬سرّي‭ ‬بين‭ ‬النخبة‭ ‬الحاكمة‭ ‬والنخبة‭ ‬العالمة،‭ ‬لأن‭ ‬هذه‭ ‬الأخيرة‭ (‬النخب‭ ‬العالمة‭) ‬متسامحة‭ ‬في‭ ‬أعمالها‭ ‬ومتحالفة‭ ‬في‭ ‬منجزاتها‭ ‬مع‭ ‬نخب‭ ‬الاستبداد‭ ‬والقهر‭.‬

الدور‭ ‬البارز‭ ‬الذي‭ ‬اعتنى‭ ‬به‭ ‬المخرج،‭ ‬فنيًا،‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الفيلم‭ ‬هو‭ ‬دور‭ ‬الفنان‭ ‬المناضل‭ ‬عادل‭ (‬أحمد‭ ‬زكي‭) ‬والمؤازر‭ ‬من‭ ‬طرف‭ ‬حبيبته‭ ‬المعارضة،‭ ‬مضيفة‭ ‬الطيران‭ ‬آمال‭ (‬يسرا‭). ‬وهو‭ ‬دور‭ ‬له‭ ‬رمزية‭ ‬بليغة‭ ‬في‭ ‬الفيلم،‭ ‬لكونه‭ ‬يلمّح‭ ‬إلى‭ ‬الفئة‭ ‬المتحدية‭ ‬لقرارات‭ ‬المستبد،‭ ‬والمعارضة‭ ‬لكل‭ ‬أشكال‭ ‬الغطرسة‭ ‬والتسلط‭ ‬والطغيان‭.‬

إنها‭ ‬الفئة‭ ‬التي‭ ‬تستنشق‭ ‬نسيم‭ ‬الحرية‭ ‬وتأبى‭ ‬السقوط‭ ‬في‭ ‬هاوية‭ ‬الخضوع‭ ‬والاستكانة،‭ ‬الاستسلام‭ ‬والتملق،‭ ‬العبودية‭ ‬والتسليم‭. ‬فالفنان‭ ‬عادل‭ ‬عارض‭ ‬تفرّد‭ ‬نبيل‭ ‬بيه‭ ‬بالحكم‭ ‬وتسلّطه‭ ‬على‭ ‬أهل‭ ‬الواحة،‭ ‬فكان‭ ‬دائمًا‭ ‬في‭ ‬مقدمة‭ ‬المحتجين‭ ‬على‭ ‬قراراته‭ ‬التعسفية،‭ ‬وكان‭ ‬دائمًا‭ ‬رافضًا‭ ‬لمشاريعه‭ ‬وأطماعه‭ ‬الاستغلالية،‭ ‬بل‭ ‬الأكثر‭ ‬من‭ ‬ذلك،‭ ‬فقد‭ ‬رفض‭ ‬كل‭ ‬محاولات‭ ‬الإغراء‭ ‬والجذب‭ ‬والإغواء‭ ‬التي‭ ‬تلقاها‭ ‬من‭ ‬حاكم‭ ‬مملكة‭ ‬نبيهاليا،‭ ‬نبيه‭ ‬بيه‭.‬

 

رفض‭ ‬قاطع

هذا‭ ‬الأخير‭ ‬حاول‭ ‬التودد‭ ‬إلى‭ ‬الفنان،‭ ‬أثناء‭ ‬حواره‭ ‬معه،‭ ‬وذلك‭ ‬بتقديم‭ ‬حصص‭ ‬إضافية‭ ‬من‭ ‬البلح‭ ‬قصد‭ ‬حمله‭ ‬على‭ ‬تغيير‭ ‬رأيه،‭ ‬وإقناع‭ ‬أصدقائه‭ ‬المحتجين‭ ‬بالتراجع‭ ‬عن‭ ‬مطالبهم‭ ‬الإصلاحية‭. ‬لكن‭ ‬هيهات‭ ‬أن‭ ‬يخون‭ ‬هذا‭ ‬المناضل‭ ‬القضية،‭ ‬هيهات‭ ‬أن‭ ‬يغدر‭ ‬هذا‭ ‬المبدع‭ ‬بالوطنية،‭ ‬فيرفض،‭ ‬بذلك،‭ ‬كل‭ ‬الرشاوى‭ ‬التي‭ ‬قدّمها‭ ‬نبيه‭ ‬بيه‭ ‬معلنًا‭ ‬إصراره‭ ‬على‭ ‬تنفيذ‭ ‬مطالب‭ ‬أهل‭ ‬الواحة‭ ‬الإصلاحية‭ ‬والديمقراطية‭. ‬وقد‭ ‬أعلن‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬الطرح‭ ‬في‭ ‬حواره‭ ‬الثنائي‭ ‬مع‭ ‬نبيه‭ ‬بيه‭: ‬‮«‬ماباخدش‭ ‬رشاوى‮»‬،‭ ‬متحديًا‭ ‬كل‭ ‬العواقب‭ ‬التي‭ ‬قد‭ ‬يتعرّض‭ ‬لها‭ ‬من‭ ‬طرف‭ ‬هذا‭ ‬الدكتاتور‭.‬

ومن‭ ‬بين‭ ‬المطالب‭ ‬الإصلاحية‭ ‬التي‭ ‬قدّمتها‭ ‬ساكنة‭ ‬الواحة،‭ ‬ضرورة‭ ‬إجراء‭ ‬انتخابات‭ ‬ديمقراطية‭ ‬ونزيهة،‭ ‬تفضي‭ ‬إلى‭ ‬تعيين‭ ‬رئيس‭ ‬منتخب‭ ‬ديمقراطيًا‭ ‬لهذه‭ ‬الواحة،‭ ‬لكن‭ ‬المستبد‭ ‬نبيه‭ ‬بيه‭ ‬رفض‭ ‬هذا‭ ‬المقترح‭ ‬رفضًا‭ ‬قاطعًا،‭ ‬وحاول‭ ‬إلغاء‭ ‬الفكرة‭ ‬واستبعادها،‭ ‬وتهديد‭ ‬أصحابها‭ ‬أو‭ ‬إثارتهم‭ ‬بالهدايا‭ ‬والرشاوى‭.‬

لكن‭ ‬تحدّي‭ ‬أهل‭ ‬الواحة‭ ‬وإصرارهم‭ ‬جعله‭ ‬يستسلم‭ ‬للأمر‭ ‬اليقين،‭ ‬ويقرر‭ ‬إقامة‭ ‬انتخابات‭ ‬ستفضي‭ ‬إلى‭ ‬نجاح‭ ‬الفنان‭ ‬عادل،‭ ‬وترؤسه‭ ‬لمملكة‭ ‬نبيهاليا‭ ‬بشكل‭ ‬ديمقراطي‭ ‬شريف‭. ‬وهنا‭ ‬ستثور‭ ‬ثائرة‭ ‬الطاغية،‭ ‬معلنًا‭ ‬رفض‭ ‬النتائج،‭ ‬ومصممًا‭ ‬على‭ ‬الحرب‭ ‬والمواجهة‭ ‬والصراع،‭ ‬حيث‭ ‬سيحاول‭ ‬اغتيال‭ ‬الفنان‭ ‬المثقف‭ ‬بالسكين،‭ ‬إيذانًا‭ ‬بتمرّده‭ ‬وانقلابه‭ ‬وعصيانه‭ ‬وخروجه‭ ‬على‭ ‬القانون‭.‬

وهذا‭ ‬المشهد‭ ‬له‭ ‬رمزية‭ ‬عميقة‭ ‬في‭ ‬سلّم‭ ‬البلاغة‭ ‬السينمائية‭ ‬التي‭ ‬يحفل‭ ‬بها‭ ‬الفيلم،‭ ‬لكونه‭ ‬يشير‭ ‬إلى‭ ‬حالة‭ ‬الانقلابات‭ ‬السياسية‭ ‬والعسكرية‭ ‬التي‭ ‬تنتشر‭ ‬بكثرة‭ ‬في‭ ‬أوطاننا‭ ‬العربية،‭ ‬والتي‭ ‬ترفض‭ ‬أي‭ ‬مشروع‭ ‬ديمقراطي‭ ‬حداثي‭ ‬يسعى‭ ‬إلى‭ ‬نقل‭ ‬البلاد‭ ‬العربية‭ ‬إلى‭ ‬مصافّ‭ ‬البلدان‭ ‬المتطورة،‭ ‬والمتقدمة،‭ ‬والساعية‭ ‬نحو‭ ‬قيم‭ ‬العدل‭ ‬والحرية‭ ‬والمساواة‭... ‬إلخ‭.‬

 

تحكُّم‭ ‬وفق‭ ‬الأهواء

إن‭ ‬الفنان‭ ‬عادل‭ ‬في‭ ‬الفيلم‭ ‬هو‭ ‬رمز‭ ‬للقوى‭ ‬المعارضة‭ ‬الغيورة‭ ‬التي‭ ‬تناضل‭ ‬ضد‭ ‬الاستبداد،‭ ‬فاسمه‭ ‬يوحي‭ ‬وظيفته‭ ‬في‭ ‬الفيلم،‭ ‬عادل‭ ‬الذي‭ ‬يبحث‭ ‬عن‭ ‬العدل‭ ‬والمساواة،‭ ‬عادل‭ ‬الذي‭ ‬يسعى‭ ‬إلى‭ ‬ترسيخ‭ ‬الحرية‭ ‬والكرامة،‭ ‬عادل‭ ‬الذي‭ ‬يهدف‭ ‬إلى‭ ‬تعميم‭ ‬الديمقراطية‭ ‬والتشاركية‭. ‬وقد‭ ‬ساندته‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المهمة‭ ‬مضيفة‭ ‬الطيران‭ ‬آمال‭ (‬يسرا‭) ‬التي‭ ‬رفضت‭ ‬كل‭ ‬قرارات‭ ‬المستبد،‭ ‬مفضلة‭ ‬التضحية‭ ‬والاعتقال‭ ‬بدل‭ ‬قبول‭ ‬الظلم‭ ‬والطغيان،‭ ‬واسمها‭ (‬آمال‭) ‬دليل‭ ‬على‭ ‬الحلم‭ ‬والأمل‭ ‬والإيمان‭ ‬بالتغيير‭ ‬نحو‭ ‬الأفضل،‭ ‬نحو‭ ‬العدل‭ ‬والحرية‭ ‬والديمقراطية،‭ ‬رغم‭ ‬قهر‭ ‬السجن،‭ ‬وقساوة‭ ‬الأسْر،‭ ‬ومرارة‭ ‬القيد‭. ‬وكثيرًا‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬نبيه‭ ‬بيه‭ ‬يوظف‭ ‬المعتقل‭ ‬كإحدى‭ ‬وسائل‭ ‬الردع‭ ‬والتهديد‭ ‬والعقاب‭ ‬ضد‭ ‬أهل‭ ‬الواحة،‭ ‬فيسجنهم‭ ‬متى‭ ‬شاء‭ ‬ويعفو‭ ‬عنهم‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬وقت‭ ‬رغب،‭ ‬وهذا‭ ‬يدل‭ ‬على‭ ‬تحكّم‭ ‬المستبدين‭ ‬في‭ ‬سلطة‭ ‬القوانين‭ ‬ومصير‭ ‬المعتقلين،‭ ‬بالعفو‭ ‬والعقاب‭ ‬وفق‭ ‬الأهواء‭ ‬لا‭ ‬وفق‭ ‬القانون‭.‬

بل‭ ‬الأكثر‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬امتدت‭ ‬هيمنة‭ ‬الطاغية‭ ‬نبيه‭ ‬حتى‭ ‬على‭ ‬سلطة‭ ‬القضاء،‭ ‬التي‭ ‬يفترض‭ ‬فيها‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬هيئة‭ ‬مستقلة‭ ‬في‭ ‬المملكة،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬يبرز‭ ‬جليًا‭ ‬في‭ ‬المشهد‭ ‬الفيلمي‭ ‬الذي‭ ‬يرصد‭ ‬محاكمة‭ ‬المعتقلين‭ ‬في‭ ‬محكمة‭ ‬الواحة،‭ ‬حيث‭ ‬يتمظهر‭ ‬نبيه‭ ‬بيه‭ ‬أثناء‭ ‬المحاكمة‭ ‬في‭ ‬صورة‭ ‬جميع‭ ‬الفاعلين‭ ‬المساهمين‭ ‬في‭ ‬سلك‭ ‬القضاء‭: ‬القاضي‭ ‬والمدعي‭ ‬العام‭ ‬وهيئة‭ ‬الدفاع‭... ‬إلخ،‭ ‬إيحاء‭ ‬بالسيطرة‭ ‬الشمولية‭ ‬للنظام‭ ‬المستبد‭ ‬على‭ ‬جهاز‭ ‬القضاء،‭ ‬وتوجيه‭ ‬أحكامه‭ ‬وفق‭ ‬مطالبه‭ ‬وأهوائه‭ ‬وأحقاده،‭ ‬لا‭ ‬بحسب‭ ‬سلطة‭ ‬الفصول‭ ‬القانونية‭ ‬والدستورية‭.‬

إن‭ ‬فئة‭ ‬المناضلين‭ ‬في‭ ‬الفيلم‭ ‬تعكس‭ ‬صورة‭ ‬الثوري‭ ‬العربي‭ ‬الذي‭ ‬يحاول‭ - ‬بحسّه‭ ‬النقدي‭ ‬ومواقفه‭ ‬المتحمسة‭ ‬ودفاعه‭ ‬المستميت‭ ‬عن‭ ‬قضايا‭ ‬شعبه‭ - ‬أن‭ ‬يغيّر‭ ‬من‭ ‬الواقع‭ ‬السلبي،‭ ‬وأن‭ ‬ينير‭ ‬فكر‭ ‬المواطن،‭ ‬ويشعل‭ ‬فتيل‭ ‬الحماس،‭ ‬ويفتح‭ ‬الباب‭ ‬أمام‭ ‬الأمل‭ ‬والحلم‭ ‬في‭ ‬سبيل‭ ‬استنشاق‭ ‬نسيم‭ ‬الحرية‭ ‬والعدل‭ ‬والديمقراطية‭.‬

 

فئات‭ ‬الخضوع

إنها‭ ‬فئة‭ ‬ترفض‭ ‬الخضوع‭ ‬والخنوع،‭ ‬وتجابه‭ ‬قوى‭ ‬الطغيان‭ ‬والتسلط،‭ ‬وتصارع‭ ‬سرطان‭ ‬الدكتاتورية‭ ‬والقمع،‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬تحقيق‭ ‬قدر‭ ‬من‭ ‬الكرامة‭ ‬والشرف،‭ ‬بعض‭ ‬من‭ ‬العزّة‭ ‬والنخوة،‭ ‬بعض‭ ‬من‭ ‬الشهامة‭ ‬والأنفة‭. ‬وهي‭ ‬الفئة‭ ‬التي‭ ‬يرسمها‭ ‬أبو‭ ‬سيف‭ ‬في‭ ‬أبهى‭ ‬صورة،‭ ‬وأرقى‭ ‬هيئة،‭ ‬وأروع‭ ‬حلّة،‭ ‬فيبدع‭ ‬مخرجنا‭ ‬الواقعي‭ ‬في‭ ‬تجسيد‭ ‬خصوصياتها‭ ‬وتشخيص‭ ‬ملامحها‭ ‬تشخيصًا‭ ‬مثاليًا،‭ ‬طاهرًا،‭ ‬شريفًا،‭ ‬ساميًا،‭ ‬صافيًا‭... ‬إلخ‭.‬

الفئة‭ ‬الأخيرة‭ ‬التي‭ ‬ترجّى‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬أبو‭ ‬سيف‭ ‬نقل‭ ‬مجتمع‭ ‬الاستبداد‭ ‬في‭ ‬بنياته‭ ‬التكوينية‭ ‬ووظائفه‭ ‬التأصيلية،‭ ‬هي‭ ‬فئة‭ ‬العامة،‭ ‬التي‭ ‬يمثّلها‭ ‬بقية‭ ‬سكان‭ ‬الواحة‭: ‬الفلاح‭ ‬سليم‭ ‬سالم‭ ‬السلمان،‭ ‬الراقصة‭ ‬عدولة،‭ ‬الكابتن‭ ‬خالد‭ ‬قائد‭ ‬الطائرة‭ ‬ومساعدَيه‭. ‬وهي‭ ‬فئات‭ ‬مثّلت‭ ‬البساطة‭ ‬والخضوع‭ ‬والخنوع‭ ‬والهروب‭ ‬والخوف‭ ‬والرضا‭ ‬بالواقع‭ ‬دون‭ ‬أدنى‭ ‬قدر‭ ‬من‭ ‬المواجهة‭ ‬والطموح‭ ‬والتحدي،‭ ‬ودون‭ ‬أي‭ ‬محاولة‭ ‬للمجابهة‭ ‬والمقاومة‭ ‬والرفض‭. ‬إنها‭ ‬رمز‭ ‬لفئات‭ ‬المجتمع‭ ‬المسحوقة‭ ‬والمستسلمة‭ ‬والمقهورة،‭ ‬التي‭ ‬تشاهد‭ ‬ما‭ ‬يقع‭ ‬لها‭ ‬دون‭ ‬قدرة‭ ‬على‭ ‬التغيير‭ ‬والتحوير‭ ‬والتحرير‭. ‬فقط‭ ‬تكتفي‭ ‬بالمشاهدة‭ ‬والملاحظة،‭ ‬لا‭ ‬حول‭ ‬لها‭ ‬ولا‭ ‬قوة،‭ ‬تطمح‭ ‬للخير‭ ‬ولا‭ ‬تستطيع‭ ‬كبح‭ ‬الشر،‭ ‬ترضى‭ ‬بما‭ ‬يشرع‭ ‬ويفرض،‭ ‬ولا‭ ‬تملك‭ ‬حرية‭ ‬للتعبير‭ ‬والرفض،‭ ‬تستسلم‭ ‬لما‭ ‬يعلن‭ ‬ويقرر،‭ ‬ولا‭ ‬حق‭ ‬لها‭ ‬في‭ ‬الرد‭ ‬والصد‭. ‬إنها‭ ‬الشعوب‭ ‬المقهورة‭ ‬والمهدورة‭ ‬كما‭ ‬يصفها‭ ‬الكاتب‭ ‬مصطفى‭ ‬حجازي‭.‬

فالفلاح‭ ‬سليم‭ ‬سالم‭ ‬السلمان‭ ‬هو‭ ‬رمز‭ ‬للبساطة‭ ‬والطاعة،‭ ‬للامتثال‭ ‬والاستكانة،‭ ‬للإذعان‭ ‬والقناعة‭. ‬واسمه‭ ‬دالّ‭ ‬على‭ ‬موقفه‭ ‬في‭ ‬واقع‭ ‬الواحة،‭ ‬فسليم‭ ‬هو‭ ‬دالّ‭ ‬على‭ ‬مدلول‭ ‬الاستسلام‭ ‬والتسليم‭ ‬والسلام،‭ ‬لأنّه‭ ‬شخصية‭ ‬اتصفت‭ ‬في‭ ‬الفيلم‭ ‬بالصمت‭ ‬والتصديق،‭ ‬بالرهبة‭ ‬والتوجس،‭ ‬بالاكتفاء‭ ‬والاكتنات،‭ ‬بالرضا‭ ‬والموافقة‭. ‬فظل‭ ‬طوال‭ ‬أحداث‭ ‬الفيلم‭ ‬يصدّق‭ ‬كل‭ ‬ادعاءات‭ ‬الزعيم،‭ ‬ويسلّم‭ ‬بحكمه‭ ‬وسيطرته،‭ ‬ويخضع‭ ‬لجبروته‭ ‬وطغيانه،‭ ‬دون‭ ‬أدنى‭ ‬اعتراض‭ ‬أو‭ ‬رفض‭.‬

 

تصوير‭ ‬إيجابي

أما‭ ‬الراقصة‭ ‬عدولة‭ ‬فهي‭ ‬أيقونة‭ ‬إباحية،‭ ‬تحيل‭ ‬إلى‭ ‬الطبقات‭ ‬الشعبية‭ ‬المسحوقة‭ ‬والمستغلة،‭ ‬الراقصات‭ ‬اللواتي‭ ‬ينظر‭ ‬إليهن‭ ‬نظرة‭ ‬نقص‭ ‬وابتذال،‭ ‬دلع‭ ‬ودلال،‭ ‬إغراء‭ ‬وشهوانية‭. ‬واسمها‭ ‬أيضًا‭ ‬يوحي‭ ‬هذا‭ ‬الغنج‭ ‬الجسدي‭ ‬المستسلم‭ ‬لظروفه‭ ‬الاجتماعية،‭ ‬والخاضع‭ ‬لرقابة‭ ‬المستبدين‭ ‬وتوجيههم،‭ ‬والخانع‭ ‬لقدره‭ ‬البئيس‭ ‬وعمله‭ ‬الخسيس‭. ‬ورغم‭ ‬كل‭ ‬هذا،‭ ‬فقد‭ ‬تعمّد‭ ‬أبو‭ ‬سيف‭ ‬تصوير‭ ‬هذه‭ ‬الشخصية‭ ‬تصويرًا‭ ‬إيجابيًا،‭ ‬يركّز‭ ‬فيه‭ ‬على‭ ‬روحها‭ ‬الطاهرة،‭ ‬وقيمها‭ ‬الصافية،‭ ‬وأعمالها‭ ‬النزيهة،‭ ‬وملامحها‭ ‬المرحة،‭ ‬وتصرفاتها‭ ‬الطربة‭. ‬وهذا‭ ‬راجع‭ ‬إلى‭ ‬النزعة‭ ‬الواقعية‭ ‬في‭ ‬سينما‭ ‬صلاح،‭ ‬ورؤيته‭ ‬النقدية‭ ‬التي‭ ‬تتوخى‭ ‬تعرية‭ ‬الواقع‭ ‬وإصلاحه‭. ‬الشخصية‭ ‬الثالثة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الصنف‭ (‬العامة‭) ‬هي‭ ‬شخصية‭ ‬الكابتن‭ ‬خالد،‭ ‬قائد‭ ‬الطائرة‭ ‬التي‭ ‬سقطت‭ ‬في‭ ‬الواحة‭. ‬وهي‭ ‬شخصية‭ ‬فضّلت‭ ‬الهروب‭ ‬سريعًا‭ ‬ومجابهة‭ ‬الأخطار،‭ ‬على‭ ‬المكوث‭ ‬قريبًا‭ ‬ومواجهة‭ ‬الأضرار‭. ‬إن‭ ‬خالد‭ ‬ضاق‭ ‬ذرعًا‭ ‬بانتظار‭ ‬الخلاص،‭ ‬فقرر‭ ‬البحث‭ ‬عنه‭ ‬بنفسه،‭ ‬مخترقًا‭ ‬الصحارى،‭ ‬ومتحديًا‭ ‬القفار،‭ ‬وحائرًا‭ ‬بين‭ ‬الغمار‭.‬

بينما‭ ‬رفض‭ ‬الطياران‭ ‬المساعدان‭ ‬خوض‭ ‬هذه‭ ‬التجربة‭ ‬الخطيرة‭ ‬برفقة‭ ‬الكابتن،‭ ‬بسبب‭ ‬خوفهما‭ ‬من‭ ‬مسارها‭ ‬المجهول‭ ‬الذي‭ ‬قد‭ ‬يودي‭ ‬بهم‭ ‬إلى‭ ‬هلاكهم‭. ‬وقررا،‭ ‬بدل‭ ‬ذلك،‭ ‬اختيار‭ ‬مسلك‭ ‬عاق،‭ ‬والاستمرار‭ ‬في‭ ‬عملهما‭ ‬الشاق‭ (‬في‭ ‬الواحة‭)‬،‭ ‬خدمة‭ ‬لمشاريع‭ ‬نبيه‭ ‬بيه‭ ‬الاستغلالية،‭ ‬وتنفيذًا‭ ‬لمخططاته‭ ‬التعسفية‭.  ‬هكذا‭ ‬يتمكن‭ ‬الكابتن‭ ‬خالد‭ ‬ـ‭ ‬أخيرًا‭ ‬ـ‭ ‬من‭ ‬النجاح‭ ‬في‭ ‬مهمته،‭ ‬والفلاح‭ ‬في‭ ‬مغامرته،‭ ‬فيستطيع‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬بر‭ ‬الأمان،‭ ‬وإخبار‭ ‬أهل‭ ‬الطوارئ‭ ‬بضرورة‭ ‬إنقاذ‭ ‬هؤلاء‭ ‬التائهين‭ ‬في‭ ‬الخلاء،‭ ‬الضائعين‭ ‬في‭ ‬العراء‭. ‬ثم‭ ‬سيعود‭ ‬إلى‭ ‬أصدقائه‭ ‬بطائرة‭ ‬إنقاذ،‭ ‬ترجعهم‭ ‬إلى‭ ‬ديارهم‭ ‬سالمين‭ ‬ناجين،‭ ‬باستثناء‭ ‬الطاغية‭ ‬نبيه‭ ‬الذي‭ ‬بقي‭ ‬وحيدًا‭ ‬في‭ ‬واحته‭ ‬التي‭ ‬حلم‭ ‬بها،‭ ‬منفردًا‭ ‬بمملكته‭ ‬التي‭ ‬استولى‭ ‬عليها‭.‬

 

تحفة‭ ‬فنية‭ ‬راقية

ختامًا،‭ ‬يبقى‭ ‬أن‭ ‬نشير‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬فيلم‭ ‬البداية‭ ‬هو‭ ‬تحفة‭ ‬فنية‭ ‬راقية،‭ ‬قدّمت‭ ‬في‭ ‬قصة‭ ‬بسيطة‭ ‬وحكاية‭ ‬طريفة،‭ ‬وركّبت‭ ‬في‭ ‬قالب‭ ‬جمالي‭ ‬ينزع‭ ‬إلى‭ ‬التلميح‭ ‬والترميز،‭ ‬وجسّدت‭ ‬بمنطق‭ ‬سينمائي‭ ‬قائم‭ ‬على‭ ‬التخييل‭ ‬والإيحاء‭. ‬ويبقى‭ ‬الطابع‭ ‬الواقعي‭ ‬للمخرج‭ ‬صلاح‭ ‬أبو‭ ‬سيف‭ ‬حاضرًا‭ ‬بقوة،‭ ‬وإن‭ ‬عبّر‭ ‬عنه‭ ‬بلغة‭ ‬غير‭ ‬مباشرة،‭ ‬تتطلب‭ ‬جهدًا‭ ‬من‭ ‬طرف‭ ‬المتلقي‭/ ‬المشاهد،‭ ‬الذي‭ ‬يحاول‭ ‬ربط‭ ‬ما‭ ‬يبصره‭ ‬في‭ ‬الشاشة‭ ‬بسياق‭ ‬الواقع‭ ‬الاجتماعي‭ ‬الذي‭ ‬يعيش‭ ‬فيه‭.‬

فالمخرج‭ ‬انتقى‭ ‬ظاهرة‭ ‬اجتماعية‭ ‬وسياسية‭ ‬من‭ ‬الواقع‭ (‬الاستبداد‭)‬،‭ ‬وبلغها‭ ‬بأسلوب‭ ‬فني‭ ‬عميق،‭ ‬وبحكاية‭ ‬هزلية‭ ‬مبسطة،‭ ‬تدور‭ ‬في‭ ‬فضاء‭ ‬محدود‭ (‬الواحة‭ ‬الصحراوية‭)‬،‭ ‬وينجزها‭ ‬طاقم‭ ‬تشخيصي‭ ‬محصور،‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬معيّن،‭ ‬وبيئة‭ ‬معزولة‭ ‬مسيّجة،‭ ‬ليكون‭ ‬بذلك‭ ‬هذا‭ ‬العمل‭ ‬المصري‭ ‬أحد‭ ‬المعالم‭ ‬السينمائية‭ ‬البارزة‭ (‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭) ‬خلال‭ ‬حقبة‭ ‬الثمانينيات‭ ‬■