ديوان رحيق الأرواح والشّعر الصوفي

ديوان رحيق الأرواح  والشّعر الصوفي

للشاعر محمود شوقي الأيوبي مكانة في الشعر الحديث والمعاصر في الكويت (1903 - 1966)،  فقد ترك نتاجًا ضخمًا من الشعر الذي توزع في عدد من الدواوين المخطوطة والمطبوعة، وإن طُبعَ عدد من المخطوط لاحقًا بدولة الكويت والمملكة العربية السعودية. من دواوينه «الموازين»، و«الأشواق»، و«هاتف من الصحراء»، و«ألحان الثورة»، و«أحلام الخليج»، (ويقع في جزأين كبيرين)، وديوان «الملاحم العربية»، وهو ديوان ضخم، وديوان «المنابر والأقلام»، وأوراق أخرى مخطوطة، إضافة إلى دواوين ضاعت، مثل «الينابيع»، و«الصباح الجديد»، و«أغاني الحمى».

للشاعر الأيوبي ديوان كامل عن الشعر الصوفي، سماه «رحيق الأرواح»، وأثبت على غلاف هذا الديوان قوله: «إنه أعذب الأناشيد الصوفية، وأروع الألحان الروحية التي تمثّل الشعر الصوفي في الأدب المعاصر أوضح تمثيل».
ولا نعرف ما إذا كان الشاعر هو الذي أضاف إلى عنوان الديوان هذه الإيضاحات، أو أن ناشره هو الذي فعل ذلك، لكنّ الذي يهمنا هو أن نتساءل: هل هذا ديوان في الشعر الصوفي عامة، وفي الشعر الصوفي بمفهومه الحديث بصفة خاصة، أو أنه من هذا النوع من القصائد التي تغلب عليها الشكوى إلى الله، ودعوته إلى رفع الأحزان عن صاحبها؟!
وفي الحقيقة أن الذين قدّموا لهذا الديوان قد بالغوا في ذلك مبالغة واضحة، لقد أقروا جميعًا بأنه ديوان في الشعر الصوفي، كما نجد في هذه العبارات التي ننقلها من هذه الكتابات. فيقول محمد ناجي: «فهذا رحيق الأرواح أقدمه للقارئ، ولسوف يعرف حينما يتصفحه أي رحيق يجتليه، وأي شهد سيجنيه، والشاعر قد طوّف وطوّف، فمن مصر إلى العراق، إلى أقصى الشرق في إندونيسيا، وهو حين يتكلم فكلام سائح لا ينقصه عن فكرة الواقعية شيء، ولا يمنعه عنها حاجز، لكنّه آثر أن يركن إلى روحه، وأن يسمو فيها ويتغلغل، لكنّه لم يكن وحيدًا في هذا التغلغل، فواقعيّته الحقيقية في هذه الرؤى، والمناظر الحالمة، وفي أحلام يقظته، التي كانت واقعية صحيحة، ويقول الكاتب الإنجليزي أديسون: إنني أكون أقل وحدة حيثما أكون وحيدًا.
ونحن نقول عن شوقي الأيوبي إنّه لم يكن أقل واقعية حينما لجأ إلى روحه ونفسه، فإنه يخاطبنا من وراء هذا المقام التصويري والموسيقي الذي حدثنا عنه ناجي الشاعر... فناجي والأيوبي يريان الأشياء في بلورتها وجوهرها، أكثر مما نراها في واقعيتنا على الأرض.
 ويمكنك أن تعرف التطور الذي وصل إليه الشاعر من ديوانه الأول إلى الثاني، فقد كان في الأول يهيم في الجمال، يتطلّبه أينما وجد في العِلم والدين والأخلاق، وفي المُثل العليا، وفي ديوانه الثاني نراه قد فرّ بروحه إلى الله، ينظر إلى الأشياء من باطنها ولبّها، ونحن إذ نقدّم لك رحيق الأرواح، نقدّم لك خلاصة هذه الأشعة المتصلة بالخلود».
يقول د. محمد عبدالمنعم خفاجي، معبّرًا عن إطرائه للشعر الكويتي عامة والأيوبي من بين شعرائه خاصة: «... وشعر الأيوبي ينزع إلى تصوير مُثُلنا الروحية، وحياتنا الدينية تصويرًا دقيقًا، وفيه كذلك أنواع عديدة ممتعة من شعر الحكمة والتصوف والزهد».

أغانٍ صوفية عذبة
لم يكن رضوان إبراهيم أقل إسرافًا من صاحبيه في إطراء شعره وإسباغ كثير من الأوصاف عليه من صاحبيه، فقد اعترف صراحة في مقدمته التي عنوانها «هذا الديوان» بأنه من الأغاني الصوفية العذبة فيقول:
«هذا لون من الأغاني الصوفية العذبة، تخلّى عنها الشعر العربي الحديث وتناساها في زحمة الحياة المادية، وهو يزم رحاله معجلًا يخطف الطريق إلى آفاق رحيبة من التجديد. ما كان لشعرنا الحديث أن يتجافى هذا النمط الروحي الجميل، بعد أن كسبه الشعر العربي وترنّم به على مرّ العصور.
وصوفية الأيوبي ليست من اللون الانطوائي الخانع الذي يعشق الظلام، وينفر من الندى والنور والدفء، لكنّها صوفية انطلاقية هدفها التسامي على أشواك الحياة، والتأبّي على ضعفها، ثم الاندماج بالحبيب الذي رسمه له خياله الوثاب، مهما كان دونه من جبال شمّ، وجو رهيب، وكون عجيب، وخفاء غيبي، مجهول الرحاب...». ويقول الأيوبي نفسه عن ديوانه هذا إنه «ديوان من الشعر الصوفي الغني بموسيقاه وألوانه، وصوره الفنية الزاهية، وهو أعز دواويني عندي».
وحين نراجع الموضوعات التي عبرّ عنها الشاعر في هذه القصائد المختلفة، نكتشف أنها جميعًا وليدة مشكلة واحدة، هي: ذلك الاضطراب الذي أصاب حياة الشاعر عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، وقيام الثورة الإندونيسية، وهي ثورة يظهر أنها قد عمّت الجزر الإندونيسية جميعًا، وأنها خلقت، بالإضافة إلى ما خلّفته الحرب من دمار، كثيرًا من الاضطراب في حياة الناس البسطاء، ويفهم من إسراف الشاعر في التعبير عن محنته التي لا يفصل القول فيها، والتي يحرص دائمًا على أن يجعل منها محنة غامضة أنه من هؤلاء البسطاء الذين انعكست هذه الأحداث على مرآة حياتهم، فقد كانت حياته قد هدأت بعد زواجه واستقراره في إندونيسيا.

مزج بين الشكوى والدين
لكن هذه الاضطرابات دفعته، كما دفعت غيره من الإندونيسيين إلى النزوح المستمر بحثًا عن مكان مأمون يلجأ إليه. وزاد معاناته أنه كان يحمل معه حيثما ذهب زوجة وأولادًا صغارًا. من هذه المحنة نشأت قصائد هذا الديوان، وفي هذا ما يقودنا إلى تحديد الميدان الذي طرقه الشاعر في هذه القصائد على اختلافها، ونستطيع الآن أن نقول إنه ميدان الشكوى من الحياة، وما فيها من أخطار، ومن الناس، وما طبع في نفوسهم من غدر وتحلّل وحقد. ومثل هذا النوع من الشكوى التي تنبع من ظروف خاصة كثيرة الوجود في حياتنا العربية والإسلامية، وهي شكوى تجد طريقها سهلًا إلى الشعر، مما يطبعه عادة بطابع الحزن. ومعنى ذلك أن هذا النغم الديني الذي يغلب على هذا الديوان، ليس وليد نظرة صوفية، تنبعُ عن وعي عميق ودقيق بالتصوف في صورته النظرية والعملية، كما ورثناه في تجارب المتصوفة من العرب والفرس، وكمّا يشخّصه تراثهم الشعري والنثري، الذي بين أيدينا، كما سنرى حين نقارن أشعار هذا الديوان بنماذج من شعراء الصوفية.
وحين نتقدم خطوة أخرى في وصف هذا الديوان، فإننا نقول إن هذا المزج بين الشكوى والدين، أو الشكوى والتوجه إلى الله، قد تحوّل على يدي الأيوبي، إلى ما يشبه «الأوراد» التي يقرأها الصالحون في صلواتهم، ويتوجّهون فيها إلى الله شاكين من واقعهم، داعين الله أن يخلصهم منه، وأن يقودهم إلى سواء السبيل، وهي «أوراد» كثرت في العصور الأخيرة من تاريخ المسلمين، وكثرت مؤلفاتها، لدرجة يشكّل معها هذا النوع من الأدعية تراثًا أدبيًا يحتاج إلى دراسة.

قصائد مكشوفة الرمز
تتصف أوراد الأيوبي بمثل ما تتصف به أوراد الصالحين من شكوى وتوجّه إلى الله، متلبسين بصفات الصالحين من الزهد والتعفف، ومعنى ذلك أن هذه القصائد التي يضمها «رحيق الأرواح» قصائد مكشوفة الرمز، إذا صحّ أن نسمّي ما فيها من المعاني رموزًا، وهو كما سنرى أيضًا ما يناقض طبيعة شعر التصوف، الذي يتّسم بالغموض الرمزي، بمعنى أنه غموض يوهم بأن الشعر قد كُتب لهذا الغرض وحده، ولكن الدارس لا يلبث أن يكتشف شيئًا مختلفًا حين يلاحظ العلاقات التي يقيمها الشاعر الصوفي بين نفسه من ناحية، وبين ظواهر الطبيعة والذات الإلهية من ناحية أخرى، فيتجلى له الرمز الصوفي كأوضح ما يكون بعد أن كان متخفيًا في ثوب الغرض الشعري الذي كتبت فيه القصيدة.
ويجب أن نعترف أن في شعر الأيوبي، أو في «أوراده»، كما قلنا، غموضًا، لكنّه غموض يختلف عن غموض الصوفية، لأنّه، على الرغم من انكشاف الرمز فيه، وهو كما قلت، شكوى الحال والتوجه إلى الله، فإنّ معانيه غامضة، بمعنى أن صوره لا تكاد تتضح للقارئ، حتى يعيد إمعان النظر فيها، لصفة غالبة عليها، هي أنها قد نبعت من إسرافه في استخدام اللغة استخدامًا عشوائيًا، يجعل من شعره بناء لفظيًا لا نكاد نجد في داخله إلّا قليلًا من المعني، وقد نستعيد هنا عبارة أرسطو المشهورة، التي يقول فيها واصفًا مثل هذا النوع من الشعر «إنه طوفان من الألفاظ على صحراء من المعاني». ونستطيع على هذا الأساس أن نلخّص وصفنا لهذا الديوان في أنه: مجموعة من القصائد التي تدور في فلك موضوع واحد، هو الشكوى والتوجه إلى الله، وهي قصائد غامضة الصور، مسرفة في استخدام اللغة، لكنّها مع ذلك مكشوفة الغرض، وفي اختصار: إنها مجموعة من الأوراد، كما قلنا من قبل.
من هنا، يجب علينا أن نقف عند نماذج من هذا الديوان، لتفسير ما أشرنا إليه من خصائصه الموضوعية، حتى نتمكن من مقارنته بغيره من شعر الصوفية في نماذجه الصحيحة.

روح الفردوس
ولعلّ ورده «روح الفردوس»، وهو من الأوراد الطويلة، صورة لهذه الأدعية التي يجمع فيها بين الشكوى والتوجه إلى الله، ونختار منه هذه الأبيات:
لك عندي من الترانيـــم واد
عبقري يعــج بين البــوادي
فطرة الله لديها الناس نشــوى
برحيق، والقوت مَنٌّ وسلــوى
هاج بحر الـرمال والليل ساج
كاللجين المسحـور - بالأمــواج
ونجوم السماء في الأبــراج
ضاحكــات تألقـًا بابتهـــاج
سال نور من السماء وأهـوى
بالشعـاع الطيفي - سيلًا - فأغوى
وادي العشــق فاستثير الغناء
جنّ وجـدًا له الفضـا والفناء
إن هذا والله صنع الإلــه
سرمدي الجمال في ذا التيـاه
ليس من معدن الثرى والمياه
هو فوق الأنوار بالضـوء زاه
فيـه سـرّ الضيـاء لما تلوّى
ببديـع الأنـوار ينبـوع نجـوى
ليس في الأرض لا ولا في السماء
إن هذي السمـاء رهـن الفنــاء
وهو بـاق في عبقـري البقـاء
هو خلـق، لكن، بدون انتهــاء
تخذَ الأنـس عشقــه وتبوأ
مقعدًا باهـر النعيــم وأضـوأ
بالشعاع القدسـي حـار الشّعاع
فيـه - شوقًا - له سنـا والتماع
هام روحـي مرفرفـًا بابتهـال
في مجاري الهوى رشيـق النضال
بوقـار موشــّج الانفعــال
هـزّه الشــوق، هـزّه في دلال
إن دنيـا الأنـام همٌّ وبَلـوى
بينهـا الـروح بالمصائب تكــوى
في جحيــم يبلى به الإنسان
وامتحان يجيـش فيـه الهــوان
أنا ذاك الحزيـن بي آلامــي
فاتكـات طــول المـدى في دوام
عابثات تعبث في أحلامـي
آه آه من ذلّتي واضطرامــي
آه آه من مهجــة تتلـوّى
في جحيـم العذاب تكـوى وتُشوى
عيشـة مرّة ســداها الشقاء
وحيـاة يغشـى فضاهـا البـلاء
يا إلهـي هذا نشيدي وحالـي
أنت أدرى يا ربّ سـود الليالـي
روّعتنـي بكربهـا المتوالـي
مُذ حملـت الآثـام مثل الجبــال
ومـزجت الحيـاة جدًا ولغـوًا
وسريـت الظــلام أختـال عدوًا
لـذنوب فيهـا الرّدى والهلاك
محكمـات في ساحهـا الأشـواك
فتقهقـرت أسيفـًا ذا إحـن
أنشــد التوبـةَ في هـذي الدّمـن
فاحبنـي ربّاه إكسير الرجـاء
واهدنـي يا ربّ درب الأتقيـاء

عروس العرائس
عبّر الشاعر عن هذا الاتجاه إلى الشكوى، تعبيرًا مباشرًا في القسم الثالث من قصيدة أخرى هي «عروس العرائس»، حيث يفسر طبيعة تلك المعاناة التي قلنا إنه كان يصدر عنها في نظم هذه القصائد. وهي معاناة - كما نرى في هذه الأبيات التي نختارها منها - سببها الناس والحياة والفقر، أو كل ما يشكو منه الناس عادة في حياتهم، فيقول:
تعالَي نرتـّل شجـيّ النغــم
بروض أريـض دويـن الأكـم
نذوب اشتياقًـا فتحيـا المُنــى
بأرواحنــا في خيـام الشمم
ونتلـو زَبـور الهـوى رائعًــا
يثيـر الهيام ويشفي السقــم
تعالي نغــنّ أمعشوقتــي
تعالـي تعالـي مهـاةَ الكـرم
لهيـب الصبابـة يُذكي الحشــا
وكم للهـوى من لهيب وكَــم
تثـور عواطفنــا كالبخــو
رِ تصاعــد مسكًا بروض النِّعم
عشقــت وحـطّ عليّ المُنــى
من العشـق شيب نذير الهــرم
شبابـك يا جنّـة الخلـد لا
تذيبيــه بين الأسـى والغمـم
فإنــي أغـار على صوتـك الـ
ـحنون يــردّده كلّ فَــم
وإنـي أغــار على حسنك الـ
خجـول إذا ما رواه رواةُ الأمـم
فإنـي غيــور وفي غيرتــي
جحيــم يفــور ببطش عرم
ولعله قد اتضح لنا ما نقوله من أن هذه القصائد تشبه الأوراد التي يتقرّب بها الصالحون إلى الله في صلواتهم وابتهالاتهم.
وهذه القصيدة واضحة الغرض، وهي صفة تغلب على قصائده الأخرى، ونقصد بالوضوح، أن الشاعر لا يترك للقارئ أن يكتشف الرمز بنفسه، لكنّه يدلّه عليه حين يعبّر عنه بلغة واضحة، تجعل لهذا الشعر مستوى واحدًا من المعنى، وهذه الصفة من الوضوح تناقض الشعر الصوفي، وقد عبّر هو نفسه عن ذلك فيما كتبه عن هذا الديوان بقوله: «ولا أعتقد أنه يوجد أبلغ من شعري مترجمًا لقصة روح معذّبة حائرة، فهو المقياس الوحيد، ولعلي أستطيع يومًا أن أكتب القصة هذه (؟) لتكون في كتاب قائم بذاته بإذن الله».
ومع ذلك، فقد كتب الشاعر قصته شعرًا، ولا أظن أنه كان بحاجة إلى كتابتها نثرًا، فهي واضحة في أشعاره، ويلخّصها بأنها معاناة من هذا النوع من المعاناة التي يلاقيها أكثر الناس.

قصيدة بلبل الفردوس
لما كانت قصيدته السابقة تصوّر هذا الوضوح، وتلك المباشرة، فإننا نختار هذه الأبيات من قصيدة أخرى، لندلل كيف كانت رموز الشاعر واضحة ومباشرة في جميع قصائد هذا الديوان، هي قصيدة بلبل الفردوس، التي يقول فيها:
على غصن روح اللطف في روضـة الحسنى
فنى وتلاشــى كالبخـار وقد آنّـا
فنـى في جمـال الحـق في جنـة المعنــى
وجــرّد عن إلهامـه الذلّ والوهنا
وأسكـره كأس الهـوى المشرق الصافي
تجرّعـه في سـورة الكـرب وانبـــرى
يغنـي حمى الأرواح في غفلة الكرى
غنـاء سما عمّا تواتر في الــورى
لـه غمغمـت ملهوفـة أسـد الشّرى
ولان له الجلمــود والكاسر الضاري
على قلبــه يمشـي على الشـوك منشـدًا
نشيد الهوى المحروم من راجع الصدى
بديمومــة الأحزان في المهمه القاصـي
شريـدًا طريـدًا حطمتــه يد الأســى
أسيفًـا كسير القلـب في البؤس أركسًا
بكـى ونجــوم الليــل في قبـّـة السمـا
تحملـق في المسكين والليــل خيّمـا
يمــوج بـه بحــر من الدمــع والدِّمـا
بكــت رحمة هذي الهيولى مع الدّمى
***
فهب إلى غصــن النجـــاة مغـــرّدا
وحــطّ في أنفاسـه ما تبـــدّدا
مـن الأمــل المعســول وانحـاز منشدًا
دعـــاء إلهــي النقـاء تجـرّدا
عـن اللغــو، يا ربـاه، رحمـاك يا هادي
***
دعــوتـك يـا ربــاه والكـرب حطمـا
علـى رأس روحي فأسـه وتجهما
أغثنــي فقــد جرعـت سمًّا وعلقمـا
أغثنــي (يـا الله) أدرك مهشّما
بأسمائــك الحسنــى تشعشـع إلهامــي
***
سألتــك يـا (رحمن) رحمتـك التــي
بها تكشـف البلـوى لدى عظم كربتي
فأنـت (الرحيـم) اكشـف إلهـي مصيبتي
أيـا (ملك) السبع الشداد وشدّتي
تقدســت يـا (قدوس) يا ركـن آمالـي
***
أذقنــي الســلام الحلـو شهدًا معطّــرا
فأنــت (السـلام) المرتجى فيـك أسفـرا
دعائــي عن الإيمـان صفــوًا تحــدّرا
يسيــل بــه أنـس على مهجـة جـرى
فأثلج صدري باسمك (المؤمن) السامي
***
دعــوتك (يـا جبــار) حزنـي تجبـرا
يجيــش بــه لفـح من الهول زمجـرا
فاطفئــه بالرحمـات يـا راحـمَ الورى
لقـد هاجــت العسرى وقلبـي تكسّـرا
كبلّورة، لكن سمــا فيـــك إيمانــــي
***
سألتك يا قهــار قهــر إرادتـي
عن السـوء والفحشاء في كــل حالـة
وهب لي يا وهّــاب مع عظــم زلّتـي
نــدى العفــو واقبل يا إلهـي توبتي
فإنـــك يا رزاق تــدري بإحساســـي
***
أجرنــي أجــرني يـا سميعـا لشكوتي
أغثنــي وأدرك كُنــه روحي وفكرتـي
أنــا البائـس المسكين واللاهـف الوجـل
مقــرٌّ - وقـد أشفقت - يا رب بالزّلـل
وثبــت فــؤادي بالثبــات لإخـــلاص
ويوحي عنوان القصيدة أن الشاعر سيتخذ من ظواهر الطبيعة، كما يفعل المتصوفة، مادة شعرية، يؤلّف منها صورًا يرمز من خلالها إلى رؤية الله، والمزج بين ذاته وذات الله والطبيعة في هذه الصور، لكنّه على العكس يؤلف صورًا ذهنية إن كانت تستمد من الطبيعة بعض مسمياتها، فإنّها لا تصوّر الطبيعة في صورتها الحقيقية، فلا يلبث البلبل أن يختفي والفردوس أن يزول، لتحلّ محلهما الشكوى التي تغلب على قصائد هذا الديوان في لغة مباشرة، هي نفسها في معانيها وألفاظها لغة الأوراد، التي يدعو بها الصالحون في صلواتهم، فهو يقدّم نفسه إلى الله شريدًا باكيًا غارقًا في ذنوب الدنيا، ويسأله أن ينقذه من هذا الطوفان الذي يكتسحه في أبيات يخصص كل بيت أو مجموعة أبيات منها بصفة من صفات الله التي تلخّصها أسماؤه الحسنى.
وهكذا تتحول القصيدة إلى هذه الأدعية المباشرة التي لا يمكن أن تكون شبيهة بالشعر الصوفي ذي الرّمز الخفي، الذي لا يظهر لنا إلا بعد القراءة الثانية والثالثة للقصيدة لاستخراج الإشارات الدالة منها على هذا المعني الصوفي أو ذاك. ومن القصائد التي تصوّر إسرافه في استخدام اللغة دون أن يؤدي هذا الإسراف إلى ثراء في المعنى، وتطوّر في الفكرة ■

 

ترك الشاعر محمود شوقي الأيوبي نتاجًا ضخماَ من الشعر الذي توزع في عدد من الدواوين المخطوطة والمطبوعة