عبدالناصر والهزيمة و«كرنك» نجيب محفوظ

عبدالناصر والهزيمة  و«كرنك» نجيب محفوظ

«جهاز الرعب يقتلع روح الثورة. مجرد أن نتنفس نجد من يجثم على أنفاسنا ليكتمها ويفسد حياتنا. وطريق الخلاص لا يأتي إلا من داخلنا. ولا تنسَ أن سعيد مهران لم يجد الخلاص عند الشيخ جنيدي». كان نجيب محفوظ مؤمنًا أنه إذا لم يكتب «الكرنك»، فإن جزءًا من التاريخ الذي عاشته مصر سيختفي، لم يكن يتصور أن المناخ سيتغير بهذه السرعة، حيث يُتاح لكل من دخل السجن أو اعتقل أن يسجّل تجربته السياسية في كتاب، مثل مصطفى أمين، أو غيره. ولو أنه انتظر حتى ظهرت هذه السلسلة من الكتب السياسية التي تسجل معاناة الشعب في فترة الكبت والاعتداء على الحريات، لما كتب هذه الرواية.

يقول محفوظ: «إن الدافع الحقيقي وراء كتابة «الكرنك» أنه كانت هناك تجربة شخصية مريرة لأصدقاء له كانت ستضيع عن عين التاريخ، وكانت هذه التجربة القاسية تحتاج في تسجيلها إلى شخص عنده قدر من الشجاعة ليكتبها. 
وأنا شخصيًا لي ظروف اجتماعية تجعلني أقلّ تعرضًا للخطر من غيري، وهذا هو الذي دفعني إلى كتابتها كتعبير روائي عن تجربة المخابرات بحياتنا في مرحلة معيّنة، وهذه الضرورة السياسية والتاريخية هي التي دفعتني للكتابة عن عالَم أسطوري أجهله، هو دنيا المخابرات».
يتذكر محفوظ أنه كان يجلس مع الشباب فلا ينطقون، وكأنهم مأمورون بالصمت، وبألّا يفتحوا أفواههم. وكان لا يسألهم ذوقيًا وإنسانيًا، حتى واتته الفرصة مع مَنْ تكلم، فكتب «الكرنك» للتاريخ، وعذّبته بها الرقابة، وحذفت من الرواية المكتوبة مثل الحجم الذي نشر عام 1974. كان الأسلوب المتبع في ذلك الحين أن تقوم دار النشر بجمع الرواية وإرسالها إلى الرقابة، وكان الرقيب في ذلك الوقت هو طلعت خالد، وكان يداوم على الاتصال بمحفوظ تليفونيًا بصفة شبه يومية، ليطلب حذف فقرة، أو تغيير جملة، أو يبدي اعتراضًا على رأي معيّن، وهكذا إلى أن تم طبع الرواية، فاكتشف محفوظ أنه تم تشويهها، وأنّ الأصل مختلف تمامًا عن النسخة التي طبعت وظهرت في المكتبات، واعترض وطلب من الناشر السحّار وقف عملية النشر، لكنّه أقنعه بأن الوقف معناه خسارة مادية كبيرة له، وإذا أراد محفوظ أن يوقف النشر، فلا بدّ أن يتحمل التكاليف المادية، فسلَّم أمره إلى الله، ووافق على ظهورها بهذا الشكل المشوّه.

كتابات مباشرة
«الكرنك» و«الحب تحت المطر» هما الروايتان اللتان ظهرتا بهذه الصورة الناقصة، حيث يختلف الأصل إلى حدّ ما عن الصورة التي ظهرت للناس، ومع الأسف لم تكن عند الكاتب أصول الروايتين ليعيد نشرهما كاملتين من جديد، لقد كان أكبر «مقطَّعاتي».
قدّم محفوظ «الكرنك» لـ «الأهرام»، فرفض أحمد بهاء الدين، وكان رئيسًا للتحرير، نشرها، وهو نفسه الذي رشّحها للنشر عند أحمد كمال أبوالمجد (وزير الشباب في ذلك الوقت) في مجلة «الشباب»، فقرر محفوظ أن ينشرها في كتاب مباشرة.
لم تكد تمر 6 أشهر على نشر «الكرنك» حتى انفتح السيل على عهد عبدالناصر بكتابات مباشرة من أصحاب التجربة أنفسهم يحكون عمّا صادفوه في المعتقلات. لو كان محفوظ يعرف أن هذا سيحدث، أو لو كان تأخر قليلًا في كتابة «الكرنك» ما كتبها على الإطلاق، لأنها كانت ستصبح بلا داع. ولمَّا جاءت هذه الموجة ندم على كل المجهود والعذاب الذي تحمّله في هذه الرواية، خصوصًا أنها تسببت في هجوم وسباب شديدين، كان هو في غنى عنهما مادام أصحاب الشأن تكلّموا. يقول محفوظ إن «الكرنك» ليست ضد عبدالناصر، بل ضد من كان عبدالناصر ضدهم. ويرى أن عبدالناصر مات مرتين بسبب الدكتاتورية؛ مرة في 5 يونيو 1967، ومرة في 28 سبتمبر 1970، وكان رحيله مقترنًا بالضياع. 
وهو يقارن بين وفاة عبدالناصر وسعد زغلول، فعند وفاة سعد يوم الثلاثاء 23 أغسطس 1927 - وكان عمره وقتها خمسة عشر عامًا - كان هناك خلفاؤه، ولكن عند رحيل عبدالناصر لم نكن نعرف له خليفة. ويقول: «إن خوفي على مصر كان أكبر من حزني. ولأول مرة أرى والدي يبكي، وكانت والدتي تبكي بجواره، وحين خرجت إلى الشارع وجدت أن البلد كلها تبكي على سعد، فكان أكبر حزن في حياتي».

فزعة عارمة
يتذكر محفوظ أنه كان عائدًا من الإسكندرية مع أسرته يوم وفاة عبدالناصر في 28 سبتمبر 1970، ولم يكن هناك أي استعداد للعشاء بالمنزل الذي كان مغلقًا منذ شهر كامل (للتصييف في الإسكندرية).
قالت له زوجته إنها سترسل الشغَّال ليحضر عشاء جاهزًا من أحد المطاعم القريبة من بيته في العجوزة. جلس مع ابنتيه (أم كلثوم وفاطمة) أمام التلفزيون للتسلية إلى أن يأتي الطعام، فلاحظ أن التلفزيون لا يقدّم إلا القرآن الكريم، عندما طال ذلك قال لزوجته عطية الله إن هناك بالتأكيد كارثة وقعت. كان يرجح أن الملك حسين قد قُتل، فقد كان الملوك العرب مجتمعين في القاهرة بدعوة من الرئيس عبدالناصر، في محاولة لوقف مذبحة أيلول (سبتمبر) بين الأردن والفلسطينيين. في أثناء ذلك عاد الشغَّال من المطعم ليقول إنه سمع أن «الريّس» توفاه الله، فزع فيه كاتبنا فزعة عارمة، ونهره بشدة، وقال له ألّا يفتح فمه بمثل هذا الكلام، وأن يمكث بالبيت ولا يبرحه، لقد خشي أن يروج الكلام في خارج البيت، لكن بدأ يداخله الشك والقلق، ولم يستطع أن يذوق الطعام.
بعد دقائق أعلن التلفزيون أن أنور السادات (نائب عبدالناصر) سيلقي بيانًا، وما إن شاهد كاتبنا وجه السادات على التلفزيون حتى كان هو الذي يقول: «الريّس» مات. ثم يعلّق قائلًا «لم أرَ في حياتي وجهًا كوجه أنور السادات في هذا اليوم الذي كان مكتوبًا عليه الموت بخطّ فارسي، كان مرهقًا مكتئبًا، كانت عيناه شاردتين. كنتُ في حالة من الارتباك من جملة عواطف شديدة جدًا، فمن ناحية لم أكن مصدقًا تمامًا في داخل نفسي أن عبدالناصر قد مات.
 أفقت على حقيقة ربما غابت عن ذهني، وهي أن الناس جميعًا سيموتون. كان عبدالناصر يعطيني شعورًا خرافيًا بالخلود، فلم أتصور أن يأتي يوم يموت فيه كما يموت البشر. إنه الرجل الذي أعطانا من الآمال والأحلام ما لم نشعر به من قبل. وكما يموت الناس مات».

رواية قصيرة
يؤكد محفوظ أن «الكرنك» رواية قصيرة تنتهي بهزيمة 5 يونيو 1967، عندما كتبت لم يكن بها أي تطور آخر بعد الهزيمة، ولكن عندما تحولت إلى السينما، قاموا بوصلها بنصر أكتوبر 1973.
كان شعور الكاتب حال الهزيمة كمثل شعور شخص في حلوان جالس في المحطة، وأخذته غفوة، وكان يحب فتاة يراها كل يوم في المترو. صحا من غفوته على «زيطة» (صياح وجلبة)، ووجد فتاته مقتولة. لأي سبب قُتلت؟ لا يعرف! هذا كان حالنا. 
لقد كانت لدى محفوظ حالة من «هياج» للكتابة، ويشعر برغبة شديدة في ممارسة الإبداع، لكنه لا يجد أي موضوع. يرى الراياتِ السود قد ارتفعت على السواحل عند هياج البحر. ويشعر أنه ميت عندما لا يكون عنده ما يكتبه. ولذلك عندما قالوا إن همنجواي انتحر لأنه لم يجد ما يكتبه، فقد التمس محفوظ له العذر في ذلك، وهو الذي لديه المال والقصور والشهرة. لكنه لم يُطق الحياة دون إبداع، لأن الحياة عنده توازي الإبداع. 
إن 5 يونيو حدث لا يمكن أن يمرّ دون أن يترك أثرًا لا يُنسى، ومن أمثال هذه الأحداث تبدأ عادة حيوات جديدة؛ سواء في المجتمع أو في الفن. لذا ابتكر محفوظ أسلوبًا جديدًا للكتابة، وهو «الكتابة من نقطة الصفر». أحيانًا يبدأ كتابة بعض الروايات من الصفر، بمعنى أنه عندما يبدأ الكتابة لا يكون في ذهنه أكثر من رغبة في الكتابة، فلا موضوع ولا مضمون ولا حدث ولا شخصية. وفي هذه الحالة فإنّ الكلمة الأولى هي التي ستؤدي إلى الثانية، فإذا بدأ بكلمة «خرج فلان من بيته...» فالله وحده أعلم بما يأتي بعدها. والحقيقة أن التجربة كلها اكتشاف يؤدي إلى آخر حتى تنتهي الرواية، وقد تنتهي إلى شيء ترتاح إليه النفس... وقد تُمزّق. هكذا كتب محفوظ «تحت المظلة» (1969)، و«حكاية بلا بداية ولا نهاية» (1971)، و«شهر العسل» (1971)، و«الجريمة» (1973)... وغيرها.
قبل 1967 كانت التأملات الفلسفية هي الغالبة لديه، لكن بعد الأزمة ماتت هذه النزعة. وهذا موقف طبيعي، «فليس معقولًا أن يكون وطنك في هذه الحالة وتتفلسف وتتأمل».
وقد قال عن «الكرنك» إن لديه استعدادًا لأن يكتب قصة من هذا النوع خدمةً لرأي يحترمه، ولظروف سياسية يمارس دوره فيها، حتى لو قُدّر لهذه القصة أن تموت فور انتهاء المناسبة التي كتبت عنها ومن أجلها ■