حرب وحبّ وحنين

حرب وحبّ وحنين

يقال إن العنوان عتبة، والعمل الأدبي الذي أودّ الاقتراب منه وإضاءته في هذه الدراسة له أكثر من عتبة وأكثر من عنوان؛ يتعلّق الأمر برواية للكاتبة الإسبانية ماريا دوينياس عنوانها يمكن ترجمته بــ «انقضاء الزمن بين خِياطة وأخرى». وبالفعل، فالشخصية الرئيسية في هذه الرواية هي امرأة شابة وجميلة تعلّمت الخياطة، واتخذت منها حرفة ووسيلة للترقي الاجتماعي السريع.

  ‬هذا،‭ ‬على‭ ‬الأرجح،‭ ‬ما‭ ‬جعل‭ ‬مترجمَي‭ ‬الرواية‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬العربية‮»‬،‭ ‬الباحثة‭ ‬الجامعية‭ ‬شريفة‭ ‬الدحروش‭ ‬والناقد‭ ‬عبداللطيف‭ ‬البازي،‭ ‬يختاران‭ ‬كعنوان‭ ‬لترجمتهما‭ ‬‮«‬سيدة‭ ‬الفساتين‮»‬‭ (‬*‭)‬،‭ ‬حيث‭ ‬نجد‭ ‬مجددًا‭ ‬إحالة‭ ‬على‭ ‬عالم‭ ‬الخياطة‭ ‬وأسراره،‭ ‬وإحالة‭ ‬بشكل‭ ‬خاص‭ ‬على‭ ‬‮«‬سيرا‮»‬‭ ‬الشخصية‭ ‬الرئيسة‭ ‬التي‭ ‬أتقنت،‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬فنّ‭ ‬الخياطة،‭ ‬فن‭ ‬الإغراء،‭ ‬وأصبحت‭ ‬هوايتها‭ ‬مجاورة‭ ‬المخاطر‭ ‬والأسرار،‭ ‬مما‭ ‬قد‭ ‬يفسّر‭ ‬أن‭ ‬الترجمة‭ ‬الفرنسية‭ ‬نحَت‭ ‬منحى‭ ‬مغايرًا،‭ ‬واقترحت‭ ‬هذا‭ ‬العنوان‭: ‬‮«‬جاسوسة‭ ‬طنجة‮»‬،‭ ‬لنستنتج‭ ‬أن‭ ‬سيدة‭ ‬الفساتين‭ ‬تلك‭ ‬قد‭ ‬تحولت‭ ‬إلى‭ ‬جاسوسة،‭ ‬وبمدينة‭ ‬محددة‭ ‬هي‭  ‬طنجة‭ ‬المغربية‭. ‬

واقتراح‭ ‬هذا‭ ‬العنوان‭ ‬قد‭ ‬يكون‭ ‬بهدف‭ ‬استمالة‭ ‬القراء‭ ‬الذين‭ ‬تستهويهم‭ ‬حكايات‭ ‬وروايات‭ ‬الملاحقات‭ ‬والتشويق‭ ‬والمغامرات،‭ ‬وكذا‭ ‬بهدف‭ ‬استمالة‭ ‬مَن‭ ‬تستهويهم‭ ‬أسطورة‭ ‬مدينة‭ ‬فاتنة‭ ‬اسمها‭ ‬طنجة‭.‬

‭ ‬أما‭ ‬بالنسبة‭ ‬للترجمة‭ ‬إلى‭ ‬الإنجليزية،‭ ‬فالعنوان‭ ‬الذي‭ ‬تمّ‭ ‬اختياره‭ ‬هو‭ ‬The‭ ‬time‭ ‬in‭ ‬between‭ ‬الذي‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نضع‭ ‬له‭ ‬مقابلًا‭ ‬في‭ ‬العربية‭ ‬‮«‬زمن‭ ‬بين‭ ‬حدين‮»‬،‭ ‬مع‭ ‬ما‭ ‬يعنيه‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬تأكيد‭ ‬موضوعة‭ ‬الـ‭ ‬‮«‬بينَ‭ ‬بينَ‮»‬‭ ‬والانتقال‭ ‬بين‭ ‬عالَمين‭ ‬وقارتين‭ ‬وثقافتين،‭ ‬وهي‭ ‬الموضوعة‭ ‬المحورية‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الرواية‭. ‬

يقال‭ ‬أيضًا‭ ‬إن‭ ‬النوع‭ ‬الروائي‭ ‬ارتبط،‭ ‬منذ‭ ‬بداياته،‭ ‬بالمدينة‭ ‬وأجوائها‭ ‬وتحوّلاتها‭. ‬وهذا‭ ‬الحكم‭ ‬ينسحب‭ ‬بيُسر‭ ‬على‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬سيدة‭ ‬الفساتين‮»‬‭ ‬التي‭ ‬سلّطت‭ ‬الضوء‭ ‬على‭ ‬أربع‭ ‬مدن،‭ ‬لكل‭ ‬واحدة‭ ‬منها‭ ‬شخصيتها‭ ‬المتفرّدة‭ ‬ورصيدها‭ ‬التاريخي‭ ‬والحضاري،‭ ‬وهي‭ ‬مدريد‭ ‬وطنجة‭ ‬وتطوان‭ ‬ولشبونة‭.‬

‭ ‬وقد‭ ‬تم‭ ‬تصوير‭ ‬الحياة‭ ‬اليومية‭ ‬بهذه‭ ‬المدن‭ ‬العريقة‭ ‬خلال‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية‭ ‬وصعود‭ ‬نظام‭ ‬فرانكو‭ ‬واندلاع‭ ‬الحرب‭ ‬الأهلية‭ ‬الإسبانية،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬استحضار‭ ‬الصراعات‭ ‬والمواجهات‭ ‬الخفية‭ ‬والمُعلنة‭ ‬بين‭ ‬الحلفاء‭ ‬ودول‭ ‬المحور‭ ‬وتأثير‭ ‬ذلك‭ ‬على‭ ‬حياة‭ ‬الناس‭ ‬البسطاء،‭ ‬ومن‭ ‬بينهم‭ ‬الشابة‭ ‬‮«‬سيرا‮»‬‭ ‬وأمها‭.‬

 

مهارات‭ ‬من‭ ‬نوع‭ ‬خاص

  ‬تحكي‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬سيدة‭ ‬الفساتين‮»‬‭ ‬قصة‭ ‬فتاة‭ ‬من‭ ‬أسرة‭ ‬متواضعة‭ ‬لا‭ ‬تعرف‭ ‬لها‭ ‬أبًا،‭ ‬وعلّمتها‭ ‬أمها‭ ‬الخياطة‭ ‬ومقاومة‭ ‬قسوة‭ ‬الحياة‭ ‬وشحّها‭ ‬بمدينة‭ ‬عملاقة‭ ‬هي‭ ‬مدريد‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬حرب‭ ‬عالمية‭ ‬ضروس‭. ‬

‭ ‬وقد‭ ‬أغرمت‭ ‬الشابة‭ ‬‮«‬سيرا‮»‬‭ ‬بفتى‭ ‬وسيم‭ ‬وتركت‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬من‭ ‬أجله‭ ‬وسافرا‭ ‬إلى‭ ‬طنجة،‭ ‬حيث‭ ‬سيعيشان‭ ‬شهر‭ ‬عسل‭ ‬قصيرًا‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يستولي‭ ‬خطيبها‭ ‬على‭ ‬أموال‭ ‬وفيرة‭ ‬ومجوهرات‭ ‬كان‭ ‬أبوها‭ ‬الثري‭ ‬الأرستقراطي‭ ‬قد‭ ‬قدّمها‭ ‬لها‭ ‬أيامًا‭ ‬قبل‭ ‬سفرها‭ ‬وأيامًا‭ ‬بعد‭ ‬تعرّفها‭ ‬إليه‭ ‬ولقائها‭ ‬به‭ ‬لأول‭ ‬مرة‭.   ‬ولما‭ ‬اختفى‭ ‬الخطيب‭ ‬المحتال‭ ‬هربت‭ ‬سيرا‭ ‬إلى‭ ‬تطوان،‭ ‬وهناك‭ ‬تعرّفت‭ ‬إلى‭ ‬كانديلاريا؛‭ ‬المرأة‭ ‬الشطارية‭ ‬التي‭ ‬فتحت‭ ‬لها‭ ‬باب‭ ‬نزلها‭ ‬المتواضع‭ ‬وباب‭ ‬قلبها،‭ ‬وجاهدتا‭ ‬معًا‭ ‬حتى‭ ‬تغلّبتا‭ ‬على‭ ‬مشاكلهما‭ ‬المالية‭ ‬وفتحتا‭ ‬ورشة‭ ‬فاخرة‭ ‬للخياطة‭ ‬بفضل‭ ‬صفقة‭ ‬غير‭ ‬متوقعة‭ ‬وناجحة،‭ ‬باعتا‭ ‬بمقتضاها‭ ‬أسلحة‭ ‬لمقاتلين‭ ‬إسبان‭. ‬

  ‬وبالتدريج،‭ ‬نسجت‭ ‬‮«‬سيرا‮»‬‭ ‬في‭ ‬ورشة‭ ‬خياطتها‭ ‬شبكة‭ ‬من‭ ‬العلاقات‭ ‬مع‭ ‬زبونات‭ ‬ينتمين‭ ‬إلى‭ ‬الطبقة‭ ‬الراقية،‭ ‬وكان‭ ‬ذلك‭ ‬مدخلها‭ ‬إلى‭ ‬عالم‭ ‬الثراء‭ ‬والنفوذ،‭ ‬وتمّت‭ ‬دعوتها‭ ‬إلى‭ ‬حفلات‭ ‬فخمة‭ ‬أتيحت‭ ‬لها‭ ‬فيها‭ ‬فرصة‭ ‬الاقتراب‭ ‬من‭ ‬كبار‭ ‬العسكر‭ ‬وموظفي‭ ‬سلطات‭ ‬الحماية‭ ‬الإسبانية،‭ ‬لتكتشف‭ ‬أنّ‭ ‬لها‭ ‬مهارات‭ ‬من‭ ‬نوع‭ ‬خاص،‭ ‬وأصبحت‭ ‬جاسوسة‭ ‬يُحسب‭ ‬لها‭ ‬ألف‭ ‬حساب‭ ‬وتعمل‭ ‬تحت‭ ‬اسم‭ ‬مستعار‭ ‬هو‭ ‬‮«‬إيريش‮»‬،‭ ‬لمصلحة‭ ‬الحلفاء‭ ‬والاستخبارات‭ ‬البريطانية،‭ ‬وتتحرك‭ ‬وتتفاوض‭ ‬وسط‭ ‬مصالح‭ ‬متقاطعة‭ ‬ورهانات‭ ‬كانت‭ ‬تتجاوزها‭. ‬

  ‬وقد‭ ‬جعلتها‭ ‬مهامها‭ ‬الاستخباراتية‭ ‬تنتقل‭ ‬بين‭ ‬مدريد‭ ‬وطنجة‭ ‬ولشبونة،‭ ‬وتحسّ‭ ‬بلهيب‭ ‬الحرب‭ ‬أينما‭ ‬انتقلت،‭ ‬لكنّ‭ ‬مركز‭ ‬خدماتها‭ ‬كان‭ ‬هو‭ ‬تطوان‭. ‬وخلال‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬عرفت‭ ‬الحب‭ ‬مجددًا،‭ ‬كما‭ ‬لم‭ ‬تتوقف‭ ‬عن‭ ‬التفكير‭ ‬في‭ ‬أمها‭ ‬التي‭ ‬ظلت‭ ‬بمدريد‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يتدخل‭ ‬رجال‭ ‬نافذون‭ ‬ويوصلونها‭ ‬لتعانق‭ ‬ابنتها‭. ‬

 

خلفية‭ ‬تاريخية

‭ ‬الجانب‭ ‬الغني‭ ‬والمثير‭ ‬في‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬سيدة‭ ‬الفساتين‮»‬‭ ‬هو‭ ‬خلفيتها‭ ‬التاريخية،‭ ‬إذ‭ ‬تقدّم‭ ‬معطيات‭ ‬وحقائق‭ ‬عن‭ ‬مرحلة‭ ‬كان‭ ‬الإسبان‭ ‬خلالها‭ ‬يفرضون‭ ‬حمايتهم‭ ‬على‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬المغرب،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬كان‭ ‬بلدهم‭ ‬يعيش‭ ‬تمزّقات‭ ‬عنيفة‭ ‬بفعل‭ ‬الحرب‭ ‬الأهلية‭ ‬التي‭ ‬جعلت‭ ‬جزءًا‭ ‬من‭ ‬إسبانيا‭ ‬يقاتل‭ ‬الجزء‭ ‬الآخر،‭ ‬وبفعل‭ ‬استبداد‭ ‬نظام‭ ‬عسكري‭ ‬كان‭ ‬يتزعمه‭ ‬جندي‭ ‬يدعى‭ ‬فرانكو،‭ ‬مما‭ ‬جعل‭ ‬الرواية‭ ‬تعتمد‭ ‬على‭ ‬شخصيات‭ ‬متخيلة‭ ‬وأخرى‭ ‬واقعية‭ ‬يمكن‭ ‬التحقق‭ ‬من‭ ‬وجودها‭ ‬التاريخي،‭ ‬كما‭ ‬يمكن‭ ‬التحقق‭ ‬من‭ ‬أماكن‭ ‬وفضاءات‭ ‬كانت‭ ‬تتحرك‭ ‬بينها‭ ‬تلك‭ ‬الشخصيات،‭ ‬تم‭ ‬تصويرها‭ ‬بحرفية‭ ‬عالية‭ ‬لا‭ ‬تقل‭ ‬عن‭ ‬حرفية‭ ‬طلبة‭ ‬مدرسة‭ ‬الصنائع‭ ‬الأهلية‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يشرف‭ ‬على‭ ‬برامجها‭ ‬الفنية‭ ‬الرسام‭ ‬والمبدع‭ ‬الإسباني‭ ‬ماريانو‭ ‬بيرتوتشي‭ ‬الذي‭ ‬أشارت‭ ‬الرواية‭ ‬إلى‭ ‬حضوره‭ ‬الوازن‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬الثقافية‭ ‬لتلك‭ ‬المرحلة‭.‬

‭ ‬وتوقّفت‭ ‬الرواية‭ ‬عند‭ ‬الحيوية‭ ‬الفائقة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تميّز‭ ‬الإيقاع‭ ‬اليومي‭ ‬بمدينة‭ ‬طنجة‭ ‬بأجناسها‭ ‬وأعراقها‭ ‬وصخبها‭ ‬ومؤامراتها‭ ‬وإقبالها‭ ‬على‭ ‬مسرّات‭ ‬الحياة‭. ‬

والحكم‭ ‬نفسه‭ ‬ينسحب‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬مدريد‭ ‬ولشبونة‭ ‬اللتين‭ ‬كانتا‭ ‬تحاولان‭ ‬التخلص‭ ‬من‭ ‬ضغوط‭ ‬الحرب‭ ‬وتقييداتها‭ ‬والتشبّث‭ ‬بما‭ ‬هو‭ ‬متاح‭ ‬من‭ ‬مُتع‭ ‬ولهو‭. ‬وتحدد‭ ‬الكاتبة‭ ‬الميثاق‭ ‬الذي‭ ‬يربطها‭ ‬مع‭ ‬القراء‭ ‬كما‭ ‬يلي‭: ‬‮«‬كان‭ ‬في‭ ‬الإمكان‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬هذه‭ ‬هي‭ ‬أقدارنا،‭ ‬أو‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬غير‭ ‬ذلك‭ ‬ومختلفة‭ ‬تمامًا،‭ ‬لأنّ‭ ‬ما‭ ‬فعلته‭ ‬بنا‭ ‬الأيام‭ ‬لم‭ ‬يدوّن‭ ‬في‭ ‬أيّ‭ ‬مكان‭. ‬ربما‭ ‬لم‭ ‬نوجد‭ ‬أصلًا،‭ ‬أو‭ ‬ربما‭ ‬وجدنا‭ ‬فعلًا،‭ ‬لكن‭ ‬لا‭ ‬أحد‭ ‬لاحظ‭ ‬وجودنا‭.‬

‭ ‬على‭ ‬أيّ‭ ‬حال،‭ ‬بقينا‭ ‬دومًا‭ ‬في‭ ‬الجانب‭ ‬الخلفي‭ ‬للحكاية،‭ ‬نتحرك‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يرانا‭ ‬أحد‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬عشناه‭ ‬بين‭ ‬الفساتين‮»‬‭ (‬الرواية،‭ ‬ص‭ ‬560‭). ‬

وهذا‭ ‬الميثاق‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬جعل‭ ‬من‭ ‬‮«‬سيدة‭ ‬الفساتين‮»‬‭ ‬رواية‭ ‬هجينة‭ ‬تمزج‭ ‬بين‭ ‬مكوّنات‭ ‬واقعية‭ ‬وأخرى‭ ‬متخيّلة،‭ ‬لذا‭ ‬اختلف‭ ‬بالتأكيد‭ ‬التلقي‭ ‬الذي‭ ‬خصصه‭ ‬لها‭ ‬القارئ‭ ‬العادي‭ ‬عن‭ ‬التلقّي‭ ‬الذي‭ ‬واجهه‭ ‬بها‭ ‬القارئ‭ ‬اللبيب،‭ ‬وخاصة‭ ‬إذا‭ ‬كانت‭ ‬تربطه‭ ‬علاقة‭ ‬أُلفة‭ ‬مع‭ ‬مدينة‭ ‬طنجة‭ ‬أو‭ ‬تطوان،‭ ‬إذ‭ ‬سيشعر‭ ‬حينذاك‭ ‬بمتعة‭ ‬معاينة‭ ‬معالم‭ ‬وشوارع‭ ‬وشخصيات‭ ‬قرأ‭ ‬عنها‭ ‬وقد‭ ‬تحوّلت‭ ‬إلى‭ ‬مكونات‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬روائي‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مقنع‭.‬

 

إرث‭ ‬عاطفي‭ ‬ووجداني

تعترف‭ ‬الكاتبة‭ ‬دوينياس‭ ‬بأنها‭ ‬استندت‭ ‬في‭ ‬كتابة‭ ‬‮«‬سيدة‭ ‬الفساتين‮»‬‭ ‬على‭ ‬وثائق‭ ‬ودراسات‭ ‬حصلت‭ ‬عليها‭ ‬من‭ ‬أرشيفات‭ ‬عامة‭ ‬وخاصة،‭ ‬وأنها‭ ‬اعتمدت‭ ‬بالأساس‭ ‬على‭ ‬محكيات‭ ‬أقربائها‭ ‬وشهاداتهم‭ ‬لتسجّل‭ ‬وتقيّد‭ ‬إرثًا‭ ‬عاطفيًا‭ ‬ووجدانيًا‭ ‬ذا‭ ‬قيمة‭ ‬عالية‭ ‬وله‭ ‬ارتباط‭ ‬بحنين‭ ‬لا‭ ‬ينضب‭ ‬كان‭ ‬هو‭ ‬المحرّك‭ ‬الذي،‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬يبدو،‭ ‬قد‭ ‬دفعها‭ ‬إلى‭ ‬كتابة‭ ‬روايتها‭.‬

  ‬وقد‭ ‬قدّمت‭ ‬الكاتبة‭ ‬مزيدًا‭ ‬من‭ ‬التفاصيل‭ ‬في‭ ‬التقديم‭ ‬الذي‭ ‬خصت‭ ‬به‭ ‬الترجمة‭ ‬العربية‭ ‬للرواية‭ ‬قائلة‭: ‬‮«‬اكتشفت‭ ‬أن‭ ‬ذلك‭ ‬الحنين‭ ‬كان‭ ‬جماعيًا،‭ ‬وكان‭ ‬بقدر‭ ‬من‭ ‬الاتساع‭ ‬والاندفاع‭ ‬جعلني‭ ‬عاجزة‭ ‬عن‭ ‬القبض‭ ‬عليه‭ ‬كاملًا‮»‬‭ (‬الرواية،‭ ‬ص12‭).  ‬أما‭ ‬موضوع‭ ‬ذلك‭ ‬الحنين،‭ ‬فتحدده‭ ‬كما‭ ‬يلي‭: ‬‮«‬في‭ ‬صندوق‭ ‬الروح‭ ‬ظلت،‭ ‬بشكل‭ ‬دائم،‭ ‬مجتمعة‭ ‬وطرية‭ ‬وحيّة،‭ ‬صور‭ ‬مغرب‭ ‬لن‭ ‬يغادر‭ ‬قط‭ ‬حيواتهم‮»‬‭ (‬الرواية،‭ ‬ص11‭).‬

‭ ‬والحنين‭ ‬هو‭ ‬أيضًا‭ ‬ما‭ ‬حرّك‭ ‬‮«‬سيرا‮»‬‭ ‬باعتبارها‭ ‬كانت‭ ‬مهاجرة‭ ‬تعيش‭ ‬بعيدًا‭ ‬عن‭ ‬بلدها‭ ‬وتسعى‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬تعرف‭ ‬كيف‭ ‬تعيش‭ ‬أمها‭ ‬وما‭ ‬نصيبها‭ ‬من‭ ‬المحنة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تعيشها‭ ‬العاصمة‭ ‬مدريد‭. ‬والحنين‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬محددات‭ ‬سلوك‭ ‬وتصرّف‭ ‬مختلف‭ ‬شخصيات‭ ‬الرواية،‭ ‬سواء‭ ‬المنتمية‭ ‬إلى‭ ‬الشريحة‭ ‬الموسرة‭ ‬أو‭ ‬شريحة‭ ‬المنهكين،‭ ‬مثلما‭ ‬هم‭ ‬المقيمون‭ ‬بنُزل‭ ‬كانديريلا‭ ‬الصارمة‭ ‬والحنون‭ ‬في‭ ‬الآن‭ ‬نفسه‭. ‬

وقد‭ ‬استندت‭ ‬إحدى‭ ‬شخصيات‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬الجهل‮»‬‭ ‬للمبدع‭ ‬التشيكي‭ ‬ميلان‭ ‬كونديرا‭ ‬على‭ ‬تلوينات‭ ‬عدة‭ ‬تمنحها‭ ‬مختلف‭ ‬اللغات‭ ‬اللاتينية،‭ ‬لتقدّم‭ ‬هذا‭ ‬الشرح‭ ‬لكلمة‭ ‬‮«‬حنين‮»‬‭: ‬‮«‬هو‭ ‬الألم‭ ‬المترتب‭ ‬عن‭ ‬الجهل‭. ‬أنت‭ ‬بعيد‭ ‬ولا‭ ‬علم‭ ‬لي‭ ‬بما‭ ‬صرته،‭ ‬بلدي‭ ‬بعيد‭ ‬وأنا‭ ‬لا‭ ‬أعرف‭ ‬ما‭ ‬الذي‭ ‬يقع‭ ‬به‮»‬‭.‬

الألم،‭ ‬إذن،‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬يشكّل‭ ‬صلة‭ ‬الوصل‭ ‬بين‭ ‬المهجرين‭ ‬وبين‭ ‬أوطانهم،‭ ‬بما‭ ‬أنّهم‭ ‬يتحرّقون‭ ‬كل‭ ‬لحظة‭ ‬لمعرفة‭ ‬ما‭ ‬يجري‭ ‬هناك‭ ‬ولمعرفة‭ ‬مصائر‭ ‬أحبابهم‭. ‬وهو‭ ‬بهذا‭ ‬المعنى‭ ‬الدافع‭ ‬المعلن‭ ‬أو‭ ‬الخفي‭ ‬لمعظم‭ ‬أفعال‭ ‬ورود‭ ‬أفعال‭ ‬شخصيات‭ ‬الرواية‭. ‬

 

عمل‭ ‬جذاب

تبقى‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬سيدة‭ ‬الفساتين‮»‬‭ ‬عملاً‭ ‬جذابًا،‭ ‬ويمكن‭ ‬تصنيفها‭ ‬ضمن‭ ‬الكتابة‭ ‬السهلة‭ ‬الممتنعة‭ ‬أو‭ ‬المتمنعة،‭ ‬لكنّها‭ ‬محمّلة‭ ‬بقدر‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬الذكاء‭ ‬الوجداني‭ ‬والاحترام‭ ‬لقراء‭ ‬بادلوها‭ ‬هم‭ ‬أيضًا‭ ‬احترامًا‭ ‬باحترام،‭ ‬وتم‭ ‬تداول‭ ‬ملايين‭ ‬النسخ‭ ‬منها‭ ‬عبْر‭ ‬العالم‭. ‬هي‭ ‬رواية‭ ‬عن‭ ‬الحنين‭ ‬والحب‭ ‬والحرب‭ ‬ولا‭ ‬تهمها‭ ‬الشعارات‭ ‬الكبيرة‭ ‬ولا‭ ‬الحرب‭ ‬إلّا‭ ‬باعتبارها‭ ‬لحظة‭ ‬خصبة‭ ‬لشيوع‭ ‬الدسائس‭ ‬والظواهر‭ ‬المَرضية،‭ ‬وباعتبارها‭ ‬لحظة‭ ‬كاشفة‭ ‬عن‭ ‬المعدن‭ ‬الحقيقي‭ ‬للبشر‭ ‬حين‭ ‬مواجهتهم‭ ‬للفظاعات‭ ‬وما‭ ‬تخلّفه‭ ‬من‭ ‬معاناة‭ ‬وما‭ ‬تفرضه‭ ‬من‭ ‬مقاومة‭ ‬وتشبّث‭ ‬بالحياة،‭ ‬وهي‭ ‬رواية‭ ‬رومانسية‭ ‬تعلي‭ ‬من‭ ‬قيمة‭ ‬الحب،‭ ‬ولو‭ ‬كان‭ ‬حبًا‭ ‬مدمرًا،‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬الأمر‭ ‬مع‭ ‬سيرا‭ ‬نفسها‭ ‬أو‭ ‬تعلّق‭ ‬الأمر‭ ‬بالتجربة‭ ‬القاسية‭ ‬التي‭ ‬عاشتها‭ ‬أمها‭.  ‬‭ ‬كما‭ ‬أنّها‭ ‬رواية‭ ‬تعلي‭ ‬من‭ ‬قيمة‭ ‬الفرد‭ ‬وقدرته‭ ‬على‭ ‬تجاوز‭ ‬الصعاب‭ ‬والتكيف‭ ‬مع‭ ‬ما‭ ‬يفرضه‭ ‬القدر‭ ‬أحيانًا‭ ‬من‭ ‬انعطافات،‭ ‬وهي‭ ‬أيضًا‭ ‬رواية‭ ‬ملاحقات‭ ‬وتجسس‭ ‬وسفر‭ ‬وسجل‭ ‬مغامرات‭ ‬ودليل‭ ‬لاكتشاف‭ ‬روح‭ ‬مدن‭ ‬بعينها‭.‬

‭ ‬وجب‭ ‬التنبيه‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬‮«‬سيدة‭ ‬الفساتين‮»‬‭ ‬تتضمن‭ ‬قدرًا‭ ‬لا‭ ‬بأس‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬الصور‭ ‬النمطية‭ ‬التي‭ ‬يحملها‭ ‬الآخر‭ ‬عنّا‭ ‬ولو‭ ‬كان‭ ‬قريبًا‭ ‬منّا‭ ‬تاريخيًا‭ ‬وجغرافيًا،‭ ‬خاصة‭ ‬مع‭ ‬استثمارها‭ ‬لأبعاد‭ ‬غرائبية‭ ‬تدهش‭ ‬القارئ‭ ‬الغربي‭ ‬وتثيره‭ ‬بفكرة‭ ‬ما‭ ‬عن‭ ‬شرق‭ ‬بعيد‭ ‬يحرّك‭ ‬خياله‭ ‬واستيهاماته‭.‬

‭ ‬كما‭ ‬أنّها‭ ‬رواية‭ ‬تعتمد‭ ‬على‭ ‬بهارات‭ ‬الرواية‭ ‬الكلاسيكية‭ ‬وعلى‭ ‬تشويق‭ ‬لا‭ ‬تخفت‭ ‬حدّته،‭ ‬وعلى‭ ‬قدرة‭ ‬باهرة‭ ‬على‭ ‬التحكم‭ ‬في‭ ‬الحكي‭ ‬لتؤكد‭ ‬لنا‭ ‬أن‭ ‬من‭ ‬وظائف‭ ‬الأدب‭ ‬حفظ‭ ‬الذاكرتين‭ ‬الفردية‭ ‬والجماعية،‭ ‬وأن‭ ‬يبرز‭ ‬لنا‭ ‬كيف‭ ‬أن‭ ‬القدر‭ ‬يخيط‭ ‬بإتقان‭ ‬كما‭ ‬تفعل‭ ‬خياطة‭ ‬ماهرة،‭ ‬ويربط‭ ‬بين‭ ‬مصائر‭ ‬الناس،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬بإمكانه‭ ‬أن‭ ‬يقطع،‭ ‬في‭ ‬رمشة‭ ‬عَين،‭ ‬الأواصر‭ ‬التي‭ ‬تجمع‭ ‬بين‭ ‬الأفراد‭ ‬وتجعلهم‭ ‬يواجهون‭ ‬العالم‭ ‬دون‭ ‬سند‭ ‬أو‭ ‬حماية‭. ‬وكل‭ ‬المكونات‭ ‬والبهارات‭ ‬المذكورة‭ ‬تجعلها‭ ‬تندرج‭ ‬بسهولة‭ ‬ضمن‭ ‬أدب‭ ‬التسلية‭ ‬والهروب‭ ‬Evasion،‭ ‬وتعمل‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬تقتسم‭ ‬رغبتها‭ ‬الجارفة‭ ‬في‭ ‬التواصل‭ ‬والإيصال،‭ ‬ما‭ ‬يمكنها‭ ‬من‭ ‬القبض‭ ‬على‭ ‬خناق‭ ‬المتلقين‭ ‬وأسرهم‭ ‬بكل‭ ‬وداعة‭. ‬

‭(‬*‭) ‬ماريا‭ ‬دوينياس،‭ ‬سيدة‭ ‬الفساتين،‭ (‬رواية‭)‬،‭ ‬ترجمة‭ ‬شريفة‭ ‬الدحروش‭ ‬وعبداللطيف‭ ‬البازي،‭ ‬دار‭ ‬كلمات‭ ‬للنشر‭ ‬والطباعة‭ ‬والتوزيع،‭ ‬الرباط،‭ ‬2017