ماريو بوزو... حبر ورصاص
ماريو جيانلويجي بوزو، هو روائي وكاتب سيناريو أمريكي، إيطاليّ الأصل، وُلد في نيويورك، مانهاتن في الخامس عشر من أكتوبر عام 1920، وهو ينتمي إلى أسرة فقيرة تتحدر من جنوب إيطاليا، هاجرت إلى أمريكا طلبًا للرزق، واستقرت في مدينة نيويورك، وبالضبط في حيّ هيلز كيتشين (أي مطبخ الجحيم) الذي يقع في مانهاتن، والمعروف بحيويته وشعبيته الواسعة التي تجتذب السياح، وهو الحي ذاته الذي يقطنه الدون فيتو كورليوني، بطل روايته الشهيرة «العرّاب»، إذ شكل حيّ مطبخ الجحيم فضاءً ملهمًا لروايات بوزو التي شرع في نشرها منذ ستينيات القرن الماضي.
التحق بوزو بالأسطول الجويّ الأمريكيّ مباشرة بعد تخرجه في جامعة نيويورك، وذلك خلال الحرب العالمية الثانية، واستقرّ في ألمانيا بعد أن تمّ إرساله إلى أوربا باعتباره ضابطًا للعلاقات العامة هناك، حيث استلهم روايته الأولى «الحلبة المظلمة» التي صدرت عام 1955، وهي تحكي قصة حب بين الجندي الأمريكي الطموح والتر موسكا وصديقته هيللا، قصة استطاعت الصمود ثلاث سنوات من الحرب والقتال، واستمرت كي تشهد ألمانيا ما بعد الحرب العالمية الثانية التي أصبحت فيها السجائر الأمريكية هي العملة الرائجة بدل المارك الألماني والدولار الأمريكي. من خلال الاطلاع على «الحلبة المظلمة»، توسّم النقاد في بوزو روائيًّا كبيرًا ذا موهبة فذّة، على الرغم من أنها لم تلقَ نجاحًا كبيرًا.
تزوج بوزو بـإيريكا بوزو، ورزق منها خمسة أبناء، هم أنطوني وجوزيف ودوروثي أنطوانيت وفيرجينيا إيريكا ويوجين. أمضى معهم حياة مليئة بالتعب والعمل والكدّ من أجل الوفاء بدور الأب المكافح وتوفير المال للأسرة. وبعد رحلة طويلة في عالم الرواية والسيناريو والصحافة، توفي بوزو جراء سكتة قلبية في الثاني من يوليو 1999 ببيته بفي بايشور عن عمر يناهز 78 سنة، وذلك قبل صدور روايته ما قبل الأخيرة «أومرتا» أو «قاعدة الصمت» سنة 2000.
الأمر نفسه يقال عن رواية «العائلة» في نسختها الإنجليزية أو «دماء آل بورجيا» في نسختها الفرنسية التي صدرت في خريف 2001، بعد أن أتممتها رفيقته لعشرين سنة كارول جينو بمعيّة أبنائه الخمسة، ورواية «عائلة كورليوني» التي أتممها إيدوارد فالكو.
ظلّ الأم
اعتقد بوزو، إلى آخر يوم في حياته، أن رواية «الحاج المحظوظ» في نسختها الإنجليزية أو «الأم لوشيا» في نسختها الإيطالية الصادرة عام 1965، هي أفضل رواياته على الإطلاق، وأوفرها حظًّا من الشاعرية والأدبية.
لقد كانت، بحسب تعبيره، النواة الأولى لروايته الشهيرة «العرّاب»، فالعرّاب، أو الدون فيتو كورليوني لم يكن في الحقيقـــة سوى ظلٍّ للأم لوشيا التـــي لم تكـــن بدورها إلّا ظلًا لوالدة ماريو بـــوزو، ولهذا الســــبب حزن بـــوزو كثيرًا لكون روايته «العرّاب» أثارت ضجّةً وصخبًا كبيرين، على الرغم من أنها رواية خيالية تتماشى مع الصورة النمطية التي يرسمها الأمريكيون في مخيلاتهم حول المهاجرين الإيطاليين.
إنها صورة تسجنهم في بوتقة الإجرام وتختزلهم في كونهم رجال عصابات، في حين ظلّ حضور رواية «الحاج المحظوظ» محتشمًا في الساحة النقدية، تلك الرواية التي اعتصر فيها بوزو تجربةَ والدته ونضالها من أجل إيجاد موطئ قدم في المجتمع الأمريكي ونيل الاحترام والتقدير، وكفاحَها الصادق من أجل أبنائها، وذلك بحسب تصريحاته في برنامج «Larry King Live» في الثاني من أغسطس 1996، الذي يبث على قناة CNN.
يقول بوزو: «كلما تكلم العرّاب، سمعت صوت والدتي في ذهني. أسمع حكمتها وقسوتها وحبها الذي لا يقهر لأسرتها وللحياة نفسها... حتى شجاعة الدون وولاءه جاءا منها، إنسانيته جاءت منها... وهكذا صرت أعرف الآن أنه لولا سانتا لوشيا لن يكون بمقدوري كتابة رواية العرّاب». حصد بوزو ثروة كبيرة بفضل رواية «العرّاب»، كما استطاع أن يحجز لنفسه مقعدًا في الصفوف الأولى لنوابغ الأدب وعباقرته، أما «الحاج المحظوظ» فتمّ تحويلها إلى مسلسل تلفزيوني قصير سنة 1988. أخرج ستيوارت كووبر المسلسل، أما الممثلة المقتدرة صوفيا لورين فقامت بدور الأم لوشيا.
العرّاب
إنها أشهر روايات بــوزو وأشهــــر روايات القرن العشرين، ولا يزال العديد من القراء يقتنونها كي يطلعوا على عوالمها الشيقة التي يقف القارئ أمامها مذهولًا مشدوهًا، إذ استطاعت أن تحرز أكبر رقم توزيع، فقد بيع منها أكثر من 21 مليون نسخــــة، كما ظلّت متربعةً على عرش صدارة الكتب الأكثر مبيعًا لمدة 67 أسبوعًا، وترجمت إلى لغات العالم المختلفة.
صدرت الرواية عام 1969، استثمر فيها بوزو بشكل كبير التجارب التي عاشها والمكتسبات والمعارف التي استقاها خلال عمله بالصحافة، كما ارتكز على تاريخ عائلات المافيا الخمس المستقرة في نيويورك، الشيء الذي أكسبه خبرة ببيئة عصابات المافيا وخصائصها.
البطل الرئيس في هذه الرواية هو الدون فيتو كورليوني، اسمه مستوحًى من اسم زعيم مافيا في صقلية جنوب إيطاليا. ويظهر الدون كورليوني في الرواية باعتباره أبًا رحيمًا مهتمًّا بعائلته على خلاف زعماء المافيا سيّئي السمعة الذين نقرأ عنهم في الروايات الأخرى، والتي تستوحي شراستها من زعماء المافيا القساة أمثال آل كابوني.
إنه الملاك والشيطان: يجمع بين الخصال الحميدة كالهدوء والحنان والعطف والحكمة والعدل والإخلاص الشديد للعائلة والأتباع، والخصال الذميمة كالقسوة والشراسة والصرامة والوحشية تجاه من يخونه أو يخون أقرباءه ورجاله.
الدون عبقري أيضًا في فنّ الإجرام، ذلك أنه يتكهّن بخطط أعدائه ويستبقها، كما أنه مستعدٌّ لفعل أي شيء من أجل الذود عن الامبراطورية التي شيّدها، يقول الدون: «الانتقام وجبة تؤكل باردة». وإضافة إلى ذلك، يظهر الدون كورليوني رحيمًا بالفقراء والضعفاء، كما لا يتوانى عن مساعدتهم واستعادة حقوقهم، شريطة أن يعلنوا الولاء الدائم له.
لقد استغلّ بوزو براعته في الكتابة الروائية من أجل تحليل المجتمع الأمريكي بدقّة متناهية ورصد أهم تمفصلاته، وقد أماط اللثام عن النفوذ المتغلغل لعصابات المافيا الذي ينتشر كسرطان في ثنايا المجتمع الأمريكي، ويحكم قبضته على جميع المجالات كأخطبوط جبار، سواء تعلّق الأمر بالسياسة أم بالاقتصاد أم بالثقافة أم بالحياة اليومية للمواطنين. وتمثّل عائلة كورليوني نموذجًا لعائلات المافيا القوية المتورطة في أعمال القتل والقمار والمتاجرة بالمخدرات والدعارة، من أجل تنمية ثرواتها وتقوية نفوذها وهيمنتها. تعدّ رواية «العرّاب» صرخة قوية ضد الرأسمالية المتوحشة التي تسحق الضعفاء وتشحذ براثن المجرمين الجشعين كرجال عصابات المافيا.
تتويج ذهبي
تمّ تحويل الرواية إلى فيلم من قبل فرانسيس فورد كوبولا، وصدر في ثلاثة أجزاء، الأول سنة 1972، والثاني سنة 1974، والثالث سنة 1990، وتعاون كلٌّ من كوبولا وبوزو في كتابة السيناريو، فحازا جائزة الأوسكار سنة 1973 عن الجزء الأول، وسنة 1975 عن الجزء الثاني. وصار بذلك فيلم «العرّاب» نموذجًا رائعًا للعمل السينمائي الجيّد، ولا تزال كبُريات دور السينما تعرض الفيلم في بقاع العالم المختلفة، الشيء الذي مكّنه من حصد إيرادات تقدر بـ 270 مليون دولار، على الرغم من أن فترة التصوير لم تتجاوز 63 يومًا!
لقد أهّلت هذه المعطيات كلّها لحفظ فيلم «العرّاب» في السجل الوطني للفيلم بالولايات المتحدة الأمريكية سنة 1990، بعد أن حُفظ في ذاكرات القرّاء والمتفرجين ■