قصيدة الهايكو العربي نماذجُ ركيكة... ونقد انطباعي سريع

قصيدة الهايكو العربي  نماذجُ ركيكة... ونقد انطباعي سريع

هي قصيدة الطبيعة؛ تعبير عن الطبيعة، وهي بسيطة، بـ «فقه باشو»، المؤسّس ومجايليه شعراء الهايكو الرهبان، شعرية تلقائية، ومن فرطِ بساطتها، ورشاقة مفرداتها وجُملها، ورقّة إيقاع لغتها تبدو بلا كلمات، بلْ بعدَ الكلمات، حينَ تتعددُ لغة الطبيعة، ويعلو سحرُ بلاغتِها المفضي إلى لغةِ الصّمت الذي يُحسُّ، ويُعاشُ، ويُتأملُ موسيقا، والعازفُ الأمهرُ في أوركسترا كونية غير مسبوقة هي الطبيعة، تحكي وتفيضُ بخجلِ نهرٍ ريفي، أو بإحساس حمامةٍ تتناسلُ، أو زهرةٍ تتفتَحُ، أو فراشةٍ مزهوةٍ بهندسةِ ألوانها. 

كلُّ ذلك مفردات فلسفة كلّ مكونٍ من مكونات الطبيعة وظواهرها، ورحمها الدافئ «الزن» روح قصيدة الهايكو وفقهها وفلسفتها «محبة الجميع، محبة كلّ شيء، الذي يعني بأصغر عشبةٍ في الحقول» (هنري برونل - أجمل حكايات الزن، ص 76)... محبة كلّ مخلوق في الطبيعة، من أجمل مخلوق كالعندليب والفراشة والزنبقة إلى الوضيع في الطبيعة كالذبابةِ والبرغوثِ، وأصغر وأدقّ حشرةٍ تحتمي تحتَ ورقة شجرةٍ أو تحت حصاةٍ في حقلٍ مشمسٍ.
لخّصَ شرط تقنيتها، وكيمياء طقسها اللغوي الروائي الشاعر الياباني ناتسوم سوسيكي (1867 - 1916) بقولهِ: «الهايكو هيَ دخول إلى واحة»!
وهذا يكفي لنهايةِ كلّ منتجٍ يُنسب إلى قصيدة الهايكو خارج هذا المفهوم المقتضب البسيط، وهي براءٌ منهُ، ولبساطتِها ورشاقتها واختزالها العميق وكثافتها: «لا مجال فيها للتوقدات، والتصادمات الكبيرة للصور، ولا للصراخات والموت والدم» (برونل، أجمل حكايات الزن، ص 77).
الهايكو قصيدة الطبيعة لا الإنسان الذي خلع عليها معطفَ همومهِ وتطلعاتهِ وأحلامهِ، فيما سادَ من نماذج نُسِبت ظلمًا وجهلًا إلى فنّ الهايكو... هو صورة الطبيعة لا غير، لوحة تشكيلية، رسم ونحت متقن، ترجمة لنداء برقي تلغرافي، أخذ شكل «ماسجات»، تبعث بها الطبيعة في دموعٍ من ليلكٍ وريحان، جعلت الشاعر الياباني يذرفُ الدموع أيضًا، وهو يتأمّلها في لحظةِ حُلمٍ متلوٍّ بيقظة:
صباحٌ ثملٌ
طيرٌ يُغردُ
كيْ يُصحّيه
الكركيّ يصيحُ
بصوتٍ تتمزقُ لهُ
شجرةُ الموز
القمرُ في كلّ كظاهرهِ
قممُ الأشجار
تحتبسُ المطر
إنها خضراء 
كانَ يُمكنُ أنْ يكفيها ذلكَ
الفُليفُلة 
(باشو).

تلكَ هي التقنية البسيطة، أقربُ إلى خريرِ ماءِ النهرِ، وهمساتِ ضوء النهار، وحفيف أوراق شجرةٍ مخمورة بعطر نسمات الربيع... وذلكَ هو الطقسُ اللغوي الإيحائي العميق لقصيدة الهايكو، كما لخصهُ شعريًا أمير الهايكو ومؤسّسهُ باشو، صورة الطبيعة، بلْ هي الطبيعة نفسها التي لا تُدركُ إلا بالحواس... قصيدة تأمُّلية، وحالة شعرية بفسفور الحُلم، والتعبير عنها كما هيَ:
مطرٌ ربيعيّ
أمرّرُ يدي بلطفٍ
على اليقطينة 
(ريوكان).

الهايكو القصيدة/ الصورة... القصيدة/ اللوحة التشكيلية، كتابة بصرية مرئية، ليسَ من مفرداتها الحماس أو التعصب، ولا من طبيعةِ شاعرِها الغضب أو الإصرار المزاجي. 
يقولُ الشاعرُ الياباني ناتسوم سوسيكي: «لا يُمكنُ لأحدٍ أنْ يكونَ في غضبٍ ويكتبُ الهايكو في الوقتِ نفسه»... وأنا ومعي كلّ مفردةٍ في قصيدة الهايكو نقول: لا يُمكن لأحدٍ أن يكونَ في جهلٍ ولا دراية ويكتبُ الهايكو!
  لقدْ ضلَّ الطريق إلى فردوس الهايكو أغلب الشعراء الذين ركبوا موجة الهايكو عن غفلةٍ وجهلٍ ولا دراية بمنابع لغتها السحرية العذبة، وكنوز موضوعاتها البعيدة القريبة في الآن، فكان «الطرح الأيديولوجي» الذي نسبوهُ ظلمًا إلى الهايكو، وقد بدا كإعلانٍ بحروفٍ ركيكة هزيلة على حائط مهجورٍ مهترئ، تعداهُ إلى إغفال نبض الطبيعة، روحها، وعبقرية مكوناتها وإيقاعها الكوني إلى هموم الإنسان، وقضاياه الحياتية والمجتمعية والفكرية، إلى نزيف الذات المنافي تمامًا لرؤية قصيدة الهايكو وطقسها اللغوي، فكلّ ما جاءوا بهِ منسوبًا إلى الهايكو، القصيدة منهُ براء... لا علاقة لهذه الشذرات التي تُنسبُ إلى «قصيدة الومضة» أو إلى «الأبيجراما» لا إلى قصيدة الهايكو، وقد فاضت بها قرائح شعراء بلا عدد، كانت الصحف والمجلات ساحة لعبٍ عبثي لهم، هذا الشاعر سامح درويش - على سبيل المثال - في عمله «100 هايكو»:

قطارٌ عابرٌ
قُبلة في الهواء
تُبهجُ فتىً يُصلحُ السكة
بقضيبٍ من حديد
يرسمُ قلبًا
عاملُ الخرسانة
ظلي
على السور المثقب
يشبهني

وشتّان بين تلك الشذرات الشعرية الوامضة، وبين نزيف الشاعر الياباني باشو:
القيقبُ 
خشبة خيزران كبيرة
تراقبُ القمر
البحرُ داكنٌ
نداء البطة البريّة
أبيض شاحب
 والفرقُ واضح في التعبير للقارئ والشاعر والناقد معًا، بين النموذج الياباني ذي أصول وقواعد الهايكو، وبين العربي الذي غرق في حلمٍ لا يمتّ بصِلةٍ لأنفاس الطبيعة، وحركة أغصان أشجارها أو نغمات أصوات عنادلها وضفادعها... إنها قصيدة الطبيعة، «كلّ مكونٍ من مكونات الطبيعة، كلّ شكلٍ من أشكال الوجود غير العاقل، نبات، حجر، أو أدوات تمتلك مشاعرها الخاصة بها من الشبيه بمشاعر البشر»... وقد تكون لها «وجهة نظر» - برأي ج. م كوتسي، تصوير شيء، بل هي الطبيعة والشيء ذاته، لا تُشَبّه بلْ هي التشبيه، لا تستعير همًّا أو فكرًا أو أيديولوجيا أو لحظة غرام، والإيحاء مبدأ مهم، أساس قصيدة الهايكو... وهي كتابة بصرية بامتياز!
  خطأ الشعراء الفادح حين اتخذوا منها وسيلة للتعبير عن حياتهم، وحالاتهم من دون دراية واتّباع لقواعدها الأساسية وأصول تقنيتها، فجاء النصُّ هزيلًا وركيكًا، نسوا تمامًا أن ما كتبوه شذرة تتوسّلُ مفردةً مثيرةً وخيالًا منتجًا ليس غير...! والأفدح من كلّ ذلك اعتبارهم قصيدة الهايكو ابنة شرعية لقصيدة النثر، وقد منحوها هويّة مزوّرة، غير هوّيتها الحقيقية كفنٍّ شعري مستقل، كيمياؤه الطبيعة، روح الزنّ، ورحمها الأصيل الآمن لكل مفردة من مفرداتها، وصورة من صورِ الطبيعةِ وهندسةِ مكوناتِها:
واحدةً بعدَ الأخرى
تتفتحُ أزهارُ البرقوق 
(ياسودا).

يقول الناقد السيميائي رولان بارت: «الهايكو يقترحُ نصوصًا سهلة، ويستعملُ مفرداتٍ مقبولة، ويمنحُ للقارئ دلالاتٍ صافية».
قد يصلح هذا الفيض النقدي السيميائي للقصيدة المختزلة، المقتصدة في ألفاظها ومعانيها معًا (قصيدة النثر - قصيدة الومضة - الأبيحراما - الشذرة)... وهذا ما أوهمَ عديد الشعراء الذين استعذبوا كثافة وقصرِ الهايكو، متناسين ومتجاهلين أن ليس كلّ قصيدة مكثفة مختزلة أو من ثلاثة أبيات هي هايكو:
حينَ يلتمعُ البرقُ
تترددُ أصداء صوت
مالك الحزين الطائر في القمة 
(باشو).
وهو بهذه اللقطة العابرة، وفي إيقاع بسيط تأمّلي، يعرّف الشاعر باشو قصيدة الهايكو.
 وقول الشاعر سامح درويش:
مكان الخاتم
لا أرى الآنَ
سوى أثرٍ دائري أبيض

بكلّ ما في النصّ من اقتصاد وكثافةِ لغةٍ وخيالٍ، هي «قصيدة ومضة» أو أبيجراما، أو شذرة، وليس غير ذلك، ولا تمتُّ بصلةٍ لتقنية الهايكو، وطقسه اللغوي والموضوعي. 
  
قصيدة الهايكو... لحظة حريّة
حالة تحرّرٍ شفاف من خلال تأمّل الطبيعة، بل والتماهي ومكوناتها وظواهرها، حيث الحسّ والمشهدُ شيء واحد!
 وخطأ قصيدة الهايكو العربي السائدة والضاجّة بها الصفحات البيضاء للصحف والمجلات وغرف النوادي في اللامكان، قد استبدلت الإنسان عن الطبيعة، وأصبح الإنسان بكلّ همومه هو المحور، وتجاهلَ شعراؤها وكتّابها تمامًا نبضَ الطبيعة، وسحر جمال مكوناتها وظواهرها. هذا سامح درويش أيضًا:
من الحكايةِ
لمْ يبق في رأسي 
سوى بحّة الحكواتي

ويأتي الشاعر الراهب باشو ببرقِ ورعدِ الفارق المدوّي، بنزيف قريحة ممغنطة بفقهِ الزن/ روح الطبيعة:
صفصاف أخضر
تتقاطرُ أغصانهُ على الطمي
أثناء الجزر
يقولُ يوسا بوسون (1716 - 1784): «لغة الهايكو المثالية هي اللغة المألوفة».
لغة كاميرا بلا زخارف، قصيدة بصريّة فوتوغرافية، ببراعة عدسة حسٍّ شعري شديد الرهافة، والشاعرُ الساحرُ مصوّر، وتشكيلي، ونحّات في آنٍ، واللغة المثالية الحسية مصدر الجمال والجذب والإثارة في قصيدة الهايكو الطبيعة سيدة المشهد، وأصل الدلالة، هي شيفرة الهايكو لا الإنسان، ولا الوجدان، هي الطبيعة بكل أسرارها، وفلسفة وسحر ظواهرها... القصيدة عبقرية الطبيعة، حيث تبدو «الطبيعة هي التي أملتها»... كتبتها بعطر الوردة، وإشراقة الزنبقة، ودفء قطرة المطر، وكبرياء الشمس... والذي يجهلُ كيمياء هذه القصيدة العابرة للثقافات والمشاعر، وهو لم يخطُ خطوةً واحدة نحيلة للتعرّف إلى خريطة مرجعيّاتها وأصولها وقواعدها، وسيرة مؤسسيها الرهبان الثلاثة (باشو - بوسون - إيسا)، ستصبح فخًا، يجهلُ ما فيه من إبداع وجمال، وهي ثورة المدهش على العادي:

أتسمع الطنين
وقت سقوط
أوراق الأزهار؟
البعوضُ منزعج 
(بوسون).
 الشعراء العرب الذين ركبوا موجة الهايكو في فخٍّ ماكرٍ، في مصيدة مُغريةٍ، صعب الخلاص من شباكها... قصائدهم/ شذراتهم التي احتفت بها الصحف والمجلات ومواقع التواصل الاجتماعي، وتحولت لدى البعض إلى دواوين على أنها هايكو لا ترتبط به سوى بحبر الحروف وبياض الورق، وهي تصنّف وفق رؤى الناقد الجاد والمثابر بأنها «قصائد نثر» أو «ومضات» أو «أبيجراما»... ولا يتضح للقارئ من هذا الخلط التعسفي إلا أننا نعيش هزالًا ثقافيًا (كورونا ثقافية)، وقد أصبح الهايكو مطيّة لعديد من الشعراء والكتّاب والصحفيين، وهم لم يأخذوا بعد لقاح قواعده وأصوله!

الهايكو العربي والنقد الانطباعيّ السريع
يقولُ الناقد د. حاتم الصكر في كتابهِ «في غيبوبة الذكرى»: «الناقدُ هوَ قابلة النصّ لا والدهُ، لكنهُ قد يكون أكثرَ حنوًا منهُ عليه» (ص 15).
ونقادُ قصيدة الهايكو أرادوا أن يكونوا (القابلة) ويضفوا حنانًا مخمليًا على نصوصِ عديدِ الشعراء الذين فُتنوا بقصيدة الهايكو، ولم يشفع لهم جنونهم بعد بالانتساب لنسلِها، فجاءت نظرات النقاد - كما بدت للقارئ - غير منصفة، بلْ كانت وبالًا على هؤلاء الشعراء، وقد منحوهم رخصة وإجازة الاستمرار في كتاباتهم المزاجية الظلال، وخلطهم بوعي وبلا وعي بين قصيدة الهايكو وفنون شعرنا العربي المعاصر الأخرى.
 أثنى بعض النقاد بعباراتٍ انطباعيةٍ قصيرة العمر والتأثير على (الطرح الأيديولوجي) الذي أدرجَ من ضمن موضوعات الهايكو، وهو منافٍ تمامًا لموضوعها (الطبيعة) لا غير، ولا علاقة له بطبيعتها وأبجدية تقنيتها، وبراء منهُ صوفية الطبيعة خلاصة فلسفة عقيدة الزن، التي هي الأساس، وفقه لغة الهايكو لدى الشعراء اليابانيين. 
   ناقدٌ آخرُ هذّب جُلّ أدواتهِ النقدية وأسلحة فصاحته، فقط ليثبت أنَّ قصيدة الهايكو ابنة شرعية لقصيدة النثر وامتدادٌ لها، من دون أن يصغي بخشوع إبداعي لصرخات الأب الشرعي (الطبيعة)، ويذهب بأسلحته السلمية للاطلاع على فقهِ الزن، فجاءت نظراته تخمينًا، وزخرفة ألفاظٍ، حين اكتشفَ أنَّ هذا النوع من النقاد لم يطّلع على قواعد هذا الفنّ العظيم، ويحثّ الخطى لمعرفة أصوله ومرجعيّاته وتاريخ نشأته، وطقسه اللغوي الساحر، ويزداد حبًا للهايكو من سيرة مؤسسية الرهبان الكبار ومَن سارَ على نهجهم.
   نقادٌ آخرون حاولوا أنْ يربطوا موضوع هذه القصيدة التأمّلية الحسية، لما فيها من حُلمٍ بـ «الوجدان العربي»... بالذات وهمومها، وهذا ما كان ينفرُ منهُ شعراء الهايكو الياباني والغربي معًا، فتماهي الذات مع الطبيعة هو خلاصة فلسفة عقيدة الزن التي هي رحِمُ الهايكو المثير. يقولُ ناتسوم سوسيكي قصيدة الهايكو: «وقفة على مسافة من الذات، تجرّد، وشعور بالحرية والسلام» (أجمل حكايات الزن، ص 84).
 والقولُ بأنها تعبيرٌ عن وجدان الإنسان العربي خطأ نقدي فادح، وواحدة من «شطحات» النقد الانطباعي، فلا علاقة لقصيدة الهايكو العربي بفضاء التعبير عن ذات الإنسان وهمومه وحياته اليومية، موضوع فنون الشعر الأخرى من العمودي إلى التفعيلة إلى قصيدة النثر الأكثر اهتمامًا بقضايا الإنسان العربي... متمادين في رؤى مضطربة إلى أنَّ بإمكان الشعراء العودة بالهايكو إلى إيقاع الشعر العربي الموروث، بصلصلة قوافيه وأوزانه، بل ولا بدّ لقصيدة الهايكو أن تنهلَ من هذا الموروث، ونسوا أن يقولوا: وتأتي على البحر الطويل أو الكامل أو الرجز أو المجزوء! وربما يتبارى الشعراء على امتداد الستة عشر بحرًا... وقد يأتي فوق هذه الضفة التي يغمرها الضباب - حسب تعبير بودلير - ناقدٌ، ويرجع بالهايكو إلى أصلهِ الخليلي!
الطبيعة مادة الهايكو الياباني والعربي معًا، ومصدر تأمّل الشاعر، ولا شيءَ غير الطبيعة.
 وسوء الفهم لتقنية وموضوع الهايكو الذي كانَ عليه جلّ النقاد افتراء بإصرار على قدسية هذا الفنّ الشعري، والذين أساءوا فهمه من الشعراء المباركين بشذرات سريعة لفكر بعض النقاد، فجاء نتاجهم سطحيًا ركيكًا، موصولًا بنقدٍ خلاصة هزال ثقافي محزنٍ، وهو خطأ، بل جُرم الشعراء والنقاد معًا الذين وجدوا في الهايكو أيضًا، وفق تنظيراتهم «استجابة للنفسية العربية للتدفق الشعوري، والتفريغ الوجداني لآلامها وآمالها، لنكساتها وسكناتها، ولانتفاضاتها»، وهو إقحامٌ مؤذٍ للذائقة، حين تصبح قصيدة الهايكو (نضالية)، وهي تنطق بلسان الطبيعة، بخضرة كلّ شجرةٍ، وحنجرة كلّ عندليب، وهمس كل حمامةٍ تتناسلُ، أو فراشة في لحظة زفافها وهي متوّجة بألوانها التي خلعها عليها الخالق العظيم.
 
«الهايكو»... شعرُ اللحظةِ المباشرة 
لحظة ممتدة إلى اللازمن، وأي حديثٍ للنقاد عن الزمنِ فراغ، وضباب، ولا شيء!
القصيدة كيمياء الصّمت، وحسب تعبير باشو: «تتبدّد في الضوء»!
 فهل مثل هذا الفنّ يتّسعُ للنضال والغرام وصخب الأيديولوجيا المقيت التي أقحمها الشعراء العرب الذين امتطوا صهوة فرس الهايكو على سرجٍ قلقٍ... وأرض يباب!؟
  والهايكو، حسب تعبير مراد الخطيبي، (أحد النقاد الذين عاشوا وأدركوا سحر الهايكو الحق، وجذبهم بريقُ ذهب حروفه المضيء حتى نهاية الزمان) «بمنزلة دعوة للتصالح مع الطبيعة، بكلّ مكوناتها، وسماتها الجمالية المتفردة»... فقه الطبيعة المثير، لا فقه الإنسان وقضاياه وطموحاته وأحلامه.
  إنَّ سوءَ فهم قصيدة الهايكو، وسحر تقنيتها، وأصولها، نتاجه هذا النصّ الركيك الفجّ الذي شاع وانتشرَ تحت اسم «الهايكو العربي»، والذي جعل بعض النقاد المواكبين للفضاء الإبداعي العربي بجرأةِ قلم وحرارةِ أصابع، يجزمُ بأنه «مجرّد موجة ستنحسر»، وهي تحمل أسباب تلاشيها وموتها بلا عزاء، كلّ ذلك نتاج ما سادَ من نماذج تصدّرت صفحات الصحف والمجلات، وباتساع أرض الأدعياء مواقع التواصل الاجتماعي التي أفرزت شعراء ونقادًا وكتّابا ما أنزل اللهُ بهم من سلطان!
تجاهل نقاد قليلون جدًا، أيضًا، - وقد تناولوا تقنية الهايكو، واهتموا بحضورها الصاخب، بلا نتاج طرب روحٍ وجسدٍ، في شعرنا العربي المعاصر - أنّ الهايكو فنّ شعري مستقل، وأنَّ لكل هايكو بيئته، ولا يشترط أن يخضع بكامل التقنيات والأصول الإبداعية للهايكو الياباني، في شطر أو شطرين أو ثلاثة، شريطة أن يكون موضوعها الأسمى (الطبيعة) ظواهرها ومكوناتها، لا الإنسان وهمومه وأيديولوجياته وقصص غرامه.

 «الهايكو» العربي... شعراء قليلون... ونقاد أيضًا
 والشعراء القلائل الذين كتبوا في «الهايكو» العربي وأجادوا، والذين عاشوا الشعر بـ «مفهوم اللذة»، حسب تعبير بارت، قد أضافوا للقصيدة، وهم يخرجون بها من الوصف إلى الحوار مع مكونات الطبيعة، فقد أضافوا المجاز بشكلهِ الشفيفِ، وسعوا أيضًا إلى أنسنة ظواهرها ومكوناتها، وهو نادر جدًا في الهايكو الياباني، بل معدوم برأي بعض النقاد.
 وكان واضحًا لدى الشعراء القلائل الذين كتبوا الهايكو بدرايةٍ تامةٍ لأصولها أذكر منهم محمد الأسعد، ورشا سامي، ومحمد حلمي الريشة، وهدى حاجي، وعاشور فني، على سبيل المثال.
 و«المجاز» و«الأنسنة» كانت شديدة الوضوح في كتبي بـ «الهايكو»؛ «ما يقولهُ الربيع» (2005) و«رسائل المطر» (2013) و«العصافير ليست من سُلالة الرياح» (2017) و«سوناتات الماء والزنابق» (2018)، وقد شرُفت بآراء عديد النقاد الذين تناولوا نتاجي وأكدوا ذلك، وفي نتاج غيري، وهم قلائل أيضًا، بقلّة شعراء الهايكو العربي الجيّدين الذين فاضت قرائحهم بنتاج رهان على وجود القصيدة واستمرارها، وهؤلاء قلّة كما قلت، أذكر منهم على سبيل المثال، د. حاتم الصكر، ود. عبدالرحمان إكيدر، ود. بشرى البستاني، ود. آمنة بلعلي، وعبدالرحمن مجيد الربيعي، وآمال بولحمام، ود. رمزي بهي الدين، ود. شريف عابدين، ود. أحمد المصري، ود. عبدالقادر جموسي.
 وآملُ أن تصبح قصيدة الهايكو العربي باقتدارٍ أحد فنون شعرنا العربي المعاصر والحداثي، ومرجعياته، بعودة واعية وحصانة ثقافة عالية، وبإصرار قلمٍ مبدعٍ، وأصابع غير مرتجفة لا تخون، شعراء ونقّاد معًا، والاطلاع الواسع على أصول وقواعد هذا الفن العظيم وتاريخه الطويل، وأقدمها الـ «تانكا» ثم «هايكاي»، ثم عرف بعدها بـ «الرنجا»، الذي يبدأ بثلاثة أبيات سُمّيت «هوكو»، واستقرت التسمية على «هايكو»، على يد أمير ومؤسّس الهايكو ماتسو باشو، وقراءة سِيَر شعرائه الرهبان الثلاثة (باشو - بوسون - إيسا) ومَن سارَ على نهجهم، وهو الرهان الوحيد على قصيدة تعدّ إضافة مهمة لفنون شعرنا العربي المعاصر ■