النَّقَائِضُ الأُمَوِيَّةُ حَلْقَةٌ مِن التَّنَاغُم

 النَّقَائِضُ الأُمَوِيَّةُ حَلْقَةٌ مِن التَّنَاغُم

ظلَّتْ القصيدةُ العربية على مرِّ عصورها مستدعاة، وكان عليها أَنْ تخرج في أبهى صورها تمامًا مثلما تبدو العروس ليلة زفافها، وكان على شاعرها أَنْ يُخرج أَحَدَّ ما في جعبته من سهام لتصيب مرماها نحو المتلقي، وقد ظلَّت طوال هذه الفترة في رهانٍ مع نظائرها من نفائس الشعر العربي قديمًا وحديثًا.  وتُعدُّ النقائض من الفنون الشعريَّة التي دفع إلى وجودها دافع قويٌّ؛ فقد جاءت النقيضة إِثرَ تحريض وإلحاحٍ، وقد حرَّك فتنتها واستحث شعريَّتها مثيراتٌ سياسيةٌ، واجتماعيةٌ، وعصبيَّةٌ، وأُخرى فنيَّة. وعلى الرغمِّ من حِدَّة هذه المثيرات؛ فإِنَّها قد أَفرزت للعربية شعرًا عاليًا، وشعراء أَفذاذًا، والنقيضة هي «أَنْ يتجه شاعرٌ إِلى آخر بقصيدة هاجيًا أو مفتخرًا، فيعمد الآخر إلى الردّ عليه هاجيًا أو مفتخرًا ملتزمًا البحر والقافية والرويّ الذي اختاره الأول، ومعنى هذا أَنَّه لا بدَّ من وحدة الموضوع فخرًا أو هجاءً أو سياسةً أو رثاءً أو نسيبًا أو جملة من هذه الفنون». 

لم‭ ‬تكن‭ ‬النقائض‭ ‬وليدة‭ ‬العصر‭ ‬الأُموي‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬راسخٌ‭ ‬في‭ ‬أَذهان‭ ‬بعضنا،‭ ‬بل‭ ‬بزغت‭ ‬جذورها‭ ‬في‭ ‬الجاهلية‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬قصائد‭ ‬شعرائها،‭ ‬مرورًا‭ ‬بعصر‭ ‬صدر‭ ‬الإِسلام،‭ ‬ثُمَّ‭ ‬تجلَّت‭ ‬في‭ ‬أقوى‭ ‬صورها‭ ‬بالعصر‭ ‬الأُموي؛‭ ‬فاشتهرت‭ ‬النقائض‭ ‬الأُمويَّة‭ ‬فنًا‭ ‬له‭ ‬ملامح‭ ‬خاصة،‭ ‬وقد‭ ‬‮«‬كانت‭ ‬كثيرةَ‭ ‬العدد،‭ ‬بعيدة‭ ‬الصيت،‭ ‬شغلتْ‭ ‬كِبارَ‭ ‬الشعراء‭ ‬وكثرتَهم،‭ ‬ومعظم‭ ‬القبائل‭ ‬أو‭ ‬أعظمها،‭ ‬واستغلتها‭ ‬السياسة‭ ‬الأُمويَّة،‭ ‬والعصبياتُ‭ ‬القبلية،‭ ‬وأَثارتْ‭ ‬ضروبًا‭ ‬من‭ ‬النقد‭ ‬والموازنة،‭ ‬وأحيت‭ ‬الماضي‭: ‬أيَّامَه‭ ‬وتقاليدَه‭ ‬الجاهلية،‭ ‬وأساءت‭ ‬إلى‭ ‬الحياة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والسياسية‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬أحسنت‭ ‬إلى‭ ‬الحياة‭ ‬الأدبية،‭ ‬وبلغت‭ ‬بالفن‭ ‬الشعري‭ ‬القديم‭ ‬ذروته،‭ ‬وخلَّفتْ‭ ‬لنا‭ ‬آثارًا‭ ‬ضخمة‭ ‬جديرة‭ ‬بالدرس‭ ‬العميق‮»‬‭.‬

ولعل‭ ‬أكثر‭ ‬النقائض‭ ‬شهرة‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬الشعر‭ ‬العربي‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬دارت‭ ‬بين‭ ‬جرير‭ ‬والفرزدق،‭ ‬وجرير‭ ‬والأخطل،‭ ‬من‭ ‬فحول‭ ‬شعراء‭ ‬العصر‭ ‬الأُموي،‭ ‬‮«‬وقد‭ ‬كان‭ ‬للشعر‭ ‬أثر‭ ‬كبير‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬العصر،‭ ‬وكان‭ ‬الناس‭ ‬يترقبون‭ ‬ما‭ ‬يدور‭ ‬بين‭ ‬الشعراء‭ ‬من‭ ‬تبادل‭ ‬للقصائد‭ ‬ليحفظوها‭ ‬ويتناقلونها‭ ‬بين‭ ‬قبائلهم‭ ‬وليتذوقوا‭ ‬ويستمتعوا‭ ‬بإِلقائها‭ ‬في‭ ‬مجالسهم،‭ ‬وكانوا‭ ‬ينقسمون‭ ‬على‭ ‬بعضهم‭ ‬بين‭ ‬مؤيد‭ ‬ومعارض‭ ‬لهذا‭ ‬الشاعر‭ ‬أو‭ ‬ذاك‭.‬

‭ ‬وقد‭ ‬كان‭ ‬الفرزدق‭ ‬وجرير‭ ‬من‭ ‬أبرز‭ ‬شعراء‭ ‬العصر،‭ ‬وبسبب‭ ‬التنافس‭ ‬الشديد‭ ‬بينهما‭ ‬على‭ ‬الشهرة‭ ‬والجاه،‭ ‬حصلت‭ ‬هذه‭ ‬المساجلات‭ ‬الشعرية،‭ ‬وقد‭ ‬هجا‭ ‬جرير‭ ‬كثيرًا‭ ‬من‭ ‬الشعراء‭ ‬مثل‭ ‬الراعي‭ ‬النميري،‭ ‬وغَسَّان‭ ‬بن‭ ‬ذُهَيْل‭ ‬السليطي،‭ ‬والعنَّاب‭ ‬أعور‭ ‬بني‭ ‬نَبْهان،‭ ‬والبعيث‭... ‬وغيرهم‭. ‬ولم‭ ‬يُسَجِّل‭ ‬تاريخُ‭ ‬الشعر‭ ‬العربي‭ ‬الفحولة‭ ‬في‭ ‬فن‭ ‬النقائض‭ ‬سوى‭ ‬لثلاثةِ‭ ‬شعراء؛‭ ‬هم‭ ‬جرير،‭ ‬والفرزدق،‭ ‬والأَخطل‭.‬

 

مَوضُوعَاتُ‭ ‬النَّقِيضَة

على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬تنوّع‭ ‬الموضوعات‭ ‬في‭ ‬النقيضة‭ ‬الواحدة؛‭ ‬فإِنَّها‭ ‬تقوم‭ ‬في‭ ‬الغالب‭ ‬على‭ ‬موضوعين‭ ‬رئيسين‭ ‬هما‭ ‬الفخر‭ ‬والهجاء،‭ ‬وإِن‭ ‬لم‭ ‬يحدث‭ ‬الهجاء‭ ‬على‭ ‬امتداد‭ ‬النقيضة،‭ ‬فإِنَّه‭ ‬ينضوي‭ ‬تحت‭ ‬الفخر‭ ‬بالنفس‭ ‬والأهل،‭ ‬إِنَّه‭ ‬الهجاء‭ ‬الضمني‭ ‬أو‭ ‬المناظرة‭ ‬الضمنية،‭ ‬كما‭ ‬جاء‭ ‬في‭ ‬قصيدة‭ ‬البعيث‭ ‬من‭ ‬هجائه‭ ‬لجرير،‭ ‬وإِجابته‭ ‬للفرزدق،‭ ‬وقد‭ ‬بلغت‭ ‬ثمانية‭ ‬وأربعين‭ ‬بيتًا،‭ ‬لم‭ ‬يتعرّض‭ ‬لهجاء‭ ‬جرير‭ ‬وقومه‭ ‬صراحةً‭ ‬إِلَّا‭ ‬مع‭ ‬مطلع‭ ‬البيت‭ ‬الحادي‭ ‬والأربعين،‭ ‬بينما‭ ‬كان‭ ‬عمادها‭ ‬الفخر‭ ‬والتباهي،‭ ‬وليس‭ ‬هذا‭ ‬قانونًا‭ ‬أو‭ ‬سُنةً‭ ‬في‭ ‬النقائض،‭ ‬فدون‭ ‬ذلك‭ ‬نقائض‭ ‬لم‭ ‬تطُل‭ ‬مقدماتها‭ ‬أو‭ ‬مفتتحاتها،‭ ‬وسرعان‭ ‬ما‭ ‬تتجه‭ ‬إِلى‭ ‬الهجاء،‭ ‬ويكون‭ ‬عمادها‭ ‬أو‭ ‬موضوعها‭ ‬الرئيس‭. ‬

وقامت‭ ‬النقائض‭ ‬على‭ ‬التفاخر‭ ‬بالأَيَّام،‭ ‬وهي‭ ‬كثيرة‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬العرب‭ ‬مثل‭: ‬‮«‬يوم‭ ‬بلقاء‮»‬،‭ ‬و‮«‬يوم‭ ‬صَمْد‮»‬،‭ ‬و‮«‬يوم‭ ‬أُود‮»‬،‭ ‬و‮«‬يوم‭ ‬ذي‭ ‬طلوحٍ‮»‬،‭ ‬وكان‭ ‬لبني‭ ‬يربوع‭ ‬خاصة،‭ ‬و‮«‬يوم‭ ‬ذات‭ ‬كهف‮»‬،‭ ‬و‮«‬يوم‭ ‬طِخْفَة‮»‬،‭ ‬و‮«‬يوم‭ ‬المرُّوت‮»‬،‭ ‬و‮«‬يوم‭ ‬طلحات‭ ‬حوْمل‮»‬،‭ ‬وهو‭ ‬‮«‬يوم‭ ‬مُليْحة‮»‬،‭ ‬و‮«‬يوم‭ ‬أَعشاش‮»‬،‭ ‬و‮«‬يوم‭ ‬صحراء‭ ‬فَلْج‮»‬،‭ ‬وغيرها‭.‬

واختصرت‭ ‬النقائض‭ ‬كثيرًا‭ ‬من‭ ‬حكايات‭ ‬الغارات،‭ ‬والمعارك‭ ‬القبلية‭ ‬والعصبية،‭ ‬والاتجاهات‭ ‬السياسية،‭ ‬وربَّما‭ ‬قام‭ ‬الاقتتال‭ ‬على‭ ‬التسابق‭ ‬في‭ ‬الإِطعام،‭ ‬بأن‭ ‬يسبق‭ ‬طعام‭ ‬أحدهم‭ ‬طعام‭ ‬الآخر‭ ‬كما‭ ‬سبق‭ ‬طعام‭ ‬بني‭ ‬طُهيَّة‭ ‬طعام‭ ‬بني‭ ‬عوْف‭ ‬بن‭ ‬القعقاع؛‭ ‬وسالت‭ ‬لذلك‭ ‬الدماء‭.‬

وكما‭ ‬سجَّلت‭ ‬النقائضُ‭ ‬الأُمويَّةُ‭ ‬كثيرًا‭ ‬من‭ ‬الأحداث‭ ‬السابقة‭ ‬والمتزامنة؛‭ ‬كانت‭ ‬مثل‭ ‬غيرها‭ ‬من‭ ‬أشعار‭ ‬العرب‭ ‬معرضًا‭ ‬لكثير‭ ‬من‭ ‬الآثار‭ ‬القولية‭ ‬والمعتقدات‭ ‬الفكرية؛‭ ‬فوظَّف‭ ‬شاعرُ‭ ‬النقيضة‭ ‬الأمثالَ‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬وجودها‭ ‬وعيًا‭ ‬بالمدِّ‭ ‬الثقافي‭ ‬العربي‭ ‬آنذاك،‭ ‬كذلك‭ ‬رصد‭ ‬بعض‭ ‬المعتقدات‭ ‬الشائعة‭ ‬لدى‭ ‬العرب،‭ ‬مثل‭ ‬اعتقادهم‭ ‬بأنَّ‭ ‬‮«‬المقتول‭ ‬تخرج‭ ‬من‭ ‬رأسه‭ ‬هامة‭ ‬تصيح‭ ‬على‭ ‬قبره‭ ‬أن‭ ‬اسْقوني‭ ‬فإِنِّي‭ ‬عطشى‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬يُؤخذ‭ ‬بثأره‮»‬‭. ‬

 

الغَايَةُ‭ ‬مِن‭ ‬النَّقَائِض

لم‭ ‬يكن‭ ‬الشتمُ‭ ‬والسبُّ‭ ‬كلَّ‭ ‬غاية‭ ‬شعراء‭ ‬النقائض،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬أَنَّها‭ ‬بلغت‭ ‬درجة‭ ‬كبيرة‭ ‬من‭ ‬الفُحش‭ ‬والطّعن؛‭ ‬ذلك‭ ‬أَنَّ‭ ‬المدقق‭ ‬في‭ ‬النقائض‭ ‬الشعرية‭ ‬لدى‭ ‬جرير،‭ ‬والفرزدق،‭ ‬والأخطل‭ - ‬على‭ ‬الأشهر‭ - ‬يجد‭ ‬أَنَّها‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬بناء‭ ‬فني‭ ‬مقصود،‭ ‬بدءًا‭ ‬من‭ ‬المقدمات،‭ ‬ثم‭ ‬التفنن‭ ‬في‭ ‬الصياغة‭ ‬التي‭ ‬ارتكزت‭ ‬على‭ ‬تنوع‭ ‬الأساليب‭ ‬الشعريَّة‭.‬

وإِذا‭ ‬كانت‭ ‬النقائض‭ ‬قد‭ ‬حملت‭ ‬إلينا‭ ‬كثيرًا‭ ‬من‭ ‬الأسرار‭ ‬الأُسرية‭ ‬والقبلية،‭ ‬والاجتماعية،‭ ‬والسياسية،‭ ‬التي‭ ‬رُبَّما‭ ‬قد‭ ‬بُولغ‭ ‬في‭ ‬سردها،‭ ‬وأثارت‭ ‬كثيرًا‭ ‬من‭ ‬الفتن‭ ‬الأَخلاقية؛‭ ‬فإن‭ ‬ذلك‭ ‬لا‭ ‬ينال‭ ‬من‭ ‬قيمتها‭ ‬الفنيَّة‭ ‬التي‭ ‬أسهمت‭ ‬في‭ ‬إبراز‭ ‬مكانتها‭ ‬الشعرية‭.‬

ويبقى‭ ‬النزوع‭ ‬إلى‭ ‬الشعر‭ ‬دليلًا‭ ‬قويًّا‭ ‬على‭ ‬تحوّلات‭ ‬الفتن‭ ‬الاجتماعية‭ ‬إلى‭ ‬مفاتن‭ ‬جمالية‭ ‬قولية،‭ ‬حتى‭ ‬إِنَّ‭ ‬القارئ‭ ‬عندما‭ ‬تأخذه‭ ‬أساليب‭ ‬التفوق‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬القصيدة؛‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬ينسى‭ ‬ما‭ ‬تشتمل‭ ‬عليه‭ ‬القصيدة‭ ‬من‭ ‬صراعات‭ ‬ومثالب‭.‬

 

انْتِحالٌ‭ ‬أَمْ‭ ‬تَنَاصٌّ؟

اشتملت‭ ‬النقائض‭ ‬على‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬التعالقات‭ ‬النصيّة،‭ ‬والتي‭ ‬فُسِّرتْ‭ ‬آنذاك‭ ‬بالانتحالات،‭ ‬وقد‭ ‬عدَّها‭ ‬النقاد‭ ‬من‭ ‬السرقات،‭ ‬وجاء‭ ‬في‭ ‬كتاب‭ ‬العُمدة،‭ ‬لابن‭ ‬رشيق،‭ ‬أَنَّ‭ ‬الفرزدق‭ ‬اتَّهم‭ ‬جريرًا‭ ‬بالانتحال‭ ‬فقال‭: ‬

إِنْ‭ ‬تَذْكُروا‭ ‬كَرمي‭ ‬بلؤم‭ ‬أَبيكُمُ‭ ‬

وأوابدي‭ ‬تَتَنَحَّلُوا‭ ‬الأَشْعَارا

 

وكانا‭ ‬يتقارضان‭ ‬الهجاء،‭ ‬ويعكس‭ ‬كل‭ ‬واحد‭ ‬منهما‭ ‬المعنى‭ ‬على‭ ‬صاحبه،‭ ‬وليس‭ ‬ذلك‭ ‬عيبًا‭ ‬في‭ ‬المناقضات‭. ‬

ولمَّا‭ ‬قالَ‭ ‬الفرزدقُ‭ ‬في‭ ‬بني‭ ‬رُبيع‭ ‬بن‭ ‬الحارث‭:‬

أَتَرجُو‭ ‬رُبيعٌ‭ ‬أَنْ‭ ‬تَجيءَ‭ ‬صِغارُها

بِخَيْرٍ‭ ‬وقد‭ ‬أَعيَا‭ ‬رُبيعاً‭ ‬كِبارُها؟

 

ثمَّ‭ ‬سمع‭ ‬قولَ‭ ‬البعيث‭:‬

أَتَرْجُو‭ ‬كُليبٌ‭ ‬أَنْ‭ ‬يَجيءَ‭ ‬حَدِيثُها

بِخَيْرٍ‭ ‬وقد‭ ‬أَعْيَا‭ ‬كُليبًا‭ ‬قَدِيمُها؟

 

وكان‭ ‬قد‭ ‬أَخَذَهُ‭ ‬البعيثُ‭ ‬بعينه‭ ‬في‭ ‬بني‭ ‬كُليب،‭ ‬رهط‭ ‬جرير،‭ ‬فقالَ‭ ‬الفرزدقُ‭:‬

إِذَا‭ ‬مَـــــــــــا‭ ‬قــــُلتُ‭ ‬قــــــافِــــيةً‭ ‬شـــــرودًا‭ ‬

تَنَحَّلَها‭ ‬ابْنُ‭ ‬حَمْراءِ‭ ‬العِجان

 

والسؤال‭ ‬الذي‭ ‬يطرح‭ ‬نفسه‭ ‬الآن‭: ‬هل‭ ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬انتحالًا‭ ‬أم‭ ‬تناصًا‭ ‬بمصطلح‭ ‬اليوم؟‭ ‬ومن‭ ‬المعروف‭ ‬لدى‭ ‬قارئ‭ ‬النقائض‭ ‬أَنَّها‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬وحدة‭ ‬الموضوع‭ (‬فيما‭ ‬بين‭ ‬النقيضتين‭)‬،‭ ‬ووحدة‭ ‬الوزن،‭ ‬والرويّ،‭ ‬وكان‭ ‬عمادها‭: ‬‮«‬أيام‭ ‬العرب‮»‬،‭ ‬و«التفاخر‭ ‬بالأَنساب‮»‬،‭ ‬وقد‭ ‬صارت‭ ‬حالة‭ ‬من‭ ‬السجال؛‭ ‬فهذا‭ ‬شاعر‭ ‬يبدأ‭ ‬بموضوع،‭ ‬وبحر،‭ ‬وقافية،‭ ‬ويذكر‭ ‬أيَّامًا،‭ ‬وأحداثًا،‭ ‬وأعلام‭ ‬أسماء،‭ ‬ومواقع،‭ ‬ويأتي‭ ‬ثانٍ؛‭ ‬فيتسلّم‭ ‬مواده‭ ‬ليردّ‭ ‬عليه،‭ ‬ورُبَّما‭ ‬يدخل‭ ‬الحَلْبَة‭ ‬عددٌ‭ ‬من‭ ‬الشعراء،‭ ‬يعملون‭ ‬على‭ ‬تلك‭ ‬المواد؛‭ ‬فانصرفت‭ ‬النقائض‭ ‬إلى‭ ‬قوالب‭ ‬متناصّة‭ ‬متناغمة،‭ ‬مع‭ ‬الاعتراف‭ ‬لكلِّ‭ ‬شاعر‭ ‬بما‭ ‬سبق‭ ‬إليه‭ ‬من‭ ‬قيمة،‭ ‬وإِنَّ‭ ‬هذا‭ ‬التناغم‭ ‬يحدث‭ ‬بقصدٍ‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬الشكل‭ ‬في‭ ‬الأَساس،‭ ‬ثم‭ ‬ينصرف‭ ‬إلى‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬عناصر‭ ‬النقيضة‭.‬

وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬مِمَّا‭ ‬يتبدى‭ ‬للقارئ‭ ‬من‭ ‬ركض‭ ‬الشعراء‭ ‬نحو‭ ‬التفوق‭ ‬في‭ ‬التعريض‭ ‬بالأنساب،‭ ‬والضَّعَة‭ ‬من‭ ‬شأن‭ ‬الآخر؛‭ ‬فإِنَّ‭ ‬كلَّ‭ ‬شاعر‭ ‬كان‭ ‬أحرص‭ ‬على‭ ‬إِحراز‭ ‬قصب‭ ‬السبق‭ ‬في‭ ‬الأَداء‭ ‬الفني،‭ ‬والبراعة‭ ‬الفاتنة،‭ ‬وما‭ ‬كان‭ ‬للمعنى‭ ‬أَنْ‭ ‬يستقيم‭ ‬إِلَّا‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬صورة‭ ‬باهرة،‭ ‬ولغة‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬حماية‭ ‬الدلالة‭ ‬التي‭ ‬يرمي‭ ‬إليها‭ ‬الشاعر‭.‬

 

التَّنَاغُم‭ ‬المُقَدّمَاتِي

مثل‭ ‬القصائد‭ ‬الجاهليَّة‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تدخل‭ ‬إلى‭ ‬موضوعاتها‭ ‬الرئيسة‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬مقدمات؛‭ ‬جاءتْ‭ ‬النقائضُ‭ ‬الأُمويَّة،‭ ‬إِلَّا‭ ‬القليل‭ ‬منها‭ ‬الذي‭ ‬باشرتْ‭ ‬فيه‭ ‬النقيضةُ‭ ‬موضوعَها‭ ‬منذ‭ ‬بيتها‭ ‬الأوَّل،‭ ‬وقد‭ ‬تناغمتْ‭ ‬بعض‭ ‬مقدمات‭ ‬النقائض‭ ‬في‭ ‬الدلالة،‭ ‬والأُسلوب‭.‬

ففي‭ ‬واحدة‭ ‬للبعيث‭ ‬يُجيب‭ ‬الفرزدقَ،‭ ‬ويهجو‭ ‬جريرًا،‭ ‬يُقدِّم‭ ‬البعيث‭ ‬بحديث‭ ‬عن‭ ‬الدِّمن،‭ ‬والشوق،‭ ‬والإِبل،‭ ‬وانقطاع‭ ‬الوصل،‭ ‬وفي‭ ‬البيت‭ ‬السادس‭ ‬عشر‭ ‬يدخل‭ ‬إلى‭ ‬ذكْر‭ ‬قيد‭ ‬الفرزدق،‭ ‬وانشغاله‭ ‬بزوجه‭ (‬النوار‭)‬،‭ ‬ثم‭ ‬يمتدح‭ ‬نفسه‭ ‬في‭ ‬دفاعه‭ ‬عن‭ ‬قومه،‭ ‬ثمَّ‭ ‬يفخر‭ ‬بجدوده،‭ ‬ويفخر‭ ‬بحماية‭ ‬تميم،‭ ‬وبانتماء‭ ‬تميم‭ ‬إليهم‭.‬

أَهَاجَ‭ ‬عَلَيْكَ‭ ‬الشَّوقَ‭ ‬أَطلالُ‭ ‬دِمْنَةٍ‭ ‬

بِنَاصِفَةِ‭ ‬الجَوَّيْنِ‭ ‬أَوْ‭ ‬جانِبِ‭ ‬الهَجْلِ‭ ‬

 

ثمّ‭ ‬يُجيب‭ ‬جريرٌ‭ ‬البَعيثَ،‭ ‬ويهجو‭ ‬الفرزدقَ‭ ‬في‭ ‬نقيضة‭ ‬مطلعها‭:‬

عُوجِي‭ ‬عَلَيْنَا‭ ‬وَارْبَعي‭ ‬رَبَّةَ‭ ‬البَغْلِ،

وَلا‭ ‬تَقْتُليني،‭ ‬لا‭ ‬يَحِلُّ‭ ‬لَكُمْ‭ ‬قَتْلِي

 

وقد‭ ‬جاءت‭ ‬في‭ ‬مقدمة‭ ‬يكسوها‭ ‬الحنين،‭ ‬والتودد‭ ‬للحبيب،‭ ‬وذكرى‭ ‬الجوار،‭ ‬والخوف‭ ‬من‭ ‬القطيعة،‭ ‬والاحتفاء‭ ‬والفخر‭ ‬بالأهل،‭ ‬ومخاطبة‭ ‬الصاحِبَيْن‭ ‬فِعْلَ‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الشعراء،‭ ‬وتحدَّث‭ ‬عن‭ ‬بُخل‭ ‬الحبيب،‭ ‬ثمَّ‭ ‬بدأ‭ ‬في‭ ‬موضوع‭ ‬النقيضة‭ ‬من‭ ‬البيت‭ ‬السادس‭ ‬والعشرين‭.‬

ويفتتحُ‭ ‬الفرزدقُ‭ ‬إِحدى‭ ‬قصائده‭ ‬بحديثه‭ ‬إلى‭ ‬هُنَيدَة‭ ‬بنت‭ ‬صعصعة،‭ ‬ثمَّ‭ ‬البكاء‭ ‬الصبابة،‭ ‬وذكرى‭ ‬الحبيب،‭ ‬والهجر،‭ ‬والفراق‭.‬

أَلَمْ‭ ‬تَرَ‭ ‬أَنِّي،‭ ‬يَوْمَ‭ ‬جَوِّ‭ ‬سُوَيقَةٍ،

بَكَيْتُ‭ ‬فَنَادَتْنِي‭ ‬هُنَيدَةُ‭ ‬مالِيا؟

 

ويُجيبه‭ ‬جرير،‭ ‬وهو‭ ‬يُعاتبُ‭ ‬جدَّه‭ ‬الخطفى‭ ‬بنقيضة‭ ‬مطلعها‭:‬

أَلا‭ ‬حَيِّ‭ ‬رَهْبَى،‭ ‬ثُمَّ‭ ‬حَيِّ‭ ‬المَطالِيَا‭!‬

فَقَد‭ ‬كانَ‭ ‬مَأْنوساً،‭ ‬فَأَصبَحَ‭ ‬خالِيَا

 

وقد‭ ‬استهل‭ ‬جرير‭ ‬نقيضته‭ ‬بتحية‭ ‬المكان،‭ ‬والتذكر،‭ ‬والترابط‭ ‬القائم‭ ‬على‭ ‬تبادل‭ ‬الحنان‭ ‬بين‭ ‬جِماله‭ ‬وجِمال‭ ‬الحي،‭ ‬ويتمنى‭ ‬ألَّا‭ ‬يتفرَّق‭ ‬الحي؛‭ ‬لأَنَّ‭ ‬السنين‭ ‬تُعدُّ‭ ‬قليلة‭ ‬بوجودهم؛‭ ‬فنصف‭ ‬حول‭ ‬يُساوي‭ ‬عددًا‭ ‬من‭ ‬الليالي‭. ‬ثمَّ‭ ‬وقف‭ ‬على‭ ‬ذكر‭ ‬ليلى،‭ ‬ونادى‭ ‬خليليْه‭.‬

ومن‭ ‬النقائض‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬يلجأ‭ ‬الشاعرُ‭ ‬فيها‭ ‬إِلى‭ ‬مُقدِّمةٍ‭ ‬ما‭ ‬قاله‭ ‬الأخطلُ‭ ‬في‭ ‬هجائه‭ ‬لجرير‭:‬

لَقَد‭ ‬جارَيْتَ‭ ‬يا‭ ‬بْنَ‭ ‬أَبي‭ ‬جَريرٍ

عَزُومًا‭ ‬لَيسَ‭ ‬يُنظِرُكَ‭ ‬المِطالا

أَمَّا‭ ‬التَّنَاغم‭ ‬المقدماتي‭ ‬في‭ ‬الأُسلوب‭ ‬فقد‭ ‬جاء‭ ‬في‭ ‬كثيرٍ‭ ‬من‭ ‬المُفتتحات‭ ‬الاستفهاميَّة‭ ‬والتنبيهيَّة،‭ ‬ومن‭ ‬المُفتتحات‭ ‬الاستفهاميَّة‭ ‬عند‭ ‬الأَخطل‭:‬

أَذَكَرتَ‭ ‬عَهدَكَ،‭ ‬فَاِعتَرَتكَ‭ ‬صَبابَةٌ

وَذَكَــــــــــــرتَ‭ ‬مَنـــــزِلَــةً‭ ‬لِآلِ‭ ‬كَـــــــنــــودِ

 

ومنها‭ ‬عند‭ ‬البعيث‭:‬

‭ ‬أَهَاجَ‭ ‬عَلَيْكَ‭ ‬الشَّوقَ‭ ‬أَطلالُ‭ ‬دِمْنَةٍ

بِنَاصِفَةِ‭ ‬الجَوَّيْنِ‭ ‬أَوْ‭ ‬جانِبِ‭ ‬الهَجْلِ

 

ومنها‭ ‬عند‭ ‬الفرزدق‭:‬

أَلَمْ‭ ‬تَرَ‭ ‬أَنِّي،‭ ‬يَوْمَ‭ ‬جَوِّ‭ ‬سُوَيقَةٍ،

بَكَيْتُ‭ ‬فَنَادَتْنِي‭ ‬هُنَيدَةُ‭ ‬مالِيا؟

 

ومن‭ ‬المفتتحات‭ ‬التنبيهية،‭ ‬وهي‭ ‬كثيرة‭ ‬لدى‭ ‬الفرزدق‭ ‬وجرير،‭ ‬قول‭ ‬الفرزدق‭:‬

أَلا‭ ‬مَنْ‭ ‬لِمُعتادٍ‭ ‬مِنَ‭ ‬الحُزنِ‭ ‬عائِدي،

وَهَمٍّ‭ ‬أَتَى‭ ‬دُونَ‭ ‬الشَّرَاسِيفِ‭ ‬عامِدِي؟

 

ومنها‭ ‬عند‭ ‬جرير،‭ ‬قوله‭:‬

أَلا‭ ‬حَــــــــيِّ‭ ‬المــــَنــــــازِلَ‭ ‬بِالجــــِنَابِ،

فَـــــقَد‭ ‬ذَكَّـــــرْنَ‭ ‬عَهْدَكَ‭ ‬بِالشَّبابِ

 

التَّنَاغُم‭ ‬الأُسْلُوبِي

قامتْ‭ ‬النقائضُ‭ ‬في‭ ‬مُجْمَلِها‭ ‬على‭ ‬التناغم‭ ‬الأُسلوبي،‭ ‬وشاع‭ ‬لدى‭ ‬مُعظم‭ ‬شعرائها‭ ‬التجاوب‭ ‬في‭ ‬تكرار‭ ‬أساليب‭ ‬بعينها؛‭ ‬فأصبح‭ ‬التكرار‭- ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬النقيضة‭ ‬الواحدة‭ ‬أو‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬النقائض‭ ‬جميعها‭ - ‬من‭ ‬ظواهرها‭ ‬الأُسْلُوبيَّة،‭ ‬مثل‭ ‬استخداماتهم‭ ‬لـحرفي‭ ‬التحضيض‭: (‬هلَّا‭)‬،‭ ‬و‭(‬ألَّا‭)‬،‭ ‬بصورة‭ ‬مكرورة،‭ ‬وقد‭ ‬استخدمت‭ ‬‮«‬هلَّا‮»‬‭ ‬بكثرة،‭ ‬وهي‭ ‬إِذا‭ ‬دخلتْ‭ ‬على‭ ‬المضارع‭ ‬كانت‭ ‬للحثِّ،‭ ‬وإِذا‭ ‬دخلتْ‭ ‬على‭ ‬الماضي‭ ‬كانت‭ ‬لِلَّومِ‭ ‬والتوبيخ،‭ ‬مثل‭ ‬قول‭ ‬جرير‭:‬

فَهَلَّا‭ ‬كَفِعلِ‭ ‬المازِنِيِّ‭ ‬بْنِ‭ ‬أَخضَرٍ

فَعَلتَ،‭ ‬وَمَن‭ ‬يَصْدُقْ‭ ‬تَهَبْهُ‭ ‬المَظالِمُ‭ ‬

 

ومنه‭ ‬عند‭ ‬الفرزدق‭:‬

بَني‭ ‬نَهشَلٍ‭ ‬هَلَّا‭ ‬أَصابَتْ‭ ‬رِمَاحُكُم

عَلى‭ ‬حَنْثَلٍ‭ ‬فيما‭ ‬يُصادِفْنَ‭ ‬مِرْبَعا

ومنه‭ ‬عند‭ ‬الأخطل‭:‬

هَلَّا‭ ‬مَنَعتَ‭ ‬شُرَحْبيلًا،‭ ‬وَقَد‭ ‬حَدِبَتْ

لَهُ‭ ‬تَمـــيمٌ‭ ‬بِجَــــمعٍ‭ ‬غَــــيرِ‭ ‬أَخــــيارِ

 

ومن‭ ‬التكرار‭ (‬التوازي‭)‬،‭ ‬الذي‭ ‬تَتَعَدَّدُ‭ ‬معه‭ ‬الدلالةُ،‭ ‬مثل‭ ‬قول‭ ‬البعيث‭: ‬

ونحنُ‭ ‬مَنَعنا‭ ‬يومَ‭ ‬عَيْنَيْن‭ ‬مِنقَرًا

‭ ‬ولم‭ ‬نَنْبُ‭ ‬في‭ ‬يوميْ‭ ‬جَدُود‭ ‬عَنِ‭ ‬الأصْلِ

ونحنُ‭ ‬ردَدنا‭ ‬سَبي‭ ‬عَمرو‭ ‬بنِ‭ ‬عامرٍ

مِنَ‭ ‬الجَيشِ‭ ‬إذ‭ ‬سعدُ‭ ‬بنُ‭ ‬ضَبَّةَ‭ ‬في‭ ‬شُغْلِ

ونحنُ‭ ‬مَنَعنا‭ ‬بالكُلاَبِ‭ ‬نِسَاءَنا‭ ‬

بِضَربٍ‭ ‬كأفواه‭ ‬المُقَرَّحَةِ‭ ‬الهُدْلِ

 

ومن‭ ‬التوازي‭ ‬النسقي‭ ‬القائم‭ ‬على‭ ‬التكرار‭ (‬التوازي‭ ‬النحوي‭)‬،‭ ‬في‭ ‬قول‭ ‬جرير‭: ‬

بِأَيِّ‭ ‬نِجادٍ‭ ‬تَحمِلُ‭ ‬السَيفَ‭ ‬بَعدَما

قَطَعتَ‭ ‬القُوى‭ ‬مِن‭ ‬مِحمَلٍ‭ ‬كانَ‭ ‬باقِيا

بِأَيِّ‭ ‬سِنانٍ‭ ‬تَطْعُنُ‭ ‬القَومَ‭ ‬بَعدَما

نَزَعْتَ‭ ‬سِناناً‭ ‬مِن‭ ‬قَناتِكَ‭ ‬ماضِيا

 

وكما‭ ‬في‭ ‬قصيدة‭ ‬الفرزدق،‭ ‬التي‭ ‬يهجو‭ ‬بها‭ ‬جريرًا،‭ ‬ويفخرُ‭ ‬بمآثر‭ ‬قومه‭:‬

وَحَتَّى‭ ‬قَتَلنا‭ ‬الجَهلَ‭ ‬عَنها‭ ‬وَغُودِرَتْ،‭ ‬

إِذا‭ ‬ما‭ ‬أُنيخَتْ،‭ ‬وَالمَدامِعُ‭ ‬ذُرَّفُ

وَحَتَّى‭ ‬مَشى‭ ‬الحادي‭ ‬البَطيءُ‭ ‬يَسُوقُها

لَها‭ ‬بَخَصٌ‭ ‬دامٍ‭ ‬وَدَأْيٌ‭ ‬مُجَلَّفُ

وَحَتَّى‭ ‬بَعَثْنَاهَا‭ ‬وَما‭ ‬في‭ ‬يَدٍ‭ ‬لَها

إِذا‭ ‬حُلَّ‭ ‬عَنها‭ ‬رُمَّةٌ‭ ‬وَهيَ‭ ‬رُسَّفُ

 

وقامتْ‭ ‬النقائضُ‭ ‬على‭ ‬كثرة‭ ‬التَّكْنِيَة،‭ ‬والمعادل،‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬تكنيتهم‭ ‬عن‭ ‬الرجل‭ ‬الرئيس‭ ‬أو‭ ‬الرجال‭ ‬القادة‭ ‬بالفحول،‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬قول‭ ‬جرير‭: ‬‮«‬وصالت‭ ‬قُرومُها‮»‬،‭ ‬وبالنحاس‭ ‬عن‭ ‬النار،‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬قوله‭: ‬‮«‬يُرْمى‭ ‬بالنحاسِ‭ ‬رَجيمُها‮»‬‭. ‬وعن‭ ‬السيوف‭ ‬بالعِصيِّ،‭ ‬وغير‭ ‬ذلك‭. ‬

وكان‭ ‬جرير‭ ‬والفرزدقُ‭ ‬يذكران‭ ‬البعيثَ،‭ ‬وهو‭ (‬خِداش‭ ‬بن‭ ‬بشر‭) ‬بلقبه‭ (‬البعيث‭)‬،‭ ‬أو‭ ‬بكنيته‭ (‬ابن‭ ‬حمراء‭ ‬العجان‭)‬،‭ ‬وكان‭ ‬الفرزدقُ‭ ‬يذكر‭ ‬جريرًا‭ ‬باسمه‭ (‬جرير‭)‬،‭ ‬أو‭ ‬بكنيته‭ (‬ابن‭ ‬المراغة‭). ‬ويقول‭ ‬جرير‭ (‬القَين‭ ‬العِراقِيّ‭)‬،‭ ‬و‭(‬القَين‭ ‬المُقَيَّد‭)‬،‭ ‬يعني‭ ‬بذلك‭ ‬البعيثَ،‭ ‬والفرزدقَ‭ ‬وهو‭ (‬هَمَّام‭ ‬بن‭ ‬غالب‭)‬،‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬يذكر‭ ‬جريرٌ‭ (‬الأخطلَ‭) ‬وهو‭ (‬غياث‭ ‬بن‭ ‬غوث‭) ‬بألقابه‭ ‬المُتَعَدِّدَةِ‭: ‬ومنها‭ (‬دوبل‭)‬،‭ ‬و‭(‬ذو‭ ‬العباية‭)‬،‭ ‬وقد‭ ‬يُصغره‭ ‬فيقول‭: (‬الأُخيطل‭). 

 

التَّنَاغُم‭ ‬الإِشَارِي

حرص‭ ‬شعراءُ‭ ‬النقائض‭ ‬على‭ ‬حشد‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الإِشارات‭ ‬المرجعيَّة‭ ‬التي‭ ‬تُشكِّل‭ ‬مع‭ ‬غيرها‭ ‬من‭ ‬العناصر‭ ‬عُرى‭ ‬القصيدة؛‭ ‬فاتسع‭ ‬فضاء‭ ‬النقائض‭ ‬لكثيرٍ‭ ‬من‭ ‬الأَعلام‭ ‬الأسماء،‭ ‬والبلدان،‭ ‬والأماكن،‭ ‬والأَيَّام،‭ ‬والأَحداث،‭ ‬وعلى‭ ‬سبيل‭ ‬المثال،‭ ‬فقد‭ ‬استدعى‭ ‬البعيثُ‭ ‬من‭ ‬الأسماءِ‭ ‬والألقابِ‭: (‬عمرو‭ ‬بن‭ ‬يربوع‭)‬،‭ ‬وأُمَّه‭ (‬الحَرام‭ ‬بنت‭ ‬العنبر‭)‬،‭ ‬و‭(‬كُليبًا‭ ‬وعمْرًا‭ ‬من‭ ‬بني‭ ‬يربوع‭)‬،‭ ‬و‭(‬أعينَ‭ ‬بن‭ ‬ضُبَيْعَةَ‭)‬،‭ ‬أبا‭ (‬النَّوار‭) ‬امرأة‭ ‬الفرزدق،‭ ‬و‭(‬لؤي‭ ‬بن‭ ‬غالب‭)‬،‭ ‬و‭(‬عمرو‭ ‬بن‭ ‬تميم‭)‬،‭ ‬و‭(‬مالك‭ ‬بن‭ ‬حنظلة‭ ‬بن‭ ‬مالك‭ ‬بن‭ ‬زيد‭ ‬مناة‭ ‬بن‭ ‬تميم‭)‬،‭ ‬و‭(‬الأشعثين‭): (‬الأشعث‭ ‬بن‭ ‬قيس‭ ‬بن‭ ‬معْدي‭ ‬كرب‭ ‬بن‭ ‬جبلة‭ ‬الكندي،‭ ‬وأخا‭ ‬الأشعث‭). ‬و‭(‬خَثْعَم‭)‬،‭ ‬وذكر‭ ‬من‭ ‬أسماء‭ ‬الرياح‭ ‬وصفاتها‭: (‬النافجة‭)‬،‭ ‬ومن‭ ‬الإِبل‭ (‬الجرْويَّة‭)‬،‭ ‬ونسبها‭ ‬إلى‭ ‬جروة،‭ ‬وهم‭ ‬من‭ ‬بني‭ ‬القين‭ ‬بن‭ ‬جسر‭ ‬من‭ ‬قضاعة‭.‬

ثمَّ‭ ‬ذكر‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬الإِشارات‭: (‬صارة‭)‬،‭ (‬القوَّان‭) ‬أو‭ (‬الفرْقان‭)‬،‭ (‬المَرُّوت‭: ‬من‭ ‬بلاد‭ ‬بني‭ ‬تميم‭.)‬،‭ (‬ناصفة‭ ‬الجَوَّيْنِ‭)‬،‭ ‬و‭(‬عُسْفَان‭) ‬وهي‭ ‬على‭ ‬مرحلتين‭ ‬من‭ ‬مكة‭ ‬إلى‭ ‬المدينة،‭ (‬النخل‭)‬،‭ ‬وهو‭ ‬منزل‭ ‬لبني‭ ‬مرّة‭ ‬بن‭ ‬عوف‭ ‬على‭ ‬ليلتين‭ ‬من‭ ‬المدينة‭.‬

كذلك‭ ‬استدعى‭ ‬جرير‭ ‬من‭ ‬الأسماء‭ ‬والكنى‭ ‬والألقاب‭: (‬القعقاع‭ ‬بن‭ ‬مَعْبَد‭ ‬بن‭ ‬زُرارة‭) - ‬وكانتْ‭ (‬أُمُّ‭ ‬البعيث‭) ‬أَمَةً‭ ‬له،‭ ‬واسمها‭ (‬وردة‭) ‬من‭ ‬سبي‭ ‬أصبهان،‭ ‬وقد‭ ‬وهبها‭ ‬لأبي‭ ‬البعيث‭ (‬بشر‭ ‬بن‭ ‬خالد‭)‬؛‭ ‬فولدتْ‭ ‬له‭ (‬البعيث‭) - ‬و‭(‬عوْف‭ ‬بن‭ ‬القعقاع‭ ‬بن‭ ‬مَعْبَد‭ ‬بن‭ ‬زُرارة‭)‬،‭ ‬و‭(‬قيس‭ ‬بن‭ ‬عوف‭ ‬بن‭ ‬القعقاع‭)‬،‭ ‬و‭(‬مورق‭ ‬بن‭ ‬قيس‭ ‬بن‭ ‬عوف‭ ‬بن‭ ‬القعقاع‭)‬،‭ ‬و‭(‬عقال‭ ‬بن‭ ‬محمد‭ ‬بن‭ ‬سفيان‭ ‬بن‭ ‬مجاشع‭)‬،‭ ‬و‭(‬ضَمْضَم‭ ‬بن‭ ‬مرة‭ ‬بن‭ ‬سِيدان‭)‬،‭ ‬و‭(‬عمرو‭ ‬بن‭ ‬تميم‭)‬،‭ ‬و‭(‬مالك‭ ‬بن‭ ‬زيد‭ ‬مناة‭ ‬بن‭ ‬تميم‭)‬،‭ ‬و‭(‬عاصمًا‭ ‬العنبريَّ‭)‬،‭ ‬وكان‭ ‬دليلًا‭ ‬فضلَّ‭ ‬بالفرزدق،‭ ‬و‭(‬ابن‭ ‬ذي‭ ‬الجَدَّيْن‭: ‬بِسطام‭ ‬بن‭ ‬قيس‭)‬،‭ ‬و‭(‬ابن‭ ‬ذَيَّال‭: ‬عمرو‭ ‬بن‭ ‬جُرْموز‭ ‬بن‭ ‬فاتك‭ ‬بن‭ ‬ذيَّال‭ ‬السعدي‭)‬،‭ ‬و‭(‬أبا‭ ‬خالد‭)‬،‭ ‬وهو‭(‬الحارث‭ ‬بن‭ ‬أبي‭ ‬ربيعة‭ ‬المخزومي‭)‬،‭ ‬وكان‭ ‬واليًا‭ ‬على‭ ‬البصرة،‭ ‬و‭(‬بني‭ ‬رَغْوان‭: ‬بني‭ ‬مُجاشِع‭)‬،‭ ‬و‭(‬بني‭ ‬سُريج‭ ‬من‭ ‬بني‭ ‬مُعرض‭ ‬بن‭ ‬عمرو‭ ‬بن‭ ‬أسد‭ ‬بن‭ ‬خُزَيْمة،‭ ‬وكانوا‭ ‬قُيونًا‭)‬،‭ ‬و‭(‬بَني‭ ‬قُرَيع‭) ‬من‭ ‬تميم‭ ‬ابن‭ ‬مرة،‭ ‬و‭(‬الصِّمَّتين‭: ‬معاوية‭ ‬بن‭ ‬مالك‭ ‬بن‭ ‬علقة‭ ‬بن‭ ‬غزية‭ ‬وأخاه‭)‬،‭ ‬و‭(‬العلوج‭: ‬كفار‭ ‬اليمن‭)‬،‭ ‬و‭(‬عُقر‭ ‬جِعثِن‭)‬،‭ ‬و‭(‬غالِب‭)‬،‭ ‬و‭(‬الزُبرِقان‭).‬

وجاء‭ ‬مِن‭ ‬أَسماء‭ ‬الأماكن‭ ‬والمواضع‭ ‬عنده‭: (‬سلمانان‭: ‬أرض‭ ‬أو‭ ‬جبلان‭)‬،‭ (‬ناظِرَة‭: ‬ماء‭ ‬لبني‭ ‬عبس‭)‬،‭ (‬كِنْهِل‭: ‬موضع‭ ‬من‭ ‬بلاد‭ ‬بني‭ ‬تميم‭)‬،‭ (‬السِّباقان‭: ‬واديان‭)‬،‭ ‬و‭(‬المِنْبر‭ ‬الشرقي‭ ‬بالبصرة‭). ‬و‭(‬السيّ‭) ‬على‭ ‬ثلاث‭ ‬مراحل‭ ‬من‭ ‬مكة‭ ‬إلى‭ ‬البصرة،‭ (‬حرَّة‭ ‬ليلى‭: ‬لبني‭ ‬سليم‭)‬،‭ ‬و‭(‬العقيق‭: ‬وادٍ‭ ‬لبني‭ ‬كلاب‭ ‬يلي‭ ‬اليمن‭). ‬و‭(‬رهبى‭: ‬موضع‭)‬،‭ ‬و‭(‬المطالي‭: ‬مسيل‭ ‬ضيق‭ ‬من‭ ‬الأرض‭)‬،‭ ‬و‭(‬اللوى‭)‬،‭ ‬و‭(‬خُفاف‭ ‬الطير‭: ‬أرض‭ ‬لبني‭ ‬أسد‭ ‬وحنظلة‭ ‬يكثر‭ ‬فيها‭ ‬الطير‭)‬،‭ ‬ومِن‭ ‬أَسماء‭ ‬النبات‭: ‬القيصوم‭: (‬أواديَ‭ ‬ذي‭ ‬القيصومِ‭ ‬أمرعتَ‭ ‬واديا‭). ‬

وذكر‭ ‬البعيثُ‭ ‬من‭ ‬الأيام‭: (‬يوم‭ ‬عينين‭)‬،‭ ‬و‭(‬يوم‭ ‬جدود‭)‬،‭ ‬و‭(‬يوم‭ ‬الكُلاب‭ ‬الثاني‭)‬،‭ ‬كما‭ ‬أورد‭ ‬جرير‭ ‬منها‭: (‬يوم‭ ‬الواردات‭)‬،‭ ‬وهو‭ ‬يوم‭ (‬اللوى‭)‬،‭ ‬ويوم‭ (‬عُبيدالله‭ ‬بن‭ ‬زياد‭ ‬ابن‭ ‬أبيه‭)‬،‭ ‬و‭(‬يوم‭ ‬عاقل‭). ‬و‭(‬يوم‭ ‬طيِّئٍ‭)‬،‭ ‬و‭(‬يوم‭ ‬نجران‭)‬،‭ ‬و‭(‬يوم‭ ‬ذي‭ ‬الأثل‭)‬،‭ ‬وفيه‭ ‬مقتل‭ ‬صخر‭ ‬بن‭ ‬عمرو‭ ‬بن‭ ‬الشريد‭.‬

ومن‭ ‬استدعاءات‭ ‬الفرزدق‭ ‬لمثل‭ ‬هذه‭ ‬الإِشارات‭: (‬هُنَيدَةُ‭ ‬بنت‭ ‬صعصعة‭: ‬امرأة‭ ‬الزبرقان‭ ‬بن‭ ‬بدر،‭ ‬وعمَّة‭ ‬الفرزدق‭.)‬،‭ ‬و‭(‬آل‭ ‬قُرط‭ ‬بن‭ ‬سفيان‭ ‬بن‭ ‬مجاشع‭)‬،‭ ‬و‭(‬ابنَا‭ ‬عِقال‭: ‬ناجية‭ ‬وحابس‭)‬،‭ ‬و‭(‬أُمُّ‭ ‬غالب‭ ‬بن‭ ‬صعصعة‭ ‬ليلى‭ ‬بنت‭ ‬حابس‭ ‬بن‭ ‬عقال‭ ‬أخت‭ ‬الأقرع‭ ‬بن‭ ‬حابس‭)‬،‭ ‬و‭(‬الشِّيخانِ‭)‬،‭ ‬أو‭ (‬الشَيْخانِ‭ ‬مِن‭ ‬آلِ‭ ‬دارِم‭: ‬ناجية‭ ‬وحابس‭ ‬ابنا‭ ‬عقال‭)‬،‭ ‬و‭(‬مَعَدٌّ‭)‬،‭ ‬و‭(‬كليب‭)‬،‭ ‬و‭(‬عطيَّة‭)‬،‭ ‬و‭(‬بنو‭ ‬سفيان‭)‬،‭ ‬و‭(‬دارم‭)‬،‭ ‬و‭(‬حاجب‭)‬،‭ ‬و‭(‬القعقاع‭)‬،‭ ‬و‭(‬صعصعة‭)‬،‭ ‬و‭(‬أبو‭ ‬شريح‭)‬،‭ ‬و‭(‬سلمى‭)‬،‭ ‬و‭(‬الأقرع‭)‬،‭ ‬و‭(‬هوذة‭)‬،‭ ‬و‭(‬بنات‭ ‬عوف‭)‬،‭ ‬و‭(‬العقيق‭ ‬اليماني‭: ‬وادٍ‭ ‬لبني‭ ‬عامر‭ ‬بن‭ ‬صعصعة‭)‬،‭ ‬و‭(‬عُمَان‭)‬،‭ ‬و‭(‬جبال‭ ‬مصر‭)‬،‭ ‬و‭(‬مكة‭)‬،‭ ‬و‭(‬المصلى‭)‬،‭ ‬و‭(‬جبال‭ ‬تهامة‭)‬،‭ ‬ومن‭ ‬الأيام‭: (‬يوم‭ ‬زرود‭)‬،‭ ‬بين‭ ‬تغلب‭ ‬وبني‭ ‬يربوع‭.‬

وتُمثلُّ‭ ‬هذه‭ ‬الأَسماء،‭ ‬والكنى،‭ ‬والألقاب،‭ ‬وغيرها‭ - ‬مِمَّا‭ ‬ورد‭ ‬في‭ ‬النقائض‭ - ‬إِشاراتٍ‭ ‬ورموزًا‭ ‬تعمل‭ ‬معًا‭ ‬على‭ ‬تكوين‭ ‬النسيج‭ ‬النصي‭ ‬والدلالي‭ ‬للنقيضة،‭ ‬وتُشكِّل‭ ‬صورًا‭ ‬من‭ ‬الانزياح‭ ‬الاستبدالي‭ ‬فيها،‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬قول‭ ‬جرير‭: ‬

تَمَنَّى‭ ‬رِجالٌ‭ ‬مِن‭ ‬تَميمٍ‭ ‬لِيَ‭ ‬الرَّدى،

وَما‭ ‬ذادَ‭ ‬عَن‭ ‬أَحسابِهِمْ‭ ‬ذائِدٌ‭ ‬مِثلي

 

وهو‭ ‬يُشير‭ ‬بقوله‭: (‬رجال‭ ‬من‭ ‬تميم‭) ‬إلى‭ (‬الفرزدق‭ ‬بن‭ ‬غالب‭)‬،‭ ‬و‭(‬البعيث‭ ‬بن‭ ‬بشر‭)‬،‭ ‬و‭(‬عمرو‭ ‬بن‭ ‬لجأ‭)‬،‭ ‬و‭(‬غسان‭ ‬بن‭ ‬ذُهيل‭ ‬السليطي‭)‬،‭ ‬و‭(‬المستنير‭ ‬بن‭ ‬عمرو‭).‬

كما‭ ‬أَسْهَمتْ‭ ‬هذه‭ ‬الإِشارات‭ ‬في‭ ‬تفسير‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الحكايات‭ ‬والأحداث،‭ ‬وعملتْ‭ ‬بمنزلة‭ ‬أَيْقونات‭ ‬للفخر‭ ‬والخزي،‭ ‬مثل‭ ‬ذكر‭ ‬جرير‭ ‬لكلٍّ‭ ‬من‭ (‬بَيْبَة‭): ‬جدَّة‭ ‬البعيث،‭ ‬و‭(‬وردة‭): ‬أم‭ ‬البعيث‭. ‬

ولعل‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬الإِشارات‭ ‬هي‭ ‬المادة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تقوم‭ ‬عليها‭ ‬النقيضة،‭ ‬وقد‭ ‬تكون‭ ‬مشتركة‭ ‬بين‭ ‬شاعرين‭ ‬أو‭ ‬أكثر،‭ ‬أو‭ ‬ينفرد‭ ‬أحد‭ ‬الشعراء‭ ‬ببعضها‭.‬

كما‭ ‬اشتركتْ‭ ‬بعضُ‭ ‬النقائض‭ ‬في‭ ‬كثيرٍ‭ ‬من‭ ‬المفردات‭ ‬اللغوية‭ ‬والمعجمية،‭ ‬والتراكيب،‭ ‬وقد‭ ‬عُرِفَ‭ ‬الفرزدقُ‭ ‬بتركيبه‭ ‬الشهير‭ (‬فَجِئني‭ ‬بِمِثلِهِم‭) ‬من‭ ‬قوله‭:‬

أولَئِكَ‭ ‬آبائي،‭ ‬فَجِئْنِي‭ ‬بِمِثلِهِمْ،

إِذا‭ ‬جَمَعَتْنَا‭ ‬يَا‭ ‬جَريرُ‭ ‬المَجامِعُ‭ ‬

 

وقوله‭:‬

ثَلاثَةُ‭ ‬أَسْلافٍ‭ ‬فَجِئني‭ ‬بِمِثلِهِمْ،

فَكُلٌّ‭ ‬لَهُ،‭ ‬يا‭ ‬ابْنَ‭ ‬المَراغَةِ،‭ ‬أَوَّلُ

 

ومنه‭ ‬عند‭ ‬جرير،‭ ‬وهو‭ ‬يُشير‭ ‬إِلى‭ ‬تغلب‭:‬

جِئْني‭ ‬بِمِثلِ‭ ‬بَني‭ ‬بَدرٍ‭ ‬لِقَوْمِهِمُ،

أَوْ‭ ‬مِثلِ‭ ‬أُسرَةِ‭ ‬مَنظورِ‭ ‬بنِ‭ ‬سَيَّارِ‭ ‬

 

ولعل‭ ‬الذي‭ ‬يُكمل‭ ‬هذه‭ ‬الحلقة‭ ‬من‭ ‬التناغمات‭ ‬هو‭ ‬التناغم‭ ‬الروحي،‭ ‬فعلى‭ ‬الرغم‭ ‬مِمَّا‭ ‬كان‭ ‬يحدث‭ ‬بين‭ ‬شعراء‭ ‬النقائض‭ ‬من‭ ‬معارك‭ ‬تتقطَّعُ‭ ‬معها‭ ‬السبل؛‭ ‬فإِنَّ‭ ‬الرابط‭ ‬الإِنساني‭ ‬كان‭ ‬حيًّا‭ ‬يقظًا‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬المواقف‭ ‬الصادقة،‭ ‬ومنها‭ ‬قول‭ ‬الفرزدق‭ ‬عن‭ ‬جرير‭: ‬‮«‬ويل‭ ‬ابن‭ ‬المراغة‭! ‬ما‭ ‬كان‭ ‬أحوجه‭ ‬مع‭ ‬عفافه‭ ‬إلى‭ ‬صلابة‭ ‬شعري،‭ ‬وأحوجني‭ ‬مع‭ ‬شهواتي‭ ‬إلى‭ ‬رقّة‭ ‬شعره‭!‬‮»‬‭.‬

وجاء‭ ‬أَنَّ‭ ‬عِكْرمَة‭ ‬بن‭ ‬جرير‭ ‬قال‭: ‬‮«‬قلتُ‭ ‬لأَبى‭: ‬مَنْ‭ ‬أَشعر‭ ‬النَّاس؟‭ ‬قال‭: ‬أَجاهليَّة‭ ‬أَم‭ ‬إسلاميَّة؟‭ ‬قلتُ‭: ‬جاهليَّة،‭ ‬قال‭: ‬زُهير،‭ ‬قلتُ‭: ‬فالإِسلام؟‭ ‬قال‭: ‬الفرزدق،‭ ‬قلتُ‭: ‬فالأخطلُ؟‭ ‬قال‭: ‬الأخطل‭ ‬يُجيد‭ ‬نعتَ‭ ‬الملوكِ‭ ‬ويُصيبُ‭ ‬صفةَ‭ ‬الخمرِ،‭ ‬قلتُ‭ ‬له‭: ‬فأنت؟‭ ‬قال‭: ‬أنا‭ ‬نحرتُ‭ ‬الشِّعرَ‭ ‬نحرًا‮»‬‭.‬

‮«‬وقال‭ ‬أبو‭ ‬عمرو‭: ‬سُئل‭ ‬الأَخطلُ‭: ‬أيُّكم‭ ‬أَشْعرُ؟‭ ‬قال‭: ‬أنا‭ ‬أمْدَحُهم‭ ‬للموك‭ ‬وأنعتُهم‭ ‬للخمر‭ ‬والحُمْر،‭ ‬يعنى‭ ‬النساءَ،‭ ‬وأما‭ ‬جرير‭ ‬فأَنْسَبُنَا‭ ‬وأَشْبَهُنَا،‭ ‬وأما‭ ‬الفرزدقُ‭ ‬فأَفْخَرُنَا‮»‬‭.‬

ولمَّا‭ ‬مات‭ ‬الفرزدقُ‭ ‬رثاه‭ ‬جرير‭ ‬بقوله‭:‬

فُجِعنا‭ ‬بِحَمَّالِ‭ ‬الدّيَاتِ‭ ‬ابْنِ‭ ‬غالِبٍ

وَحامي‭ ‬تَميمٍ‭ ‬عِرْضَها‭ ‬وَالمُراجِمِ‭ ‬■