أدونيس يتخطّى الـ 90 جَسَّد هموم الإنسان المعاصر

أدونيس يتخطّى الـ 90 جَسَّد هموم الإنسان المعاصر

في الأول من يناير هذا العام، أتمّ الشاعر السوري الكبير أدونيس عامه الـ 91، فهو من مواليد قصابين في سورية عام 1930، وبدأ تعلُّم القراءة والكتابة في سن متأخرة عندما بلغ الثالثة عشرة من العمر، وأعجب الرئيس السوري الأسبق شكري القوتلي بشعره عام 1944، فألحقه بالمدرسة الفرنسية وتخرّج في قسم الفلسفة بجامعة دمشق عام 1954، ثم التحق بجامعة القديس يوسف في لبنان عام، ليحصل منها على الدكتوراه في الآداب عام 1973، وأصدر مجلة مواقف عام 1969، ثم اشترك مع يوسف الخال في تحرير مجلة شعر عام 1975، وعمل أستاذًا زائرًا في العديد من الجامعات الأوربية. أدونيس ملء السمع والبصر في الحياة الثقافية العربية، فهو لم ينجح في تجاوز البلاغة التقليدية فقط، بل كان جسورًا في معالجته الحداثية، ومغامرًا في اكتشاف جماليات القبح. فقد صاغ رؤية شعرية متكاملة للوجود قضاياها الأساسية: الإنسان، والمطلق والطبيعة، والحب والموت، والقلق والجنون، والجسد والغربة.

لعل‭ ‬المساهمة‭ ‬البارزة‭ ‬التي‭ ‬قدّمها‭ ‬صاحب‭ ‬ديوان‭ ‬‮«‬أوراق‭ ‬في‭ ‬الريح‮»‬‭ ‬في‭ ‬النقلة‭ ‬الشعرية‭ ‬التي‭ ‬قفزت‭ ‬بالشعر‭ ‬العربي‭ ‬الحديث‭ ‬عند‭ ‬منتصف‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬من‭ ‬طور‭ ‬العمود‭ ‬التقليدي‭ ‬القديم‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬سُمّي‭ ‬الشعر‭ ‬الحر‭ ‬أو‭ ‬شعر‭ ‬التفعيلة،‭ ‬الذي‭ ‬هجر‭ ‬الوزن‭ ‬الواحد‭ ‬والقافية‭ ‬الواحدة‭ ‬إلى‭ ‬الوزن‭ ‬المتنوع‭ ‬والقافية‭ ‬المتراوحة،‭ ‬وهجر‭ ‬الأغراض‭ ‬التقليدية‭ ‬القديمة‭ ‬إلى‭ ‬معاناة‭ ‬الإنسان‭ ‬المعاصر،‭ ‬وهي‭ ‬النقلة‭ ‬التي‭ ‬يعتبرها‭ ‬نقاد‭ ‬كثيرون‭ ‬أول‭ ‬نقلة‭ ‬‮«‬كيفية‮»‬‭ ‬أو‭(‬شبه‭ ‬كيفية‭) ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬العربي‭ ‬بعد‭ ‬تململات‭ ‬جزئية‭ ‬عديدة‭. ‬

كما‭ ‬أن‭ ‬الجهد‭ ‬المرموق‭ ‬الذي‭ ‬بذله‭ ‬صاحب‭ ‬‮«‬زمن‭ ‬الشعر‮»‬‭ ‬في‭ ‬تجديد‭ ‬النظر‭ ‬إلى‭ ‬التراث‭ ‬العربي،‭ ‬لاسيما‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬العلامة‭ ‬‮«‬الثابت‭ ‬والمتحول‮»‬،‭ ‬جاء‭ ‬متواكبًا‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬مع‭ ‬جهود‭ ‬مفكرين‭ ‬كبار‭ ‬قلّبوا‭ ‬النظر‭ ‬في‭ ‬التراث‭ ‬القديم‭ ‬برؤى‭ ‬معارضة‭.‬

كانت‭ ‬إطلالة‭ ‬أدونيس‭ ‬على‭ ‬التراث‭ ‬إطلالة‭ ‬نقدية،‭ ‬ميزت‭ ‬في‭ ‬مسيرة‭ ‬هذا‭ ‬التراث‭ ‬بين‭ ‬تيارين‭ ‬رئيسين؛‭ ‬الأول‭ ‬هو‭ ‬تيار‭ ‬الجمود‭ ‬والثبات،‭ ‬والاتباع‭. ‬والثاني‭ ‬هو‭ ‬تيار‭ ‬الحركة‭ ‬والتحول‭ ‬والإبداع،‭ ‬موضحة‭ ‬أن‭ ‬مسار‭ ‬هذا‭ ‬الفكر‭ ‬هو‭ ‬مسار‭ ‬الصراع‭ ‬بين‭ ‬هذين‭ ‬التيارين‭ ‬الكبيرين،‭ ‬وقد‭ ‬انحاز‭ ‬صاحب‭ ‬‮«‬مقدمة‭ ‬للشعر‭ ‬العربي‮»‬‭ ‬لتيار‭ ‬الحركة‭ ‬والتحول،‭ ‬منتقدًا‭ ‬تيار‭ ‬الجمود‭ ‬والثبات‭ ‬أشد‭ ‬الانتقاد‭.‬

وقد‭ ‬عرَّف‭ ‬أدونيس‭ ‬‮«‬الثابت‮»‬‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية‭ ‬بأنه‭ ‬‮«‬الفكر‭ ‬الذي‭ ‬ينهض‭ ‬على‭ ‬النص،‭ ‬ويتخذ‭ ‬من‭ ‬ثباته‭ ‬حجة‭ ‬لثباته‭ ‬هو،‭ ‬فهمًا‭ ‬وتقويمًا،‭ ‬ويفرض‭ ‬نفسه‭ ‬بوصفه‭ ‬المعنى‭ ‬الصحيح‭ ‬الوحيد‭ ‬لهذا‭ ‬النص،‭ ‬وبوصفه‭ - ‬استنادًا‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ - ‬سلطة‭ ‬معرفية‮»‬‭.‬

ويعرّف‭ ‬‮«‬المتحوِّل‮»‬‭ ‬بأنه‭: ‬‮«‬إما‭ ‬الفكر‭ ‬الذي‭ ‬ينهض‭ ‬هو‭ ‬أيضًا‭ ‬على‭ ‬النص،‭ ‬لكن‭ ‬بتأويل‭ ‬يجعل‭ ‬النص‭ ‬قابلاً‭ ‬للتكيف‭ ‬مع‭ ‬الواقع‭ ‬وتجدده،‭ ‬وإما‭ ‬أنه‭ ‬الفكر‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يرى‭ ‬في‭ ‬النص‭ ‬أي‭ ‬مرجعية،‭ ‬ويعتمد‭ ‬أساسًا‭ ‬على‭ ‬العقل‭ ‬وليس‭ ‬على‭ ‬النقل‮»‬‭.‬

وفي‭ ‬سياق‭ ‬هذا‭ ‬الانحياز،‭ ‬كشف‭ ‬لنا‭ ‬أدونيس‭ ‬عن‭ ‬ينابيع‭ ‬الفلسفة‭ ‬الصوفية‭ ‬الإسلامية،‭ ‬بوصفها‭ ‬تجسيدًا‭ ‬من‭ ‬تجسيدات‭ ‬هذا‭ ‬التيار‭ ‬المتحرك‭ ‬المتحول،‭ ‬وعبرت‭ ‬عن‭ ‬حريته‭ ‬وتوحّده‭ ‬مع‭ ‬الكون،‭ ‬ومصارعة‭ ‬الموت‭ ‬والإقبال‭ ‬على‭ ‬الحياة‭.‬

 

المعرفة‭ ‬الإشراقية

اعتمد‭ ‬أدونيس‭ ‬المعرفة‭ ‬الإشراقيـة‭ ‬العرفانية‭ ‬بديلًا‭ ‬للمعرفة‭ ‬النقلية‭ ‬والعقلية،‭ ‬وفي‭ ‬السياق‭ ‬ذاته‭ ‬عرفنا‭ ‬بالوجوه‭ ‬الفاعلة‭ ‬المتحررة‭ ‬المستنيرة‭ ‬في‭ ‬تراثنا‭ ‬الفكري‭ ‬والفلسفي‭ ‬والجمالي،‭ ‬كما‭ ‬قدّم‭ ‬ضمن‭ ‬هذا‭ ‬المنظور‭ ‬مختاراته‭ ‬من‭ ‬الشعر‭ ‬العربي‭ ‬القديم‭ ‬‮«‬في‭ ‬عمله‭ ‬الضخــم‭ ‬ديوان‭ ‬الشعر‭ ‬العربي‮»‬‭.‬

وربما‭ ‬يأخذ‭ ‬البعض‭ ‬على‭ ‬معالجة‭ ‬صاحب‭ ‬‮«‬فاتحة‭ ‬لنهايات‭ ‬القرن‮»‬‭ ‬للتراث‭ ‬أنها‭ ‬معالجة‭ ‬اتسمت‭ ‬بالمثالية‭ ‬الفكرية‭ ‬التي‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬تفسير‭ ‬الفكر‭ ‬بالفكر‭ ‬وردّ‭ ‬الظواهر‭ ‬الفلسفية‭ ‬إلى‭ ‬ظواهر‭ ‬فلسفية‭ ‬أخرى،‭ ‬في‭ ‬غياب‭ ‬للأرضية‭ ‬الاجتماعية‭ ‬التي‭ ‬أنتجت‭ ‬هذا‭ ‬الفكر‭ ‬وهذه‭ ‬الفلسفات‭. ‬على‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬المأخذ‭ ‬‮«‬الذي‭ ‬يمكن‭ ‬رصده‭ ‬على‭ ‬عمل‭ ‬مفكرين‭ ‬آخرين‮»‬‭ ‬لا‭ ‬يغضّ‭ ‬من‭ ‬حقيقة‭ ‬أن‭ ‬أدونيس‭ ‬واحد‭ ‬من‭ ‬كبار‭ ‬العاكفين‭ ‬عكوفًا‭ ‬نقديًا‭ ‬على‭ ‬التراث‭ ‬العربي،‭ ‬بما‭ ‬يدحض‭ ‬خصومة‭ ‬الذين‭ ‬ادعوا‭ ‬معاداته‭ ‬لهذا‭ ‬التراث‭.‬

كما‭ ‬قاد‭ ‬صاحب‭ ‬‮«‬كتاب‭ ‬التحولات‭ ‬والهجرة‭ ‬في‭ ‬أقاليم‭ ‬الليل‭ ‬والنهار‮»‬‭ ‬ثورة‭ ‬الحداثة‭ ‬الشعرية‭ ‬كمنهج‭ ‬للكتابة‭ ‬الإبداعية،‭ ‬متنقلًا‭ ‬بالتجربة‭ ‬الشعرية‭ ‬من‭ ‬طور‭ ‬‮«‬الحديث‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬طور‭ ‬‮«‬الحداثة‮»‬،‭ ‬فهو‭ ‬يؤكد‭ ‬أن‭ ‬الحداثة‭ ‬ليست‭ ‬حكرًا‭ ‬على‭ ‬عصر،‭ ‬وليست‭ ‬مطلقة‭ ‬فوق‭ ‬المكان‭ ‬والزمان،‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬نسبية‭ ‬تاريخية‭ ‬متغيرة،‭ ‬إذ‭ ‬لكل‭ ‬عصر‭ ‬حداثته‭ ‬‮«‬فيغدو‭ ‬أبو‭ ‬تمام‭ ‬حداثيًا‭ ‬بمقياس‭ ‬لحظته‭ ‬التاريخية،‭ ‬كذلك‭ ‬الحلاج‭ ‬وجبران‭ ‬خليل‭ ‬جبران‮»‬‭. ‬

كما‭ ‬أطلق‭ ‬صاحب‭ ‬ديوان‭ ‬‮«‬كتاب‭ ‬الحصار‮»‬‭ ‬دعوة‭ ‬الهدم‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬البناء،‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬لا‭ ‬يؤمن‭ ‬بـ«الترقيع‮»‬‭ ‬أو«الترميم‮»‬،‭ ‬بل‭ ‬يتبنى‭ ‬‮«‬النقض‮»‬‭ ‬الكامل‭ ‬للبناء‭ ‬القديم‭ ‬لتأسيس‭ ‬أبنية‭ ‬جديدة‭.‬

ويدعو‭ ‬صاحب‭ ‬ديوان‭ ‬‮«‬أغاني‭ ‬مهيار‭ ‬الدمشقي‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬تفجير‭ ‬اللغة‭ ‬تفجيرات‭ ‬جديدة،‭ ‬وهي‭ ‬الدعوة‭ ‬التي‭ ‬أساء‭ ‬فهمها‭ ‬التقليديون،‭ ‬زاعمين‭ ‬أنه‭ ‬يريد‭ ‬‮«‬تدمير‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‮»‬،‭ ‬والمعنى‭ ‬عند‭ ‬أدونيس‭ ‬هو‭ ‬شحن‭ ‬اللغة‭ ‬بدلالات‭ ‬أبعد‭ ‬من‭ ‬حمولتها‭ ‬القاموسية‭ ‬المتكلسة‭. ‬ويؤكد‭ ‬صاحب‭ ‬‮«‬أبجدية‭ ‬ثانية‮»‬‭ ‬أن‭ ‬القصيدة‭ ‬الثورية‭ ‬أو‭ ‬التقدمية‭ ‬ليست‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬تحمل‭ ‬مضمونًا‭ ‬ثوريًا‭ ‬أو‭ ‬تقدميًا‭ ‬فحسب‭ ‬داخل‭ ‬أساليب‭ ‬فنية‭ ‬جمالية‭ ‬تقليدية‭ ‬أو‭ ‬قديمة،‭ ‬فالمعنى‭ ‬الشريف‭ ‬أو‭ ‬الرفيع‭ ‬لا‭ ‬يضمن‭ ‬وحده‭ ‬نصًا‭ ‬جميلًا‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬الطرائق‭ ‬الفنية‭ ‬جديدة‭ ‬مضيئة‭. ‬

بهذا‭ ‬المنظور‭ ‬الفني‭ ‬انتقد‭ ‬أدونيس‭ ‬بعض‭ ‬شعراء‭ ‬المقاومة‭ ‬الفلسطينية،‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬بعض‭ ‬مبدعيه‭ ‬ومحبيه‭ ‬يرون‭ ‬أن‭ ‬نُبل‭ ‬القضية‭ ‬يضمن‭ ‬بذاته‭ ‬جمال‭ ‬الشعر،‭ ‬بغضّ‭ ‬النظر‭ ‬عن‭ ‬المباشرة‭ ‬السطحية‭ ‬الزاعقة‭.‬

 

احترام‭ ‬التراث‭ ‬السابق

كما‭ ‬قدّم‭ ‬صاحب‭ ‬‮«‬سياسة‭ ‬الشعر‮»‬‭ ‬نموذجًا‭ ‬صحيًا‭ ‬لمبدأ‭ ‬القطيعة‭ ‬المعرفية‭ ‬الجدلية،‭ ‬وهو‭ ‬النموذج‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬ينزلق‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬عدمية‮»‬‭ ‬إلغاء‭ ‬التراث‭ ‬كلية،‭ ‬ولا‭ ‬ينزلق‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬عدمية‮»‬‭ ‬الذوبان‭ ‬في‭ ‬التراث‭ ‬كلية‭. ‬فالعدمية‭ ‬الأولى‭ ‬‮«‬انخلاع‮»‬‭ ‬عن‭ ‬الجذور‭ ‬إلى‭ ‬الفراغ،‭ ‬والعدمية‭ ‬الثانية‭ ‬‮«‬تحكيم‮»‬‭ ‬للماضي‭ ‬في‭ ‬الحاضر‭ ‬والمستقبل‭. ‬علينا‭ ‬أن‭ ‬نعرف‭ ‬السابق‭ ‬ونهضمه‭ ‬ونفرزه‭ ‬خلقًا‭ ‬آخر‭ ‬جديدًا،‭ ‬متجاوزًا‭ ‬في‭ ‬جملة‭ ‬‮«‬ننقد‭ ‬تراث‭ ‬الاتّباع‮»‬‭ ‬ونقاومه،‭ ‬ونتبنى‭ ‬تراث‭ ‬‮«‬الإبداع‮»‬‭ ‬ونضيف‭ ‬إليه‭.‬

وفي‭ ‬سياق‭ ‬احترام‭ ‬التراث‭ ‬السابق،‭ ‬قدّم‭ ‬صاحب‭ ‬ديوان‭ ‬‮«‬وقت‭ ‬بين‭ ‬الرماد‭ ‬والورد‮»‬‭ ‬مختارات‭ ‬مع‭ ‬مقدمات‭ ‬نظرية‭ ‬للسياب‭ ‬وشوقي‭ ‬والرصافي‭ ‬والزهاوي‭ ‬والكواكبي‭ ‬ومحمد‭ ‬عبده‭ ‬ومحمد‭ ‬رشيد‭ ‬رضا‭ ‬ومحمد‭ ‬بن‭ ‬عبدالوهاب‭. ‬وبسبب‭ ‬بعض‭ ‬هذه‭ ‬المختارات‭ ‬ناله‭ ‬بعض‭ ‬الرذاذ،‭ ‬فاتهمه‭ ‬البعض‭ ‬بمعاداة‭ ‬مصر‭ ‬‮«‬لانتقاده‭ ‬شوقي‮»‬،‭ ‬متجاهلين‭ ‬أنه‭ ‬انتقد‭ ‬كلاسيكية‭ ‬شوقي،‭ ‬كما‭ ‬انتقد‭ ‬كلاسيكية‭ ‬الرصافي‭ ‬والزهاوي‭ ‬وبدوي‭ ‬الجبل‭ (‬وهم‭ ‬غير‭ ‬مصريين‭). ‬

وقد‭ ‬شارك‭ ‬صاحب‭ ‬ديوان‭ ‬‮«‬تنبَّأ‭ ‬أيها‭ ‬الأعمى‮»‬‭ ‬في‭ ‬قيادة‭ ‬تيار‭ ‬‮«‬قصيدة‭ ‬النثر‮»‬،‭ ‬إبداعًا‭ ‬وتنظيرًا،‭ ‬منذ‭ ‬النصف‭ ‬الثاني‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬بانيًا‭ ‬موقفه‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬الشعر‭ ‬ليس‭ ‬له‭ ‬‮«‬مازورة‮»‬‭ ‬ثابتة‭ ‬أبدية‭ ‬خالدة،‭ ‬عابرة‭ ‬للتاريخ‭ ‬والجغرافيا،‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬‮«‬مازورة‮»‬‭ ‬متغيّرة‭ ‬من‭ ‬عصر‭ ‬لعصر،‭ ‬وقد‭ ‬بيّن‭ ‬أدونيس‭ ‬مرجعية‭ ‬قصيدة‭ ‬النثر‭ ‬بالإشارة‭ ‬إلى‭ ‬مصدرين؛‭ ‬الأول‭ ‬قصيدة‭ ‬النثر‭ ‬الغربية‭ ‬‮«‬سوزان‭ ‬برنار‭ ‬وبودلير‮»‬،‭ ‬والثاني‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬تكتنزه‭ ‬نصوص‭ ‬المتصوفة‭ ‬الإسلاميين‭ ‬من‭ ‬جذور‭ ‬‮«‬أو‭ ‬بذور‮»‬،‭ ‬ثم‭ ‬أكد‭ - ‬برغم‭ ‬هذين‭ ‬المصدرين‭ - ‬أن‭ ‬شرعية‭ ‬قصيدة‭ ‬النثر‭ ‬الأولى‭ ‬هي‭ ‬‮«‬ضرورتها‮»‬‭ ‬كحاجة‭ ‬جمالية،‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬لم‭ ‬توجد‭ ‬في‭ ‬الغرب‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬تراثنا‭ ‬القديم‭.‬

على‭ ‬أن‭ ‬مساهمة‭ ‬صاحب‭ ‬ديوان‭ ‬‮«‬كتاب‭ ‬القصائد‭ ‬الخمس‮»‬‭ ‬في‭ ‬ريادة‭ ‬قصيدة‭ ‬النثر‭ ‬لم‭ ‬تمنعه‭ ‬من‭ ‬الاستمرار‭ ‬في‭ ‬الإبداع‭ ‬على‭ ‬شكل‭ ‬‮«‬التفعيلة‮»‬،‭ ‬بل‭ ‬على‭ ‬الشكل‭ ‬العمودي‭ ‬القديم،‭ ‬تدليلًا‭ ‬منه‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬الشعر‭ ‬ليس‭ ‬له‭ ‬منبع‭ ‬واحد‭ ‬وحيد‭. ‬كما‭ ‬لم‭ ‬تمنعه‭ ‬من‭ ‬انتقاد‭ ‬بعض‭ ‬تجارب‭ ‬الأجيال‭ ‬الشابة‭ ‬في‭ ‬قصيدة‭ ‬النثر،‭ ‬حينما‭ ‬غرق‭ ‬بعض‭ ‬هؤلاء‭ ‬في‭ ‬الاستسهال‭ ‬والتكرار‭ ‬والركاكة،‭ ‬ونداؤها‭ ‬هنا‭ ‬أن‭ ‬إنكار‭ ‬الحداثيين‭ ‬لتقديس‭ ‬العمود‭ ‬القديم‭ ‬ينبغي‭ ‬ألا‭ ‬يسلمهم‭ ‬إلى‭ ‬تقديس‭ ‬قصيدة‭ ‬النثر،‭ ‬فكــلا‭ ‬التقديسـيَن‭ ‬مرفــوض‭ ‬ذميم‭.‬

 

تلاقح‭ ‬الثقافات

جسّد‭ ‬صاحب‭ ‬‮«‬النص‭ ‬القرآني‭ ‬وآفاق‭ ‬الكتابة‮»‬‭ ‬لمبدأ‭ ‬تلاقح‭ ‬الثقافات‭ ‬الإنسانية‭ ‬المختلفة‭. ‬وقد‭ ‬تجلّى‭ ‬هذا‭ ‬التجسيد‭ (‬فضلًا‭ ‬عن‭ ‬انبثاثه‭ ‬في‭ ‬شعره‭) ‬عبر‭ ‬ترجمته‭ ‬لبعض‭ ‬الآثار‭ ‬الأوربية،‭ ‬كأعمال‭ ‬سان‭ ‬جون‭ ‬بيرس‭ ‬وتحولات‭ ‬أوفيد‭ ‬وشعر‭ ‬دوفيلبان‭ ‬وبونفوا،‭ ‬وعبر‭ ‬كتابه‭ ‬المميز‭ ‬‮«‬الصوفية‭ ‬والسوريالية‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬كشف‭ ‬فيه‭ ‬الأواصر‭ ‬العميقة‭ ‬بين‭ ‬التجربة‭ ‬الصوفية‭ ‬العربية‭ ‬الإسلامية‭ ‬البعيدة‭ ‬والتجربة‭ ‬الشعرية‭ ‬السريالية‭ ‬الغربية‭ ‬الحديثة‭ (‬مثل‭ ‬انفلات‭ ‬الوعي،‭ ‬وحرية‭ ‬المخيّلة،‭ ‬والفيض‭ ‬الداخلي،‭ ‬وانهدام‭ ‬العلاقة‭ ‬الشكلية‭ ‬المنطقية‭ ‬بين‭ ‬الموجودات،‭ ‬وتداخل‭ ‬الحواس‭) ‬على‭ ‬نحو‭ ‬اتضح‭ ‬فيه‭ ‬أن‭ ‬رامبو‭ ‬ولوتـــريامون‭ ‬وإيلوار‭ ‬وبريتون‭ ‬أبناء‭ ‬بررة‭ ‬للحـــلاج‭ ‬والبسطــــامي‭ ‬وابن‭ ‬عربي‭ ‬والنفري‭.‬

هذه‭ ‬بعض‭ ‬المحطات‭ ‬في‭ ‬مشوار‭ ‬أدونيس‭ ‬الشعري‭ ‬والفكري،‭ ‬وهو‭ ‬مشوار‭ ‬تأسيسي‭ ‬طويل‭ ‬وعريض‭ ‬وعميق،‭ ‬ولكونه‭ ‬كـــذلك‭ ‬فقد‭ ‬صار‭ ‬مشوارًا‭ ‬إشكاليا،‭ ‬أثار‭ ‬غبارًا‭ ‬كثيرًا،‭ ‬وأقضَّ‭ ‬مضاجع‭ ‬عديدة،‭ ‬وسبب‭ ‬قلقًا‭ ‬للمرتاحين،‭ ‬فوجهت‭ ‬إلى‭ ‬صاحبه‭ ‬بعض‭ ‬الاتهامات‭ ‬السيئة‭ ‬النية‭ ‬والغرض‭.‬

لكن‭ ‬صاحب‭ ‬عمل‭ ‬‮«‬شهوة‭ ‬تتقدم‭ ‬في‭ ‬خرائط‭ ‬المادة‮»‬‭ ‬وسعيه‭ ‬الجاد‭ ‬حفل‭ ‬بكثير‭ ‬من‭ ‬الردود‭ ‬المفحمة‭ ‬على‭ ‬خصومه‭ ‬من‭ ‬تقليديين‭ ‬ومشتاقين،‭ ‬وها‭ ‬هو‭ ‬يتخطى‭ ‬التسعين‭ ‬صلبًا‭ ‬ونابضًا،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬ألقى‭ ‬ظله‭ ‬على‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية‭ ‬المعاصرة،‭ ‬بما‭ ‬حرّك‭ ‬من‭ ‬سواكن،‭ ‬وما‭ ‬أثار‭ ‬من‭ ‬عواصف‭ ‬وملقيًا‭ ‬ظله‭ ‬على‭ ‬أجيال‭ ‬شعرية‭ ‬لاحقة،‭ ‬استطاع‭ ‬بعضها‭ ‬أن‭ ‬يتخلص‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الظل‭ ‬‮«‬كما‭ ‬دعا‭ ‬أدونيس‭ ‬نفسه‮»‬‭ ‬ولم‭ ‬يستطع‭ ‬بعضها،‭ ‬فظل‭ ‬يرفل‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الظل‭ ‬■