مستقبل القراءة

مستقبل القراءة

    ينبّه المهتمون بمستقبل القراءة على مستوى العالم من خطورة الاعتماد الكامل على المصادر الإلكترونية وهجر المواد المطبوعة، ولاسيما في المكتبات الأكاديمية التي يفترض أن يقوم عليها التعلُّم والبحث. ويعتبرون كلّ نوع من أنواع القراءة - الإلكترونية والمطبوعة - مكملًا للآخر وليس بديلًا عنه.
ومع ازدهار العصر الرقمي تغيّرت عاداتنا في القراءة، ولم يعد معظمنا معتمدًا على الصحف والمجلات والكتب المطبوعة، بل أصبحنا غارقين في محيطات من القراءات التي تأتينا من مكتبات ومتاجر إلكترونية، إلى جانب ما تقدّمه وسائل التواصل وصفحات المواقع والمنصات ورسائل البريد الإلكتروني، حتى أن بعض القراء باتوا يطالبون الناشرين بنسخ رقمية للكتب والدوريات المطبوعة لكي يسهُل شراؤها وتداولها، بل إن البعض قد تجاوز ذلك إلى البحث عن كتب ومواد صوتية، مفضلًا الاستماع على القراءة.

وفقًا‭ ‬لباحثين،‭ ‬قد‭ ‬تبدو‭ ‬النقلة‭ - ‬من‭ ‬القراءة‭ ‬المطبوعة‭ ‬إلى‭ ‬الإلكترونية‭ - ‬للوهلة‭ ‬الأولى‭ ‬نجاحًا‭ ‬غير‭ ‬مسبوق‭ ‬نعيشه‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬الحادي‭ ‬والعشرين؛‭ ‬وفوز‭ ‬بمدى‭ ‬لا‭ ‬محدود‭ ‬من‭ ‬المواد‭ ‬المقروءة‭ ‬المتاحة‭ ‬بالمجان‭ ‬في‭ ‬أحيان‭ ‬كثيرة؛‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الوضع‭ ‬ينطوي‭ ‬على‭ ‬مخاوف‭ ‬على‭ ‬مستقبل‭ ‬القراءة،‭ ‬وقلق‭ ‬من‭ ‬الآثار‭ ‬السلبية‭ ‬المحتملة‭ ‬للقراءة‭ ‬الإلكترونية‭ ‬على‭ ‬قدرتنا‭ ‬على‭ ‬القراءة‭ ‬العادية‭ ‬والكتابة‭ ‬والتفكير‭.‬

وما‭ ‬يهمّ‭ ‬الباحثين‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬سواه،‭ ‬الآثار‭ ‬العصبية‭ ‬المتوقّعة‭ ‬على‭ ‬الأطفال‭ ‬الذين‭ ‬يتعلّمون‭ ‬القراءة‭ ‬باستخدام‭ ‬الشاشات‭ ‬والأجهزة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تطور‭ ‬قدراتهم‭ ‬على‭ ‬القراءة‭ ‬العميقة‭. ‬بل‭ ‬حتى‭ ‬قارئ‭ ‬المواد‭ ‬المطبوعة‭ ‬البالغ،‭ ‬الذي‭ ‬لطالما‭ ‬تغنّى‭ ‬بدفء‭ ‬الكتب‭ ‬بين‭ ‬يديه‭ ‬ومتعة‭ ‬تقليبها‭ ‬صفحة‭ ‬صفحة،‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يفقد‭ ‬مهارته‭ ‬إذا‭ ‬اعتاد‭ ‬القراءة‭ ‬الإلكترونية‭.‬

ويؤكد‭ ‬المتخصصون‭ ‬في‭ ‬علم‭ ‬القراءة‭ ‬أن‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬القراءة‭ ‬ليست‭ ‬فطرية،‭ ‬فلم‭ ‬نولَد‭ ‬قراء،‭ ‬ولكن‭ ‬تعلّمنا‭ ‬كيف‭ ‬نقرأ،‭ ‬وتطورت‭ ‬إمكاناتنا‭ ‬بالمران،‭ ‬حتى‭ ‬صارت‭ ‬القراءة‭ ‬بالنسبة‭ ‬لنا‭ ‬عملية‭ ‬يسيرة‭ ‬وماتعة،‭ ‬وذلك‭ ‬بفضل‭ ‬اكتسابنا‭ ‬مزيدًا‭ ‬من‭ ‬اللدونة‭ ‬العصبية‭ ‬التي‭ ‬تساعد‭ ‬أدمغتنا‭ ‬على‭ ‬الإدراك‭ ‬والربط‭ ‬بين‭ ‬الأفكار‭ ‬والتراكيب‭ ‬والمعاني‭.‬

‭ ‬القراءة‭ ‬من‭ ‬وجهة‭ ‬نظر‭ ‬هذا‭ ‬العلم‭ ‬ليست‭ ‬واحدة،‭ ‬فهناك،‭ ‬مثلًا،‭ ‬قراءة‭ ‬يكون‭ ‬فيها‭ ‬الاندماج‭ ‬مع‭ ‬النص‭ ‬خطيًّا‭ ‬مستمرًا،‭ ‬يتدرج‭ ‬من‭ ‬البداية‭ ‬حتى‭ ‬النهاية،‭ ‬ويتطلب‭ ‬قدرًا‭ ‬كبيرًا‭ ‬من‭ ‬التقمص‭ ‬العاطفي‭. ‬وقراءة‭ ‬أخرى‭ ‬مكثّفة‭ ‬هدفها‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬حقائق‭ ‬ومعلومات‭ ‬حول‭ ‬أمر‭ ‬ما‭. ‬وتختلف‭ ‬القراءة‭ ‬من‭ ‬صفحة‭ ‬مطبوعة‭ ‬عن‭ ‬القراءة‭ ‬من‭ ‬شاشة‭ ‬إلكترونية‭ ‬اختلافًا‭ ‬كبيرًا‭.‬

 

تحفيز‭ ‬مليء‭ ‬بالإلهاء

بيّنت‭ ‬دراسة‭ ‬أجريت‭ ‬بجامعة‭ ‬كاليفورنيا‭ ‬في‭ ‬لوس‭ ‬أنجلوس،‭ ‬كمثال،‭ ‬أن‭ ‬البحث‭ ‬عبر‭ ‬الإنترنت‭ ‬ينشط‭ ‬الدماغ‭ ‬أكثر‭ ‬مما‭ ‬تفعل‭ ‬قراءة‭ ‬نص‭ ‬رقمي‭. ‬وفي‭ ‬الوقت‭ ‬الذي‭ ‬تحفز‭ ‬فيه‭ ‬القراءة‭ ‬الإلكترونية‭ ‬مناطق‭ ‬من‭ ‬الدماغ،‭ ‬تكون‭ ‬مرتبطة‭ ‬في‭ ‬الغالب‭ ‬باللغة‭ ‬والقدرة‭ ‬البصرية،‭ ‬يحفّز‭ ‬البحث‭ ‬عديدًا‭ ‬من‭ ‬المناطق‭ ‬نفسها‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬مناطق‭ ‬متصلة‭ ‬باتخاذ‭ ‬القرار‭ ‬وتحليل‭ ‬النمط‭. ‬لكن‭ ‬هذا‭ ‬التحفيز‭ ‬المليء‭ ‬بالإلهاء‭ ‬عن‭ ‬القراءة‭ ‬باستخدام‭ ‬الشاشات‭ ‬يضعف‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬التذكر‭ ‬والتأمل‭ ‬والاستيعاب‭ ‬الموجودة‭ ‬في‭ ‬القراءة‭ ‬المطبوعة،‭ ‬ويحوّل‭ ‬القارئ‭ ‬من‭ ‬مطور‭ ‬لمعرفته‭ ‬الشخصية‭ ‬إلى‭ ‬متصيّد‭ ‬وجامع‭ ‬بيانات‭ ‬في‭ ‬غابة‭ ‬إلكترونية‭ ‬مترامية‭ ‬الأطراف‭.‬

وبيّنت‭ ‬دراسات‭ ‬أخرى،‭ ‬قائمة‭ ‬على‭ ‬مسوح،‭ ‬أن‭ ‬قرّاء‭ ‬المواد‭ ‬الرقمية‭ ‬عادة‭ ‬ما‭ ‬يندمجون‭ ‬بشكل‭ ‬سطحي‭ ‬مع‭ ‬النص‭. ‬ويكونون‭ ‬عرضة‭ ‬للتشتت‭ ‬بين‭ ‬ما‭ ‬يقرأون‭ ‬والروابط‭ ‬المنثورة‭ ‬في‭ ‬النص،‭ ‬والرسائل‭ ‬الواردة‭ ‬لحساباتهم‭ ‬المختلفة‭.‬

  ‬ولا‭ ‬يقرأ‭ ‬هؤلاء‭ ‬القراء‭ ‬بتروٍّ‭ ‬أو‭ ‬بصورة‭ ‬خطيّة،‭ ‬بل‭ ‬خطفًا،‭ ‬قافزين‭ ‬من‭ ‬صفحة‭ ‬لأخرى،‭ ‬ومن‭ ‬البداية‭ ‬للنهاية‭. ‬وهذه‭ ‬القراءة‭ ‬السريعة‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تناسب‭ ‬الباحثين‭ ‬المتعجلين‭ ‬عن‭ ‬معلومات‭ ‬محددة‭ ‬بأقلّ‭ ‬قدر‭ ‬من‭ ‬الجهد‭. ‬ويتماشى‭ ‬هذا‭ ‬النوع‭ ‬من‭ ‬القراءة‭ ‬مع‭ ‬الإيقاع‭ ‬الرقمي‭ ‬المتسارع‭ ‬ونفاد‭ ‬صبر‭ ‬بعض‭ ‬القراء‭. ‬

وكشف‭ ‬بحث‭ ‬أجرته‭ ‬الباحثة‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬أمريكية،‭ ‬ناومي‭ ‬بارون،‭ ‬تحت‭ ‬عنوان‭ ‬‮«‬كلمات‭ ‬على‭ ‬الشاشة‭... ‬أفول‭ ‬القراءة‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬الرقمي‮»‬،‭ ‬أن‭ ‬85‭ ‬بالمئة‭ ‬من‭ ‬العينة‭ - ‬التي‭ ‬شملت‭ ‬طلاب‭ ‬جامعة‭ ‬أمريكيين‭ ‬وألمانًا‭ ‬ويابانيين‭ - ‬يقرأون‭ ‬قراءة‭ ‬إلكترونية‭ ‬ويقومون‭ ‬بمهمات‭ ‬متعددة؛‭ ‬في‭ ‬مقابل‭ ‬26‭ ‬بالمئة‭ ‬نسبة‭ ‬من‭ ‬يفعلون‭ ‬ذلك‭ ‬أثناء‭ ‬القراءة‭ ‬المطبوعة‭.‬

وعلى‭ ‬الجانب‭ ‬الآخر،‭ ‬يقصد‭ ‬من‭ ‬يريد‭ ‬القراءة‭ ‬بعمق‭ ‬القراءة‭ ‬الخطية‭ ‬المتأنية‭ ‬للكتب‭ ‬المطبوعة،‭ ‬لما‭ ‬تتضمّنه‭ ‬من‭ ‬سلسلة‭ ‬عمليات‭ ‬كالفهم،‭ ‬والوعي،‭ ‬والتفكير‭ ‬الاستنتاجي،‭ ‬والتحليل‭ ‬النقدي،‭ ‬والتأمل،‭ ‬والاستبصار‭. ‬وإذا‭ ‬كان‭ ‬القارئ‭ ‬الخبير‭ ‬لا‭ ‬يحتاج‭ ‬إلّا‭ ‬إلى‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬الثانية‭ ‬لتنفيذ‭ ‬كل‭ ‬تلك‭ ‬العمليات،‭ ‬يحتاج‭ ‬الدماغ‭ ‬إلى‭ ‬سنوات‭ ‬لتطويرها‭.‬

 

المياه‭ ‬الضحلة‭ 

يؤكد‭ ‬نيكولاس‭ ‬كار‭ ‬في‭ ‬مقدمة‭ ‬الطبعة‭ ‬الثانية‭ ‬من‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬المياه‭ ‬الضحلة‭... ‬ما‭ ‬تفعله‭ ‬الإنترنت‭ ‬في‭ ‬أدمغتنا‮»‬‭ - ‬الذي‭ ‬صدر‭ ‬العام‭ ‬الماضي،‭ ‬بعد‭ ‬عشر‭ ‬سنوات‭ ‬من‭ ‬الطبعة‭ ‬الأولى‭ - ‬أنه‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬2010‭ ‬أُجري‭ ‬مسح‭ ‬شارك‭ ‬فيه‭ ‬400‭ ‬من‭ ‬المفكرين،‭ ‬توقّع‭ ‬80‭ ‬بالمئة‭ ‬منهم‭ ‬أن‭ ‬يصبح‭ ‬الإنسان‭ ‬أذكى‭ ‬وأكثر‭ ‬معلوماتية‭ ‬وأكثر‭ ‬قدرة‭ ‬على‭ ‬اتخاذ‭ ‬القرارات‭ ‬الصائبة‭ ‬مع‭ ‬حلول‭ ‬عام‭ ‬2020،‭ ‬لكنّ‭ ‬ذلك‭ ‬لم‭ ‬يحدث،‭ ‬نتيجة‭ ‬لتسطّح‭ ‬التفكير‭ ‬وتشتُّت‭ ‬الانتباه‭ ‬والعقول‭ ‬من‭ ‬فرط‭ ‬استخدام‭ ‬الإنترنت‭.‬

ويحكي‭ ‬تجربته‭ ‬كمستخدم‭ ‬للكمبيوتر‭ ‬منذ‭ ‬منتصف‭ ‬الثمانينيات،‭ ‬وما‭ ‬صاحب‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬معاناة‭ ‬من‭ ‬صعوبة‭ ‬التركيز‭ ‬وعدم‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬قراءة‭ ‬الكتب‭ ‬المطبوعة،‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬يفعل‭. ‬وقادته‭ ‬حاله‭ ‬هذه‭ ‬إلى‭ ‬دراسة‭ ‬أدوات‭ ‬التكنولوجيا‭ ‬الفكرية‭ ‬وتأثيرها‭ ‬على‭ ‬الإنسان‭. ‬فالخرائط‭ ‬التي‭ ‬ساعدت‭ ‬الإنسان‭ ‬على‭ ‬ارتياد‭ ‬الأماكن‭ ‬بسهولة،‭ ‬أفقدته‭ ‬قدرته‭ ‬الطبيعية‭ ‬على‭ ‬الملاحظة‭ ‬وتبيّن‭ ‬موقعه؛‭ ‬والساعة‭ ‬الميكانيكية‭ ‬التي‭ ‬ساهمت‭ ‬في‭ ‬تنظيم‭ ‬الوقت،‭ ‬سلبت‭ ‬قدرته‭ ‬على‭ ‬التدفق‭ ‬الطبيعي‭ ‬مع‭ ‬الزمن؛‭ ‬وأدوات‭ ‬جمع‭ ‬المعلومات‭ ‬التي‭ ‬وفّرت‭ ‬له‭ ‬الوقت‭ ‬والجهد،‭ ‬أثرت‭ ‬على‭ ‬ذاكرته‭ ‬وتفكيره‭. ‬وحاصرته‭ ‬بمدى‭ ‬لا‭ ‬محدود‭ ‬من‭ ‬الإعلانات‭ ‬والخيارات،‭ ‬ليجد‭ ‬نفسه‭ ‬يواصل‭ ‬النقر‭ ‬على‭ ‬رغمه‭.‬

ويرى‭ ‬أننا‭ ‬لا‭ ‬نحدّ‭ ‬من‭ ‬قوانا‭ ‬العقلية‭ ‬عندما‭ ‬نخزّن‭ ‬ذكريات‭ ‬بعيدة‭ ‬المدى،‭ ‬بل‭ ‬نقوّيها،‭ ‬ومع‭ ‬اتساع‭ ‬المخزون‭ ‬يتعزز‭ ‬الذكاء،‭ ‬ويجد‭ ‬أنّه‭ ‬لا‭ ‬بأس‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬نجعل‭ ‬الإنترنت‭ ‬امتدادًا‭ ‬مقنعًا‭ ‬وإجباريًا‭ ‬لذاكرتنا‭. ‬

 

تغيير‭ ‬مؤثر

لكن‭ ‬عندما‭ ‬نعتبرها‭ ‬بديلًا‭ ‬للذاكرة‭ ‬الشخصية،‭ ‬فنحن‭ ‬نقمع‭ ‬عمليات‭ ‬باطنية‭ ‬مهمة،‭ ‬ونخاطر‭ ‬بتفريغ‭ ‬عقولنا‭ ‬من‭ ‬ثرائها،‭ ‬ويعرف‭ ‬القرّاء‭ ‬القدامى‭ ‬جيدًا‭ ‬ما‭ ‬يحدث‭ ‬من‭ ‬تغيير‭ ‬مؤثر‭ ‬في‭ ‬وعيهم،‭ ‬عندما‭ ‬يغمرون‭ ‬أنفسهم‭ ‬بصفحات‭ ‬الكتاب‭ ‬وكأنهم‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬حلم‭ ‬مركزة‭ ‬من‭ ‬الأحاسيس‭ ‬والأفكار‭. ‬ومع‭ ‬الصمت‭ ‬تبدو‭ ‬الذكريات‭ ‬مستقرة‭ ‬بالفؤاد،‭ ‬وتتدفق‭ ‬موجات‭ ‬متواصلة‭ ‬من‭ ‬الفرح‭ ‬القادم‭ ‬مع‭ ‬فيض‭ ‬الأفكار‭ ‬غير‭ ‬المتوقع‭ ‬الذي‭ ‬يبعث‭ ‬الابتهاج‭ ‬في‭ ‬القلب‭. ‬ويؤكد‭ ‬أن‭ ‬قراءة‭ ‬كتاب‭ ‬فعل‭ ‬من‭ ‬أفعال‭ ‬التأمل‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يصفّي‭ ‬العقل،‭ ‬ولكن‭ ‬يملأه،‭ ‬فالقارئ‭ ‬ينفصل‭ ‬عمّن‭ ‬حولهم‭ ‬ويندمج‭ ‬بعمق‭ ‬في‭ ‬تدفق‭ ‬عالَمه‭ ‬الباطني‭ ‬المشكل‭ ‬من‭ ‬كلمات‭ ‬وأفكار‭ ‬ومشاعر،‭ ‬وهو‭ ‬جوهر‭ ‬العملية‭ ‬العقلية‭ ‬الفريدة‭ ‬للقراءة‭ ‬العميقة‭.‬

وما‭ ‬بين‭ ‬قراءة‭ ‬تقليدية‭ ‬تطورت‭ ‬من‭ ‬نشاط‭ ‬قاصر‭ ‬على‭ ‬فئة‭ ‬محدودة،‭ ‬غالبًا‭ ‬ما‭ ‬يجري‭ ‬في‭ ‬عزلة‭ ‬وبتركيز،‭ ‬في‭ ‬مساحات‭ ‬هادئة‭ ‬بلا‭ ‬مقاطعة‭ ‬تسهم‭ ‬في‭ ‬تدفّق‭ ‬التداعيات،‭ ‬ورسم‭ ‬الصور،‭ ‬وتحفيز‭ ‬الأفكار،‭ ‬والتفكير‭ ‬والقراءة‭ ‬بعمق؛‭ ‬وإتاحة‭ ‬واسعة‭ ‬وإمكانية‭ ‬قراءة‭ ‬إلكترونية‭ ‬على‭ ‬الخط‭ ‬تضجّ‭ ‬بمميزات‭ ‬أداء‭ ‬المهمات‭ ‬المتعددة‭ - ‬كالتنزيل،‭ ‬والبحث،‭ ‬والترجمة،‭ ‬وفتح‭ ‬الروابط،‭ ‬والتواصل،‭ ‬والمشاركة،‭ ‬والاطلاع‭ ‬على‭ ‬مصادر‭ ‬ذات‭ ‬العلاقة‭ ‬تورث‭ ‬الضحالة‭ ‬وصعوبة‭ ‬التركيز‭ ‬وضعف‭ ‬الذاكرة‭ ‬بعيدة‭ ‬المدى؛‭ ‬يطمئننا‭ - ‬من‭ ‬خلال‭ ‬حكايته‭ - ‬بتأكيده‭ ‬أن‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬التوازن‭ ‬بين‭ ‬القراءة‭ ‬المطبوعة‭ ‬والإلكترونية‭ ‬أمر‭ ‬ممكن‭ ‬بشيء‭ ‬من‭ ‬الجهد‭ ‬والصبر‭.‬

 

مهمة‭ ‬مزدوجة

يرى‭ ‬آخرون‭ - ‬مثل‭ ‬إيريك‭ ‬بورتشيز،‭ ‬مؤلف‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬مستقبل‭ ‬القراءة‮»‬‭ - ‬أن‭ ‬القراءة‭ ‬لم‭ ‬تتراجع،‭ ‬لكن‭ ‬المؤسسات‭ ‬الثقافية‭ ‬التقليدية‭ ‬المبنية‭ ‬على‭ ‬المواد‭ ‬المطبوعة‭ ‬وعلى‭ ‬الندرة‭ ‬والانتقائية‭ ‬تواجه‭ ‬فشلًا‭ ‬بعد‭ ‬التطور‭ ‬التكنولوجي‭ ‬الهائل‭ ‬وإتاحة‭ ‬المعلومات‭. ‬

ومع‭ ‬تزايد‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬ملايين‭ ‬المواد‭ ‬والكتب،‭ ‬تغيّر‭ ‬سلوك‭ ‬الناس،‭ ‬وتداعت‭ ‬قيمة‭ ‬الكتاب‭ ‬والكاتب،‭ ‬فلم‭ ‬يعد‭ ‬هناك‭ ‬كتاب‭ ‬أهم‭ ‬أو‭ ‬مؤلف‭ ‬أوحد‭ ‬ولا‭ ‬قوائم‭ ‬متّفق‭ ‬عليها‭ ‬لأفضل‭ ‬الكتب‭ - ‬التي‭ ‬لا‭ ‬يتّسع‭ ‬العمر‭ ‬البشري‭ ‬لقراءتها،‭ ‬ويعدها‭ ‬البعض‭ ‬كفيتامينات‭ ‬واجبة‭ ‬التناول‭ ‬لتحسين‭ ‬الحالة‭ ‬الفكرية،‭ ‬وقد‭ ‬يمضي‭ ‬القارئ‭ ‬عمره‭ ‬شاعرًا‭ ‬بتأنيب‭ ‬الضمير‭ ‬إذا‭ ‬لم‭ ‬يقرأها‭ - ‬وبعد‭ ‬فشل‭ ‬هذه‭ ‬المؤسسات‭ ‬في‭ ‬تلبية‭ ‬حاجات‭ ‬القراء،‭ ‬انصرفوا‭ ‬عنها‭ ‬ليشكّلوا‭ ‬مجتمعاتهم‭ ‬الخاصة‭ ‬ويؤسسوا‭ ‬أندية‭ ‬قراءة‭ ‬واقعية‭ ‬وافتراضية‭ ‬تضم‭ ‬أعضاء‭ ‬من‭ ‬مختلف‭ ‬العالم‭ ‬يقرأون‭ ‬ويتناقشون‭ ‬ويتشاركون‭ ‬المعرفة‭ ‬بلا‭ ‬حدود،‭ ‬ولا‭ ‬تستطيع‭ ‬التكنولوجيا‭ ‬أن‭ ‬تغيّر‭ ‬ثقافتهم‭ ‬القرائية‭ ‬أسرع‭ ‬مما‭ ‬يسمحون‭.‬

هناك‭ ‬أيضًا‭ ‬من‭ ‬يقلق‭ ‬على‭ ‬مستقبل‭ ‬القراءة‭ - ‬مثل‭ ‬ديفيد‭ ‬ترند‭ ‬مؤلف‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬نهاية‭ ‬القراءة‮»‬‭ - ‬من‭ ‬منطلق‭ ‬تراجع‭ ‬القراءة‭ ‬الأدبية‭ ‬التي‭ ‬تعلّم‭ ‬التعاطف،‭ ‬وهروب‭ ‬الأجيال‭ ‬الجديدة‭ ‬إلى‭ ‬التخصصات‭ ‬التكنولوجية‭. ‬ويشتكي‭ ‬هو‭ ‬نفسه‭ ‬من‭ ‬كراهية‭ ‬ابنته‭ (‬8‭ ‬سنوات‭) ‬للقراءة،‭ ‬لأنها‭ ‬تربّت‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬بلا‭ ‬كلمات‭ ‬مطبوعة‭. ‬ويؤكد‭ ‬آخرون‭ ‬ضرورة‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬أماكن‭ ‬للقراءة‭ ‬المطبوعة‭ ‬وثقافة‭ ‬الفكر‭ ‬والبحث‭ ‬المستدام‭ ‬جنبًا‭ ‬إلى‭ ‬جنب‭ ‬مع‭ ‬مواصلة‭ ‬إثراء‭ ‬المحتويات‭ ‬الرقمية‭ ‬في‭ ‬مهمة‭ ‬مزدوجة‭ ‬تحافظ‭ ‬على‭ ‬تكامل‭ ‬ثقافتَي‭ ‬القراءة‭ ‬المطبوعة‭ ‬والرقمية‭ ‬■