عصر التوحُّش

عصر التوحُّش

لم تدع الرأسمالية مجالًا من المجالات إلّا وبسطت عليه هيمنتها، بل إنها تغلغلت في أقاصي الأقاليم والبلدان والدول، وامتدّت قبضتها على البشرية التي ألفتْ نفسها في دوّامة من الصراعات المحتدمة وفي تسابُق محموم على استنزاف الثروات الطبيعية للعالم.  ولأننا نعيش الآن في عصر يمجّد كل ما هو ماديّ ويفتح ذراعيه للصناعيّ على حساب الطبيعي، فقد صار وجود البشرية مهددًا بزحف التكنولوجيات الرقمية، والنتيجة هي أن العالم أصبح اليوم أكثر توحّشًا. 

استنادًا‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬المفهوم؛‭ ‬مفهوم‭ ‬التوحّش،‭ ‬يترسّم‭ ‬المفكّر‭ ‬الكاميروني‭ ‬أشيل‭ ‬مبيمبي‭ ‬طريقًا‭ ‬جديدا‭ ‬لقراءة‭ ‬التاريخ‭ ‬البشري‭ ‬في‭ ‬ضوء‭ ‬ما‭ ‬أفرزته‭ ‬التطورات‭ ‬التقنية‭ ‬الحديثة‭ ‬من‭ ‬أزمات‭ ‬وحروب‭ ‬تهدد‭ ‬البشرية‭ ‬والطبيعة‭ ‬على‭ ‬حدّ‭ ‬سواء‭.‬

يستعرض‭ ‬مبيمبي‭ ‬في‭ ‬آخر‭ ‬مؤلفاته؛‭ ‬‮«‬عصر‭ ‬التوحش‮»‬،‭ ‬الصادر‭ ‬سنة‭ ‬2020‭ ‬عن‭ ‬دار‭ ‬لاديكوفرت،‭ ‬رؤية‭ ‬عميقة‭ ‬تستشرف‭ ‬الخطر‭ ‬المحدق‭ ‬بالبشرية‭ ‬في‭ ‬عصرنا،‭ ‬وذلك‭ ‬جراء‭ ‬الزّحف‭ ‬المتواصل‭ ‬للآلات‭ ‬والمواد‭ ‬المؤذنة‭ ‬ببروز‭ ‬العنف‭ ‬المنظّم‭ ‬والصراعات‭ ‬على‭ ‬الحدود‭ ‬والنزعات‭ ‬العنصرية‭ ‬المستعرة‭. ‬كما‭ ‬يستدعي‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬مفهوم‭ ‬التوحش‭ ‬لوصف‭ ‬حقبة‭ ‬استولى‭ ‬عليها‭ ‬نزوع‭ ‬شديد‭ ‬إلى‭ ‬الهدم‭ ‬والإتلاف،‭ ‬وإلى‭ ‬أشكال‭ ‬توظيف‭ ‬القوة‭ ‬كممارسة‭ ‬في‭ ‬هدم‭ ‬الكائنات‭ ‬والأشياء‭ ‬والأحلام‭ ‬والحياة‭ ‬في‭ ‬السياق‭ ‬العالمي‭ ‬الحديث‭. ‬

يذهب‭ ‬مبيمبي‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬التوحش‭ ‬يمثّل‭ ‬سمة‭ ‬طاغية‭ ‬على‭ ‬جميع‭ ‬الصُّعد‭ ‬في‭ ‬عصرنا‭ ‬الحاضر،‭ ‬فالتوحش‭ ‬الذي‭ ‬يحتفي‭ ‬بقوة‭ ‬المادة‭ ‬والوظائف،‭ ‬يستجيب‭ ‬اليوم‭ ‬لحركة‭ ‬‮«‬الهدم‭ ‬والإتلاف‮»‬‭ ‬التي‭ ‬تُمارس‭ ‬اليوم‭ ‬على‭ ‬الخيالات‭ ‬والأجساد‭ ‬والأشياء‭ ‬والأحياء‭. ‬إن‭ ‬القرن‭ ‬الحادي‭ ‬والعشرين،‭ ‬الذي‭ ‬يخضع‭ ‬لتحكيم‭ ‬المنطق‭ ‬الاقتصادي‭ ‬والحسابي‭ ‬والبيولوجي،‭ ‬يحوّل‭ ‬البشرية‭ ‬إلى‭ ‬مادة‭ ‬وطاقة،‭ ‬وفي‭ ‬نهاية‭ ‬المطاف‭ ‬إلى‭ ‬نفايات،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬أن‭ ‬الآلات‭ ‬والأشياء‭ ‬تنشط‭ ‬وتنتعش‭ ‬وتعود‭ ‬للحياة‭: ‬والنتيجة‭ ‬هي‭ ‬أن‭ ‬التوحش‭ ‬يبسط‭ ‬هيمنته‭ ‬على‭ ‬العالم‭. ‬

 

الخيار‭ ‬الصائب

إن‭ ‬التفكير‭ ‬العميق‭ ‬لمبيمبي،‭ ‬بوصفه‭ ‬واحدًا‭ ‬من‭ ‬أبرز‭ ‬النقاد‭ ‬والمنظّرين‭ ‬المعاصرين‭ ‬لمرحلة‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الاستعمار،‭ ‬قاده‭ ‬إلى‭ ‬مواصلة‭ ‬رحلته‭ ‬في‭ ‬تتبُّع‭ ‬الجزء‭ ‬السفلي‭ ‬من‭ ‬‮«‬الجوانب‭ ‬المظلمة‮»‬‭ ‬للبشرية‭. ‬

‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬الكاتب،‭ ‬يكمن‭ ‬الخيار‭ ‬الصائب‭ ‬في‭ ‬الدفاع‭ ‬المستميت‭ ‬عن‭ ‬حق‭ ‬البشر‭ ‬في‭ ‬حرية‭ ‬التنقل،‭ ‬وبعيدًا‭ ‬عن‭ ‬الصراعات‭ ‬القائمة‭ ‬على‭ ‬الاختلاف‭ ‬والوطن،‭ ‬والحدود،‭ ‬والهوية،‭ ‬فإنّ‭ ‬الأمر‭ ‬يتعلّق‭ ‬ببناء‭ ‬‮«‬المشترك‮»‬‭ ‬والمطالبة‭ ‬بحق‭ ‬التنقل‭. ‬وتبعًا‭ ‬لذلك،‭ ‬فإنّ‭ ‬إفريقيا‭ - ‬التي‭ ‬طالما‭ ‬دافع‭ ‬عنها‭ ‬الكاتب‭ - ‬ومن‭ ‬خلال‭ ‬ما‭ ‬راكمته‭ ‬من‭ ‬تجارب‭ ‬متنوعة‭ ‬وما‭ ‬توفره‭ ‬أيضًا‭ ‬من‭ ‬موارد‭ ‬متنقلة،‭ ‬عبر‭ ‬الحدود،‭ ‬جديرة‭ ‬بأن‭ ‬تكون‭ ‬مختبر‭ ‬العالم‭ ‬المستقبلي‭.‬

ينبّه‭ ‬المفكر‭ ‬الكاميروني‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬يميّز‭ ‬عصرنا‭: ‬تطور‭ ‬التكنولوجيات‭ ‬والعنف‭ ‬الواسع‭ ‬النطاق‭ ‬ضد‭ ‬الناس،‭ ‬ويستشرف‭ ‬ظهور‭ ‬علمَ‭ ‬نفسٍ‭ ‬جديدًا‭ ‬للجماهير‭ ‬التي‭ ‬وُلدت‭ ‬من‭ ‬رحم‭ ‬التحرر‭ ‬بواسطة‭ ‬هذه‭ ‬التكنولوجيا‭ ‬الرقمية،‭ ‬فقد‭ ‬أصبحت‭ ‬‮«‬الإنترنت‮»‬ والشبكات‭ ‬الاجتماعية‭ ‬متنفسًا‭ ‬تعبّر‭ ‬‮«‬النرجسية‭ ‬الجماعية‮»‬‭ ‬من‭ ‬خلاله‭ ‬عن‭ ‬نفسها‭.‬

‭ ‬كما‭ ‬يؤكد‭ ‬الكاتب‭ ‬أننا‭ ‬نشهد‭ ‬عودة‭ ‬كبيرة‭ ‬من‭ ‬الشغف‭ ‬بالهوية‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬الفرد‭ ‬والعِرْق‭ ‬والجنس‭ ‬والأمة،‭ ‬ونتيجة‭ ‬لذلك،‭ ‬أصبحت‭ ‬الحدود‭ ‬أماكن‭ ‬‮«‬للعنف‭ ‬المنظم‮»‬‭. ‬

يشير‭ ‬مبيمبي‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬إحدى‭ ‬مظاهر‭ ‬التوحش‭ ‬هو‭ ‬الاستغلال‭ ‬المفرط‭ ‬للأرض‭ ‬في‭ ‬عصر‭ ‬الأنثروبوسين‭ (‬العصر‭ ‬الجيولوجي‭ ‬البشري‭ ‬الذي‭ ‬بصم‭ ‬فيه‭ ‬الإنسان‭ ‬ظاهر‭ ‬الأرض‭ ‬وباطنها‭). ‬وأن‭ ‬من‭ ‬واجبنا‭ ‬إذًا‭ ‬أن‭ ‬نبحث‭ ‬عن‭ ‬المشترك‭ ‬الإنساني‭ ‬الذي‭ ‬يخوّل‭ ‬لنا‭ ‬إنقاذ‭ ‬الحياة‭ ‬على‭ ‬كوكب‭ ‬الأرض،‭ ‬ويحُول‭ ‬دون‭ ‬الصراع‭ ‬والاختلاف‭ ‬والتدمير،‭ ‬حيث‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬العلاقة‭ ‬مع‭ ‬الأحياء‭ ‬مصدر‭ ‬إلهام‭ ‬لتجاوز‭ ‬أزمة‭ ‬المناخ،‭ ‬وذلك‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬خلق‭ ‬علاقات‭ ‬جديدة‭ ‬بين‭ ‬البشر‭ ‬والأشياء،‭ ‬والحدّ‭ ‬ما‭ ‬أمكن‭ ‬من‭ ‬سيطرة‭ ‬الأدوات‭ ‬التكنولوجية‭ ‬على‭ ‬شؤوننا‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬تصبح‭ ‬امتدادًا‭ ‬لأنفسنا،‭ ‬وحتى‭ ‬نستعيد‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يعيدنا‭ ‬إلى‭ ‬ذواتنا‭.‬

 

بداية‭ ‬العصر‭ ‬الأخير

‭ ‬مما‭ ‬يثير‭ ‬دهشة‭ ‬الكاتب‭ ‬أن‭ ‬جميع‭ ‬مجالات‭ ‬الوجود‭ ‬تخترقها‭ ‬الآن‭ ‬رؤوس‭ ‬الأموال،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬المجتمعات‭ ‬البشرية‭ ‬الآن‭ ‬يتم‭ ‬ترتيبها‭ ‬وفقًا‭ ‬لمبدأ‭ ‬توجيهي‭ ‬واحد،‭ ‬هو‭ ‬الحساب‭ ‬الرقمي‭. ‬ولكن‭ ‬بينما‭ ‬تندفع‭ ‬جميع‭ ‬الأشياء‭ ‬نحو‭ ‬توحيد‭ ‬غير‭ ‬مسبوق‭ ‬للكوكب،‭ ‬فإنّ‭ ‬العالم‭ ‬القديم‭ ‬من‭ ‬الأجسام‭ ‬والمسافات،‭ ‬والمواد‭ ‬والمناطق‭ ‬الشاسعة،‭ ‬والفضاءات‭ ‬والحدود،‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬مستمرًا‭ ‬في‭ ‬التحول‭. ‬وبما‭ ‬أنّ‭ ‬البشرية‭ ‬الآن‭ ‬تتسابق‭ ‬نحو‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬اصطناعي،‭ ‬بالموازاة‭ ‬مع‭ ‬تبنّيها‭ ‬فكرة‭ ‬مفادها‭ ‬أن‭ ‬تحلّ‭ ‬الآلة‭ ‬محلّ‭ ‬الإنسان،‭ ‬فإننا‭ ‬سنجد‭ ‬أنفسنا‭ ‬وجهًا‭ ‬لوجه‭ ‬أمام‭ ‬اختبار‭ ‬وجودي‭ ‬صعب‭. ‬وهكذا،‭ ‬يؤذن‭ ‬تحوّل‭ ‬القوة‭ ‬العالمية‭ - ‬في‭ ‬تصور‭ ‬مبيمبي‭ - ‬إلى‭ ‬بداية‭ ‬العصر‭ ‬الأخير‭ ‬للإنسان،‭ ‬وهو‭ ‬عصر‭ ‬الكائن‭ ‬القابل‭ ‬لأن‭ ‬يكون‭ ‬مصنوعًا‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬مُصَنَّع‭. ‬

يستعير‭ ‬مبيمبي‭ ‬مفهوم‭ ‬التوحش‭ ‬من‭ ‬التفكير‭ ‬المعماري‭ ‬الذي‭ ‬يعتبره‭ ‬الكاتب‭ ‬مرادفًا‭ - ‬في‭ ‬أدواته‭ ‬وآلياته‭ - ‬للسياسة،‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬إنها‭ ‬لا‭ ‬محالة‭ ‬تعمل‭ ‬على‭ ‬تحريك‭ ‬التوتر‭ (‬في‭ ‬قوة‭ ‬تناظر‭ ‬قوة‭ ‬أعمال‭ ‬الهدم‭ ‬والبناء‭). ‬ومن‭ ‬ثمّ،‭ ‬فالسياسة،‭ ‬هي‭ ‬أيضًا،‭ ‬ممارسة‭ ‬محددة‭ ‬بعدد‭ ‬من‭ ‬الأدوات‭ ‬المستمدة‭ ‬من‭ ‬التفكير‭ ‬المعماري‭: ‬إنها‭ ‬تجميع‭ ‬وتنظيم‭ ‬وتشكيل‭ ‬وإعادة‭ ‬توزيع،‭ ‬لمجموعة‭ ‬من‭ ‬الأشياء‭ ‬الحية،‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬الجزء‭ ‬الأكبر‭ ‬منها،‭ ‬غير‭ ‬مادي‭. ‬وعند‭ ‬نقطة‭ ‬تقاطع‭ ‬الأشياء‭ ‬غير‭ ‬المادية،‭ ‬والأجسام‭ ‬والمواد‭ ‬يتموقع‭ ‬التوحش‭ ‬ويظهر‭ ‬قدرته‭ ‬على‭ ‬بسط‭ ‬اليد‭ ‬على‭ ‬جميع‭ ‬العناصر‭ ‬وعلى‭ ‬ممارسة‭ ‬الالتواء‭ ‬وإعادة‭ ‬تشكيل‭ ‬الأشياء‭.‬

تحدد‭ ‬الهندسة‭ ‬المعمارية‭ ‬والسياسة‭ ‬موقعيهما،‭ ‬لا‭ ‬بوصفهما‭ ‬فقط‭ ‬جزءًا‭ ‬من‭ ‬عالم‭ ‬الرموز‭ ‬واللغة،‭ ‬بل‭ ‬بوصفهما‭ ‬همزة‭ ‬وصل‭ ‬بين‭ ‬المواد‭ ‬والجسدانية‭ (‬أي‭ ‬التصوّر‭ ‬النظري‭ ‬حول‭ ‬الجسد‭) ‬وكل‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬غير‭ ‬مادي‭. ‬إنهما‭ ‬مكونان‭ ‬من‭ ‬مكونات‭ ‬العالم‭ ‬التقني،‭ ‬وعالم‭ ‬الأشياء‭ ‬والهيئات،‭ ‬وقبل‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬عالم‭ ‬التقسيمات‭ ‬والتصنيفات‭.‬

 

آثار‭ ‬ملموسة‭ ‬للتوحش

‭ ‬أما‭ ‬نقطة‭ ‬تدخّلهما‭ ‬فهي‭ ‬ميدان‭ ‬المادة‭ ‬باعتبارها‭ ‬منطقة‭ ‬يعيش‭ ‬فيها‭ ‬الأحياء،‭ ‬ولذلك‭ ‬فإنّ‭ ‬الهندسة‭ ‬المعمارية‭ ‬والسياسة‭ ‬يشكّلان‭ ‬معًا‭ ‬قضية‭ ‬تدخل‭ ‬في‭ ‬صميم‭ ‬التصرف‭ ‬في‭ ‬المواد‭ ‬والأجساد،‭ ‬إنها‭ ‬قضية‭ ‬كميات‭ ‬وأحجام‭ ‬ونطاقات‭ ‬وتدابير،‭ ‬وتوزيع‭ ‬القوة‭ ‬والطاقة‭ ‬وتعديلهما،‭ ‬وتمثّل‭ ‬هذه‭ ‬العناصر‭ ‬في‭ ‬مجملها‭ ‬الآثار‭ ‬الملموسة‭ ‬للتوحش،‭ ‬سواء‭ ‬أكان‭ ‬يُمارس‭ ‬على‭ ‬الأجساد‭ ‬أو‭ ‬المواد‭. ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬الصدد‭ ‬يحذّر‭ ‬مبيمبي‭ ‬من‭ ‬الأخطار‭ ‬المميتة‭ ‬التي‭ ‬قد‭ ‬تصيب‭ ‬الأجسام‭ ‬الحيّة‭ ‬المعرّضة‭ ‬للإرهاق‭ ‬البدني‭ ‬ومن‭ ‬جميع‭ ‬أنواع‭ ‬المخاطر‭ ‬البيولوجية‭ ‬غير‭ ‬المرئية‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬الأحيان‭ (‬التسمم‭ ‬الحاد،‭ ‬والسرطان،‭ ‬والعيوب‭ ‬الخلقية،‭ ‬والاضطرابات‭ ‬العصبية،‭ ‬والاضطرابات‭ ‬الهرمونية‭). ‬وهكذا‭ ‬تستهدف‭ ‬هذه‭ ‬الأخطار‭ ‬أجساد‭ ‬البشر‭ ‬وأعصابهم‭ ‬ودمائهم‭ ‬وأدمغتهم،‭ ‬فضلًا‭ ‬عن‭ ‬تأثيراتها‭ ‬السلبية‭ ‬على‭ ‬الطبيعة‭ ‬والمناخ‭. ‬

ينشغل‭ ‬مبيمبي‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬تحليله‭ ‬لبنية‭ ‬التوحش‭ ‬بطرح‭ ‬الأسئلة‭ ‬المناسبة،‭ ‬لا‭ ‬بنهج‭ ‬مقاربات‭ ‬مختلفة‭ (‬سواء‭ ‬أكانت‭ ‬مقاربة‭ ‬سوسيولوجية‭ ‬أم‭ ‬اقتصادية‭ - ‬سياسية‭ ‬لمفهوم‭ ‬التوحش‭)‬،‭ ‬ولا‭ ‬برسم‭ ‬صورة‭ ‬تاريخية‭ ‬له‭.‬

‭ ‬ولن‭ ‬يتعلّق‭ ‬الأمر‭ ‬كذلك‭ ‬بالتعامل‭ ‬مع‭ ‬العنف‭ ‬بشكل‭ ‬عام‭ ‬أو‭ ‬بأي‭ ‬شكل‭ ‬من‭ ‬أشكال‭ ‬القسوة‭ ‬والسادية‭ ‬الناتجتيْن‭ ‬عن‭ ‬الطغيان،‭ ‬بدءًا‭ ‬من‭ ‬الثراء‭ ‬الاستثنائي‭ ‬للمادة‭ ‬الاجتماعية‭ - ‬الإثنوغرافية‭ ‬المتاحة‭ ‬اليوم‭. ‬بيد‭ ‬أن‭ ‬الهدف‭ ‬الأساس‭ ‬هو‭ ‬طرح‭ ‬الأسئلة‭ ‬بشكل‭ ‬مختلف‭ ‬ومن‭ ‬زوايا‭ ‬مختلفة،‭ ‬وقبل‭ ‬هذا‭ ‬وذاك،‭ ‬يدلي‭ ‬الكاتب‭ ‬ببعض‭ ‬الملاحظات‭ ‬بشأن‭ ‬ما‭ ‬تفرّد‭ ‬به‭ ‬القرن‭ ‬الحادي‭ ‬والعشرون،‭ ‬حيث‭ ‬تهيمن‭ ‬عليه‭ ‬3‭ ‬أسئلة‭ ‬مركزية‭: ‬الحساب‭ ‬في‭ ‬شكله‭ ‬الرقمي،‭ ‬وعلم‭ ‬الاقتصاد‭ ‬من‭ ‬زاوية‭ ‬البيولوجيا‭ ‬العصبية‭ ‬والأحياء‭ ‬الذين‭ ‬يعانون‭ ‬عمليات‭ ‬التفحيم‭ (‬أي‭ ‬تحويل‭ ‬المادة‭ ‬إلى‭ ‬كربون‭).‬

 

تاريخ‭ ‬جغرافي

  ‬في‭ ‬صميم‭ ‬هذه‭ ‬الأسئلة‭ ‬الثلاثة،‭ ‬تقع‭ ‬قضية‭ ‬تحولات‭ ‬الأجساد‭ ‬البشرية‭ ‬وبصفة‭ ‬عامة‭ ‬قضية‭ ‬مستقبل‭ ‬‮«‬الشعوب‮»‬،‭ ‬وإذا‭ ‬كانت‭ ‬البشرية‭ ‬قد‭ ‬أصبحت‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬قوة‭ ‬جيولوجية،‭ ‬فإنه‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬بالإمكان‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬التاريخ‭ ‬في‭ ‬حد‭ ‬ذاته‭. ‬ينصّ‭ ‬مبيمبي‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬تاريخ‭ ‬الآن،‭ ‬بحكم‭ ‬طبيعته،‭ ‬هو‭ ‬تاريخ‭ ‬جغرافي،‭ ‬بما‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬تاريخ‭ ‬السلطة‭. ‬وبموجب‭ ‬ذلك،‭ ‬يصبح‭ ‬التوحش‭ ‬رديفًا‭ ‬للعملية‭ ‬التي‭ ‬تتشكّل‭ ‬بها‭ ‬القوة‭ ‬الجيومورفية‭ ‬نفسها،‭ ‬حيث‭ ‬تعبّر‭ ‬عن‭ ‬نفسها،‭ ‬وتعيد‭ ‬تشكيل‭ ‬نفسها‭ ‬بنفسها،‭ ‬وتتصرف‭ ‬وتتكاثر‭ ‬في‭ ‬مظاهر‭ ‬شتى‭ ‬أبرزها‭ ‬السّمّية‭. ‬

وهنا‭ ‬يطرح‭ ‬الكاتب‭ ‬الأسئلة‭ ‬الآتية‭: ‬أليست‭ ‬السميّة،‭ ‬أي‭ ‬انتشار‭ ‬المواد‭ ‬الكيميائية‭ ‬والنفايات‭ ‬الخطرة،‭ ‬بُعدًا‭ ‬هيكليًا‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬الحاضر؟‭ ‬ألا‭ ‬تُهاجم‭ ‬هذه‭ ‬المواد‭ ‬والنفايات‭ (‬بما‭ ‬فيها‭ ‬النفايات‭ ‬الإلكترونية‭) ‬الطبيعة‭ ‬والبيئة‭ (‬الهواء‭ ‬والتربة‭ ‬والماء‭ ‬والسلاسل‭ ‬الغذائية‭) ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬تُهاجم‭ ‬أيضًا‭ ‬الأجسام‭ ‬المعرّضة‭ ‬للرصاص‭ ‬والفوسفور‭ ‬والزئبق‭ ‬والبيريليوم‭ ‬ومواد‭ ‬التبريد؟

إن‭ ‬تحويل‭ ‬البشرية‭ ‬إلى‭ ‬مادة‭ ‬وطاقة‭ ‬هو‭ ‬المشروع‭ ‬النهائي‭ ‬للتوحش‭. ‬ومن‭ ‬خلال‭ ‬الإلمام‭ ‬بتفاصيل‭ ‬مشروع‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الطراز،‭ ‬يسعى‭ ‬مبيمبي‭ ‬جاهدًا‭ ‬للدفاع‭ ‬عن‭ ‬إعادة‭ ‬تأسيس‭ ‬مجتمع‭ ‬بشري‭ ‬قائم‭ ‬على‭ ‬التضامن‭ ‬مع‭ ‬كل‭ ‬الأحياء،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬لن‭ ‬يتحقق‭ ‬إلّا‭ ‬بتوافر‭ ‬شرط‭ ‬أساس‭: ‬البحث‭ ‬المتواصل‭ ‬عن‭ ‬المشترك‭ ‬الإنساني،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يتطلب‭ ‬وعيًا‭ ‬كوكبيًا‭ ‬جديدًا‭ ‬وإعادة‭ ‬تأسيس‭ ‬مجتمع‭ ‬بشري‭ ‬متضامن‭ ‬مع‭ ‬الحياة‭ ‬كلها‭ ‬في‭ ‬سبيل‭ ‬وضع‭ ‬أسس‭ ‬متينة‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬نقد‭ ‬العلاقة‭ ‬القائمة‭ ‬بين‭ ‬الذاكرة‭ ‬والإمكانات‭ ‬والمستقبل‭ ‬■