رواية نفحة حياة

رواية نفحة حياة

هذه واحدة من غوامض القديسة الفاتنة كلاريس ليسبكتور (10 ديسمبر 1920 - 9   ديسمبر 1977)، وقد نُشرت بعد وفاتها بمعرفة صديقتها أولجا بوريللي بالتعاون مع «باولو»، ابن الأديبة الراحلة، وقد كتبتها السيدة ليسبكتور في الوقت نفسه الذي كانت تكتب فيه روايتها الأخيرة «ساعة النجمة»، ليصدر العملان بعد رحيلها، بعد مراجعة وتنقيح صديقتها بوريللي. 

في‭ ‬سنة‭ ‬2012‭ ‬صدرت‭ ‬الترجمة‭ ‬الإنجليزية‭ ‬للرواية‭ ‬على‭ ‬يـد‭ ‬جوني‭ ‬لورينز،‭ ‬وبتصدير‭ ‬المخرج‭ ‬الإسباني‭ ‬الشهير‭ ‬بيدرو‭ ‬ألمودوفار‭ ‬والكاتب‭ ‬الأمريكي‭ ‬الشاب‭ ‬بينجامين‭ ‬موزير‭ ‬صاحب‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬سيرة‭ ‬سوزان‭ ‬زونتاج‭: ‬حياتها‭ ‬وأعمالها‮»‬‭. ‬العمل‭ ‬مُقسمّ‭ ‬إلى‭ ‬خمسة‭ ‬أجزاء‭ / ‬فصول‭: ‬نَفس‭ ‬الحياة،‭ ‬حُلم‭ ‬اليقظة‭ ‬هـو‭ ‬الواقع‭ ‬بعينه،‭ ‬كيف‭ ‬يمكننا‭ ‬أن‭ ‬نحوّل‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬إلى‭ ‬حُلم‭ ‬يقظة،‭ ‬كتاب‭ ‬أنجيلا،‭ ‬ثم‭ ‬ملاحظات‭ ‬ختامية‭. ‬لنبدأ‭ ‬من‭ ‬تصدير‭ ‬العمل‭. ‬في‭ ‬البداية‭ ‬رسالة‭ ‬قصيرة‭ ‬من‭ ‬بينجامين‭ ‬موزير‭ ‬إلى‭ ‬المخرج‭ ‬الإسباني‭ ‬ألمودوفار‭ ‬يخبره‭ ‬فيها‭ ‬بمشروع‭ ‬ترجمة‭ ‬أعمال‭ ‬ليسبكتور‭ ‬إلى‭ ‬الإنجليزية،‭ ‬وأنه‭ ‬لمس‭ ‬تشابهًا‭ ‬بين‭ ‬فيلم‭ ‬ألمودوفار‭  The Skin I Live‭ ‬In‭ ‬‭ ‬بطولة‭ ‬أنطونيو‭ ‬بانديراس‭ ‬وبين‭ ‬عمل‭ ‬ليسبكتور،‭ ‬كما‭ ‬أخبره‭ ‬بالسيرة‭ ‬الذاتية‭ ‬التي‭ ‬وضعها‭ ‬حول‭ ‬حياة‭ ‬ليسبكتور‭ ‬بعنوان‭  Why This World،‭ ‬متسائلًا‭:‬‭ ‬هل‭ ‬كانت‭ ‬ليسبكتور‭ ‬تعاني‭ ‬سكرات‭ ‬الموت‭ ‬بالفعل‭ ‬أم‭ ‬أنها‭ ‬كانت‭ ‬سائرة‭ ‬نحو‭ ‬الجنون؟‭ ‬ساردًا‭ ‬حكاية‭ ‬قصيرة‭ ‬حول‭ ‬فرار‭ ‬كلاريس‭ ‬من‭ ‬أوكرانيا‭ ‬مسقط‭ ‬رأسها‭ ‬مع‭ ‬والدتها،‭ ‬وتعرّض‭ ‬والدتها‭ ‬للاغتصاب‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬أحد‭ ‬الجنود‭ ‬الروس‭ ‬في‭ ‬أثناء‭ ‬الحرب،‭ ‬وإصابة‭ ‬أمها‭ ‬بمرض‭ ‬‮«‬الزهري‮»‬‭ ‬غير‭ ‬القابل‭ ‬للشفاء‭ ‬آنذاك،‭ ‬ووفقًا‭ ‬للمعتقدات‭ ‬الشعبية‭ ‬كان‭ ‬الحَمل‭ ‬هو‭ ‬السبيل‭ ‬الوحيد‭ ‬لتبرأ‭ ‬الأم‭ ‬من‭ ‬مرضها‭. ‬كانت‭ ‬كلاريس‭ ‬تعاني‭ ‬عقدة‭ ‬ذنب‭ ‬من‭ ‬فشلها‭ ‬في‭ ‬إبراء‭ ‬أمها،‭ ‬فبدأت‭ ‬الطفلة‭ ‬ذات‭ ‬التسع‭ ‬سنوات‭ ‬في‭ ‬اختراع‭ ‬قصص‭ ‬عن‭ ‬ملائكة‭ ‬وآلهة‭ ‬وقديسين‭ ‬يهبطون‭ ‬لإبراء‭ ‬أمها،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬لمسه‭ ‬موزير‭ ‬في‭ ‬ابتكار‭ ‬شخصية‭ ‬‮«‬أنجيلا‮»‬،‭ ‬التي‭ ‬ابتكرتها‭ ‬ليسبكتور‭ ‬لتنقذ‭ ‬شخصًا‭ ‬ما‭.‬

في‭ ‬مقدمة‭ ‬الرواية‭ ‬نقرأ‭ ‬استهلالًا‭ ‬كتبته‭ ‬صديقة‭ ‬ليسبكتور‭ ‬تقول‭ ‬فيه‭: ‬‮«‬بدأتَها‭ ‬ليسبكتور‭ ‬في‭ ‬سنة‭ ‬1974‭ ‬وأنهـَـتْ‭ ‬كتابتها‭ ‬في‭ ‬سنة‭ ‬1977،‭ ‬وتحديدًا‭ ‬عشية‭ ‬وفاتها،‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬العمل،‭ ‬الذي‭ ‬شقّ‭ ‬على‭ ‬ليسبكتور‭ ‬إخراجه‭ ‬إلى‭ ‬النور،‭ ‬مكتوبًا‭ ‬في‭ ‬لحظة‭ ‬احتضار‭ ‬وَفقًا‭ ‬لكلمات‭ ‬ليسبكتور‭ ‬نفسها‮»‬‭. ‬وهي‭ ‬فقرة‭ ‬كاشفة‭ ‬للأسلوب‭ ‬الشاعري‭ ‬الذي‭ ‬كُتبت‭ ‬به‭ ‬الرواية‭ ‬ونزوعه‭ ‬إلى‭ ‬هذيانات‭ ‬الاحتضار‭ ‬أحيانًا،‭ ‬وإلى‭ ‬مناجاة‭ ‬السماء‭ ‬أحيانًا‭ ‬أخرى‭. ‬عنوان‭ ‬الرواية‭ ‬مُقتبس‭ ‬من‭ ‬آية‭ ‬من‭ ‬العهد‭ ‬القديم‭ (‬سفر‭ ‬التكوين‭ ‬7:2‭): ‬‮«‬وجبل‭ ‬الربُ‭ ‬الإله‭ ‬آدم‭ ‬ترابًا‭ ‬من‭ ‬الأرض،‭ ‬ونفخ‭ ‬في‭ ‬أنفه‭ ‬نسمة‭ ‬حياة‭ ‬فصار‭ ‬آدم‭ ‬نفسًا‭ ‬حيّة‮»‬‭.‬

 

بين‭ ‬الوجود‭ ‬والإبداع

تتخذ‭ ‬الرواية‭ ‬شكل‭ ‬حوار‭ ‬بين‭ ‬كاتبٍ‭ ‬وشخصية‭ ‬روائية‭ ‬خيالية،‭ ‬وهي‭ ‬امرأة‭ ‬تدعى‭ ‬أنجيلا‭ ‬براليني،‭ ‬ليتفحّصَ‭ ‬المؤلف‭ ‬عبر‭ ‬حواره‭ ‬معها‭ ‬وإجاباتها‭ ‬ما‭ ‬يعنيه‭ ‬الوجود‭ ‬والإبداع‭. ‬في‭ ‬عالم‭ ‬هذه‭ ‬الرواية،‭ ‬أو‭ ‬إذا‭ ‬توخيّنا‭ ‬الدقة‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬ليسبكتور‭ ‬نفسه‭ ‬لا‭ ‬وجود‭ ‬للحياة‭ ‬خارج‭ ‬الإبداع‭ ‬ولا‭ ‬خارج‭ ‬فعلِ‭ ‬الكتابة‭ ‬ولا‭ ‬خارج‭ ‬حدود‭ ‬الخلق‭ ‬الفني،‭ ‬الكتابة‭ ‬أو‭ ‬العمل‭ ‬الإبداعي‭ ‬هو‭ ‬‮«‬نَفَس‭ ‬الحياة‮»‬‭ - ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬العنوان‭  - ‬الذي‭ ‬يسمح‭ ‬للشخصيات‭ ‬بالوجود،‭ ‬لكنه‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬‮«‬نَفَس‮»‬‭ ‬بروحيْن،‭ ‬يسمح‭ ‬للمؤلف‭ ‬نفسه‭ ‬بالبقاء‭ ‬على‭ ‬قيد‭ ‬الحياة‭.‬

لنقرأ‭ ‬الفقرة‭ ‬التالية‭ ‬من‭ ‬مفتتح‭ ‬الرواية‭: ‬‮«‬أكتب‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬أني‭ ‬أسعى‭ ‬لإنقاذ‭ ‬حياة‭ ‬إنسان‭ ‬آخر،‭ ‬ربما‭ ‬هـو‭ ‬أنـا‭. ‬الحياة‭ ‬لون‭ ‬من‭ ‬ألوان‭ ‬الجنون‭ ‬الذي‭ ‬يصنعه‭ ‬الموت‭.‬‭ ‬ليحيا‭ ‬الأموات‭ ‬لأننا‭ ‬نعيش‭ ‬داخلهم‭. ‬فجأة‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬الأشياء‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬أي‭ ‬معنى،‭ ‬صرتُ‭ ‬راضيًا‭ ‬عن‭ ‬وجودي‭.‬‭ ‬هل‭ ‬أنتِ‭ ‬راضية‭ ‬أيضًا؟‭ ‬المؤكد‭ ‬أنكِ‭ ‬راضية‮»‬‭.‬

ها‭ ‬قد‭ ‬بانت‭ ‬الرؤية،‭ ‬كانت‭ ‬ذكرى‭ ‬اغتصاب‭ ‬أمّها‭ ‬لاتزال‭ ‬ماثلة‭ ‬في‭ ‬ذهنها،‭ ‬كانت‭ ‬تروي‭ ‬القصص‭ ‬وهي‭ ‬طفلة‭ ‬لتنقذ‭ ‬أمّها،‭ ‬لتسرّي‭ ‬عنها‭ ‬فلما‭ ‬فشلتْ‭ ‬واصلت‭ ‬كتابة‭ ‬الحكايات‭ ‬لتنقذ‭ ‬نفسها‭. ‬هي‭ ‬فقرة‭ ‬استهلالية‭ ‬غريبة‭ ‬لكنها‭ ‬لائقة‭ ‬بالسيدة‭ ‬ليسبكتور،‭ ‬فقرة‭ ‬تؤخـذ‭ ‬بمعانٍ‭ ‬عديدة‭. ‬هـل‭ ‬هو‭ ‬النضج؟‭ ‬هل‭ ‬هو‭ ‬اليأس‭ ‬من‭ ‬جدوى‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬والموت‭ ‬متربص‭ ‬بها؟‭ ‬هل‭ ‬هي‭ ‬زفرات‭ ‬قنوط‭ ‬وألم‭ ‬نفثتها‭ ‬روح‭ ‬امرأة‭ ‬ينهش‭ ‬السرطان‭ ‬جسدَها‭ ‬الجميل‭ ‬الرقيق؟‭ ‬ليسبكتور‭ ‬من‭ ‬طينة‭ ‬الكاتبات‭ ‬المفتونات‭ ‬بالعلاقة‭ ‬الغامضة‭ ‬بين‭ ‬الشخصية‭ ‬والمؤلف،‭ ‬بين‭ ‬خالق‭ ‬النصّ‭ ‬ومخلوقه‭ ‬الإبداعي،‭ ‬مثلها‭ ‬مثل‭ ‬روايتها‭ ‬القصيرة‭ ‬‮«‬ساعة‭ ‬النجمة‮»‬،‭ ‬ثمة‭ ‬سؤال‭ ‬يتردد‭: ‬هل‭ ‬أنا‭ ‬من‭ ‬أنا‭ ‬عليه‭ ‬بالفعل؟‭ ‬يندمج‭ ‬الكاتب‭ (‬السارد‭) ‬مع‭ ‬الشخصية‭ ‬الروائية‭ ‬التي‭ ‬يحاورها‭ ‬اندماجًا‭ ‬يدفع‭ ‬القارئ‭ ‬إلى‭ ‬التساؤل‭ ‬أيهما‭ ‬يمثّل‭ ‬ليسبكتور‭ ‬الحقيقية؟‭ ‬الكاتب‭/‬السارد‭ ‬أم‭ ‬الشخصية‭ ‬الروائية؟‭ ‬لكن‭ ‬ليسبكتور‭/‬المؤلف‭/ ‬وأنجيلا،‭ ‬تبتكر‭ ‬حيلة‭ ‬لطيفة‭ ‬لتجاوز‭ ‬كل‭ ‬الآلام‭ ‬وكل‭ ‬المنغصات‭. ‬تعيش‭ ‬شخصيات‭ ‬ليسبكتور‭ ‬حياة‭ ‬مُعَـذَّبة،‭ ‬تحوم‭ ‬في‭ ‬الفراغ،‭ ‬تبحث‭ ‬عن‭ ‬طرائق‭ ‬لملء‭ ‬فراغ‭ ‬حياتها‭ ‬المؤلم‭. ‬بالنسبة‭ ‬لأنجيلا‭ ‬الكتابة‭ ‬هي‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬طرائق‭ ‬ملء‭ ‬الفراغ،‭ ‬وهي‭ ‬تتوق‭ ‬إلى‭ ‬الكتابة‭ ‬بكلمات‭ ‬ملتصقة‭ ‬تمامًا‭ ‬ببعضها‭ ‬البعض،‭ ‬بحيث‭ ‬تُردم‭ ‬الفجوات‭ ‬بينها‭ ‬وبين‭ ‬المؤلف‭ ‬وفقًا‭ ‬لتعبيرها،‭ ‬تريد‭ ‬أن‭ ‬تكتب‭ ‬‮«‬عبارات‭ ‬تلامس‭ ‬حافّة‭ ‬اللا‭ ‬معنى‮»‬،‭ ‬بعبارة‭ ‬أخرى‭ ‬تريد‭ ‬أن‭ ‬تكتب‭ ‬جُملًا‭ ‬تلامس‭ ‬المعنى‭ ‬‮«‬يا‭ ‬دوب‭ ‬على‭ ‬خفيف‮»‬،‭ ‬ملامسةً‭ ‬طيّارة‭ ‬لا‭ ‬تترك‭ ‬أثرًا‭ ‬كرَشّة‭ ‬كحول‭. ‬أعتقد‭ ‬أن‭ ‬ليسبكتور‭ ‬كانت‭ ‬تكابد‭  - ‬بالطبع‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬آلام‭ ‬المرض‭ ‬الخبيث‭ - ‬عناء‭ ‬صيد‭ ‬الكلمات،‭ ‬حيث‭ ‬نقرأ‭: ‬‮«‬الكلمة‭ ‬شيء‭ ‬ذو‭ ‬جناحين‭ ‬ألتقطه‭ ‬من‭ ‬الهواء‭ ‬بفمّي‭ ‬حين‭ ‬أتحدّث،‭ ‬فأجعله‭ ‬شيئًا‭ ‬ملموسًا‮»‬‭. ‬تخلو‭ ‬الرواية‭ - ‬وهذا‭ ‬شيء‭ ‬بديهي‭ - ‬من‭ ‬البنية‭ ‬المُحكمة،‭ ‬فلا‭ ‬حبكة‭ ‬ولا‭ ‬تصاعد‭ ‬أحداث،‭ ‬رحلة‭ ‬روحية‭ ‬مؤلفة‭ ‬من‭ ‬شظايا‭ ‬أحلام‭ ‬وآلام‭ ‬ويوميات‭ ‬تيه‭ ‬في‭ ‬الدنيا،‭ ‬وكأن‭ ‬ليسبكتور‭ ‬تقول‭: ‬‮«‬أنا‭ ‬امرأة‭ ‬تنتظر‭ ‬الموت‭... ‬ماذا‭ ‬عساني‭ ‬أن‭ ‬أفعل‭ ‬بالحبكة‭ ‬والأحداث،‭ ‬هذا‭ ‬قلمي‭ ‬أتوكأ‭ ‬عليه‭ ‬وأهشّ‭ ‬به‭ ‬لأبعد‭ ‬عزرائيل‭ ‬قليلًا‭ ‬حتى‭ ‬أفرغ‭ ‬من‭ ‬كتابة‭ ‬الرواية‮»‬‭.‬

 

الخوف‭ ‬من‭ ‬الكتابة

وهكذا‭ ‬على‭ ‬مدار‭ ‬صفحات‭ ‬هذا‭ ‬العمل‭ ‬يتواصل‭ ‬الحوار‭ ‬بين‭ ‬المؤلف‭ ‬وشخصيته‭ ‬المُخترعة،‭ ‬التي‭ ‬يقع‭ ‬في‭ ‬غرامها‭ ‬فعليًا‭ ‬كامرأة‭ ‬من‭ ‬لحم‭ ‬ودم،‭ ‬يطرح‭ ‬عليها‭ ‬أسئلة‭ ‬فتجيبه‭ ‬أحيانًا‭ ‬إجابات‭ ‬عجيبة،‭ ‬يسألها‭ ‬مثلًا‭ ‬مـن‭ ‬أنتِ؟‭ ‬فتجيبه‭: ‬‮«‬أنا‭ ‬مُترجمة‭ ‬تعمل‭ ‬عند‭ ‬الربّ‮»‬‭.‬

لا‭ ‬ينتمي‭ ‬العمل‭ ‬إلى‭ ‬صنف‭ ‬الأعمال‭ ‬القابلة‭ ‬للعرض‭ ‬والمراجعة‭ ‬بالشكل‭ ‬المعتاد،‭ ‬هذا‭ ‬أدب‭ ‬عظيم‭ ‬ينأى‭ ‬بنفسه‭ ‬عن‭ ‬الجلوس‭ ‬في‭ ‬مقعد‭ ‬واحد‭ ‬مع‭ ‬الآخـرين‭. ‬بحسبي‭ ‬أن‭ ‬أنقل‭ ‬منه‭ ‬بعض‭ ‬الفقرات‭ ‬المُطوّلة‭:‬

‭ ‬أردتُ‭ ‬تأليف‭ ‬كتاب،‭ ‬ولكن‭ ‬أين‭ ‬لي‭ ‬بالكلمات؟‭ ‬لقد‭ ‬استُهـلِـكت‭ ‬المعاني‭ ‬كافة،‭ ‬نتواصل‭ ‬عبر‭ ‬الأيدي‭ ‬مثلما‭ ‬يفعل‭ ‬الأصم‭ ‬والأبكم،‭ ‬أردتُ‭ ‬أن‭ ‬يُؤذَن‭ ‬لي‭ ‬بكتابة‭ ‬فُـتات‭ ‬الكلمات،‭ ‬يصحابني‭ ‬عزف‭ ‬قيثارة‭ ‬ريفية‭. ‬هل‭ ‬أكتب‭ ‬أم‭ ‬لا؟‭ ‬أن‭ ‬تعلم‭ ‬متى‭ ‬تتوقّف‭ ‬أو‭ ‬تُنصرف‭: ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬السؤال‭ ‬الذي‭ ‬يواجه‭ ‬كل‭ ‬مُقامر‭. ‬

‭ ‬أنا‭ ‬خائف‭ ‬من‭ ‬الكتابة،‭ ‬فهي‭ ‬محفوفة‭ ‬بالمخاطر،‭ ‬وأي‭ ‬شخص‭ ‬حاول‭ ‬الكتابة‭ ‬يعرف‭ ‬ذلك،‭ ‬يعرف‭ ‬مخاطر‭ ‬استثارة‭ ‬الأشياء‭ ‬المدفونة‭ ‬لتظهر،‭ ‬فالعالم‭ ‬الحقيقي‭ ‬ليس‭ ‬طافيًا‭ ‬على‭ ‬السطح،‭ ‬بل‭ ‬مدفونًا‭ ‬من‭ ‬جذوره‭.‬

‭ ‬هل‭ ‬الكتابة‭ ‬موجودة‭ ‬في‭ ‬حـدّ‭ ‬ذاتها؟‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬ذاتها؟‭ ‬لا،‭ ‬إن‭ ‬هي‭ ‬إلا‭ ‬مجرد‭ ‬انعكاس‭ ‬للأشياء‭ ‬التي‭ ‬تثير‭ ‬الأسئلة‭. ‬أعمل‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬غير‭ ‬متوقع‭. ‬أكتب‭ ‬بطريقتي‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬أعلم‭ ‬كيف‭ ‬لماذا،‭ ‬إنه‭ ‬قَـدر‭ ‬صوتي‭.‬‭ ‬إن‭ ‬جرس‭ ‬صوتي‭ (‬الكتابي‭) ‬هـو‭ ‬أنا‭. ‬الكتابة‭ ‬تساؤل‭... ‬شكّ‭. ‬الكتابة‭ ‬هي‭ ‬علامة‭ ‬استفهام‭. ‬عليَّ‭ ‬أن‭ ‬أتسلّح‭ ‬بالصبر‭ ‬وستكون‭ ‬النتائج‭ ‬مُدهشة‭. ‬

●‭ ‬كل‭ ‬كتاب‭ ‬جديد‭ ‬هو‭ ‬رحلة‭. ‬رحلة‭ ‬تخوضها‭ ‬معصوب‭ ‬العينيْن‭ ‬عبر‭ ‬بحارٍ‭ ‬لم‭ ‬تُكتشف‭ ‬من‭ ‬قبل،‭ ‬والعُصابة‭ ‬المربوطة‭ ‬فوق‭ ‬عينيك‭ ‬ورعب‭ ‬تخبّطك‭ ‬في‭ ‬الظلام‭ ‬مُكبّل‭. ‬حينما‭ ‬أُلهم‭ ‬بفكرة‭ ‬أكاد‭ ‬أموت‭ ‬خوفًا‭ ‬لعلمي‭ ‬أنني‭ ‬سأسافر‭ ‬وحيدًا‭ ‬ناحية‭ ‬العالم‭ ‬الذي‭ ‬يطردني‭ ‬■