أديب غواتيمالا راي روسا

أديب غواتيمالا راي روسا

رودريغو راي روسا كاتب من غواتيمالا بأمريكا اللاتينية، القارة التي زرعت في أحشاء الحقل الأدبي العالمي حبّات فاكهة استثنائية جمعت بين الجِدة، والطلاوة، والماء، وتحريك المشاعر، وتخصيب الخيال. ضرب من فاكهة الغابة الاستوائية، تنعش القلب، وتنشرح لها النفس، وتسحر الروح، ولا اسم لها، ولو أن هذه اختاروا لها من الأسماء الواقعية السحرية، والواقعية واقعيات، والسحر لا ضفاف له. 

من‭ ‬قلب‭ ‬هذا‭ ‬السحر‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬ضفاف‭ ‬له،‭ ‬انبعث‭ ‬راي‭ ‬روسا‭. ‬ندت‭ ‬أصابعه‭ ‬بالحروف‭ ‬باكرًا،‭ ‬وما‭ ‬رغب‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬يستبدل‭ ‬الحروف‭ ‬والكلمات‭ ‬بالمبضع؛‭ ‬لذلك‭ ‬غادر‭ ‬كلية‭ ‬الطب،‭ ‬وانضم‭ ‬إلى‭ ‬كلية‭ ‬الآداب‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يكلّف‭ ‬نفسه‭ ‬التسجيل‭ ‬بها‭ ‬رسميًا‭. ‬لكنّ‭ ‬سحر‭ ‬أستاذ‭ ‬يدرّس‭ ‬نصوص‭ ‬القمم‭ ‬الأدبية‭ ‬جذبه‭ ‬كما‭ ‬المغناطيس،‭ ‬ومن‭ ‬سحر‭ ‬الكلمات‭ ‬انتقل‭ ‬إلى‭ ‬سحر‭ ‬الصورة‭. ‬رحل‭ ‬إلى‭ ‬نيويورك،‭ ‬حيث‭ ‬درس‭ ‬فنّ‭ ‬السينما‭ ‬بمدرسة‭ ‬الفنون‭ ‬البصرية‭. ‬تخرّج‭ ‬هناك،‭ ‬وما‭ ‬توقّف‭ ‬عن‭ ‬إنجاز‭ ‬أفلام‭ ‬قصيرة‭ ‬وأخرى‭ ‬طويلة‭.‬

‭ ‬ومن‭ ‬هناك‭ ‬رحل‭ ‬إلى‭ ‬طنجة،‭ ‬ليدرس‭ ‬مادة‭ ‬‮«‬التخييل‮»‬‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬المبدع‭ ‬الأمريكي‭ ‬الطنجي‭ ‬بول‭ ‬بولز،‭ ‬بمعيّة‭ ‬جماعة‭ ‬من‭ ‬الطلبة‭ ‬الراغبين‭ ‬في‭ ‬تعلُّم‭ ‬بعض‭ ‬أسرار‭ ‬الكتابة‭ ‬الأدبية‭.‬

كتب‭ ‬رودريغو‭ ‬القصة‭ ‬القصيرة‭ ‬‮«‬سكين‭ ‬الشحاذ‮»‬،‭ (‬1986‭)‬،‭ ‬و«الماء‭ ‬الساكن‮»‬،‭ ‬و«لا‭ ‬وجود‭ ‬لمكان‭ ‬مقدس‮»‬،‭ (‬1998‭)‬،‭ ‬والرواية‭ ‬أو‭ ‬النوفيلا،‭ ‬أي‭ ‬الرواية‭ ‬القصيرة‭ ‬‮«‬الشاطئ‭ ‬الإفريقي‮»‬،‭ (‬1999‭)‬،‭ ‬و«الأحجار‭ ‬المسحورة‮»‬،‭ (‬2001‭)‬،‭ ‬و«المادة‭ ‬البشرية‮»‬،‭ (‬2009‭)‬،‭ ‬و‮«‬سفرينا‮»‬،‭ (‬2011‭)‬،‭ ‬و«الصم‮»‬،‭ (‬2012‭)‬،‭ ‬و‮«‬حكاية‭ ‬آسيوية‮»‬،‭ (‬2016‭)‬،‭ ‬و«بلد‭ ‬الطو‮»‬،‭ (‬2018‭)‬،‭ ‬وغيرها‭.‬

رودريغو‭ ‬كاتب‭ ‬يتمتّع‭ ‬بحظوة‭ ‬كبيرة‭ ‬في‭ ‬فرنسا،‭ ‬دليل‭ ‬ذلك‭ ‬الحرص‭ ‬الشديد‭ ‬على‭ ‬ترجمة‭ ‬نصوصه‭ ‬إلى‭ ‬اللغة‭ ‬الفرنسية‭ ‬مباشرة‭ ‬بعد‭ ‬صدورها،‭ ‬وفي‭ ‬الجامعات‭ ‬الفرنسية‭ ‬التي‭ ‬نظمت‭ ‬عددًا‭ ‬من‭ ‬الندوات‭ ‬لمناقشة‭ ‬نصوصه‭ ‬لحظة‭ ‬صدور‭ ‬ترجمة‭ ‬نصّ‭ ‬جديد،‭ ‬أو‭ ‬مناقشة‭ ‬مجموع‭ ‬أعماله‭ ‬المترجمة،‭ ‬بل‭ ‬نظمت‭ ‬جامعات‭ ‬فرنسية‭ ‬بشعبة‭ ‬اللغة‭ ‬الإسبانية‭ ‬ندوات‭ ‬تناولت‭ ‬رواياته‭ ‬والمجاميع‭ ‬القصصية‭.‬

من‭ ‬دون‭ ‬نسيان‭ ‬الإشارة‭ ‬إلى‭ ‬حظوة‭ ‬أكبر‭ ‬في‭ ‬دول‭ ‬أمريكا‭ ‬اللاتينية‭ ‬وإسبانيا‭ ‬نفسها،‭ ‬كما‭ ‬سمحت‭ ‬الترجمة‭ ‬باكتساب‭ ‬نصوصه‭ ‬قراء‭ ‬جددًا‭ ‬بلغات‭ ‬عدة؛‭ ‬منها‭ ‬اليابانية،‭ ‬والإنجليزية‭ (‬وكان‭ ‬بولز‭ ‬قد‭ ‬ترجم‭ ‬بعضها‭)‬،‭ ‬والإيطالية‭ ‬والألمانية،‭ ‬الهولندية‭.‬

وكما‭ ‬ترجم‭ ‬بولز‭ ‬نصوص‭ ‬رودريغو‭ (‬‮«‬سكين‭ ‬الشحاذ‮»‬،‭ ‬و«مشروع‭ ‬بلكاري‮»‬‭)‬،‭ ‬فقد‭ ‬ترجم‭ ‬هو‭ ‬أيضًا‭ ‬نصوصًا‭ ‬روائية‭ ‬لبولز‭ ‬إلى‭ ‬اللغة‭ ‬الإسبانية؛‭ ‬منها‭ ‬‮«‬عاليا‭ ‬فوق‭ ‬قمة‭ ‬العالم‮»‬،‭ ‬و«بعيدًا‭ ‬جدًا‭ ‬من‭ ‬البيت‮»‬‭. ‬

 

شخص‭ ‬غريب

●‭ ‬رودريغو،‭ ‬متى‭ ‬التقيت‭ ‬بولز،‭ ‬وما‭ ‬المناسبة؟

‭- ‬التقيته‭ ‬خلال‭ ‬يونيو‭ ‬1980،‭ ‬كنت‭ ‬قبل‭ ‬ذلك‭ ‬أسكن‭ ‬مدينة‭ ‬نيويورك،‭ ‬وكنت‭ ‬أرغب‭ ‬في‭ ‬متابعة‭ ‬الدراسة‭ ‬بمدرسة‭ ‬الفنون‭ ‬البصرية،‭ ‬لأنني‭ ‬شعرت‭ ‬أنني‭ ‬شخص‭ ‬غريب‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬البلد‭ (‬الولايات‭ ‬المتحدة‭)‬،‭ ‬ومن‭ ‬حُسن‭ ‬الحظ‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬وقع‭ ‬بين‭ ‬يدي‭ ‬قبل‭ ‬ثلاثة‭ ‬أسابيع‭ ‬كتاب‭ ‬يضمّ‭ ‬أعماله‭ ‬القصصية‭ ‬الكاملة،‭ ‬وقرأت‭ ‬بعضًا‭ ‬منها‭.‬

وكنت‭ ‬أبحث‭ ‬عن‭ ‬درس‭ ‬معيّن،‭ ‬بينما‭ ‬أتابع‭ ‬الدراسة‭ ‬بالمدرسة‭ ‬العليا‭ ‬للفنون‭ ‬البصرية‭ ‬في‭ ‬نيويورك،‭ ‬حين‭ ‬علمت‭ ‬بوجود‭ ‬درس‭ ‬عن‭ ‬الكتابة‭ ‬الإبداعية‭ ‬يقدّم‭ ‬في‭ ‬المغرب‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬الكاتب‭ ‬بول‭ ‬بولز،‭ ‬وأثارني‭ ‬الأمر‭ ‬حقيقة،‭ ‬فقلت‭ ‬إنها‭ ‬مناسبة‭ ‬للاقتراب‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الأديب،‭ ‬ثم‭ ‬من‭ ‬الأدب،‭ ‬وفتح‭ ‬أبواب‭ ‬الحوار‭ ‬على‭ ‬مصاريعها‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬مع‭ ‬أديب‭.‬

 

السياسة‭ ‬مصالح

●‭ ‬هل‭ ‬يمكن‭ ‬اعتبار‭ ‬مغادرتك‭ ‬لبلدك‭ ‬غواتيمالا‭ ‬نوعًا‭ ‬من‭ ‬فرار‭ ‬من‭ ‬الأوضاع‭ ‬السيئة،‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬نقُل‭ ‬الخطيرة،‭ ‬ورفضًا‭ ‬للاقتراب‭ ‬من‭ ‬السياسة؟

‭- ‬تمثّل‭ ‬سنة‭ ‬1980‭ ‬قمة‭ ‬اشتداد‭ ‬الحرب‭ ‬الأهلية،‭ ‬سنة‭ ‬شرع‭ ‬فيها‭ ‬الجيش‭ ‬بإحراق‭ ‬قرى‭ ‬بكاملها،‭ ‬تطبيقًا‭ ‬لنصائح‭ ‬الجار‭ ‬الأمريكي‭. ‬والسياسة‭ ‬مصالح،‭ ‬دفاع‭ ‬عن‭ ‬المصالح،‭ ‬قتال‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬المصالح‭ ‬بكل‭ ‬الأسلحة؛‭ ‬من‭ ‬الكذب،‭ ‬إلى‭ ‬السفسطة،‭ ‬إلى‭ ‬الأسلحة‭ ‬النارية‭ ‬كافة‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬التخلّص‭ ‬من‭ ‬الخصم،‭ ‬والقتل‭ ‬المادي‭ ‬أو‭ ‬المعنوي،‭ ‬هو‭ ‬الهدف‭ ‬الأسمى‭! ‬

 

تركت‭ ‬دراسة‭ ‬الطب

●‭ ‬كيف‭ ‬أتيت‭ ‬إلى‭ ‬الكتابة؟

‭- ‬شرعت‭ ‬أدرس‭ ‬بكلية‭ ‬الطب،‭ ‬وأحسست‭ ‬بقوة‭ ‬أنني‭ ‬لا‭ ‬أملك‭ ‬لا‭ ‬الميل‭ ‬الطبيعي‭ ‬ولا‭ ‬الاستعداد‭ ‬لهذا‭ ‬الصنف‭ ‬من‭ ‬الدراسة،‭ ‬وكنت‭ ‬يومها‭ ‬أقرأ‭ ‬قصص‭ ‬بورخيس،‭ ‬وانقطعت‭ ‬عن‭ ‬حضور‭ ‬حصص‭ ‬الفيزياء‭ ‬والكيمياء‭ ‬بالكلية،‭ ‬حيث‭ ‬كنت‭ ‬طالبًا،‭ ‬وذلك‭ ‬حين‭ ‬سمعت‭ ‬بوجود‭ ‬أستاذ‭ ‬إسباني‭ ‬بجامعة‭ ‬غواتيمالا‭ ‬يدرّس‭ ‬الأدب‭ ‬الإسباني،‭ ‬وقد‭ ‬نزح‭ ‬هربًا‭ ‬من‭ ‬بطش‭ ‬فرانكو‭.‬

وذهبت‭ ‬لحضور‭ ‬أحد‭ ‬دروسه،‭ ‬وكانت‭ ‬تلك‭ ‬الحصة‭ ‬الأولى‭ ‬مخصصة‭ ‬لتحليل‭ ‬نصّ‭ ‬لبورخيس‭... ‬أية‭ ‬مصادفة‭ ‬هذه؟‭! ‬تابعت‭ ‬حضور‭ ‬حصصه،‭ ‬وانقطعت‭ ‬عن‭ ‬متابعة‭ ‬الدراسة‭ ‬بكلية‭ ‬الطب‭. ‬الأستاذ‭ ‬اسمه‭ ‬سالفادور‭ ‬أكوالو،‭ ‬وهو‭ ‬عالم‭ ‬لغة‭ ‬وناقد‭ ‬أدبي،‭ ‬وذات‭ ‬يوم‭ ‬سألني‭: ‬لاحظت‭ ‬أنّك‭ ‬لست‭ ‬من‭ ‬طلبتي،‭ ‬فما‭ ‬مبرر‭ ‬حضورك؟‭ ‬مرحبًا‭ ‬بك‭ ‬طبعًا،‭ ‬هو‭ ‬مجرّد‭ ‬سؤال‭ ‬مبعثه‭ ‬الفضول‭. ‬وفيما‭ ‬بعد،‭ ‬سألني‭: ‬هل‭ ‬كتبت‭ ‬نصًا‭ ‬ما‭ ‬أو‭ ‬مجموعة‭ ‬نصوص؟‭ ‬حركت‭ ‬رأسي‭ ‬بالإيجاب‭. ‬

يمكن‭ ‬أن‭ ‬تعرض‭ ‬عليّ‭ ‬بعض‭ ‬ما‭ ‬كتبت،‭ ‬إن‭ ‬رغبت‭ ‬في‭ ‬ذلك‭. ‬وبعد‭ ‬قراءة‭ ‬النصوص‭ ‬التي‭ ‬كنت‭ ‬قد‭ ‬كتبتها‭ ‬من‭ ‬قبل،‭ ‬قال‭ ‬لي‭: ‬هناك‭ ‬جهد‭ ‬كبير‭ ‬يجب‭ ‬عليك‭ ‬القيام‭ ‬به،‭ ‬لكن‭ ‬عليك‭ ‬أن‭ ‬تستمر‭ ‬في‭ ‬الكتابة‭.‬

 

غواية‭ ‬الأدب

●‭ ‬ما‭ ‬طبيعة‭ ‬كتاباتك‭ ‬تلك‭ ‬يومها،‭ ‬وهل‭ ‬كانت‭ ‬من‭ ‬الشعر‭ ‬أم‭ ‬من‭ ‬النثر؟

‭- ‬نثر‭ ‬هي،‭ ‬لكن‭ ‬لا‭ ‬وجود‭ ‬ولا‭ ‬أثر‭ ‬لحبكة‭. ‬حدث‭ ‬ذلك‭ ‬سنة‭ ‬1979،‭ ‬وبعد‭ ‬سنة‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬جئت‭ ‬إلى‭ ‬المغرب‭.‬

●‭ ‬كان‭ ‬بورخيس‭ ‬هو‭ ‬مَن‭ ‬ابتلاك‭ ‬بالأدب،‭ ‬وحرّرك‭ ‬من‭ ‬العلم،‭ ‬ودراسة‭ ‬الطب‭... ‬من‭ ‬هم‭ ‬الذين‭ ‬قرأت‭ ‬لهم‭ ‬وضاعفوا‭ ‬غواية‭ ‬الأدب؟

‭- ‬بول‭ ‬بولز،‭ ‬وكل‭ ‬من‭ ‬سقط‭ ‬بين‭ ‬فخاخ‭ ‬يدي؛‭ ‬كافكا،‭ ‬وفرجينيا‭ ‬وولف‭ ‬طبعًا،‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يعجبني‭ ‬غارسيا‭ ‬ماركيز،‭ ‬ولا‭ ‬فرغاس‭ ‬يوسا،‭ ‬وهما‭ ‬من‭ ‬كبار‭ ‬الكتاب‭.‬

●‭ ‬أهناك‭ ‬مبرر‭ ‬منطقي‭ ‬لذلك؟

‭- ‬كانا‭ ‬مشهورين‭ ‬جدًا،‭ ‬وحديث‭ ‬القاصي‭ ‬والداني‭ ‬في‭ ‬نيويورك،‭ ‬ورغبت‭ ‬في‭ ‬اكتشاف‭ ‬قارات‭ ‬أخرى‭ ‬بالاعتماد‭ ‬على‭ ‬الذات‭.  ‬وكنت‭ ‬قد‭ ‬قرأت،‭ ‬كما‭ ‬زملائي‭ ‬في‭ ‬فصل‭ ‬الدراسة،‭ ‬بعض‭ ‬الكتّاب‭ ‬الآخرين‭. ‬

كما‭ ‬كنت‭ ‬أدمن‭ ‬على‭ ‬قراءة‭ ‬الفلسفة‭. ‬طبعًا‭ ‬سأذكر‭ ‬بعض‭ ‬الأسماء؛‭ ‬شوبنهاور،‭ ‬أورتيغا‭ ‬ي‭ ‬كاسيت،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬بالإمكان‭ ‬يومها‭ ‬في‭ ‬غواتيمالا‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬فلاسفة‭ ‬معاصرين‭ ‬أو‭ ‬ينتمون‭ ‬إلى‭ ‬العصر‭ ‬الحديث‭. ‬ثم‭ ‬إن‭ ‬الحرب‭ ‬الأهلية‭ ‬كانت‭ ‬على‭ ‬أشدّها،‭ ‬وقد‭ ‬استمرت‭ ‬نحو‭ ‬أربعة‭ ‬عقود‭ (‬39‭ ‬سنة‭)‬،‭ ‬وكانت‭ ‬السلطة‭ ‬العسكرية‭ ‬تغدق‭ ‬القمع‭ ‬على‭ ‬من‭ ‬يختلف‭ ‬معها،‭ ‬والرقابة‭ ‬الشديدة‭ ‬مسلّطة‭ ‬على‭ ‬الرقاب‭ ‬والعقول‭.‬

‭ ‬

حرب‭ ‬إبادة

●‭ ‬انطلقت‭ ‬الحرب‭ ‬سنة‭ ‬1958‭ ‬وانتهت‭ ‬سنة‭ ‬1996،‭ ‬لا‭ ‬بدّ‭ ‬أنك‭ ‬عشت‭ ‬بعض‭ ‬تفاصيلها،‭ ‬وانعكاساتها‭ ‬عليك‭ ‬وعلى‭ ‬نصوصك‭ ‬واضح‭ ‬بين‭ ‬في‭ ‬الأحداث،‭ ‬والحوارات‭ ‬أحيانًا‭.‬

‭- ‬كانت‭ ‬حربًا‭ ‬صامتة،‭ ‬تدور‭ ‬فيما‭ ‬يشبه‭ ‬الخفاء‭. ‬لا‭ ‬أثر‭ ‬لها‭ ‬في‭ ‬المدن،‭ ‬لكنها‭ ‬مدوية‭ ‬في‭ ‬قلب‭ ‬الغابة،‭ ‬والجبال،‭ ‬والقرى،‭ ‬وهي‭ ‬حرب‭ ‬إبادة‭. ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬كذلك‭ ‬في‭ ‬البداية،‭ ‬لكنها‭ ‬انتهت‭ ‬تلك‭ ‬النهاية‭. ‬

●‭ ‬لقد‭ ‬عانيت‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬الحرب،‭ ‬كما‭ ‬عانت‭ ‬والدتك‭.‬

‭- ‬كل‭ ‬الشعب‭ ‬عانى‭ ‬ويلاتها‭. ‬صحيح‭ ‬أنّ‭ ‬والدتي‭ ‬اختطفت‭ ‬ذات‭ ‬لحظة،‭ ‬وخضعت‭ ‬للاحتجاز‭ ‬مدة‭ ‬طويلة،‭ ‬وقد‭ ‬تعرّض‭ ‬الآلاف‭ ‬من‭ ‬الناس‭ ‬للمصير‭ ‬ذاته‭.‬

●‭ ‬كان‭ ‬الراحل‭ ‬بولز‭ ‬قد‭ ‬حدثّني‭ ‬عن‭ ‬ذلك،‭ ‬وما‭ ‬حدثتني‭ ‬عنه‭. ‬

‭- ‬ما‭ ‬كنت‭ ‬أريد‭ ‬التعرّض‭ ‬لذلك،‭ ‬ربما‭ ‬لم‭ ‬تسنح‭ ‬الفرصة‭ ‬لملامسة‭ ‬الموضوع‭. ‬على‭ ‬أيٍّ؛‭ ‬في‭ ‬الآن‭ ‬ذاته،‭ ‬كان‭ ‬ستة‭ ‬من‭ ‬أصدقائي‭ ‬قد‭ ‬تعرّضوا‭ ‬للاختطاف‭ ‬والحجز‭ ‬أيضًا‭. ‬كانت‭ ‬قوى‭ ‬اليسار‭ ‬واليمين‭ ‬معًا‭ ‬تختطف‭ ‬المواطنين‭ ‬وتطالب‭ ‬بالفدية‭ ‬لتمويل‭ ‬الحرب،‭ ‬والحرب‭ ‬كالنار‭ ‬تلتهم‭ ‬كل‭ ‬شيء،‭ ‬وتطلب‭ ‬المزيد‭.‬

 

مادة‭ ‬أوّلية‭ ‬واقعية

●‭ ‬لعل‭ ‬من‭ ‬آثار‭ ‬هذه‭ ‬الحرب‭ ‬توجيه‭ ‬نصوصك‭ ‬القصصية،‭ ‬والروائية‭ ‬أيضًا،‭ ‬نحو‭ ‬حضور‭ ‬الحلم‭ ‬بكثافة‭.‬

‭- ‬ملاحظتك‭ ‬صحيحة‭ ‬نسبيًا،‭ ‬فأنت‭ ‬تعلم‭ ‬أن‭ ‬الحلم‭ ‬حاضر‭ ‬في‭ ‬نصوصي‭ ‬قبل‭ ‬تعرّض‭ ‬الوالدة‭ ‬للاختطاف‭ ‬والحجز‭. ‬كنت‭ ‬قد‭ ‬شرعت‭ ‬أكتب‭ ‬قبل‭ ‬تعرّضها‭ ‬للاختطاف،‭ ‬ثم‭ ‬إن‭ ‬الاختطاف‭ ‬دفع‭ ‬بي‭ ‬أيضًا‭ ‬نحو‭ ‬الواقعية‭ ‬أكثر،‭ ‬ذلك‭ ‬أنه‭ ‬أعطاني‭ ‬مادة‭ ‬حكائية‭ ‬أوّلية‭ ‬واقعية‭ ‬وقوية‭ ‬جدًا‭ (‬ضاحكًا‭). ‬وبعد‭ ‬ثلاث‭ ‬سنوات‭ ‬على‭ ‬الحدث،‭ ‬قلتُ‭ ‬بيني‭ ‬وبين‭ ‬نفسي‭ ‬عليّ‭ ‬استغلال‭ ‬هذه‭ ‬المواد،‭ ‬فهي‭ ‬‮«‬هدية‮»‬‭ ‬نزلت‭ ‬من‭ ‬السماء،‭ ‬هدية‭ ‬من‭ ‬طبيعة‭ ‬خاصة‭. ‬

●‭ ‬لو‭ ‬تذكّرنا‭ ‬بالمدة‭ ‬التي‭ ‬استغرقها‭ ‬اختطاف‭ ‬الوالدة‭.‬

‭- ‬ستة‭ ‬أشهر،‭ ‬وهي‭ ‬مدة‭ ‬منحتني‭ ‬الوقت‭ ‬الكامل‭ ‬للتفكير‭ ‬في‭ ‬الأمر،‭ ‬واستحضاره‭ ‬باستمرار،‭ ‬ولم‭ ‬يعد‭ ‬يشغل‭ ‬الخلفية،‭ ‬بل‭ ‬المرتبة‭ ‬الأساس‭ ‬من‭ ‬اهتماماتي‭. ‬

●‭ ‬ما‭ ‬طبيعة‭ ‬قراءاتك‭ ‬خلال‭ ‬تلك‭ ‬الفترة‭ ‬بالذات؟‭ ‬

‭- ‬قرأت‭ ‬كتبًا‭ ‬تخصّ‭ ‬ما‭ ‬وراء‭ ‬الطبيعة،‭ (‬فلم‭ ‬يكن‭ ‬من‭ ‬الممكن‭ ‬قراءة‭ ‬التخييل‭)‬،‭ ‬وما‭ ‬كانت‭ ‬الكتب‭ ‬متوافرة‭ ‬بالبلد‭. ‬فالمنع‭ ‬لا‭ ‬يصيب‭ ‬الأجساد،‭ ‬بل‭ ‬العقول‭ ‬والأرواح؛‭ ‬ليحلّ‭ ‬الرعب‭ ‬بالنفوس‭ ‬ويمنح‭ ‬الناس‭ ‬السلطة‭ ‬نوعًا‭ ‬من‭ ‬هدنة‭ ‬لتقضي‭ ‬على‭ ‬من‭ ‬تريد‭.‬

هو‭ ‬ضرب‭ ‬من‭ ‬القراءة‭ ‬يساعد‭ ‬بالفعل‭ ‬على‭ ‬التأمل،‭ ‬والتحمل،

يبعدك‭ ‬عن‭ ‬وجع‭ ‬الواقع،‭ ‬وسوداوية‭ ‬الوضع‭ ‬الراهن،‭ ‬ويمنحك‭ ‬فرصة‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬الذات،‭ ‬والتواصل‭ ‬مع‭ ‬النفس‭.‬

 

خطوات‭ ‬نحو‭ ‬الكتابة

●‭ ‬ماذا‭ ‬أفدت‭ ‬من‭ ‬دروس‭ ‬بولز‭ ‬وأنت‭ ‬تتابع‭ ‬حلقات‭ ‬‮«‬الكتابة‭ ‬الإبداعية»؟

‭- ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يدرّسنا‭ ‬الكتابة،‭ ‬ذلك‭ ‬ما‭ ‬سارع‭ ‬إلى‭ ‬تأكيده‭ ‬منذ‭ ‬اللقاء‭ ‬الأول‭. ‬قال‭ ‬لنا‭ ‬لا‭ ‬يفكرَنّ‭ ‬أحد‭ ‬منكم‭ ‬في‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬المال‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الكتابة‭. ‬قد‭ ‬يحدث‭ ‬ذلك‭ ‬مصادفة‭. ‬وأكد‭ ‬لنا‭ ‬منذ‭ ‬البداية‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬تدريس‭ ‬الكتابة،‭ ‬ولا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬أدرّسكم‭ ‬الكتابة‭. ‬سمعت‭ ‬أن‭ ‬بعضكم‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬يسمع‭ ‬رأيي‭ ‬فيما‭ ‬يكتب،‭ ‬وهو‭ ‬أمر‭ ‬أقوم‭ ‬به‭ ‬بكل‭ ‬تأكيد‭. ‬ولا‭ ‬أعتقد‭ ‬أنه‭ ‬بالإمكان‭ ‬تعليم‭ ‬شخص‭ ‬أن‭ ‬يكتب‭. ‬الممارسة،‭ ‬والقراءة،‭ ‬والاستعداد‭ ‬الدائم،‭ ‬والانضباط،‭ ‬والقدرة‭ ‬على‭ ‬العزلة،‭ ‬كلها‭ ‬خطوات‭ ‬نحو‭ ‬الكتابة‭.‬

●‭ ‬عرضت‭ ‬نصوصًا‭ ‬من‭ ‬كتاباتك‭ ‬على‭ ‬بولز،‭ ‬ماذا‭ ‬قال‭ ‬عنها؟

‭- ‬كنت‭ ‬قد‭ ‬كتبت‭ ‬نصوصي‭ ‬الأولى،‭ ‬كالطلبة‭ ‬الذين‭ ‬جاؤوا‭ ‬إلى‭ ‬طنجة،‭ ‬باللغة‭ ‬الإنجليزية،‭ ‬ولما‭ ‬عرف‭ ‬أنّي‭ ‬من‭ ‬غواتيمالا‭ ‬قال‭ ‬لي‭: ‬اكتب‭ ‬نصوصك‭ ‬بلغتك‭ ‬الإسبانية‭. ‬

كنت‭ ‬من‭ ‬الذين‭ ‬يحضرون‭ ‬حصصه،‭ ‬لكنني‭ ‬كنت‭ ‬مختلفًا‭ ‬عن‭ ‬الطلبة‭ ‬الآخرين،‭ ‬منذ‭ ‬اللحظة‭ ‬التي‭ ‬قال‭ ‬لي‭ ‬خلالها‭: ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬تكتب‭ ‬باللغة‭ ‬الإسبانية‭. ‬بدأت‭ ‬أكتب‭ ‬بها،‭ ‬وشرعنا‭ ‬نتحدث‭ ‬بها‭ ‬معًا‭. ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬قرأ‭ ‬النصوص‭ ‬الأولى‭ ‬التي‭ ‬عرضتها‭ ‬عليه،‭ ‬قال‭ ‬لي‭: ‬هل‭ ‬تسمح‭ ‬لي‭ ‬بترجمتها‭ ‬إلى‭ ‬اللغة‭ ‬الإنجليزية؟‭ ‬وهكذا‭ ‬نشأت‭ ‬العلاقة‭ ‬بيننا‭ ‬والصداقة‭. ‬وقد‭ ‬مكّنني‭ ‬من‭ ‬نشر‭ ‬أول‭ ‬كتاب،‭ ‬هو‭ ‬مجموعة‭ ‬قصصية‭ ‬‮«‬سكين‭ ‬الشحاذ‮»‬،‭ ‬وهكذا‭ ‬فتح‭ ‬أمامي‭ ‬أبواب‭ ‬النشر‭.‬

 

‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬التمرين

●‭ ‬لو‭ ‬عدنا‭ ‬إلى‭ ‬مجموعتك‭ ‬القصصية‭ ‬الأولى‭ ‬‮«‬سكين‭ ‬الشحاذ‮»‬،‭ ‬كتبت‭ ‬نصوصها‭ ‬دفعة‭ ‬واحدة،‭ ‬أم‭ ‬كتبتها‭ ‬على‭ ‬مراحل،‭ ‬كيف‭ ‬تتشكّل‭ ‬القصة‭ ‬في‭ ‬الذهن،‭ ‬لحظة‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬فكرة‭ ‬أو‭ ‬حدث،‭ ‬أم‭ ‬يظلّ‭ ‬النص‭ ‬يُكتب‭ ‬من‭ ‬عندياته،‭ ‬يظل‭ ‬يتناسل‭ ‬بشكل‭ ‬من‭ ‬الأشكال،‭ ‬أي‭ ‬يُبنى؟‭     

‭- ‬يبنى‭ ‬شيئًا‭ ‬فشيئًا،‭ ‬ويتعلق‭ ‬الأمر‭ ‬بالحكاية؛‭ ‬ذلك‭ ‬أنك‭ ‬أحيانًا‭ ‬تبني‭ ‬القصة‭ ‬على‭ ‬حلم،‭ ‬تريد‭ ‬نقله‭ ‬إلى‭ ‬القارئ‭ ‬بعد‭ ‬تدوينه‭.‬

●‭ ‬على‭ ‬ذكر‭ ‬الحلم،‭ ‬نعود‭ ‬إليه،‭ ‬نلاحظ‭ ‬أنه‭ ‬يشكل‭ ‬النصيب‭ ‬الأوفر‭ ‬في‭ ‬كتاباتك،‭ ‬وخاصة‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المجموعة‭ ‬الأولى،‭ ‬وهي‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬التمرين،‭ ‬كما‭ ‬يشكّل‭ ‬الحلم‭ ‬تجربة‭ ‬تأسيس‭ ‬النص،‭ ‬وتشكيله‭.‬

●‭ ‬لو‭ ‬وقفنا‭ ‬الآن‭ ‬عند‭ ‬روايتك‭ ‬القصيرة‭ ‬الأولى،‭ ‬‮«‬سجن‭ ‬الأشجار‮»‬،‭ (‬1991‭)‬،‭ ‬التي‭ ‬ترجمها‭ ‬بولز‭ ‬إلى‭ ‬اللغة‭ ‬الإنجليزية‭ ‬تحت‭ ‬عنوان‭ ‬‮«‬مشروع‭ ‬بلكاري‮»‬‭ ‬خلال‭ ‬السنة‭ ‬ذاتها‭.‬

‭- ‬المشكل،‭ ‬أذكر‭ ‬أن‭ ‬النص‭ ‬ظلّ‭ ‬يشتغل‭ ‬داخل‭ ‬الذاكرة‭ ‬ويعتمل‭ ‬خلال‭ ‬أحد‭ ‬أشهر‭ ‬رمضان،‭ ‬وخلال‭ ‬ليلة‭ ‬القدر‭ ‬بالضبط،‭ ‬ولم‭ ‬أعرف‭ ‬ما‭ ‬الذي‭ ‬يجب‭ ‬عمله،‭ ‬ويجب‭ ‬أن‭ ‬أخبرك‭ ‬أني‭ ‬دخنت‭ ‬قليلًا‭ ‬من‭ ‬الكيف،‭ ‬وتخيّلت‭ ‬وضع‭ ‬رجل‭ ‬مربوط‭ ‬بسلسلة‭ ‬إلى‭ ‬شجرة‭. ‬لا‭ ‬نعرف‭ ‬كيف‭ ‬حدث‭ ‬الأمر،‭ ‬لذلك‭ ‬قررت‭ ‬اللجوء‭ ‬إلى‭ ‬تفسير‭ ‬سردي‭ ‬لأفسّر‭ ‬كيف‭ ‬انتهى‭ ‬هذا‭ ‬الرجل‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬الوضع،‭ ‬وأعتقد‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الرواية‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬الخيال‭ ‬العلمي‭.‬

 

تأثّر‭ ‬غير‭ ‬مباشر

●يبدو‭ ‬في‭ ‬الأمر‭ ‬بعض‭ ‬التأثير‭ ‬بالمبدع‭ ‬الكبير‭ ‬حقًا‭ ‬بيو‭ ‬كاساريس‭.‬

‭- ‬بالتأكيد،‭ ‬وتأثر‭ ‬واضح‭ ‬وغير‭ ‬مباشر‭ ‬ببورخيس‭ ‬أيضًا،‭ ‬كما‭ ‬تلمس‭ ‬هناك‭ ‬تأثرًا‭ ‬بعلم‭ ‬المسوخ‭ ‬أو‭ ‬الكائنات‭ ‬الخرافية‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬كتاب‭ ‬كنت‭ ‬مستغرقًا‭ ‬في‭ ‬قراءته‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬اللحظة‭ ‬موضوعه‭ ‬طريقة‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬الكائنات‭ ‬الخرافية،‭ ‬وكيف‭ ‬تنشأ‭. ‬أعتقد‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬العناصر‭ ‬أسهمت‭ ‬في‭ ‬تشكيل‭ ‬هذا‭ ‬النص‭.‬

●‭ ‬سألت‭ ‬بولز‭ ‬يومًا‭ ‬عن‭ ‬احتمال‭ ‬تأثير‭ ‬تدخين‭ ‬‮«‬الكيف‮»‬‭ ‬في‭ ‬الكتابة‭ ‬أو‭ ‬إغنائها،‭ ‬فقال‭ ‬لا‭ ‬تأثير‭ ‬له‭ ‬البتة‭ ‬سلبًا‭ ‬أو‭ ‬إيجابًا،‭ ‬لكنّه‭ ‬كان‭ ‬يمنحه‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬الجلوس‭ ‬ساعات‭ ‬طويلة‭ ‬إلى‭ ‬مكتبه‭ ‬للكتابة‭. ‬وأن‭ ‬تدخين‭ ‬الكيف‭ ‬شيء‭ ‬سلبي،‭ ‬لكنّه‭ ‬أقل‭ ‬ضررًا‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬أشكال‭ ‬المخدرات‭ ‬الغربية‭.‬

آثاره‭ ‬تأتي‭ ‬بعد‭ ‬التدخين،‭ ‬يقول‭ ‬بولز‭ ‬الشيء‭ ‬ذاته،‭ ‬وهو‭ ‬الذي‭ ‬علّمني‭ ‬ذلك،‭ ‬فلا‭ ‬بدّ‭ ‬أن‭ ‬يقول‭ ‬الشيء‭ ‬ذاته‭ (‬ضاحكًا‭)‬،‭ ‬وأعتقد‭ ‬أن‭ ‬كثيرًا‭ ‬من‭ ‬الفنانين‭ ‬يقولون‭ ‬الشيء‭ ‬ذاته،‭ ‬إنه‭ ‬يدفع‭ ‬نحو‭ ‬طلب‭ ‬العزلة،‭ ‬والابتعاد‭ ‬عن‭ ‬الناس‭.‬

 

مرافعة‭ ‬أدبية

●‭ ‬من‭ ‬كتبك‭ ‬الأخيرة،‭ ‬رسالة‭ ‬كتبتها‭ ‬إلى‭ ‬البابا،‭ ‬ثم‭ ‬تحولت‭ ‬إلى‭ ‬رواية‭.‬

‭- ‬الفكرة‭ ‬ليست‭ ‬مبتذلة،‭ ‬لكن‭ ‬دعني‭ ‬أقول‭ ‬إن‭ ‬لي‭ ‬أصدقاء‭ ‬مايا،‭ ‬أي‭ ‬ينتمون‭ ‬إلى‭ ‬حضارة‭ ‬المايا،‭ ‬التي‭ ‬ما‭ ‬تزال‭ ‬حيّة‭ ‬تُرزق،‭ ‬ويعيشون‭ ‬وفق‭ ‬هذا‭ ‬المعتقد‭ ‬وتقاليده،‭ ‬ويعانون‭ ‬مشاكل‭ ‬مع‭ ‬الكنيسة‭ ‬التي‭ ‬تحاول‭ ‬أن‭ ‬تسلبهم‭ ‬أراضي‭ ‬توارثوها‭ ‬أبًا‭ ‬عن‭ ‬جد‭ ‬من‭ ‬مئات،‭ ‬بل‭ ‬دعني‭ ‬أقول‭ ‬آلاف‭ ‬السنين،‭ ‬وهو‭ ‬مشكل‭ ‬تواجهه‭ ‬الكنيسة‭ ‬في‭ ‬جواتيمالا،‭ ‬في‭ ‬بلدي‭ ‬أيضًا،‭ ‬بحدّة‭.‬

وبحسب‭ ‬السجلات‭ ‬الرسمية،‭ ‬فهذه‭ ‬الأراضي،‭ ‬التي‭ ‬قد‭ ‬تكتريها‭ ‬الدولة‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬زرعها،‭ ‬تعود‭ ‬ملكيتها‭ ‬إلى‭ ‬طائفة‭ ‬المايا‭. ‬وقد‭ ‬غضبت‭ ‬هذه‭ ‬الطائفة‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬تمدّ‭ ‬الكنيسة‭ ‬يدها‭ ‬إلى‭ ‬أراضٍ‭ ‬لا‭ ‬تمتلكها‭ ‬لتحوزها‭. ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬المحكمة‭ ‬تنظر‭ ‬في‭ ‬الأمر‭ ‬منذ‭ ‬سنوات،‭ ‬ولم‭ ‬تحسم‭ ‬الأمر‭.‬

ولما‭ ‬علمت‭ ‬بالأمر،‭ ‬اقتربت‭ ‬من‭ ‬القضية،‭ ‬وزرت‭ ‬هذه‭ ‬المناطق‭ ‬وتأكدت‭ ‬من‭ ‬حقيقة‭ ‬امتلاك‭ ‬طائفة‭ ‬المايا‭ ‬لهذه‭ ‬الأراضي،‭ ‬ووقفت‭ ‬على‭ ‬مرارة‭ ‬شعور‭ ‬أبناء‭ ‬هذه‭ ‬الطائفة‭ ‬بالخيبة‭ ‬والحرمان،‭ ‬لأنّه‭ ‬لا‭ ‬حول‭ ‬ولا‭ ‬قوة‭ ‬لهم،‭ ‬لأنّ‭ ‬السلطة‭ ‬القضائية‭ ‬عنصرية،‭ ‬ولا‭ ‬تتوخّى‭ ‬العدل،‭ ‬وتقف‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬الكنيسة،‭ ‬وتحكم‭ ‬لفائدتها،‭ ‬بالرغم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬شعب‭ ‬المايا‭ ‬له‭ ‬الحق‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬القضية‭.‬

وقلت‭ ‬بيني‭ ‬وبين‭ ‬نفسي‭ ‬لعلّ‭ ‬هذا‭ ‬البابا‭ ‬يكون‭ ‬منطقيًا‭ ‬ومنسجمًا‭ ‬مع‭ ‬روح‭ ‬المسؤولية‭ ‬التي‭ ‬يتحملها‭. ‬واعتقدت‭ ‬أنه‭ ‬حين‭ ‬يقف‭ ‬على‭ ‬حقيقة‭ ‬الأمر،‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تساعد‭ ‬كلمة‭ ‬منه‭ ‬على‭ ‬الانتصار‭ ‬إلى‭ ‬الحق،‭ ‬وردّ‭ ‬الأمور‭ ‬إلى‭ ‬نصابها‭. ‬وكتبت‭ ‬الرسالة،‭ ‬وبعثت‭ ‬بها،‭ ‬لكن‭ ‬لم‭ ‬أتوصل‭ ‬بأيّ‭ ‬جواب،‭ ‬ثم‭ ‬فكرت‭ ‬في‭ ‬تطوير‭ ‬الفكرة،‭ ‬وتحويل‭ ‬النص‭ ‬رواية‭.‬

وقد‭ ‬صدر‭ ‬قبل‭ ‬أسبوع‭ ‬في‭ ‬جواتيمالا،‭ ‬ويصدر‭ ‬خلال‭ ‬هذا‭ ‬الأسبوع‭ ‬بإسبانيا،‭ ‬ويحمل‭ ‬عنوان‭ ‬‮«‬رسالة‭ ‬من‭ ‬ملحد‭ ‬جواتيمالي‭ ‬إلى‭ ‬قداسة‭ ‬البابا‮»‬،‭ ‬وحملت‭ ‬لك‭ ‬معي‭ ‬نسخة‭ ‬مادام‭ ‬كتب‭ ‬لنا‭ ‬هذا‭ ‬اللقاء،‭ ‬والرواية‭ ‬تفسير‭ ‬سردي‭ ‬لهذا‭ ‬المشكل‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬سبر‭ ‬أغوار‭ ‬التاريخ،‭ ‬وتقديم‭ ‬الحيثيات،‭ ‬وهو‭ ‬أيضًا‭ ‬ضرب‭ ‬من‭ ‬مرافعة‭ ‬أدبية‭.‬

 

ازدواجية‭ ‬لغوية

●‭ ‬يذكّرني‭ ‬هذا‭ ‬النص‭ ‬بنصوص‭ ‬مماثلة،‭ ‬منها‭ ‬نص‭ ‬فولتير‭ ‬‮«‬قضية‭ ‬كالاس‮»‬،‭ ‬ونص‭ ‬زولا‭ ‬‮«‬إني‭ ‬أتهم‮»‬‭.‬

‭- ‬يمكنك‭ ‬قول‭ ‬ذلك،‭ ‬هناك‭ ‬قرابة‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬الانتصار‭ ‬إلى‭ ‬قضية‭ ‬مظلومين،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬قصد‭ ‬طبعًا‭. ‬

●‭ ‬هناك‭ ‬رواية‭ ‬صدرت‭ ‬لك‭ ‬قبل‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬رسالة‮»‬،‭ ‬أقصد‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬بلد‭ ‬طو‮»‬،‭ (‬le pays toô‭)‬،‭ ‬والكلمة‭ ‬أو‭ ‬الاسم‭ ‬نفسه‭ ‬ينتمي‭ ‬إلى‭ ‬حضارة‭ ‬المايا‭. ‬والنص‭ ‬عالج‭ ‬أيضًا‭ ‬موضوع‭ ‬المايا،‭ ‬ومجتمع‭ ‬وحضارة‭ ‬المايا،‭ ‬التي‭ ‬يمثّل‭ ‬سكانها‭ ‬السكان‭ ‬الأصليين‭ ‬لجواتيمالا‭. ‬

‭- ‬بالفعل،‭ ‬ويتحدث‭ ‬النص‭ ‬عن‭ ‬نمط‭ ‬من‭ ‬العيش‭ ‬ظل‭ ‬يوجد‭ ‬بجواتيمالا‭ ‬بموازاة‭ ‬مع‭ ‬نمط‭ ‬العيش‭ ‬الغربي‭. ‬هناك‭ ‬هذا‭ ‬النمط‭ ‬من‭ ‬العيش‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬أعرف‭ ‬عنه‭ ‬الشيء‭ ‬الكثير،‭ ‬بالرغم‭ ‬من‭ ‬أنني‭ ‬قضيت‭ ‬معظم‭ ‬حياتي‭ ‬في‭ ‬جواتيمالا‭. ‬كنت‭ ‬أعرف‭ ‬بوجود‭ ‬هذا‭ ‬النظام‭ ‬الحياتي،‭ ‬لكن‭ ‬لا‭ ‬علم‭ ‬لي‭ ‬بطريقة‭ ‬اشتغاله‭.‬

ويقوم‭ ‬على‭ ‬نظام‭ ‬أساسه‭ ‬عادل‭ ‬مواز‭ ‬للنظام‭ ‬الروحي،‭ ‬وهو‭ ‬نظام‭ ‬ينظم‭ ‬الجماعة،‭ ‬وتعيش‭ ‬وفق‭ ‬تعاليمه،‭ ‬ويتعايش‭ ‬مع‭ ‬نمط‭ ‬العيش‭ ‬الغربي،‭ ‬لأنهما‭ ‬يوجدان‭ ‬في‭ ‬المكان‭ ‬ذاته‭ ‬والزمان‭ ‬نفسه،‭ ‬لكن‭ ‬لا‭ ‬علاقة‭ ‬له‭ ‬بنمط‭ ‬عيش‭ ‬الغرب‭.‬

‭ ‬وتسود‭ ‬بالبلد‭ ‬ازدواجية‭ ‬لغوية‭ ‬حقيقية‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬إنكارها،‭ ‬في‭ ‬القرى‭ ‬والمدن‭ ‬أيضًا‭. ‬وذلك‭ ‬بالرغم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬الإحصاءات‭ ‬الرسمية‭ ‬تخفي‭ ‬الحقائق‭ ‬بشأن‭ ‬نسبة‭ ‬السكان‭ ‬المايا،‭ ‬فمن‭ ‬المعروف‭ ‬أنهم‭ ‬يتجاوزون‭ ‬السبعين،‭ ‬بل‭ ‬يشرفون‭ ‬على‭ ‬الثمانين‭ ‬بالمئة‭ ‬من‭ ‬ساكنة‭ ‬البلد،‭ ‬وذلك‭ ‬لأسباب‭ ‬منها‭ ‬جعلهم‭ ‬يقبلون‭ ‬بمعاملتهم‭ ‬على‭ ‬أنهم‭ ‬أقلية،‭ ‬بينما‭ ‬هم‭ ‬يشكلون‭ ‬الأغلبية‭ ‬الساحقة‭. ‬والبقية‭ ‬من‭ ‬الشعب‭ ‬في‭ ‬جواتيمالا،‭ ‬30‭ ‬بالمئة‭ ‬تعود‭ ‬إلى‭ ‬أصول‭ ‬إسبانية‭ ‬وأوربية،‭ ‬وقد‭ ‬لمست‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬النظام‭ ‬الاجتماعي‭ ‬العائد‭ ‬إلى‭ ‬السكان‭ ‬الأصليين‭ ‬المايا‭ ‬نموذجي‭ ‬في‭ ‬الحقيقة،‭ ‬كما‭ ‬تعرفت‭ ‬عليه‭ ‬عن‭ ‬كثب،‭ ‬أخيرًا،‭ ‬عبر‭ ‬العيش‭ ‬مع‭ ‬الأسر‭ ‬والمعاشرة‭. ‬وهو‭ ‬نظام‭ ‬اجتماعي‭ ‬لجماعات‭ ‬واسعة،‭ ‬حيث‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يعمل‭ ‬كل‭ ‬فرد‭ ‬لفائدة‭ ‬الجماعة‭ ‬أو‭ ‬الطائفة‭ ‬خلال‭ ‬سنة‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬من‭ ‬حياته‭. ‬

والسلطة‭ ‬داخل‭ ‬هذا‭ ‬المجتمع‭ ‬ليست‭ ‬فردية‭ ‬البتة،‭ ‬بل‭ ‬تخضع‭ ‬لحكم‭ ‬‮«‬كوليكتيبو‮»‬‭/ ‬جماعي،‭ ‬ومجلس‭ ‬حكماء،‭ ‬وتتداول‭ ‬بين‭ ‬الأفراد؛‭ ‬يرأس‭ ‬المجلس‭ ‬واحد‭ ‬من‭ ‬أعضائه‭ ‬سنة‭ ‬واحدة،‭ ‬ثم‭ ‬يأتي‭ ‬دور‭ ‬شخص‭ ‬آخر‭. ‬وهكذا‭ ‬دواليك‭. ‬من‭ ‬دون‭ ‬القيام‭ ‬بانقلاب‭ ‬أو‭ ‬انفراد‭ ‬بالسلطة،‭ ‬ويجتمع‭ ‬هذا‭ ‬المجلس‭ ‬مرة‭ ‬في‭ ‬الشهر‭ ‬لمناقشة‭ ‬كل‭ ‬القضايا،‭ ‬واتخاذ‭ ‬القرارات،‭ ‬ثم‭ ‬مراقبة‭ ‬الملك‭ ‬أو‭ ‬الضيعة،‭ ‬والعناية‭ ‬بالخشب‭ ‬بها‭. ‬

وتتمتّع‭ ‬هذه‭ ‬المجتمعات‭ ‬الصغرى‭ ‬باستقلالية‭ ‬عن‭ ‬الحكومة‭ ‬المركزية،‭ ‬وتسمح‭ ‬لها‭ ‬الدولة‭ ‬بالوجود؛‭ ‬لأنها‭ ‬لا‭ ‬تريد‭ ‬خلق‭ ‬مشاكل‭ ‬ومتاعب‭ ‬إضافية‭ ‬قد‭ ‬تعود‭ ‬عليها‭ ‬بعواقب‭ ‬لا‭ ‬تحمد‭ ‬عقباها،‭ ‬ولذلك‭ ‬تعيش‭ ‬في‭ ‬استقلالية‭ ‬تامة‭ ‬عن‭ ‬بقية‭ ‬المجتمع،‭ ‬ولها‭ ‬نظامها‭ ‬التعليمي‭ ‬الخاص،‭ ‬ويختار‭ ‬الآباء‭ ‬للأبناء‭ ‬أحد‭ ‬النظامين‭ ‬التعليميين،‭ ‬النابع‭ ‬من‭ ‬حضارة‭ ‬المايا‭ ‬والخاص‭ ‬بها‭ ‬أو‭ ‬العصري،‭ ‬أو‭ ‬ينتمي‭ ‬الأبناء‭ ‬إليهما‭ ‬معًا‭.‬

 

بداية‭ ‬رحلة‭ ‬المعرفة

●‭ ‬ألاحظ‭ ‬أنك‭ ‬شرعت‭ ‬تقدّر‭ ‬نمط‭ ‬العيش‭ ‬هذا‭ ‬حق‭ ‬قدره،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬عرفت‭ ‬خباياه،‭ ‬وقيمته‭.‬

‭- ‬بدأ‭ ‬الأمر‭ ‬قبل‭ ‬كتابة‭ ‬أعمالي‭ ‬الأربعة‭ ‬الأخيرة،‭ ‬فقد‭ ‬بدأت‭ ‬كتابة‭ ‬عمل‭ ‬قادني‭ ‬نحو‭ ‬القرية،‭ ‬وهو‭ ‬مكان‭ ‬لا‭ ‬معرفة‭ ‬لي‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬قبل،‭ ‬حيث‭ ‬يوجد‭ ‬مجتمع‭ ‬المايا‭ ‬الدقيق‭ ‬التنظيم‭. ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬أعرف‭ ‬شيئًا‭ ‬عن‭ ‬حضارة‭ ‬بلدي،‭ ‬وربطت‭ ‬علاقات‭ ‬مع‭ ‬أصدقاء‭ ‬يمثّلون‭ ‬سلطة‭ ‬داخل‭ ‬مجتمع‭ ‬المايا،‭ ‬وبدأت‭ ‬رحلة‭ ‬المعرفة‭ ‬الحقيقية‭ ‬بهذا‭ ‬المجتمع،‭ ‬ولمّا‭ ‬تعرّفت‭ ‬إليه‭ ‬رغبتُ‭ ‬في‭ ‬تقديم‭ ‬ذلك‭ ‬العالم‭ ‬إلى‭ ‬القارئ‭ ‬في‭ ‬الداخل‭ ‬والخارج‭. ‬وقد‭ ‬تزامنت‭ ‬هذه‭ ‬المعرفة‭ ‬مع‭ ‬الكتابة،‭ ‬ومع‭ ‬الرغبة‭ ‬في‭ ‬كشف‭ ‬هذا‭ ‬الكنز‭ ‬الحضاري‭ ‬والإنساني‭. ‬ويمكن‭ ‬أن‭ ‬تتصوّر‭ ‬الفرح‭ ‬الذي‭ ‬غمرني‭ ‬بعد‭ ‬وضع‭ ‬اليد‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الكنز‭ ‬الوطني،‭ ‬والإنساني،‭ ‬فقد‭ ‬شعرت‭ ‬أني‭ ‬مسؤول‭ ‬عن‭ ‬التعريف‭ ‬به،‭ ‬وإبراز‭ ‬فضائله‭.‬

●‭ ‬ما‭ ‬المساحة‭ ‬الزمنية‭ ‬التي‭ ‬كتبت‭ ‬خلالها‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب؟

‭- ‬تسعة‭ ‬أشهر،‭ ‬وقد‭ ‬أسهمت‭ ‬كتابة‭ ‬هذه‭ ‬الروايات‭ ‬الثلاث‭ ‬الأخيرة‭ ‬في‭ ‬تغيير‭ ‬رؤيتي‭ ‬لغواتيمالا‭. ‬بالرغم‭ ‬من‭ ‬أني‭ ‬مواطن‭ ‬غواتيمالي،‭ ‬أعترف‭ ‬بذلك‭. ‬الرواية‭ ‬الأولى‭ ‬هي‭ ‬‮«‬الأصم‮»‬،‭ ‬وقد‭ ‬تأكدت‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬كتابتها‭ ‬أنّي‭ ‬أجهل‭ ‬واقع‭ ‬بلدي‭. ‬والثانية‭ ‬‮«‬البلد‭ ‬طو‮»‬،‭ ‬والثالثة‭ ‬هي‭ ‬‮«‬الرسالة‮»‬،‭ ‬وتتحدث‭ ‬عن‭ ‬جمعية‭ ‬أخوية‭ ‬دينية‭ ‬اختلفت‭ ‬مع‭ ‬الكنيسة،‭ ‬وانتهى‭ ‬الخلاف‭ ‬بطردها‭ ‬من‭ ‬رحاب‭ ‬الكنيسة‭ ‬ونعمة‭ ‬العقيدة،‭ ‬ثم‭ ‬سلب‭ ‬أراضيها‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تمتلكها‭. ‬

 

غوص‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬البلد

●‭ ‬مثير‭ ‬هو‭ ‬موضوع‭ ‬‮«‬الأصم‮»‬‭.‬

‭- ‬نعم‭... ‬إنه‭ ‬يعرض‭ ‬لسيرة‭ ‬حارس‭ ‬شخصي‭ ‬لسيدة‭ ‬فاحشة‭ ‬الثراء،‭ ‬تعرّضت‭ ‬للحبس‭ ‬من‭ ‬لدُن‭ ‬عاشقها‭. ‬تنتهي‭ ‬الرواية‭ ‬في‭ ‬البادية،‭ ‬حيث‭ ‬يتبع‭ ‬الحارس‭ ‬الشخصي‭ ‬الحسناء‭ ‬الثرية،‭ ‬وهناك‭ ‬يقف‭ ‬على‭ ‬خصائص‭ ‬حياة‭ ‬مجتمع‭ ‬المايا‭. ‬

وينتمي‭ ‬الذين‭ ‬اختطفوها‭ ‬إلى‭ ‬طائفة‭ ‬من‭ ‬الهنود‭ ‬الحمر،‭ ‬وسيعقد‭ ‬الهنود‭ ‬محاكمة‭ ‬للمختطفين،‭ ‬وهكذا‭ ‬تلتئم‭ ‬محكمة‭ ‬مشكّلة‭ ‬من‭ ‬هنود‭ ‬حمر‭ ‬للبحث‭ ‬في‭ ‬قضية‭ ‬المختطفين،‭ ‬وهي‭ ‬محكمة‭ ‬كانت‭ ‬تشتغل‭ ‬من‭ ‬قبل‭. ‬وكنت‭ ‬أعرف‭ ‬بوجود‭ ‬هذه‭ ‬المحاكم‭ ‬ولا‭ ‬أعرف‭ ‬طريقة‭ ‬التئامها،‭ ‬واشتغالها،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬وقفت‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الاتصال‭ ‬بمواطنين‭ ‬هنود،‭ ‬لمعرفة‭ ‬كيف‭ ‬تتم‭ ‬المحاكمة،‭ ‬وإصدار‭ ‬الحكم،‭ ‬وسبل‭ ‬التنفيذ‭. ‬

●‭ ‬مكنتك‭ ‬هذه‭ ‬الروايات‭ ‬من‭ ‬الغوص‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬البلد‭.‬

‭- ‬ليس‭ ‬التاريخ،‭ ‬بل‭ ‬الحاضر‭ ‬أيضًا‭ ‬وبالأساس،‭ ‬فالموضوع‭ ‬من‭ ‬مواضيع‭ ‬الساعة‭ ‬بالبلد،‭ ‬ويرتبط‭ ‬بأجدّ‭ ‬الأحداث،‭ ‬ما‭ ‬يعيشه‭ ‬البلد‭ ‬في‭ ‬اللحظة‭ ‬الراهنة‭.‬

 

طقوس‭ ‬الكتابة

●‭ ‬انطلاقًا‭ ‬من‭ ‬تجربتك‭ ‬في‭ ‬الكتابة،‭ ‬التي‭ ‬امتدت‭ ‬قرابة‭ ‬40‭ ‬سنة‭ ‬الآن،‭ ‬ماذا‭ ‬تمثّل‭ ‬الكتابة‭ ‬بالنسبة‭ ‬إليك؟

‭- ‬إنها‭ ‬مهنة،‭ ‬بكل‭ ‬بساطة‭ (‬ضاحكًا‭ ‬من‭ ‬الأعماق‭).‬

●‭ ‬هل‭ ‬هناك‭ ‬مؤهلات‭ ‬تتطلّبها‭ ‬ممارسة‭ ‬هذه‭ ‬المهنة؟

‭- ‬الحب،‭ ‬والكتابة‭ ‬طريقة‭ ‬للعيش،‭ ‬وتمنح‭ ‬صاحبها‭ ‬كثيرًا‭ ‬من‭ ‬المتعة،‭ ‬وهي‭ ‬سبيل‭ ‬حمّال‭ ‬مخاطر‭ ‬من‭ ‬الزاوية‭ ‬المادية‭ ‬أو‭ ‬المالية،‭ ‬لكنّها‭ ‬عمل‭ ‬طويل‭ ‬النّفَس،‭ ‬ولا‭ ‬أمل‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬تتعلم‭ ‬هذه‭ ‬المهنة‭ ‬حقيقة‭ ‬في‭ ‬مدرسة‭ ‬أو‭ ‬جامعة‭. ‬هي‭ ‬خلاصة‭ ‬دروس‭ ‬الحياة،‭ ‬وزوايا‭ ‬النظر‭ ‬إليها،‭ ‬وسبل‭ ‬الغوص‭ ‬فيها‭.‬

●‭ ‬هل‭ ‬من‭ ‬طقوس‭ ‬للكتابة،‭ ‬وكم‭ ‬ساعة‭ ‬تمتد‭ ‬الكتابة‭ ‬يوميًا؟

‭- ‬قد‭ ‬يأتي‭ ‬عليك‭ ‬يوم‭ ‬لا‭ ‬تكتب‭ ‬خلاله‭ ‬كلمة‭ ‬واحدة،‭ ‬لكنني‭ ‬أكتب‭ ‬حتى‭ ‬أتعب‭ ‬وأخلد‭ ‬إلى‭ ‬الراحة‭. ‬قد‭ ‬أكتب‭ ‬ساعة،‭ ‬أو‭ ‬6‭ ‬ساعات‭ ‬متتاليات‭. ‬من‭ ‬قبل‭ ‬كنت‭ ‬أكتب‭ ‬في‭ ‬الليل،‭ ‬والآن‭ ‬أكتب‭ ‬خلال‭ ‬الصباح،‭ ‬فالصباح‭ ‬مقرون‭ ‬بالهدوء‭.‬

●‭ ‬ماذا‭ ‬تمنحك‭ ‬الكتابة؟

‭- ‬المتعة،‭ ‬المتعة‭ ‬النابعة‭ ‬من‭ ‬العمل‭. ‬شيء‭ ‬شبيه‭ ‬بممارسة‭ ‬الرياضة،‭ ‬تتعب،‭ ‬تعاني‭ ‬أحيانًا،‭ ‬لكنّك‭ ‬في‭ ‬الأخير‭ ‬تستعيد‭ ‬رونق‭ ‬الطفولة،‭ ‬وبعض‭ ‬مرحها،‭ ‬الكتابة‭ ‬عمل‭ ‬يمنحك‭ ‬المتعة‭. ‬

●‭ ‬هل‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يطهّرك‭ ‬هذا‭ ‬العمل،‭ ‬أي‭ ‬أنه‭ ‬ضرب‭ ‬من‭ ‬كاتارسيس؟

‭- ‬بالتأكيد،‭ ‬لكنني‭ ‬كنت‭ ‬أشعر‭ ‬بذلك‭ ‬من‭ ‬قبل،‭ ‬أما‭ ‬الآن‭ ‬فقد‭ ‬أصبحت‭ ‬الكتابة‭ ‬مهنة،‭ ‬وتراجعت‭ ‬كمية‭ ‬التطهير‭.‬

●‭ ‬ما‭ ‬دامت‭ ‬الكتابة‭ ‬مهنة،‭ ‬فهي‭ ‬تتطلب‭ ‬معرفة‭ ‬أسسها‭ ‬والأسرار،‭ ‬وتكمن‭ ‬في‭ ‬نظري‭ ‬بامتلاك‭ ‬اللغة،‭ ‬كما‭ ‬يسعى‭ ‬مصلح‭ ‬السيارات‭ ‬الطفل‭ ‬أو‭ ‬الشاب‭ ‬إلى‭ ‬معرفة‭ ‬محرك‭ ‬السيارة،‭ ‬لو‭ ‬تحدثني‭ ‬عن‭ ‬رحلة‭ ‬تعلّم‭ ‬وامتلاك‭ ‬هذه‭ ‬المَلَكة‭.‬

‭- ‬يمكن‭ ‬القول‭ ‬إنني‭ ‬تعلّمت‭ ‬اللغة‭ ‬عبر‭ ‬الكتابة‭ ‬وممارسة‭ ‬الترجمة،‭ ‬وهما‭ ‬تمرينان‭ ‬لامتلاك‭ ‬اللغة،‭ ‬ومعرفة‭ ‬كيف‭ ‬تسافر‭ ‬الأفكار،‭ ‬والعثور‭ ‬على‭ ‬الطريقة‭ ‬المثلى‭ ‬للتعبير‭ ‬عن‭ ‬أفكارك‭ ‬والمشاعر‭. ‬

●‭ ‬لو‭ ‬توضّح‭ ‬الأمر‭ ‬أكثر،‭ ‬ما‭ ‬رحلة‭ ‬امتلاك‭ ‬اللغة‭ ‬لتستطيع‭ ‬التعبير‭ ‬عن‭ ‬أفكارك؟

‭- ‬نعرف‭ ‬اللغة‭ ‬منذ‭ ‬البداية،‭ ‬نعرف‭ ‬مستوى‭ ‬معيّنًا‭ ‬من‭ ‬اللغة‭ ‬الذي‭ ‬يمكّن‭ ‬من‭ ‬التواصل‭ ‬اليومي،‭ ‬لا‭ ‬الكتابة‭ ‬بها،‭ ‬والإبداع‭ ‬فيه‭ ‬وبها‭. ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الإبحار‭ ‬في‭ ‬القراءة،‭ ‬ثم‭ ‬الكتابة،‭ ‬والترجمة،‭ ‬تسألني‭ ‬عن‭ ‬الترجمة،‭ ‬أقول‭ ‬إنها‭ ‬تمرين‭ ‬في‭ ‬الأسلوب‭.‬

●‭ ‬حين‭ ‬تمارس‭ ‬الترجمة،‭ ‬تميل‭ ‬نحو‭ ‬الأمانة،‭ ‬أم‭ ‬تزيغ‭ ‬الخطوات‭ ‬نحو‭ ‬اقتراف‭ ‬بعض‭ ‬الخيانة؟

‭- ‬لا‭ ‬بدّ‭ ‬من‭ ‬الخيانة،‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬الأمر‭ ‬في‭ ‬العلاقات‭ ‬الشخصية،‭ ‬تسعى‭ ‬إلى‭ ‬الأمانة،‭ ‬لكنّك‭ ‬تكاد‭ ‬تُرغَم‭ ‬على‭ ‬الخيانة،‭ ‬وترتكبها‭ ‬أو‭ ‬تقترفها‭. ‬

●‭ ‬يتحدث‭ ‬المترجمون‭ ‬عن‭ ‬الجميلات‭ ‬الخائنات،‭ ‬وهو‭ ‬التعبير‭ ‬الذي‭ ‬ابتدعه‭ ‬جورج‭ ‬مونان،‭ ‬وعنون‭ ‬به‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬الجميلات‭ ‬الخائنات‮»‬‭... ‬لا‭ ‬بدّ‭ ‬أن‭ ‬وراء‭ ‬الجمال‭ ‬بعض‭ ‬من‭ ‬خيانة‭.‬

‭- ‬يعود‭ ‬الأمر‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬إلى‭ ‬روح‭ ‬المترجم‭. ‬كان‭ ‬بولز‭ ‬يقول‭ ‬إن‭ ‬ترجمة‭ ‬شبه‭ ‬حرفية‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬أهم‭ ‬من‭ ‬ترجمة‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬ممارسة‭ ‬الخيانة،‭ ‬لأنّ‭ ‬ذلك‭ ‬يُفقد‭ ‬النص‭ ‬بعض‭ ‬روحه‭. ‬وكان‭ ‬بولز‭ ‬مترجمًا‭ ‬محترفًا،‭ ‬إذ‭ ‬ترجم‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬20‭ ‬عملاً‭ ‬أدبيًا‭ ‬من‭ ‬الدارجة‭ ‬المغربية،‭ ‬والإسبانية،‭ ‬والفرنسية‭.  

●‭ ‬ها‭ ‬قد‭ ‬حللت‭ ‬في‭ ‬باريس،‭ ‬قادمًا‭ ‬من‭ ‬غواتيمالا،‭ ‬ثم‭ ‬ستذهب‭ ‬إلى‭ ‬طنجة،‭ ‬وتعود‭ ‬إلى‭ ‬باريس،‭ ‬ومنها‭ ‬إلى‭ ‬غواتيمالا‭ ‬من‭ ‬جديد‭. ‬ماذا‭ ‬يمنح‭ ‬السفر‭ ‬للكاتب؟

‭- ‬بعض‭ ‬المتعة،‭ ‬كثيرًا‭ ‬من‭ ‬التعب،‭ ‬فرصة‭ ‬للتأمل،‭ ‬فسحة‭ ‬لتجديد‭ ‬الرؤية،‭ ‬واللقاء‭ ‬مع‭ ‬الأصدقاء‭ ‬■