نقّاد وأساتذة يحتفون بسيرة الطفولة «رهاب متعدد»

نقّاد وأساتذة يحتفون بسيرة الطفولة «رهاب متعدد»

   نظّمت كلية الآداب والعلوم الإنسانية بنمسيك في الدار البيضاء، موازاة مع فعاليات المعرض الافتراضي للكتاب الجامعي، لقاء تواصليًا عن بُعد مع الكاتب والأكاديمي والناقد المغربي د. عبداللطيف محفوظ، احتفاء بمنجزه السردي الجديد، ممثلًا بكتاب إبداعي عن سيرة الطفولة، الصادر في طبعتين، بعنوان رهاب متعدد. شارك في اللقاء ثلّة من النقاد المغاربة ممن قاربوا هذه السيرة وقدّموا قراءات متنوعة في الكتاب.

افتتح‭ ‬الناقد‭ ‬المغربي‭ ‬محسن‭ ‬الزكري‭ ‬اللقاء‭ ‬بكلمة‭ ‬ترحيبية‭ ‬عبّر‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬عن‭ ‬امتنانه‭ ‬العميق‭ ‬لكل‭ ‬القائمين‭ ‬على‭ ‬تنظيم‭ ‬هذا‭ ‬اللقاء‭ ‬الأدبي‭ ‬الوازن‭ ‬الذي‭ ‬يستضيف‭ ‬ناقدًا‭ ‬مغربيًا،‭ ‬ترك‭ ‬بصمته‭ ‬الإبداعية‭ ‬في‭ ‬مجالَي‭ ‬السيميائيات‭ ‬والنقد‭ ‬الأدبي،‭ ‬ليباغت‭ ‬قرّاءه‭ ‬هذه‭ ‬المرة،‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬الناقد،‭ ‬بملَكة‭ ‬سردية‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬استعادة‭ ‬التفاصيل‭ ‬وصوغها‭ ‬بلُغة‭ ‬شفّافة‭ ‬وماتعة،‭ ‬فالدخول‭ ‬إلى‭ ‬عالم‭ ‬الكتابة‭ ‬الإبداعية‭ ‬السردية‭ ‬لدى‭ ‬الناقد‭ ‬محفوظ‭ ‬أشبه‭ ‬ما‭ ‬يكون‭ ‬بالمصادفة‭.‬

  ‬نمت‭ ‬فكرة‭ ‬الكتابة‭ ‬لدى‭ ‬محفوظ‭ ‬عن‭ ‬الطفولة‭ ‬والذات،‭ ‬بعد‭ ‬توصّله‭ ‬برسالة‭ ‬من‭ ‬الأستاذ‭ ‬شرف‭ ‬الدين‭ ‬ماجدولين‭ ‬عام‭ ‬2016،‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬بصدد‭ ‬إعداد‭ ‬ملف‭ ‬لمجلة‭ ‬الجديد‭ ‬يخصص‭ ‬لطفولة‭ ‬الكتّاب‭ ‬والمبدعين،‭ ‬فكان‭ ‬ذلك‭ ‬دافعًا‭ ‬للكتابة‭ ‬السردية‭ ‬حول‭ ‬طفولة‭ ‬هذا‭ ‬الناقد،‭ ‬فكانت‭ ‬سيرة‭ ‬طفولته‭ ‬‮«‬رهاب‭ ‬متعدد‮»‬،‭ ‬الصادرة‭ ‬عن‭ ‬دار‭ ‬الفاصلة‭ ‬للنشر‭ ‬في‭ ‬يناير‭ ‬2019‭.‬

قدّم‭ ‬الناقد‭ ‬المغربي‭ ‬د‭. ‬محمد‭ ‬خفيفي‭ ‬قراءة‭ ‬في‭ ‬‮«‬رهاب‭ ‬متعدد‮»‬،‭ ‬مؤكدًا‭ ‬في‭ ‬مداخلته‭ ‬القيّمة‭ ‬أهمية‭ ‬السرد‭ ‬كفعل‭ ‬لا‭ ‬حدود‭ ‬له،‭ ‬قادر‭ ‬على‭ ‬استبطان‭ ‬الذات‭ ‬وفتح‭ ‬قنوات‭ ‬الإنصات‭ ‬للروح‭ ‬وأداة‭ ‬لغوية‭ ‬لاستكشاف‭ ‬العالم‭ ‬واستحضار‭ ‬الواقع‭ ‬والمتخيل،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬طبيعته‭ ‬المميزة‭ ‬الآسرة‭ ‬للقراء‭ ‬والنقاد‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬غيره‭. ‬

وفي‭ ‬هذا‭ ‬السياق،‭ ‬جاء‭ ‬العمل‭ ‬السردي‭ ‬الأول‭ ‬للدكتور‭ ‬محفوظ‭ ‬الموسوم‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬رهاب‭ ‬متعدد‮»‬،‭ ‬في‭ ‬نظر‭ ‬خفيفي،‭ ‬ليعلن‭ ‬من‭ ‬خلاله‭ ‬عن‭ ‬التحوّل‭ ‬والانتقال‭ ‬من‭ ‬مرحلة‭ ‬عرفت‭ ‬إصدارات‭ ‬علمية‭ ‬وازنة‭ ‬وقيّمة‭ ‬في‭ ‬مجالَي‭ ‬السيميائيات‭ ‬والنقد‭ ‬الأدبي‭ ‬إلى‭ ‬مرحلة‭ ‬الكتابة‭ ‬الإبداعية‭ ‬السردية‭ ‬في‭ ‬صورتها‭ ‬السيرية‭.‬

من‭ ‬هنا،‭ ‬فـ‭ ‬‮«‬رهاب‭ ‬متعدد‮»‬،‭ ‬كما‭ ‬يقرّ‭ ‬الناقد‭ ‬خفيفي،‭ ‬ينتمي‭ ‬لمحكى‭ ‬الطفولة‭ ‬بصفاء‭ ‬ونقاء‭ ‬أجناسي‭ ‬لا‭ ‬يختلط‭ ‬مع‭ ‬المجاورات‭ ‬السردية‭ ‬الأخرى‭ ‬التي‭ ‬تتداخل‭ ‬معه‭. ‬فالسرد‭ ‬اشتغل‭ ‬وتفاعل‭ ‬مع‭ ‬لحظات‭ ‬الطفولة‭ ‬التي‭ ‬تطبع‭ ‬النفس‭ ‬الإنسانية،‭ ‬وقد‭ ‬استقطب‭ ‬هذه‭ ‬اللحظات‭ ‬بمنطقين؛‭ ‬الأول‭ ‬يأتي‭ ‬عبر‭ ‬شذرات‭ ‬متفرقة‭ ‬تُبثّ‭ ‬داخل‭ ‬نصوص‭ ‬روائية‭ ‬بتوظيف‭ ‬الذاكرة‭ ‬والتخييل‭ ‬في‭ ‬استحضارها،‭ ‬والثاني‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬الطفولة‭ ‬كلحظات‭ ‬معيشية‭ ‬سردًا‭ ‬مستقلًا،‭ ‬منبهًا،‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬المحكي‭ ‬يحضر‭ ‬في‭ ‬المتون‭ ‬الروائية‭ ‬المغربية،‭ ‬سواء‭ ‬في‭ ‬الروايات‭ ‬الأولى‭ ‬المكتوبة‭ ‬بالفرنسية‭ ‬من‭ ‬قبيل‭: ‬سيرتَي‭ ‬الشرايبي‭ ‬والخطيبي‭ ‬وغيرهما،‭ ‬أو‭ ‬باللغة‭ ‬العربية،‭ ‬كما‭ ‬هي‭ ‬الحال‭ ‬لدى‭ ‬محمد‭ ‬شكري‭ ‬وميلودي‭ ‬شغموم‭ ‬ومحمد‭ ‬برادة‭ ‬وعبدالكريم‭ ‬الطبال‭ ‬في‭ ‬سيرته‭ ‬الذاتية‭ ‬‮«‬فراشات‭ ‬هاربة‮»‬‭... ‬إذ‭ ‬تحضر‭ ‬صور‭ ‬الطفل‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الكتابات‭ ‬بأشكال‭ ‬مختلفة‭ ‬وبأساليب‭ ‬متنوعة‭.‬

تنحت‭ ‬‮«‬رهاب‭ ‬متعدد‮»‬‭ ‬خصوصيتها‭ ‬باختيار‭ ‬معانقتها‭ ‬الحياة‭ ‬في‭ ‬صورتها‭ ‬الطفولية‭ ‬عبر‭ ‬تذكُّر‭ ‬وتخييل‭ ‬فريد‭ ‬من‭ ‬نوعه،‭ ‬فعملية‭ ‬التذكر‭ ‬اختارت‭ ‬الاستئناس‭ ‬بتيمة‭ ‬الرهاب؛‭ ‬إذ‭ ‬تتعدد‭ ‬المواقف‭ ‬والوضعيات‭ ‬المرتبطة‭ ‬به‭: ‬رهاب‭ ‬الماء،‭ ‬رهاب‭ ‬أصيص‭ ‬النوافذ،‭ ‬رهاب‭ ‬ملعب‭ ‬الحسن‭ ‬الثاني،‭ ‬رهاب‭ ‬التحرش‭... ‬فالرهاب‭ ‬مرض‭ ‬نفسي‭ ‬وخوف‭ ‬متواصل‭ ‬من‭ ‬أشياء‭ ‬تحيط‭ ‬بنا،‭ ‬ويزداد‭ ‬خوفنا‭ ‬منها‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬الطفولة‭. ‬لذا،‭ ‬فالكتابة‭ ‬السيرية‭ ‬عند‭ ‬محفوظ‭ ‬تجربة‭ ‬نفسية‭ ‬وآلية‭ ‬لقهر‭ ‬الرهاب‭ ‬وإعادة‭ ‬التوازن‭ ‬للذات‭.‬

‭ ‬فرهاب‭ ‬الماء،‭ ‬مثلًا،‭ ‬هو‭ ‬خوف‭ ‬مستمر‭ ‬من‭ ‬الماء‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬ينفصل‭ ‬عن‭ ‬سيرورة‭ ‬سردية‭ ‬تجعل‭ ‬الطفل‭ ‬يشعر‭ ‬بهذا‭ ‬الخوف‭. ‬والسرد‭ ‬الطفولي‭ ‬ينزاح‭ ‬نحو‭ ‬خلق‭ ‬علاقة‭ ‬خاصة‭ ‬مع‭ ‬القارئ،‭ ‬بعيدًا‭ ‬عن‭ ‬الرهاب‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬سفره‭ ‬إلى‭ ‬أمكنة‭ ‬تؤثث‭ ‬الفضاء‭ ‬السردي‭ ‬واستكشافه‭ ‬لها‭ ‬وإدراكه‭ ‬للقيم‭ ‬المتحولة‭ ‬التي‭ ‬تدفعه‭ ‬إلى‭ ‬مساءلة‭ ‬الثابت‭ ‬والمتغير‭. ‬إنه‭ ‬سرد‭ ‬يسمو‭ ‬على‭ ‬الرهاب‭ ‬بالذوبان‭ ‬في‭ ‬العلاقات‭ ‬الاجتماعية‭.‬

فالسيرة‭ ‬إذًا‭ ‬تنفرد‭ ‬بشغب‭ ‬خاص‭ ‬شكّل‭ ‬جماليتها،‭ ‬وتكشف‭ ‬عن‭ ‬سيرورة‭ ‬حياة‭ ‬ماضية‭ ‬بلغة‭ ‬متناسقة‭ ‬تتسم‭ ‬بالاقتصاد‭ ‬في‭ ‬التعبير،‭ ‬وتتعالى‭ ‬عن‭ ‬التفاصيل‭ ‬المملة‭ ‬والتكرار،‭ ‬وتحضر‭ ‬فيها‭ ‬الأنا‭ ‬المتكلمة‭ ‬التي‭ ‬تنسجم‭ ‬مع‭ ‬حكيها‭ ‬ليتحقق‭ ‬بذلك‭ ‬التطابق‭ ‬المطلق‭ ‬بين‭ ‬السارد‭ ‬والمؤلف‭ ‬والشخصية‭ ‬والمحكي‭.‬

أما‭ ‬الناقد‭ ‬مراد‭ ‬ليمام‭ ‬فميّز‭ ‬في‭ ‬مداخلته‭ ‬القيمة‭ ‬بين‭ ‬بُعدين‭ ‬اثنين‭: ‬نسقي،‭ ‬اشتغل‭ ‬من‭ ‬خلاله‭ ‬على‭ ‬تفكيك‭ ‬السيرة‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬الأفقي‭ ‬لإبراز‭ ‬العلاقات‭ ‬الكامنة‭ ‬بين‭ ‬أجزاء‭ ‬السيرة،‭ ‬بوصفها‭ ‬كلًّا‭ ‬مركّبًا‭ ‬يحقق‭ ‬نسقية‭ ‬وانسجامًا،‭ ‬موظفًا‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬ما‭ ‬أسماه‭ ‬بالمقاربة‭ ‬البين‭ ‬تخصصية،‭ ‬عبر‭ ‬عقد‭ ‬الصلات‭ ‬بين‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الفروع‭ ‬المعرفية،‭ ‬وآخر‭ ‬وظيفي‭ ‬يركز‭ ‬على‭ ‬انفتاح‭ ‬الخطاب‭ ‬السيري‭ ‬على‭ ‬حياة‭ ‬المؤلف‭ ‬وحياة‭ ‬القارئ‭ ‬التي‭ ‬تتولى‭ ‬العناية‭ ‬بالطفولة،‭ ‬والتي‭ ‬تشكّل‭ ‬جزءًا‭ ‬من‭ ‬الهوية‭ ‬الشخصية‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تقديم‭ ‬قراءة‭ ‬عمودية‭.‬

‭ ‬إن‭ ‬أوّل‭ ‬ما‭ ‬يسترعي‭ ‬انتباه‭ ‬القارئ،‭ ‬كما‭ ‬يصرّح‭ ‬الناقد‭ ‬ليمام،‭ ‬عبارة‭ ‬مكتوبة‭ ‬تحت‭ ‬العنوان،‭ ‬والتي‭ ‬يتم‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬استدعاء‭ ‬الطفولة‭. ‬فالكاتب‭ ‬يفتح‭ ‬أبواب‭ ‬طفولته‭ ‬عبر‭ ‬التذكّر،‭ ‬ويقدّم‭ ‬ازدواجية‭ ‬ذاته‭ ‬المكونة‭ ‬من‭ ‬الطفل‭ ‬المرتبط‭ ‬بالزمن‭ ‬الماضي‭ ‬والكاتب‭ ‬المشدود‭ ‬إلى‭ ‬الزمن‭ ‬الحاضر،‭ ‬باعتباره‭ ‬الراشد‭ ‬الذي‭ ‬انتدب‭ ‬نفسه‭ ‬كمرشد‭ ‬للطفل‭ ‬القابع‭ ‬بداخله‭.‬

‭ ‬فالخطاب‭ ‬السيري‭ ‬يتألف‭ ‬من‭ ‬طفل‭ ‬يتكلم‭ ‬وكتابة‭ ‬تضمّ‭ ‬هذا‭ ‬الطفل،‭ ‬وعلى‭ ‬ضوء‭ ‬ذلك،‭ ‬ففصول‭ ‬السيرة‭ ‬مرايا‭ ‬نصية‭ ‬متشابكة‭ ‬يسترجع‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬الراشد‭ ‬الطفل‭ ‬عبر‭ ‬تواصل‭ ‬داخل‭ ‬ذاتي‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬علاقة‭ ‬الراشد‭ ‬بالطفل،‭ ‬وعبر‭ ‬تواصل‭ ‬بين‭ ‬ذاتي،‭ ‬أي‭ ‬علاقة‭ ‬الطفل‭ ‬بمحيطه‭. ‬وتكشف‭ ‬السيرة‭ ‬عن‭ ‬مشاهد‭ ‬الرهاب‭ ‬التي‭ ‬يتداخل‭ ‬فيها‭ ‬الواقعي‭ ‬بالمتخيل،‭ ‬فمدلولات‭ ‬الرهاب‭ ‬تتناسل‭ ‬عبر‭ ‬السيرة‭ ‬التي‭ ‬تعكس‭ ‬مشاعر‭ ‬القلق‭ ‬والخوف،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬مواقف‭ ‬ووضعيات‭ ‬حياتية‭ ‬متنوعة‭. ‬فالكاتب‭ ‬يعبّر‭ ‬عن‭ ‬التفاوتات‭ ‬الطبقية‭ ‬والقيم‭ ‬الاجتماعية‭ ‬السائدة‭ ‬في‭ ‬فترة‭ ‬زمنية‭ ‬معيّنة،‭ ‬فكثافة‭ ‬الأمكنة‭ ‬بفاس‭ ‬تسمح‭ ‬مثلًا‭ ‬بتشخيص‭ ‬القيم‭ ‬السائدة‭ ‬آنذاك‭ ‬ويعبّر‭ ‬عن‭ ‬علاقة‭ ‬حميمية‭. ‬وقد‭ ‬بيّن‭ ‬الناقد‭ ‬في‭ ‬مداخلته‭ ‬أن‭ ‬الذاكرة‭ ‬النشطة‭ ‬ترغب‭ ‬في‭ ‬السيطرة‭ ‬على‭ ‬أحداث‭ ‬الطفولة،‭ ‬لكنّ‭ ‬الذاكرة‭ ‬الخامدة‭ ‬المسكوت‭ ‬عنها‭ ‬تريد‭ ‬الإحساس‭ ‬بنبض‭ ‬الأشياء‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬فعل‭ ‬السرد‭. ‬

ففصول‭ ‬السيرة‭ ‬تأتي‭ ‬في‭ ‬شكل‭ ‬مدلولات‭ ‬تسمح‭ ‬بضخّ‭ ‬الدلالة‭ ‬في‭ ‬دليل‭ ‬الرهاب،‭ ‬بما‭ ‬يقدّمه‭ ‬من‭ ‬صور‭ ‬ومسارات‭ ‬تصويرية‭ ‬ومشاعر‭ ‬القلق،‭ ‬يحاول‭ ‬الكاتب‭ ‬علاجها‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬بناء‭ ‬الفهم‭ ‬الإدراكي‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬يعزز‭ ‬ثقة‭ ‬الكاتب‭ ‬بذاته‭ ‬وبالعالم‭ ‬من‭ ‬حوله‭.‬

‭ ‬فـ‭ ‬‮«‬رهاب‭ ‬متعدد‮»‬‭ ‬ظاهرة‭ ‬تواصلية‭ ‬تتجلى‭ ‬في‭ ‬تمثيل‭ ‬الكاتب‭ ‬لتشفيره‭ ‬الطفولة‭ ‬الماضية،‭ ‬انطلاقًا‭ ‬من‭ ‬فعل‭ ‬التلفظ‭ ‬والتواصل‭ ‬ينزاح‭ ‬عبر‭ ‬فعل‭ ‬السرد‭ ‬والكتابة،‭ ‬فالحاضر‭ ‬يتعايش‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الكاتب‭ ‬الراشد‭ ‬مع‭ ‬ماضي‭ ‬الكاتب‭ ‬الطفل،‭ ‬كاشفًا‭ ‬في‭ ‬قراءته‭ ‬عن‭ ‬بعض‭ ‬الصيغ‭ ‬التركيبية‭ ‬والنحوية‭ ‬التي‭ ‬تجعل‭ ‬من‭ ‬السيرة‭ ‬منظومة‭ ‬عقلية‭ ‬ولغوية‭ ‬وتخييلية‭ ‬تقوم‭ ‬أساسًا‭ ‬على‭ ‬الاسترجاع‭ ‬والسرد‭.‬

‭ ‬وعلى‭ ‬مستوى‭ ‬القراءة‭ ‬العمودية،‭ ‬أشار‭ ‬الناقد‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬الدراسة‭ ‬الأفقية‭ ‬لمشاهد‭ ‬الرهاب‭ ‬تسمح‭ ‬في‭ ‬علاقتها‭ ‬بالزمن‭ ‬النحوي‭ ‬لملفوظ‭ ‬السيرة،‭ ‬من‭ ‬إدراك‭ ‬الفجوة‭ ‬الزمنية‭ ‬بين‭ ‬الماضي‭ ‬الطفولي‭ ‬بوصفه‭ ‬نصًا‭ ‬يتمّ‭ ‬تحيينه‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬خطاب‭ ‬الكاتب‭ ‬الراشد‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬يخلق‭ ‬مرجعية‭ ‬مغايرة،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الإسقاطات‭ ‬التي‭ ‬تولّدت‭ ‬من‭ ‬رصيد‭ ‬التجربة‭ ‬الشخصية‭ ‬والأكاديمية‭ ‬للناقد‭ ‬محفوظ‭. ‬فالوحدة‭ ‬الدلالية‭ ‬لملفوظ‭ ‬السيرة‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬الأفقي‭ ‬تتحول‭ ‬إلى‭ ‬قالب‭ ‬دلالي‭ ‬يسمح‭ ‬بإدراك‭ ‬الشحنات‭ ‬العاطفية‭ ‬للذاكرة‭ ‬الخامدة‭ ‬التي‭ ‬يتم‭ ‬صبّها‭ ‬داخل‭ ‬القالب‭ ‬الذي‭ ‬يمثّل‭ ‬الذاكرة‭ ‬النشطة‭ ‬للراشد،‭ ‬مقابل‭ ‬ترميز‭ ‬الذاكرة‭ ‬الخامدة‭. ‬فتشفيرة‭ ‬الطفولة‭ ‬تتيح‭ ‬عملية‭ ‬النقلة‭ ‬الاستعارية‭ ‬الاستبدالية،‭ ‬أي‭ ‬استبدال‭ ‬الماضي‭ ‬الطفولي‭ ‬بمدلول‭ ‬جديد‭ ‬عبر‭ ‬الوساطة‭ ‬السردية‭.‬

هكذا،‭ ‬تفتح‭ ‬السيرة‭ ‬أمام‭ ‬القارئ‭ ‬إمكانية‭ ‬ترهين‭ ‬نص‭ ‬الطفولة‭ ‬الجديدة‭ ‬للكاتب،‭ ‬باعتبار‭ ‬النص‭ ‬وحدة‭ ‬تواصلية‭ ‬ويحصل‭ ‬الترهين‭ ‬عند‭ ‬تلقّي‭ ‬القارئ‭ ‬القراءة‭ ‬الآنية‭ ‬لمحفوظ‭ ‬الذي‭ ‬أنشأ‭ ‬نصًا‭ ‬خاصًا‭ ‬عن‭ ‬طفولته،‭ ‬يعبّر‭ ‬من‭ ‬خلاله‭ ‬عن‭ ‬هويته‭ ‬الشخصية‭ ‬لينتقل‭ ‬عبر‭ ‬السيرة‭ ‬إلى‭ ‬تشكيل‭ ‬هوية‭ ‬سردية‭ ‬تتحقق‭ ‬عبر‭ ‬الوساطة‭ ‬السردية‭ ‬التي‭ ‬تؤسس‭ ‬لجذع‭ ‬الطفولة‭ ‬بوصفها‭ ‬جزءًا‭ ‬من‭ ‬الهوية‭ ‬الشخصية‭.‬

فيما‭ ‬حدد‭ ‬الناقد‭ ‬د‭. ‬محمد‭ ‬الداهي‭ ‬موضوع‭ ‬مداخلته‭ ‬في‭ ‬‮«‬رهانات‭ ‬محكي‭ ‬الطفولة‮»‬،‭ ‬فالمؤلَّف‭ ‬ينتمي‭ ‬إلى‭ ‬محكي‭ ‬الطفولة‭. ‬هذا‭ ‬المحكي‭ ‬يحوي‭ ‬مفردات‭ ‬تنتمي‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬أسماه‭ ‬الداهي‭ ‬بالأدب‭ ‬الشخصي‭ ‬أو‭ ‬شعرية‭ ‬الأجناس‭ ‬التذكّرية‭ ‬التي‭ ‬تكمن‭ ‬أهميتها‭ ‬في‭ ‬إماطة‭ ‬اللثام‭ ‬عن‭ ‬جوانب‭ ‬خفية،‭ ‬تهمّ‭ ‬التاريخ‭ ‬العام‭ ‬أو‭ ‬التاريخ‭ ‬الفردي،‭ ‬مشيرًا‭ ‬في‭ ‬مداخلته‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬المحكي‭ ‬تعترضه‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الصعوبات،‭ ‬نظرًا‭ ‬للبَون‭ ‬الشاسع‭ ‬بين‭ ‬الماضي‭ ‬والحاضر‭.‬

إن‭ ‬استرجاع‭ ‬لحظات‭ ‬الطفولة،‭ ‬حسب‭ ‬الناقد،‭ ‬يهدف‭ ‬إلى‭ ‬إعطاء‭ ‬معنى‭ ‬للحياة‭ ‬وتشكيل‭ ‬الهوية‭ ‬السرديّة،‭ ‬فالكاتب‭ ‬اقتنص‭ ‬بعض‭ ‬اللحظات‭ ‬الرهابية‭ ‬وأعاد‭ ‬تأثيثها‭. ‬فالسيرة‭ ‬تطرح‭ ‬التلفظ‭ ‬المزدوج‭ ‬بتعبير‭ ‬الناقد‭ ‬الفرنسي‭ ‬فيليب‭ ‬لوجون‭. ‬فالقارئ‭ ‬أمام‭ ‬تلفّظين؛‭ ‬تلفظ‭ ‬الراشد‭ ‬وتلفظ‭ ‬الطفل،‭ ‬كما‭ ‬أنها‭ ‬توقد‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الاستيهامات‭ ‬الراقدة،‭ ‬فمن‭ ‬خلالها‭ ‬نتعرف‭ ‬إلى‭ ‬الظروف‭ ‬النفسية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬التي‭ ‬خلقت‭ ‬المبدع‭ ‬عندما‭ ‬كان‭ ‬طفلًا،‭ ‬فضلًا‭ ‬عن‭ ‬قدرتها‭ ‬على‭ ‬المزج‭ ‬بين‭ ‬الحقيقي‭ ‬والخيالي‭.‬

في‭ ‬عنوان‭ ‬السيرة‭ ‬‮«‬رهاب‭ ‬متعدد‮»‬‭ ‬إحالة‭ ‬إلى‭ ‬أشكال‭ ‬متعددة‭ ‬من‭ ‬الرهاب‭: ‬رهاب‭ ‬الماء،‭ ‬رهاب‭ ‬انقلاب‭ ‬السيارة،‭ ‬رهاب‭ ‬ملعب‭ ‬الحسن‭ ‬الثاني‭... ‬فهذه‭ ‬الأحداث‭ ‬تشكّل‭ ‬جزءًا‭ ‬من‭ ‬شخصية‭ ‬السارد‭ ‬الراشد‭ ‬المتلفظ‭ ‬الذي‭ ‬وإن‭ ‬سعى‭ ‬إلى‭ ‬السيطرة‭ ‬على‭ ‬الطفل،‭ ‬فهذا‭ ‬الأخير‭ ‬كان‭ ‬دائم‭ ‬التمرد‭. ‬والكتابة‭ ‬بهذا‭ ‬الشكل،‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬الناقد،‭ ‬لها‭ ‬أدوار‭ ‬متعددة؛‭ ‬منها‭ ‬التطهير‭ ‬والعلاج‭ ‬والإصلاح‭ ‬والموعظة‭ ‬والإرشاد،‭ ‬وهذا‭ ‬النوع‭ ‬من‭ ‬الكتابة‭ ‬المتعلقة‭ ‬بالذات‭ ‬يقوم‭ ‬بدور‭ ‬علاجي،‭ ‬ليخلُص‭ ‬إلى‭ ‬أنه‭ ‬بفضل‭ ‬هذا‭ ‬المنجز‭ ‬السردي‭ ‬اكتشف‭ ‬القارئ‭ ‬جوانب‭ ‬خفيّة‭ ‬من‭ ‬حياة‭ ‬المبدع‭.‬

أما‭ ‬د‭. ‬محمد‭ ‬العناز‭ ‬فقد‭ ‬أكد‭ ‬في‭ ‬كلمته‭ ‬المركزة‭ ‬على‭ ‬العلاقة‭ ‬الوطيدة‭ ‬التي‭ ‬تجمعه‭ ‬بسيرة‭ ‬‮«‬رهاب‭ ‬متعدد‮»‬‭ ‬بما‭ ‬هي‭ ‬علاقة‭ ‬تشبه‭ ‬إلى‭ ‬حدّ‭ ‬ما‭ ‬علاقة‭ ‬ذلك‭ ‬الطفل‭ ‬بالأمكنة‭ ‬التي‭ ‬تبقى‭ ‬موشومة‭ ‬ومحفورة‭ ‬في‭ ‬الذاكرة،‭ ‬مركزًا‭ ‬في‭ ‬مداخلته‭ ‬على‭ ‬جمالية‭ ‬الهامشي‭ ‬في‭ ‬السيرة‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬بعض‭ ‬المفارقات‭ ‬الساخرة،‭ ‬كعلاقة‭ ‬الأطفال‭ ‬بحقهم‭ ‬في‭ ‬البحر،‭ ‬فهناك‭ ‬أطفال‭ ‬داخل‭ ‬فضاء‭ ‬فاس‭ ‬يتجهون‭ ‬نحو‭ ‬النافورات،‭ ‬لأنّ‭ ‬الطفل‭ ‬يحلم‭ ‬بالبحر‭.‬

‭ ‬هذه‭ ‬الرغبات‭ ‬يصوّرها‭ ‬المبدع‭ ‬بمهارة‭ ‬فنية،‭ ‬فيستعيد‭ ‬خيال‭ ‬ذلك‭ ‬الطفل‭ ‬وبكل‭ ‬التفاصيل‭ ‬الدقيقة‭ ‬المرتبطة‭ ‬بالفضاء‭ ‬والأزقّة‭ ‬والمكان‭ ‬الهامشي‭ ‬الذي‭ ‬يصور‭ ‬من‭ ‬خلاله‭ ‬الشخصيات‭ ‬والفضاء‭ ‬والمكان‭ ‬ويصور‭ ‬الفرجات‭ ‬الشعبية‭ ‬ليتحول‭ ‬هذا‭ ‬السرد‭ ‬السيري‭ ‬إلى‭ ‬ترميم‭ ‬لهذه‭ ‬الذاكرة،‭ ‬بما‭ ‬هي‭ ‬ذاكرة‭ ‬أمكنة‭ ‬وذاكرة‭ ‬جيل‭ ‬بأكمله،‭ ‬ويمنح‭ ‬للجيل‭ ‬الآخر‭ ‬إمكانية‭ ‬مشاهدات‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬الصورة‭ ‬السينمائية،‭ ‬ورغم‭ ‬قسوة‭ ‬الحياة‭ ‬فإنها‭ ‬تحقق‭ ‬متعًا‭ ‬عديدة‭ ‬للطفل‭ ‬الذي‭ ‬يحضر‭ ‬في‭ ‬صور‭ ‬وأشكال‭ ‬متعددة‭.‬

وفي‭ ‬ختام‭ ‬هذا‭ ‬اللقاء،‭ ‬عبر‭ ‬المحتفى‭ ‬به،
د‭. ‬محفوظ،‭ ‬عن‭ ‬شكره‭ ‬لكل‭ ‬المتدخلين‭ ‬الذين‭ ‬أثروا‭ ‬اللقاء‭ ‬بأوراقهم‭ ‬البحثية‭ ‬المفيدة‭ ‬والماتعة،‭ ‬مؤكدًا‭ ‬أن‭ ‬السيرة‭ ‬وإن‭ ‬كانت‭ ‬بسيطة،‭ ‬يكفي‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬صادقة‭ ‬ومكتوبة‭ ‬بلغة‭ ‬الحياة‭ ‬لكي‭ ‬تكون‭ ‬ماتعة‭ ‬ومثيرة،‭ ‬ولكي‭ ‬تكون‭ ‬شهادة‭ ‬على‭ ‬أشياء‭ ‬خفيّة‭ ‬■