ستّ المُلك لم تَرَ شيئًا

ستّ المُلك لم تَرَ شيئًا

دولة غامضة تلك التي أقامها الفاطميون في مصر، ورغم طول بقائها على مدى مئتي عام، لم ينكشف الكثير من أسرارها إلّا بعد أن زالت وانتهى أمرها، كوّن الفاطميون دولتين في الوقت نفسه، أوّلها ظاهرية مثل أي دولة، خلفاء ووزراء وقادة وولاة وعسكر، وأخرى باطنية، تدور أنشطتها في الأقبية السريّة تحت الأرض، مكونة من الدعاة الذين يأتون إليها من كل أرجاء العالم الإسلامي، وكانوا مكلّفين الانتشار والدعوة إلى مذهب الدول الذي كان يعتمد على المذهب الشيعي.

كان الخليفة يستمد سلطته من كونه إمامًا دينيًا يقدسه أتباعه أولاً، وحاكمًا دنيويًا يستخدم قوته المادية في فرض سلطته، وكان ما يدور بهذه الدولة في الخفاء أكثر مما يدور في العلن، وأحد هذه الألغاز هو اختفاء واحد من أشهر حكامها، وهو الحاكم بأمر الله. 

بعد ثلاثة أيام
منذ ثلاثة أيام وبوابة المدينة مغلقة، القادمون من الخارج لا يستطيعون الدخول، ومَن في الداخل مسجونون تقريبًا، قلب القاهرة متوقّف، وفي كل ساعة يصعد صاحب الشرطة ويطلّ من فوق الأسوار لعلّه يرى الخليفة الحاكم بأمر الله وهو قادم بحماره من ناحية المقطم، لكنه لا يرى إلا الصخور الجامدة، كانت لديه أوامر محددة، عليه أن يغلق البوابات فور خروج الحاكم، ولا يفتحها إلا عند عودته، ولو خالف ذلك الأمر سيكون مصيره القتل، وفي العادة لم تكن مدة الغياب تتجاوز إلا ليلة واحدة، لكنها هذه المرة طالت أكثر من اللازم، بدأت أصوات الناس تعلو في احتجاج وسخط، كانت أفعال الحاكم قد تجاوزت كل حدّ، وبلغ به الأمر أن يحوّل مدينتهم إلى سجن مُحكم الإغلاق.
أرسل صاحب الشرطة العديد من الرسل إلى بين القصرين، حيث توجد ست المُلك (أخت الخليفة)، ليسألها: ما العمل؟ بعد ساعات من الانتظار جاءت ست الملك بشخصها وخلفها كبار رجال الدولة والجند، أمرت بفتح بوابات المدينة على الفور، واندفع الناس دخولًا وخروجًا.
 كان وجه ست الملك جامدًا لا يبدو عليه أيّ انفعال، بدت متماسكة وهي تلقي بالأوامر وتوجّه الرجال، اتجهوا على الفور للطريق المؤدي للمقطم، كانوا يعرفون أن هذا هو المكان الذي يلجأ إليه الحاكم كل ليلة، حيث مغارة يجلس فيها ويراقب النجوم، كان قد استقر في أعماقه أنّه شبه إله، ولم يبق إلّا أن ينتظر إشارة من السماء تؤكد له هذا الإحساس.
 أشارت ست الملك للجميع أن ينتشروا بين الصخور المتجهمة، كل شيء وعرٌ وجاف، كل شيء يليق بما في داخله من جفاف وصلابة ونزوع عن الرحمة، تسمع صوتًا يصيح: لقد وجدنا الحمار «قمر»، كان ملقى على الأرض تغطيه الدماء الجافة وتطنّ فوقه أسراب من الذباب، كان القتلة قد قطعوا قوائمه وفصلوها عن جسده، جعلوه يهوي في مكانه وينزف حتى الموت، ابتعدت في تقزُّز، لكنّها أدركت أن القتلة قاموا بعملهم بالفعل، وما داموا قد قتلوا الحمار، فمن المؤكد أنهم استطاعوا الوصول لصاحبه، ولكن أين قاموا بهذا الفعل؟ يصيح صوت من الطرف الآخر من الصخور: وجدنا المكاري الذي كان يقود الحمار، جثة أخرى مليئة بالطعنات ومغطاة بالذباب تتصاعد منها أبخرة العفونة، لا بُدّ من جثة ثالثة إذن؟ تتواصل عملية البحث، عليها أن تبقى معهم وتُظهر اهتمامها الحزين حتى لا يشُكّ أحد بأنها هي التي أرسلت القتلة، تبتعد عنهم قليلًا وتطوف بعينيها وسط الصخور... هل كان يستحق هذه النهاية؟

قتل ما يكفي 
 كان قد قتل ما يكفي من الجميع، أصدقاء وخلّان، كل الذين أخلصوا له وحسبوا أنهم آمنون من شره، وحتى الناس العاديون لم يسلموا منه، أحرق نصف مدينتهم الفسطاط، وجعل السود يهاجمون بيوتهم، ويروّعون بناتهم، كانت ست الملك واثقة بشيء واحد، أن دورة الموت ستحلّ عليها، وأنه ذات لحظة سيقرر أن يقتلها، وسيكون سعيدًا حين يأمرهم بذلك، وكان عليها أن تسبقه، لن تسمح له أن يقتلها دون أن تستطيع الرد.
 دون أن تدري، كانت ست الملك تواصل صعود الجبل، أين توجد هذه المغارة؟ كانت هناك أكثر من واحدة، أشبه بأفواه فاغرة مليئة بالظلمة، لم تستطع الاهتداء إلى واحدة بعينها، استدارت وعاودت السير بين الصخور، كانت تعرف أن المدينة تترقّب عودتها، ابن الحاكم لم يتجاوز السادسة عشرة، ولو تحقق تدبيرها فسيكون هو الخليفة القادم، ستُجلسه على العرش، لكنها ستقبض على زمام الأمور من خلف الستار، توقّفت وقد لمحت شيئًا ما بين الصخور ذات الحواف الحادة، مِزَق من الثياب ملوّثة بالدم، اقتربت منها وهي ترتجف، هل هذه عباءته؟ تذكّرت آخر مرة رأته فيها، وهو يقتحم غرفتها دون استئذان، لا يبالِي إن كانت في ثيابها أم من دونها، يصيح فيها بوقاحة: ومن أكون أنا بالنسبة للرجال الذين يتسللون إلى غرفتك كل ليلة؟ كل مرّة يهينها بهذه الطريقة، يطعنها في شرفها كأنها بَغيّ، في كل مرة يكرر الكلمات ذاتها، كأنه كان يرغبها ويعجز عن نيلها، وكانت القطيعة بينهما حين أحضر القابلات إلى غرفتها، نسوة سود كالغربان، أسنانهن مغطّاة بطبقة من الفضة، سكاكين حادة ومتراصّة، جرّدوها من ثيابها، فحصوا نصفها السفلي بحثًا عن أي خدش أو علامة، أصبح جسدها منتهكًا ولن يستعيد سكينته أبدًا، ملوثًا لن تتمكن من تنظيفه مهما اغتسلت، لكنه لم يكن راضيًا عن نتيجة فحص القابلات، لم يستطع أن يصدّق أنها مازالت عذراء.
 كان يكره فيها كل النساء، منعهن جميعًا من الخروج من بيوتهن، وسدّ عليهن باب أحد الحمامات اللواتي كنّ مجتمعات في داخله يستحممن ويغنين، تحوّل إلى قاتل بارد القلب، لذلك أخذت القرار واتصلت بالقتلة من بني كتامة، ولو ترددت لحظة لبادرها هو بالقتل.
 تهبّ الريح من أعلى المقطم، تستجمع شجاعتها عندما ترى العباءة مازالت ساكنة في مكانها، تزيح بعض الصخور وتنظر من خلالها، ترى جثّته محشورة وسطها، ترتدّ في فزع، تخشى أن تنفخ فيه الريح الحياة من جديد، لكنّ جسده يظل ساكنًا بما تخترقه من طعنات وما يغطيه من ذباب، أصبح غير قادر على هشّ أيّ ذبابة، مات بلا أي نوع من الرهبة أو الجلال، أتمّ القتلة عملهم وحاولوا إخفاء الجثة تحت الصخور.
ما كان أغنانا عن هذه النهاية يا أخي ونحن نقف على هذه الحافّة من العداء، تجلس على حافّة الصخرة وهي تنظر إلى ملامحه الملتوية من شدة الفزع، إلى لحيته غير المشذّبة التي تلوثها الدماء، لو أنّه فقط عرف شيئًا من مُتع الحياة غير القتل؟! وتخلّى عن فكرة أنه إله وعبث قليلًا مثل بقية البشر، ربّما تغيّرت المصائر، تقول في صوت عال: ربما لم أكن سأقتلك يا أخي.

إنها النهاية
تسمع أصوات الرجال وهي تتناهى من بعيد، تسرع وتعيد الصخور التي أزاحتها، تضيف عليها صخورًا أخرى، يستردّ الجبل مظهره الأليف، ويظهر صاحب الشرطة وهو يتقدّم الرجال، يقول في صوت لاهث: لقد سرنا حتى حلوان، ولم نعثر له على أيّ أثر، يقول أحد الأتباع: ربما لم يُقتل، ربما ارتفع للسماء وسيظهر من جديد، تتأملهم جميعًا في صمت، يسألها صاحب الشرطة: هل رأيت شيئًا يا مولاتي؟ تهزّ رأسها: لم أرَ شيئًا، هيا فلنعد، هناك دولة علينا أن ندبّر أمورها ■