كلود لورين «فنان يدرس الطبيعة»

كلود لورين «فنان يدرس الطبيعة»

لا تعود شهرة كلود لورين إلى قدرته على الابتكار بقدر ما تعود إلى الإتقان، وتحديدًا إتقان رسم المشاهد الطبيعية، والارتقاء به إلى مستوى غير مسبوق، ولا مثيل له في عصره، إلا عند معاصره وصديقه الرسام الفرنسي نيكولاس بوسان. يُعد لورين رسامًا فرنسيًا، لأنه من أبوين فرنسيين، واسمه الحقيقي كلود جيلليه، لكنه وُلد وترعرع في دوقية اللورين الهولندية، ودرس الفن وعاش وعمل في إيطاليا، حيث عرف باسم «اللوريني» أو «لورين».

حتى بدايات القرن السابع عشر، كان الفنانون الشماليون في هولندا وحدهم يرون في الطبيعة غاية أساسية تستحق الرسم في حدّ ذاتها من دون إضافات إليها. أما في إيطاليا، وإن كان رسم الطبيعة قد تطوّر عما كان عليه في عصر النهضة، فإنه كان قد بقي - بشكل عام - مجرد خلفية في اللوحات ذوات المواضيع الدينية أو الأسطورية، إلى أن جاء لورين وتسلل بالمناظر الطبيعية التي رسمها إلى الذائقة الرائجة، ليقلبها رأسًا على عقب. 
رسم لورين في حياته آلاف الرسوم التحضيرية بالقلم والألوان المائية، ووصلنا منها مئات عدة. واللافت في هذه الرسوم الدراسية أنها كلها خالية من البشر، ركّز فيها على عناصر من الطبيعة الواقعية، ليعود لاحقًا ويرسم بعضها في لوحات زيتية تظهر فيها الطبيعة مثالية ذات جلال ومهابة لا تخلو من الشاعرية. ولم يصعب عليه إرضاء الذائقة التقليدية في إيطاليا، فكان يضع ضمن المشهد الطبيعي الكبير والمهيب بضعة أشخاص من موضوع أسطوري أو ديني، يرسمهم بمقاييس صغيرة جدًا، لكن بعضهم بملابس زاهية الألوان للفت النظر إلى وجودهم، ويعطون اسمًا للوحة. والأغرب من ذلك، أن لورين لم يكن ماهرًا في رسم الأشخاص، حتى ليقال إنه كان يترك إضافة الأشخاص كعمل ثانوي لمساعديه.

تدرّج الضوء
في لوحته «فنان يدرس الطبيعة» التي رسمها عام 1639م، عندما كان في ذروة شهرته، أول ما يستوقفنا هو منظر الشجرة الكبيرة التي تتوسط اللوحة وتعلو على كل ما عداها. ولأن الشجرة وحدها ليست منظرًا طبيعيًا، فقد أضاف إلى يمينها جانبًا من قلعة قديمة متخيلة، وإلى يسارها خليجًا ومركبًا شراعيًا... فمعظم لوحات الطبيعة التي رسمها الفنان، تبدو كأنها لأماكن قريبة من أماكن مأهولة، ولكن من دون واقعية الحياة اليومية. وكما هي الحال في معظم لوحات هذا الفنان، يتدرج الضوء في هذه اللوحة من الظلال المعتمة في القسم القريب من حيث يقف الرسام المشاهد، إلى الضوء القوي في الأفق البعيد.
 وفي القسم المظلل بقوة في أسفل اللوحة، نشاهد عددًا من الناس، من بينهم رسام جالس أمام دفتر رسم، وبجواره شخصان آخران، كما نطالع عددًا آخر على مسافة قريبة، من بينهم امرأة ترتدي ثوبًا أزرق، تبدو كأنها حجر كريم يرصّع هذه البيئة الترابية. غير أن عبقرية الرسام تتجلى في مكان آخر.
بالتأمل مليًا في هذه اللوحة، نلحظ الغنى في تعدُّد الألوان من الوردي والأزرق في الأفق، إلى البني الأخضر والأحمر والأصفر بكل ما في هذه الألوان من تدرجات وتفعيلات مختلفة، حتى أننا نجد في الشجرة مجموعة ألوان تتراوح بين الأسود والأصفر الذهبي، مرورًا بالأخضر والبنّي.

تجانس وتناغم
مع ذلك، نجد أنفسنا أمام تجانس وتناغم لوني يعزّ نظيره، وكأن الرسام يقول لنا إن هذه الوحدة اللونية هي من صنع الضوء لا من صنعي. وفي هذا أداء رفيع لم يكن قد توصل إليه أحد حتى آنذاك. وبقي الفنانون الأوربيون يدرسونه، على مدى القرنين التاليين، وكان لذلك فضل كبير على ظهور «مدرسة بريزون» في فرنسا التي قامت على رسم المناظر الطبيعية من الغابات والأرياف، وأيضًا ظهور الانطباعية. حتى أن الرسام الإنجليزي جون كونستابل في القرن التاسع عشر، وصف لورين ببساطة وبشكل حاسم بأنه «أفضل رسام للمناظر الطبيعية عرفه العالم».
والواقع أن هذه الوحدة اللونية المميزة لأعمال لورين، كانت وراء ظهور ابتكار في عام 1775م، اسمه «عدسة لورين». وهو عبارة عن مرآة صغيرة ذات زجاج داكن قليلًا يسمح بإطفاء الفروقات الفجة في ألوان المناظر الطبيعية، كان مستعملوها من الفنانين وغيرهم يديرون ظهورهم للمشهد الطبيعي، ويتطلعون إلى انعكاسه على المرآة. (علمًا بأنه لا إثبات أن لورين استعمل أداة كهذه في حياته)، لكنها سميت باسمه للدلالة على فاعليتها في خلق تجانس وتناغم وتقارب بين الألوان المختلفة في الطبيعة ■