فيلم «التفاح» والهروب من الذاكرة

فيلم «التفاح» والهروب من الذاكرة

 

إذا أصابتكَ الخسائر، وفقدتَ حبيبًا، وحطَّتْ على قلبك الهموم، وامتلأتْ روحك بالكسل من جراء الفَقْد، وشعرت أن الحزن جَمَّدَ الدماء داخل عروقك، وأنك صرتَ كائنًا صدئًا، وأن الزمن توقَّف بك لا يتحرَّك، ممَّا يجعلك «تخبط رأسك في جدار»؛ تريد أن تُسْقِط همومك وأحزانك وصدأ روحك، داخل الجدار، لكنّك تجد أن الصدأ يستقر داخل روحك أكثر، ليس أمامك سوى أن تنزع رأسك وتلقيه جانبًا، وتستبدل محتوياته برأس فارغ تمامًا، ثم تبدأ من جديد في حشو ذاتك بذكريات جديدة بعيدًا عن حبيبك المفقود، لكنّك مهما ابتعدت ينبغي أن تدرك أن حبيبك الذي رحل إلى عالم آخر يريد مَن يتذكره، ويضع على قبره وردة.

‭ ‬يمكنك‭ ‬أن‭ ‬تطالع‭ ‬كيف‭ ‬يتم‭ ‬تبديل‭ ‬محتويات‭ ‬رأس‭ ‬برأس‭ ‬جديد‭ ‬إذا‭ ‬شاهدت‭ ‬الفيلم‭ ‬اليوناني‭ ‬Apples‭ (‬التفاح‭)‬،‭ ‬المنتج‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬2020‭ ‬والذي‭ ‬أخرجه‭ ‬كريستوس‭ ‬نيكو،‭ ‬وشارك‭ ‬في‭ ‬كتابته‭ ‬مع‭ ‬ستافروس‭ ‬رابتيس،‭ ‬وقام‭ ‬ببطولته‭ ‬الممثل‭ ‬اليوناني‭ ‬آريس‭ ‬سيرفيتاليس‭. ‬

 

ارحل‭ ‬أيُّها‭ ‬الحزن

يبدأ‭ ‬الفيلم‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬خبطة‮»‬‭ ‬مكتومة،‭ ‬فتنفتح‭ ‬الشاشة‭ ‬على‭ ‬مساحة‭ ‬وسيعة‭ ‬من‭ ‬السماء‭ ‬والخضرة،‭ ‬نراها‭ ‬من‭ ‬وراء‭ ‬نافذة،‭ ‬ثم‭ ‬خبطة‭ ‬أخرى‭ ‬ونشاهد‭ ‬السرير،‭ ‬ثم‭ ‬خبطة‭ ‬ونطالع‭ ‬فنجان‭ ‬القهوة‭ ‬وبعض‭ ‬المخلفات‭ ‬الشخصية،‭ ‬ثم‭ ‬أخرى‭ ‬ونلمح‭ ‬فستانًا،‭ ‬فخبطة‭ ‬ويظهر‭ ‬اسم‭ ‬الفيلم‭... ‬خبطة‭ ‬كدقَّة‭ ‬قلب‭ ‬مكتوم‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬يتحرَّر‭ ‬من‭ ‬داخله،‭ ‬خبطة‭ ‬سنكتشف‭ ‬أنّها‭ ‬لرأس‭ ‬رجل‭ ‬حزين‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬يُلْقِي‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬داخل‭ ‬رأسه‭ ‬نزيفًا‭ ‬على‭ ‬الجدار،‭ ‬خبطة‭ ‬حسرة‭ ‬وألم،‭ ‬يريد‭ ‬بها‭ ‬الرجل‭ ‬أن‭ ‬يفتح‭ ‬رأسه‭ ‬ليسيل‭ ‬الحزن‭ ‬البادي‭ ‬بوضوح‭ ‬على‭ ‬ملامحه،‭ ‬خبطة‭ ‬الرأس‭ ‬في‭ ‬الجدار‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬ضعفها،‭ ‬فإنها‭ ‬تُوجِع‭ ‬القلب،‭ ‬هذا‭ ‬الرجل‭ ‬الوحيد‭ ‬في‭ ‬شقته‭ ‬ربما‭ ‬يفكّر‭ ‬في‭ ‬رفيق‭ ‬أو‭ ‬محبوب‭ ‬افتقده‭ ‬بهذه‭ ‬الشقة‭ ‬التي‭ ‬تبدو‭ ‬على‭ ‬اتساعها‭ ‬مُحَاطة‭ ‬بالحزن‭ ‬والفَقْد‭.‬

وحين‭ ‬يسمع‭ ‬الرجل‭ ‬الوحيد‭ ‬إعلانًا‭ ‬من‭ ‬قسم‭ ‬الذاكرة‭ ‬المضطربة‭ ‬في‭ ‬مستشفى‭ ‬الأعصاب،‭ ‬يتعلَّق‭ ‬ببرنامج‭ ‬تكوين‭ ‬هويّة‭ ‬جديدة،‭ ‬برنامج‭ ‬يساعد‭ ‬المصابين‭ ‬بفقدان‭ ‬الذاكرة‭ ‬على‭ ‬إنشاء‭ ‬حياة‭ ‬جديدة،‭ ‬وذلك‭ ‬سيتم‭ ‬في‭ ‬مستشفيات‭ ‬إضافية؛‭ ‬لأنّ‭ ‬حالات‭ ‬فقدان‭ ‬الذاكرة‭ ‬بدأت‭ ‬تظهر‭ ‬فجأة‭ ‬بكثرة‭ ‬وبلا‭ ‬مقدمات،‭ ‬فجأة‭ ‬والفرد‭ ‬يسير‭ ‬في‭ ‬الطريق،‭ ‬ينسى‭ ‬مَن‭ ‬هو‭ ‬ولا‭ ‬يتذكَّر‭ ‬من‭ ‬أين‭ ‬أتى،‭ ‬ولا‭ ‬إلى‭ ‬أين‭ ‬يتّجه،‭ ‬يفقد‭ ‬الإنسان‭ ‬هويّته‭ ‬وكينونته‭ ‬وشخصيته‭ ‬دون‭ ‬مقدمات‭ ‬وسط‭ ‬المدينة،‭ ‬ينزل‭ ‬أحدهم‭ ‬من‭ ‬سيارته‭ ‬ويجلس‭ ‬على‭ ‬رصيف‭ ‬في‭ ‬الطريق،‭ ‬ولا‭ ‬يعلم‭ ‬إلى‭ ‬أين‭ ‬يتجه،‭ ‬ولا‭ ‬يدرك‭ ‬مَن‭ ‬هو‭.‬

 

فقدان‭ ‬ذاكرة‭ ‬متعمَّد

يخرج‭ ‬الرجل‭ ‬الوحيد،‭ ‬الذي‭ ‬قام‭ ‬بدوره‭ ‬بمهارة‭ ‬فائقة‭ ‬الممثل‭ ‬اليوناني‭ ‬آريس‭ ‬سيرفيتاليس،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يغلق‭ ‬بابه‭ ‬بمفتاح،‭ ‬وهذا‭ ‬يثيرنا‭ ‬منذ‭ ‬البدء،‭ ‬ثم‭ ‬يشتري‭ ‬باقة‭ ‬ورد،‭ ‬سنعلم‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬الفيلم‭ ‬أنه‭ ‬ذهب‭ ‬ووضعها‭ ‬على‭ ‬قبر‭ ‬زوجته،‭ ‬ثم‭ ‬ركب‭ ‬الأتوبيس،‭ ‬وحين‭ ‬سأله‭ ‬السائق‭ ‬عند‭ ‬نهاية‭ ‬الطريق‭ ‬وفي‭ ‬آخر‭ ‬ورديّة‭ ‬عن‭ ‬وجهته،‭ ‬اكتشف‭ ‬أن‭ ‬الرجل‭ ‬الوحيد‭ ‬في‭ ‬الأتوبيس‭ ‬فاقد‭ ‬الذاكرة،‭ ‬وأنّه‭ ‬لا‭ ‬يذكر‭ ‬أيّ‭ ‬شيء،‭ ‬فقدان‭ ‬ذاكرة‭ ‬فجائي،‭ ‬كالمنتشر‭ ‬في‭ ‬المدينة‭.‬

لقد‭ ‬وَضَعَنَا‭ ‬صُنَّاع‭ ‬الفيلم‭ ‬أمام‭ ‬رجل‭ ‬ربّما‭ ‬نظنّ‭ ‬في‭ ‬البداية‭ ‬أنه‭ ‬فَقَدَ‭ ‬الذاكرة‭ ‬فعلًا،‭ ‬لكنّه‭ ‬في‭ ‬الحقيقة‭ ‬اخْتَلَقَ‭ ‬حالة‭ ‬فقدان‭ ‬الذاكرة‭ ‬الفجائي؛‭ ‬لأنّه‭ ‬أراد‭ ‬أن‭ ‬يستغل‭ ‬البرنامج‭ ‬الذي‭ ‬يؤهّل‭ ‬الناس‭ ‬لحياة‭ ‬جديدة،‭ ‬البرنامج‭ ‬الذي‭ ‬سمعه‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬قمة‭ ‬الكآبة‭ ‬والحزن‭ ‬والفَقْد‭ ‬داخل‭ ‬شقته،‭ ‬أراد‭ ‬أن‭ ‬يُلقي‭ ‬رأسه‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬يحتويه‭ ‬من‭ ‬هَمّ‭ ‬وحزن‭ ‬وذكريات‭ ‬مؤلمة،‭ ‬ذكريات‭ ‬تكبس‭ ‬على‭ ‬روحه،‭ ‬وتسبِّب‭ ‬له‭ ‬الكآبة‭.‬

  ‬نجح‭ ‬سيرفيتاليس‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬يتقمَّص‭ ‬حالة‭ ‬الكآبة‭ ‬النفسية‭ ‬والروحية‭ ‬طوال‭ ‬مدة‭ ‬العرض‭ ‬التي‭ ‬بلغت‭ ‬ساعة‭ ‬ونصف‭ ‬الساعة،‭ ‬فلم‭ ‬تهرب‭ ‬منه‭ ‬ابتسامة‭ ‬عفوية؛‭ ‬وكأنَّ‭ ‬تحت‭ ‬جلده‭ ‬طبقة‭ ‬من‭ ‬شمع‭ ‬تحجب‭ ‬انفعالاته،‭ ‬حتى‭ ‬تظنّ‭ ‬بالفعل‭ ‬أنه‭ ‬فَقَدَ‭ ‬الذاكرة‭ ‬لولا‭ ‬بعض‭ ‬الإشارات‭ ‬الذكيّة‭ ‬من‭ ‬صنَّاع‭ ‬الفيلم‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تشير‭ - ‬عن‭ ‬عَمد‭ - ‬إلى‭ ‬أنه‭ ‬يريد‭ ‬البرنامج؛‭ ‬لذلك‭ ‬فقد‭ ‬تَصَنَّع‭ ‬الرجل‭ ‬الوحيد‭ ‬حالة‭ ‬فَقْد‭ ‬الذاكرة،‭ ‬لقد‭ ‬كان‭ ‬حريصًا‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬فارغ‭ ‬الجيوب‭ ‬من‭ ‬أيّ‭ ‬متعلِّقات‭ ‬شخصية‭ ‬تدلّ‭ ‬على‭ ‬هويّته،‭ ‬كان‭ ‬يسعى‭ ‬بكامل‭ ‬وعيه‭ ‬وإرادته‭ ‬لتجربة‭ ‬تغيُّر‭ ‬الهوية،‭ ‬أراد‭ ‬أن‭ ‬يتخلَّص‭ ‬من‭ ‬رأسه‭ ‬القديم‭ ‬ويلقى‭ ‬كل‭ ‬ذكرياته‭ ‬ويبدأ‭ ‬من‭ ‬جديد‭.‬

من‭ ‬العوامل‭ ‬التي‭ ‬تؤكد‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬يدخل‭ ‬البرنامج‭ ‬لتغيير‭ ‬الهوية،‭ ‬وأنه‭ ‬لم‭ ‬يفقد‭ ‬الذاكرة‭ ‬فعلًا،‭ ‬أن‭ ‬الرجل‭ ‬الوحيد‭ ‬سأل‭ ‬رجلًا‭ ‬فاقد‭ ‬الذاكرة‭ ‬فعلًا‭ ‬في‭ ‬المستشفى،‭ ‬عمَّا‭ ‬حدث‭ ‬له‭ ‬بالضبط‭ ‬قبل‭ ‬فقدان‭ ‬الذاكرة،‭ ‬فأخبره‭ ‬الرجل‭ ‬فاقد‭ ‬الذاكرة‭ ‬أنّه‭ ‬شعر‭ ‬بألم‭ ‬في‭ ‬منتصف‭ ‬رأسه،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬قاله‭ ‬الرجل‭ ‬الوحيد‭ ‬للطبيب‭ ‬حين‭ ‬كشف‭ ‬عليه؛‭ ‬كي‭ ‬يشخّصه‭ ‬على‭ ‬أنه‭ ‬فَقْد‭ ‬ذاكرة‭ ‬فجائي،‭ ‬كان‭ ‬يتعمَّد‭ ‬الرسوب‭ ‬في‭ ‬الاختبارات‭ ‬حتى‭ ‬ينتقل‭ ‬للذَّة‭ ‬الاختبارات‭ ‬الأخرى‭ ‬نحو‭ ‬حياة‭ ‬جديدة‭ ‬لا‭ ‬يعرفها‭.‬

  ‬حين‭ ‬رأى‭ ‬الرجل‭ ‬الوحيد‭ ‬الكلب‭ ‬‮«‬ماو‮»‬‭ ‬في‭ ‬الطريق‭ ‬عرف‭ ‬الكلب،‭ ‬وناداه‭ ‬باسمه‭ ‬والكلب‭ ‬عرفه،‭ ‬فدار‭ ‬حوله،‭ ‬لكنّ‭ ‬الرجل‭ ‬الوحيد‭ ‬سمع‭ ‬صاحب‭ ‬الكلب‭ ‬ينادي‭ ‬عليه،‭ ‬فاختفى‭ ‬من‭ ‬صاحب‭ ‬الكلب،‭ ‬وظهرت‭ ‬على‭ ‬وجهه‭ ‬علامات‭ ‬توتّر‭ ‬خشية‭ ‬اكتشافه،‭ ‬وهرب‭ ‬منه‭ ‬كأنّه‭ ‬يهرب‭ ‬من‭ ‬ماضيه،‭ ‬لا‭ ‬يريد‭ ‬لشيء‭ ‬أن‭ ‬يُذَكِّره‭ ‬بالماضي،‭ ‬الهروب‭ ‬من‭ ‬الماضي‭ ‬للمستقبل‭ ‬كان‭ ‬هدفه،‭ ‬وعاد‭ ‬إلى‭ ‬المنزل‭ ‬الذي‭ ‬يتدرَّب‭ ‬فيه،‭ ‬وغطّى‭ ‬رأسه‭ ‬ببطانية‭ ‬كطفل‭ ‬داخل‭ ‬رحم‭ ‬أمه‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬يختفي‭ ‬عن‭ ‬العالم‭ ‬وألّا‭ ‬يرى‭ ‬أحدًا‭.‬

 

محبّة‭ ‬قديمة

كان‭ ‬الرجل‭ ‬الوحيد‭ ‬يأكل‭ ‬التفاح‭ ‬بمحبّة‭ ‬قديمة؛‭ ‬لأنّ‭ ‬للتفاح‭ ‬ذكرى‭ ‬خاصة‭ ‬عنده،‭ ‬وكان‭ ‬هذا‭ ‬دليلًا‭ ‬على‭ ‬أنه‭ ‬ما‭ ‬يزال‭ ‬يحتفظ‭ ‬بذاكرته،‭ ‬أيضًا‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬الطريق‭ ‬مع‭ ‬مريضة‭ ‬من‭ ‬مرضى‭ ‬فقدان‭ ‬الذاكرة‭ ‬كان‭ ‬يغنِّي‭ ‬أغنية‭ ‬كاملة،‭ ‬حتى‭ ‬أنّها‭ ‬لاحظت‭ ‬ذلك،‭ ‬وأخبرته‭ ‬أنه‭ ‬يحفظها‭ ‬عن‭ ‬ظهر‭ ‬قلب‭... ‬دلائل‭ ‬كثيرة‭ ‬كانت‭ ‬تقول‭ ‬إنه‭ ‬ليس‭ ‬فاقدًا‭ ‬للذاكرة،‭ ‬إنّما‭ ‬يتصنَّع‭ ‬ذلك‭ ‬ليخرج‭ ‬من‭ ‬قمقم‭ ‬كآبته‭ ‬ويرمي‭ ‬الحزن‭ ‬من‭ ‬داخله‭.‬

‭ ‬وفي‭ ‬لقطة‭ ‬بارعة‭ ‬أرادت‭ ‬الطبيبة‭ ‬المدربة‭ ‬أن‭ ‬تربت‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬الرجل‭ ‬الوحيد‭ ‬وقالت‭: ‬‮«‬طابت‭ ‬ليلتك‮»‬،‭ ‬وقبل‭ ‬أن‭ ‬تلمسه‭ ‬نَفَرَ‭ ‬بشدَّة‭ ‬وارتعد‭ ‬من‭ ‬داخله،‭ ‬فرَّ‭ ‬بأحاسيسه‭ ‬من‭ ‬لمسة‭ ‬حنون،‭ ‬كان‭ ‬لا‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬تلمسه‭ ‬امرأة‭ ‬أخرى‭ ‬غير‭ ‬زوجته‭ ‬التي‭ ‬سنعلم‭ ‬في‭ ‬اعتراف‭ ‬له‭ ‬أنها‭ ‬ماتت؛‭ ‬ليؤكد‭ ‬أنّ‭ ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬السبب‭ ‬في‭ ‬فقدانه‭ ‬الذاكرة‭ ‬المزعوم‭.‬

في‭ ‬البرنامج‭ ‬كلّ‭ ‬يوم‭ ‬تجربة،‭ ‬تكون‭ ‬له‭ ‬ذكريات‭ ‬جديدة‭ ‬وحياة‭ ‬جديدة‭ ‬تنسيه‭ ‬ذكرياته‭ ‬القديمة،‭ ‬ولأنّه‭ ‬بذاكرة‭ ‬فقد‭ ‬أصلح‭ ‬كاميرا‭ ‬المريضة،‭ ‬كانت‭ ‬تفلت‭ ‬منه‭ ‬بعض‭ ‬الأشياء‭ ‬التي‭ ‬تنبّه‭ ‬المشاهد‭ ‬إلى‭ ‬أنه‭ ‬هارب‭ ‬من‭ ‬الذاكرة‭ ‬وليس‭ ‬فاقدًا‭ ‬لها،‭ ‬بالفعل‭ ‬كان‭ ‬يهرب‭ ‬من‭ ‬التذكّر؛‭ ‬حتى‭ ‬أنّه‭ ‬رفض‭ ‬أن‭ ‬يأكل‭ ‬التفاح‭ ‬الذي‭ ‬ظل‭ ‬يأكله‭ ‬طوال‭ ‬الفيلم،‭ ‬والذي‭ ‬يحبّه‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬شيء‭ ‬آخر،‭ ‬رفض‭ ‬أن‭ ‬يأكله،‭ ‬لأنّ‭ ‬بائع‭ ‬الفاكهة‭ ‬أخبره‭ ‬بأن‭ ‬التفاح‭ ‬يُحَسِّن‭ ‬الذاكرة،‭ ‬واشترى‭ ‬حبَّات‭ ‬البرتقال‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يفضّله،‭ ‬لأنه‭ ‬كان‭ ‬لا‭ ‬يريد‭ ‬ذاكرة،‭ ‬فابتعد‭ ‬عمّا‭ ‬يمكنه‭ ‬أن‭ ‬ينشط‭ ‬ذاكرته،‭ ‬حتى‭ ‬ولو‭ ‬كان‭ ‬التفاح‭ ‬الذي‭ ‬يحبّه‭ ‬بغرام‭.‬

في‭ ‬النادي‭ ‬الليلي،‭ ‬وعند‭ ‬أغنية‭ ‬معيّنة‭ ‬بدأ‭ ‬يرقص‭ ‬كمحترف‭ ‬رَقْص،‭ ‬كنّا‭ ‬نشاهده‭ ‬وكأنه‭ ‬يرقص‭ ‬أمام‭ ‬شخص‭ ‬أمامه،‭ ‬يرقص‭ ‬لمحبوبة‭ ‬في‭ ‬خياله‭ ‬لا‭ ‬يراها‭ ‬غيره‭ ‬وهو‭ ‬مغمض‭ ‬العينين،‭ ‬شيء‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الأغنية‭ ‬التي‭ ‬رقص‭ ‬عليها‭ ‬كان‭ ‬مرتبطًا‭ ‬بعقله‭ ‬وقلبه‭ ‬وذكرياته،‭ ‬لقد‭ ‬أدى‭ ‬سيرفيتاليس‭ ‬الرقصة‭ ‬ببراعة‭ ‬مميّزة،‭ ‬حتى‭ ‬أن‭ ‬المشاهد‭ ‬يكاد‭ ‬يدخل‭ ‬رأسه‭ ‬الذي‭ ‬يحمل‭ ‬ذكرى‭ ‬جميلة‭ ‬لهذه‭ ‬الرقصة‭ ‬قديمًا‭.‬

 

صناعة‭ ‬هوية‭ ‬جديدة

البرنامج‭ ‬الذي‭ ‬دخله‭ ‬الرجل‭ ‬الوحيد‭ ‬يصنع‭ ‬ذكريات‭ ‬جديدة‭ ‬لفاقد‭ ‬الذاكرة‭ ‬الفجائية،‭ ‬برنامج‭ ‬لإنسان‭ ‬بلا‭ ‬ذكريات‭ ‬يحتاج‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يكوِّن‭ ‬ذكريات‭ ‬لحياة‭ ‬جديدة،‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬محكّ‭ ‬البرنامج،‭ ‬الهدف‭ ‬الأصيل‭ ‬للبرنامج‭ ‬التحويلي‭ ‬هو‭ ‬الخروج‭ ‬بإنسان‭ ‬فارغ‭ ‬من‭ ‬الذاكرة،‭ ‬ليصبح‭ ‬إنسانًا‭ ‬متكيفًا‭ ‬مع‭ ‬الحياة،‭ ‬فما‭ ‬معنى‭ ‬أن‭ ‬تعيش‭ ‬بلا‭ ‬هوية،‭ ‬رأسك‭ ‬فارغ‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬حدث‭ ‬عشته‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬العالم؟‭ ‬

أنت‭ ‬حين‭ ‬تفقد‭ ‬الذاكرة‭ ‬ستكون‭ ‬كبالون‭ ‬بلا‭ ‬قيمة،‭ ‬يحرّكك‭ ‬الهواء‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬اتجاه؛‭ ‬لذلك‭ ‬كان‭ ‬البرنامج‭ ‬يحاول‭ ‬إنشاء‭ ‬مساحة‭ ‬ذكريات‭ ‬جديدة‭ ‬داخل‭ ‬عقل‭ ‬فاقد‭ ‬الذاكرة،‭ ‬وفي‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬يسعى‭ ‬إلى‭ ‬التقاط‭ ‬ذاكرته‭ ‬القديمة‭ ‬وتنشيطها،‭ ‬فكان‭ ‬على‭ ‬المريض‭ ‬أن‭ ‬يركب‭ ‬درّاجة‭ ‬في‭ ‬البداية،‭ ‬لأنّ‭ ‬ركوبها‭ ‬من‭ ‬الأشياء‭ ‬المحفورة‭ ‬في‭ ‬الذهن‭ ‬الذي‭ ‬مارسها‭ ‬من‭ ‬قبل،‭ ‬والتي‭ ‬لا‭ ‬تُنْسَى‭ ‬بفقدان‭ ‬الذاكرة،‭ ‬ويمكن‭ ‬استعادتها،‭ ‬كان‭ ‬عليه‭ ‬أن‭ ‬يقترب‭ ‬من‭ ‬الناس‭ ‬ويعيش‭ ‬وسطهم،‭ ‬وأن‭ ‬يقابل‭ ‬فتاة‭ ‬ويحاول‭ ‬أن‭ ‬يقترب‭ ‬منها‭ ‬عاطفيًا،‭ ‬كان‭ ‬الرجل‭ ‬الوحيد‭ ‬ينفِّذ‭ ‬التعليمات‭ ‬حرفيًا،‭ ‬ويسجِّل‭ ‬الصور‭ ‬المطلوبة‭ ‬منه‭ ‬بالكاميرا‭ ‬لكلّ‭ ‬موقف‭ ‬يفعله،‭ ‬فتسجيل‭ ‬الصورة‭ ‬في‭ ‬البرنامج‭ ‬يمثّل‭ ‬حَفْر‭ ‬ذكرى‭ ‬جديدة‭ ‬داخل‭ ‬العقل‭ ‬يمكن‭ ‬الرجوع‭ ‬إليها،‭ ‬وكان‭ ‬الرجل‭ ‬الوحيد‭ ‬يهمّه‭ ‬أن‭ ‬ينفذ‭ ‬البرنامج‭ ‬بدقة‭.‬

 

إحياء‭ ‬العواطف

حين‭ ‬بدأت‭ ‬مشاعر‭ ‬الرجل‭ ‬الوحيد‭ ‬تتحرَّك‭ ‬جهة‭ ‬مريضة‭ ‬فاقدة‭ ‬الذاكرة‭ ‬في‭ ‬البرنامج‭ ‬نفسه،‭ ‬وطلبت‭ ‬منه‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬معها،‭ ‬استجاب‭ ‬لها،‭ ‬وأعطاها‭ ‬جسده،‭ ‬لكنّه‭ ‬اكتشف‭ ‬أنها‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬تحمل‭ ‬له‭ ‬داخلها‭ ‬أيّ‭ ‬مشاعر،‭ ‬كان‭ ‬اقترابها‭ ‬منه‭ ‬وتعاطفها‭ ‬الحنون‭ ‬معه‭ ‬جزءًا‭ ‬من‭ ‬برنامج‭ ‬تدريبها،‭ ‬لأنّ‭ ‬مصممي‭ ‬البرنامج‭ ‬طلبوا‭ ‬منه‭ ‬هو‭ ‬أيضًا‭ ‬أن‭ ‬ينشئ‭ ‬علاقة‭ ‬مع‭ ‬فتاة،‭ ‬أدرك‭ ‬ساعتها‭ ‬أن‭ ‬الفتاة‭ ‬كانت‭ ‬خالية‭ ‬المشاعر،‭ ‬وأنّها‭ ‬اقتربت‭ ‬منه‭ ‬ليس‭ ‬من‭ ‬أجله،‭ ‬إنّما‭ ‬لتنفيذ‭ ‬ما‭ ‬طُلِب‭ ‬منها،‭ ‬رأينا‭ ‬الرجل‭ ‬الوحيد‭ ‬إنسانًا‭ ‬حساسًا،‭ ‬له‭ ‬مشاعره‭ ‬الخاصة،‭ ‬التي‭ ‬أكدت‭ ‬أسباب‭ ‬الضغط‭ ‬على‭ ‬روحه،‭ ‬مما‭ ‬جعله‭ ‬يحاول‭ ‬الهروب‭ ‬من‭ ‬ذاكرته‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬تنفجر‭ ‬مشاعر‭ ‬الحزن‭ ‬داخله‭.‬

النقطة‭ ‬المفصلية‭ ‬في‭ ‬الفيلم،‭ ‬والتي‭ ‬سعى‭ ‬إليها‭ ‬صنَّاعه‭ ‬جاءت‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬برنامج‭ ‬التدريب‭ ‬الذي‭ ‬يفرض‭ ‬على‭ ‬المتدرب‭ ‬أن‭ ‬يذهب‭ ‬لشخص‭ ‬عجوز‭ ‬مريض،‭ ‬يوشك‭ ‬على‭ ‬مفارقة‭ ‬الحياة،‭ ‬وأن‭ ‬يقترب‭ ‬منه‭ ‬ويلازمه‭ ‬كل‭ ‬يوم،‭ ‬وأن‭ ‬يقف‭ ‬بجانبه‭ ‬ويشجعه‭ ‬يوميًا‭ ‬لبضع‭ ‬ساعات،‭ ‬أن‭ ‬يساعد‭ ‬العجوز‭ ‬المريض‭ ‬إذا‭ ‬طلب‭ ‬المساعدة،‭ ‬بات‭ ‬واضحًا‭ ‬أن‭ ‬البرنامج‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬يُحْيِي‭ ‬عواطف‭ ‬ميتة‭ ‬داخل‭ ‬عقل‭ ‬فارغ‭ ‬الذاكرة،‭ ‬أن‭ ‬ينشئ‭ ‬بينه‭ ‬وبين‭ ‬إنسان‭ ‬لا‭ ‬يعرفه‭ ‬تعاطفًا‭ ‬إنسانيًا،‭ ‬وهنا‭ ‬ارتبط‭ ‬الرجل‭ ‬الوحيد‭ ‬بإنسان‭ ‬آخر‭ ‬على‭ ‬شفا‭ ‬الموت‭.‬

وحين‭ ‬مات‭ ‬الرجل‭ ‬المريض،‭ ‬ذهب‭ ‬الرجل‭ ‬الوحيد‭ ‬ليودّعه،‭ ‬واكتشفنا‭ ‬مفصل‭ ‬الفيلم،‭ ‬كانت‭ ‬تجربته‭ ‬مع‭ ‬العجوز‭ ‬المتوفى‭ ‬هي‭ ‬تجربة‭ ‬الإفاقة،‭ ‬لقد‭ ‬علم‭ ‬أن‭ ‬المُصَاب‭ ‬والكدر‭ ‬والكبت‭ ‬والحزن‭ ‬ليس‭ ‬عنده‭ ‬فقط،‭ ‬فهناك‭ ‬أناس‭ ‬يفقدون‭ ‬أحبابهم،‭ ‬لكنّ‭ ‬الحياة‭ ‬تستمر،‭ ‬وأن‭ ‬النسيان‭ ‬الذي‭ ‬يصيب‭ ‬الميت‭ ‬يؤذي‭ ‬الميت،‭ ‬وعندها‭ ‬ذهب‭ ‬إلى‭ ‬قبر‭ ‬زوجته‭ ‬ووضع‭ ‬على‭ ‬قبرها‭ ‬الزهور،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬نحَّى‭ ‬الزهور‭ ‬الذابلة‭ ‬التي‭ ‬وضعها‭ ‬في‭ ‬مطلع‭ ‬الفيلم‭.‬

 

عِشْ‭ ‬حياتك

لقد‭ ‬علم‭ ‬أن‭ ‬الميت‭ ‬أيضًا‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬يتذكّره‭ ‬أحد‭ ‬ما،‭ ‬وأن‭ ‬زوجته‭ ‬في‭ ‬حاجة‭ ‬إلى‭ ‬مَن‭ ‬يتذكرها،‭ ‬كي‭ ‬تتنفس‭ ‬في‭ ‬حياتها‭ ‬الأخرى،‭ ‬الميت‭ ‬يريد‭ ‬مَن‭ ‬يتذكره،‭ ‬لا‭ ‬من‭ ‬ينساه‭ ‬ويعيش‭ ‬في‭ ‬كآبة‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬فراقه‭.‬

‭ ‬أراد‭ ‬الفيلم‭ ‬أن‭ ‬يقول‭ ‬عِشْ‭ ‬حياتك‭ ‬ولا‭ ‬تنسَ‭ ‬أحبابك،‭ ‬امنحهم‭ ‬الذكرى‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬الأخرى،‭ ‬ساعدهم‭ ‬على‭ ‬الراحة‭ ‬الأبدية‭ ‬بتذكُّرهم‭ ‬ووضع‭ ‬بعض‭ ‬الورد‭ ‬على‭ ‬قبورهم،‭ ‬فسيكونون‭ ‬سعداء‭ ‬إذا‭ ‬تذكّرناهم،‭ ‬وفي‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬لا‭ ‬تترك‭ ‬نفسك‭ ‬للهواجس‭.‬

عاد‭ ‬الرجل‭ ‬الوحيد‭ ‬إلى‭ ‬بيته،‭ ‬ووضع‭ ‬فستان‭ ‬زوجته‭ ‬الميتة‭ ‬في‭ ‬الدولاب،‭ ‬وفتح‭ ‬النوافذ،‭ ‬وكان‭ ‬التفاح‭ ‬الذي‭ ‬تركه‭ ‬وذهب‭ ‬للبرنامج‭ ‬قد‭ ‬فسدت‭ ‬منه‭ ‬بعض‭ ‬الحبَّات،‭ ‬فأخذ‭ ‬تفّاحة‭ ‬سليمة،‭ ‬لقد‭ ‬أكّد‭ ‬لنا‭ ‬الآن‭ ‬أنه‭ ‬يريد‭ ‬استعادة‭ ‬ذاكرته،‭ ‬فالتفاح‭ ‬يعيد‭ ‬الذاكرة‭ ‬التي‭ ‬أراد‭ ‬طوال‭ ‬الفيلم‭ ‬أن‭ ‬يتخلَّص‭ ‬منها،‭ ‬الآن‭ ‬لا‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬ينسى‭ ‬حبيبته‭ ‬التي‭ ‬فقدها؛‭ ‬لأنّها‭ ‬في‭ ‬حاجة‭ ‬إلى‭ ‬مَن‭ ‬يتذكرها‭ ‬وهي‭ ‬ميّتة،‭ ‬لقد‭ ‬قرَّر‭ ‬أن‭ ‬يبدأ‭ ‬من‭ ‬جديد‭ ‬مع‭ ‬تذكّر‭ ‬حبيبته،‭ ‬حتى‭ ‬تعيش‭ ‬في‭ ‬عالمها‭ ‬الآخر‭ ‬بسلام،‭ ‬تستمتع‭ ‬وهي‭ ‬ميتة‭ ‬بأنّ‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬يتذكرها‭ ‬في‭ ‬محبَّة،‭ ‬فتعيش‭ ‬الميتة‭ ‬في‭ ‬قلوب‭ ‬أحبابها‭ ‬بسلام‭ ‬تدفعهم‭ ‬للحياة‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬ابتسامتها‭ ‬الروحية‭ ‬من‭ ‬العالم‭ ‬الآخر‭ ‬■