سوق الصفافير بالكويت أوانٍ معدنية في أقدم الأسواق التراثية

سوق الصفافير  بالكويت أوانٍ معدنية في أقدم الأسواق التراثية

يُعدّ سوق الصفافير واحدًا من أقدم الأسواق في الكويت، فقد أُسس قبل أكثر من قرن من الزمان، ولا يزال باقيًا في موقعه بمنطقة شرق، وجاءت تسمية السوق نسبة إلى نشاط العاملين فيه، والكلمة مشتقة من «الصفر»، ومعناها النحاس الجيد.  يقوم العاملون في السوق بتصفير القدور والأواني المستخدمة قديمًا في الكويت وتبييضها، ويطلق على هذه العملية التصفير، وهي عبارة عن طلاء تلك القدور والأواني النحاسية من الداخل بطبقة من الرصاص، لمنع تفاعلها مع المواد الغذائية، منعًا للتسمم، كما يقومون بتصنيع الأدوات النحاسية وإصلاح وصيانة القديم منها، إضافة إلى شراء الأواني القديمة والتالفة لبيعها للبحّارة المسافرين إلى الهند، لبيعها على مصانع صهر وإعادة تصنيع النحاس.

كان‭ ‬السوق‭ ‬يغطّي‭ ‬جميع‭ ‬احتياجات‭ ‬البيت‭ ‬الكويتي‭ ‬من‭ ‬الأواني‭ ‬المنزلية،‭ ‬ويستعين‭ ‬بهم‭ ‬سكان‭ ‬مدينة‭ ‬الكويت‭ ‬والقرى‭ ‬المجاورة‭ ‬في‭ ‬تجهيز‭ ‬احتياجاتهم‭ ‬من‭ ‬القدور‭ ‬وغيرها‭ ‬للولائم‭ ‬في‭ ‬شهر‭ ‬رمضان‭ ‬والأعياد‭ ‬والمناسبات‭ ‬الاجتماعية‭. ‬

كما‭ ‬أن‭ ‬أصحاب‭ ‬سفن‭ ‬السفر‭ ‬الشراعي‭ ‬والغوص‭ ‬على‭ ‬اللؤلؤ‭ ‬يجهّزون‭ ‬سفنهم‭ ‬بالقدور‭ ‬والأواني‭ ‬لإعداد‭ ‬الوجبات‭ ‬للبحارة‭ ‬خلال‭ ‬موسم‭ ‬السفر‭ ‬الذي‭ ‬يمتد‭ ‬لأشهر‭ ‬في‭ ‬عرض‭ ‬البحر،‭ ‬وفي‭ ‬فترة‭ ‬الربيع‭ ‬يذهب‭ ‬بعض‭ ‬الصفافير‭ ‬إلى‭ ‬المناطق‭ ‬التي‭ ‬توجد‭ ‬فيها‭ ‬قوافل‭ ‬البدو‭ ‬لتسلّم‭ ‬القدور‭ ‬والأواني‭ ‬منهم‭ ‬وأخذها‭ ‬لدكاكينهم‭ ‬لتنظيفها‭ ‬وتبييضها‭.‬

 

الوحيد‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬الخليج‮»‬‭ ‬

امتدت‭ ‬شهرة‭ ‬سوق‭ ‬الصفافير‭ ‬الكويتي‭ ‬من‭ ‬العراق‭ ‬إلى‭ ‬أقصى‭ ‬الخليج،‭ ‬واشتهر‭ ‬صفافير‭ ‬الكويت‭ ‬بصناعة‭ ‬أجود‭ ‬أنواع‭ ‬القدور‭ ‬المختلفة،‭ ‬ومنها‭ ‬قدور‭ ‬صناعة‭ ‬الحلوى‭ ‬الكبيرة‭ ‬الحجم،‭ ‬والتي‭ ‬تتطلب‭ ‬صناعتها‭ ‬خبرة‭ ‬وفنًّا‭ ‬لتشكيلها،‭ ‬حيث‭ ‬يأتي‭ ‬صناع‭ ‬الحلوى‭ ‬العمانية‭ ‬من‭ ‬مسقط‭ ‬لشرائها،‭ ‬كذلك‭ ‬برع‭ ‬سوق‭ ‬صفافير‭ ‬الكويت‭ ‬في‭ ‬صناعة‭ ‬دِلال‭ ‬القهوة‭ ‬التي‭ ‬تمتاز‭ ‬بجودتها‭ ‬وتصميمها‭ ‬الجميل‭ ‬المتناسق،‭ ‬وتصنع‭ ‬من‭ ‬النحاس‭ ‬الأصفر،‭ ‬ومنها‭ ‬دِلال‭ ‬‮«‬الرسلاني‮»‬،‭ ‬وكان‭ ‬تجار‭ ‬العراق‭ ‬يشترونها‭ ‬لبيعها‭ ‬في‭ ‬سوق‭ ‬الشيوخ‭ ‬المعروف‭ ‬في‭ ‬العراق،‭ ‬ولا‭ ‬يزال‭ ‬السوق‭ ‬وجهة‭ ‬جاذبة‭ ‬للسياح‭ ‬الخليجيين،‭ ‬خاصة‭ ‬الذين‭ ‬يكثُر‭ ‬وجودهم‭ ‬خلال‭ ‬موسم‭ ‬الشتاء‭ ‬وعطلة‭ ‬الربيع،‭ ‬فالسوق‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬الوحيد‭ ‬من‭ ‬نوعه‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬الخليج‭.‬

 

السوق‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬الحالي‭ ‬

لا‭ ‬يزال‭ ‬السوق‭ ‬في‭ ‬موقعه‭ ‬القديم،‭ ‬لكنّ‭ ‬المناطق‭ ‬المحيطة‭ ‬به‭ ‬تغيّرت‭ ‬تغيرًا‭ ‬جذريًا،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬طالتها‭ ‬يد‭ ‬العمران‭ ‬واختفت‭ ‬المساحات‭ ‬الترابية‭ ‬الواسعة‭ ‬والبيوت‭ ‬القديمة‭ ‬المتناثرة‭ ‬فيها،‭ ‬وحلّت‭ ‬محلّها‭ ‬ناطحات‭ ‬سحاب‭ ‬ومكاتب‭ ‬تجارية‭ ‬بواجهات‭ ‬زجاجية‭ ‬تطل‭ ‬على‭ ‬السوق،‭ ‬تحاصره‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬الجهات‭.‬

كذلك‭ ‬اختفى‭ ‬الصنّاع‭ ‬الكويتيون‭ ‬الأوائل،‭ ‬ولم‭ ‬تعد‭ ‬سواعدهم‭ ‬السمراء‭ ‬تطرق‭ ‬النحاس‭ ‬وتصفّره،‭ ‬فبعد‭ ‬ظهور‭ ‬النفط‭ ‬تركوا‭ ‬هذه‭ ‬الحرفة‭ ‬الشاقة،‭ ‬كذلك‭ ‬أحفادهم،‭ ‬ولم‭ ‬يتبق‭ ‬سوى‭ ‬ألقاب‭ ‬يتوارثونها‭ ‬وأسماء‭ ‬عوائل‭ ‬تذكّرهم‭ ‬بحرفة‭ ‬الأجداد‭.‬

حتى‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬المنتجات،‭ ‬فقد‭ ‬اختلفت‭ ‬عن‭ ‬السابق،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬السوق‭ ‬مقصورًا‭ ‬على‭ ‬صناعة‭ ‬الأدوات‭ ‬المنزلية،‭ ‬كقدور‭ ‬الطبخ‭ ‬ودِلال‭ ‬القهوة،‭ ‬وكانت‭ ‬المنتجات‭ ‬تصنع‭ ‬من‭ ‬النحاس‭ ‬فقط‭ ‬الذي‭ ‬يُستورد‭ ‬من‭ ‬الهند،‭ ‬أما‭ ‬الآن‭ ‬فقد‭ ‬دخلت‭ ‬مواد‭ ‬جديدة‭ ‬كالألمنيوم‭ ‬والحديد‭ ‬والأخشاب‭ ‬وأصبحت‭ ‬المنتجات‭ ‬متنوعة‭ ‬ومتعددة،‭ ‬ولا‭ ‬تقتصر‭ ‬على‭ ‬الأدوات‭ ‬المنزلية‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬شملت‭ ‬صناعات‭ ‬عدة،‭ ‬وذلك‭ ‬باستخدام‭ ‬ماكينات‭ ‬كهربائية‭ ‬في‭ ‬التصنيع،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬كانت‭ ‬الأدوات‭ ‬المستخدمة‭ ‬قديمًا‭ ‬بدائية‭ ‬ويدوية‭.‬

 

سنّة‭ ‬التطور

لم‭ ‬يعد‭ ‬الصفافير‭ ‬يلمّعون‭ ‬ويبيّضون‭ ‬القدور‭ ‬والأواني‭ ‬كالسابق،‭ ‬فقد‭ ‬تطورت‭ ‬المواد‭ ‬المستخدمة‭ ‬في‭ ‬صناعة‭ ‬الأواني‭ ‬المنزلية‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬التبييض‭ ‬والصيانة،‭ ‬والتي‭ ‬يتم‭ ‬استيرادها‭ ‬من‭ ‬دول‭ ‬مختلفة،‭ ‬وأصبح‭ ‬الصفافير‭ ‬أنفسهم‭ ‬يستوردون‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬المنتجات‭ ‬لعرضها‭ ‬في‭ ‬محالّهم،‭ ‬وظهرت‭ ‬مراكز‭ ‬التسوق‭ ‬الحديثة‭ ‬التي‭ ‬قللت‭ ‬من‭ ‬أهمية‭ ‬السوق،‭ ‬وأصبحت‭ ‬بمنزلة‭ ‬ورشات‭ ‬صناعة‭ ‬وبيع‭ ‬بالجملة‭ ‬للأسواق‭ ‬المحلية‭ ‬الأخرى،‭ ‬ولا‭ ‬يزال‭ ‬الصفافير‭ ‬يصنّعون‭ ‬بعض‭ ‬المنتجات،‭ ‬لكنها‭ ‬ليست‭ ‬نحاسية،‭ ‬والسبب‭ ‬في‭ ‬تبدّل‭ ‬المعدن‭ ‬المستخدم‭ ‬هو‭ ‬ارتفاع‭ ‬سعر‭ ‬النحاس‭ ‬مقارنة‭ ‬بالمواد‭ ‬الأخرى،‭ ‬وأيضًا‭ ‬جودة‭ ‬المعادن‭ ‬المصنّعة‭ ‬في‭ ‬مقاومة‭ ‬العوامل‭ ‬الطبيعية‭ ‬كالألمنيوم‭ ‬والستانلس‭ ‬ستيل‭ ‬المقاوم‭ ‬للصدأ‭.‬

وقد‭ ‬تطورت‭ ‬المواد‭ ‬المستخدمة‭ ‬وتطورت‭ ‬الصناعات،‭ ‬ودخل‭ ‬على‭ ‬أغلبها‭ ‬الكهرباء،‭ ‬كالشوّايات‭ ‬والمناقل‭ ‬الكهربائية‭ ‬أو‭ ‬‮«‬الدوّة‮»‬‭ ‬باللهجة‭ ‬المحلية،‭ ‬ويصنع‭ ‬الصفافير‭ ‬الآن‭ ‬خزانات‭ ‬الماء‭ ‬وبراميل‭ ‬الديزل‭ ‬وأفران‭ ‬الخبز‭ ‬والمظلات‭ ‬المنزلية‭ ‬وأبواب‭ ‬الحديد‭ ‬ومستلزمات‭ ‬البحر‭ ‬كمراسي‭ ‬السفن‭ ‬وأدوات‭ ‬الصيد‭ ‬ومستلزمات‭ ‬رحلات‭ ‬التخييم،‭ ‬كمسامير‭ ‬تثبيت‭ ‬الخيام‭ ‬الضخمة‭ ‬والمطابخ‭ ‬ودورات‭ ‬المياه‭ ‬الصغيرة‭ ‬المتنقلة،‭ ‬كذلك‭ ‬دخلت‭ ‬إلى‭ ‬السوق‭ ‬الصناعات‭ ‬الخشبية،‭ ‬ويتم‭ ‬صناعة‭ ‬الصناديق،‭ ‬أو‭ ‬كما‭ ‬تعرف‭ ‬في‭ ‬الخليج‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬الصندوق‭ ‬المبيت‮»‬‭ ‬المزيّن‭ ‬بالنقوش‭ ‬والمسامير‭ ‬المذهّبة‭ ‬وصفائح‭ ‬رقيقة‭ ‬من‭ ‬النحاس،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬صناعة‭ ‬الصناديق‭ ‬الصغيرة‭ ‬الملوّنة‭ ‬والمزخرفة،‭ ‬وتستخدم‭ ‬غالبًا‭ ‬في‭ ‬مناسبات‭ ‬كـ‭ ‬‮«‬القرقيعان‮»‬‭ ‬في‭ ‬رمضان،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬المباخر‭ ‬الخشبية‭ ‬والبراويز‭.‬

ويعد‭ ‬فصل‭ ‬الشتاء‭ ‬من‭ ‬أكثر‭ ‬أوقات‭ ‬السنة‭ ‬ازدحامًا،‭ ‬حيث‭ ‬تتوافد‭ ‬العائلات‭ ‬والشباب‭ ‬لشراء‭ ‬معدات‭ ‬التخييم،‭ ‬وأيضًا‭ ‬خلال‭ ‬شهر‭ ‬رمضان،‭ ‬أما‭ ‬في‭ ‬فصل‭ ‬الصيف‭ ‬فيقل‭ ‬روّاده‭ ‬نسبيًا،‭ ‬وقد‭ ‬يأتي‭ ‬البعض‭ ‬لشراء‭ ‬بعض‭ ‬المستلزمات‭ ‬البحرية‭ ‬أو‭ ‬لإصلاح‭ ‬بعض‭ ‬الأشياء‭ ‬ولحامها‭.‬

مكانة‭ ‬تاريخية‭ ‬

يرى‭ ‬كثيرون‭ ‬أن‭ ‬موقع‭ ‬السوق‭ ‬غير‭ ‬مناسب‭ ‬لمثل‭ ‬هذا‭ ‬النشاط،‭ ‬ومن‭ ‬الواجب‭ ‬نقله‭ ‬إلى‭ ‬مكان‭ ‬خارج‭ ‬مدينة‭ ‬الكويت،‭ ‬حيث‭ ‬يعتقد‭ ‬البعض‭ ‬أنه‭ ‬من‭ ‬الأَولى‭ ‬استغلال‭ ‬هذا‭ ‬المكان‭ ‬الحيوي‭ ‬في‭ ‬مشاريع‭ ‬تجارية‭ ‬أفضل،‭ ‬ويرى‭ ‬آخرون‭ ‬أنه‭ ‬يجب‭ ‬نقل‭ ‬السوق‭ ‬لأسباب‭ ‬‮«‬بيئية‭ - ‬صحية‮»‬،‭ ‬وذلك‭ ‬لقربه‭ ‬من‭ ‬مناطق‭ ‬الكثافة‭ ‬السكانية،‭ ‬وما‭ ‬يسبّبه‭ ‬من‭ ‬تلوث‭ ‬وانبعاثات‭ ‬تضرّ‭ ‬بالبيئة‭ ‬المحيطة،‭ ‬ولذا‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬بعيدًا‭ ‬عن‭ ‬المدينة‭.‬

ومن‭ ‬جانب‭ ‬المحافظة‭ ‬على‭ ‬التراث‭ ‬والموروث‭ ‬الشعبي،‭ ‬يرى‭ ‬البعض‭ ‬أن‭ ‬السوق‭ ‬فقدَ‭ ‬مكانته‭ ‬التاريخية،‭ ‬فهو‭ ‬لا‭ ‬يزاول‭ ‬النشاط‭ ‬القديم‭ ‬نفسه‭ ‬عند‭ ‬تأسيسه‭ ‬قبل‭ ‬ما‭ ‬يزيد‭ ‬على‭ ‬المئة‭ ‬عام،‭ ‬كذلك‭ ‬اختفى‭ ‬الصنّاع‭ ‬الكويتيون‭ ‬الأوائل،‭ ‬وهم‭ ‬يعملون‭ ‬باللبس‭ ‬التقليدي‭ ‬مرتدين‭ ‬الإزار‭ ‬والـ‭ ‬‮«‬چريمبة‮»‬،‭ ‬بينما‭ ‬يرى‭ ‬البعض‭ ‬أنه‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬الهوية‭ ‬الكويتية‭ ‬منذ‭ ‬عقود،‭ ‬وهناك‭ ‬أهمية‭ ‬تاريخية‭ ‬لبقائه،‭ ‬بل‭ ‬والمحافظة‭ ‬عليه‭ ■