أحمد عبدالمعطي حجازي التجربة الباريسية بمناسبة بلوغ الشاعر العربي الكبير عامه الـ 85

أحمد عبدالمعطي حجازي التجربة الباريسية  بمناسبة بلوغ الشاعر العربي الكبير عامه الـ 85

تمثّل تجربة أحمد عبدالمعطي حجازي «الباريسية» إصحاحًا مهمًا في سفر الشاعر المصري والعربي الكبير، حيث انتقاله، شبه القسري، للعيش في مكان آخر، باريس، لما يناهز سبعة عشر عامًا منذ بدايات عام 1974، حتى نهايات عام 1990، تلك التجربة التي ارتسمت في ديوانين للشاعر: كائنات مملكة الليل (1978)، وأشجار الأسمنت (1989)، حيث العيش في المكان الآخر الباريسي، وحمل الذات مكانها الأول، الوطن/ مصر، في تضاعيف وعيها ومسامّ لاوعيها أيضًا. 

ما‭ ‬بين‭ ‬الوطن‭/ ‬المكان‭ ‬الأول،‭ ‬والمهجر‭/ ‬المكان‭ ‬الآخر‭ ‬برزت‭ ‬عبر‭ ‬رحلة‭ ‬حجازي‭ ‬وارتحالاته‭ ‬داخل‭ ‬الوطن،‭ ‬مكانه‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬القرية‭ ‬إلى‭ ‬المدينة،‭ ‬ثم‭ ‬الرحيل‭ ‬عن‭ ‬الوطن‭ ‬إلى‭ ‬المكان‭ ‬الآخر‭ ‬المراوحة‭ ‬بين‭ ‬الارتباط‭ ‬الشديد‭ ‬للذات‭ ‬بالوطن،‭ ‬بالرغم‭ ‬من‭ ‬اغترابها‭ ‬فيه،‭ ‬ثم‭ ‬اغترابها‭ ‬عنه‭ ‬في‭ ‬المكان‭ ‬الآخر،‭ ‬فما‭ ‬بين‭ ‬الشعور‭ ‬بانتماء‭ ‬المثقف‭ ‬لبلاده‭ ‬وحمله‭ ‬همومها‭ ‬على‭ ‬كاهله‭ ‬في‭ ‬التزام‭ ‬مسؤول‭ ‬بقضايا‭ ‬مجتمعه‭ ‬من‭ ‬ناحية،‭ ‬والشعور‭ ‬باغتراب‭ ‬الذات‭ ‬في‭ ‬رحيلها‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬مدينة‭ ‬بلا‭ ‬قلب‮»‬،‭ ‬أو‭ ‬اغتراب‭ ‬المثقف‭ ‬في‭ ‬البلاد‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬ثانية،‭ ‬واغتراب‭ ‬الذات‭ ‬في‭ ‬رحيلها‭ ‬إلى‭ ‬المكان‭ ‬الآخر‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬ثالثة‭ ‬ثمّة‭ ‬شعورٌ‭ ‬ما‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬المنفى‮»‬،‭ ‬بمعناه‭ ‬المادي‭ ‬المكاني‭ ‬والنفسي‭ ‬يساكن‭ ‬الذات‭.‬

‭ ‬

الانفعال‭ ‬بالمكان‭ ‬الآخر

لما‭ ‬كان‭ ‬المكان‭ ‬الآخر‭ ‬يمثّل‭ ‬‮«‬بيئة‮»‬‭ ‬مختلفة‭ ‬ووسطًا‭ ‬متمايزًا‭ ‬جغرافيًّا‭ ‬وثقافيًّا‭ ‬عن‭ ‬المكان‭ ‬الأول،‭ ‬ولما‭ ‬كان‭ ‬رحيل‭ ‬الذات‭ ‬إلى‭ ‬المكان‭ ‬الآخر‭ ‬اختياريًّا‭ ‬وقسريًّا‭ ‬في‭ ‬آنٍ؛‭ ‬اختياريًّا‭ ‬لأنّ‭ ‬الشاعر‭ ‬هو‭ ‬صاحب‭ ‬قرار‭ ‬الرحيل،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬للشعراء‭ ‬منافيهم‭ ‬الخاصة‭ ‬التي‭ ‬يصنعونها‭ ‬بوعيهم‭ ‬الشقيّ،‭ ‬وقسريًّا‭ ‬لأنّ‭ ‬الشاعر‭/ ‬المثقف‭ ‬قد‭ ‬عانى‭ ‬تجربة‭ ‬اغتراب‭ ‬بمكانه‭ ‬الأول،‭ ‬وطنه،‭ ‬دفعته‭ ‬للرحيل‭ ‬عنه،‭ ‬فإنّ‭ ‬انفعال‭ ‬الذات‭ ‬بالمكان‭ ‬الآخر‭ ‬يمثّل‭ ‬تحولًا‭ ‬فارقًا‭ ‬وانتقالًا‭ ‬مفصليًّا‭ ‬للوعي‭.‬

وأول‭ ‬ما‭ ‬تقع‭ ‬عليه‭ ‬عين‭ ‬الشاعر‭ ‬وأسرع‭ ‬ما‭ ‬يُحَرِّك‭ ‬مخيلته‭ ‬في‭ ‬المكان‭ ‬الآخر‭ ‬هو‭ ‬البيئة‭ ‬المادية‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬تمايزها‭ ‬اللافت‭ ‬عن‭ ‬بيئة‭ ‬مكانها‭ ‬الأول،‭ ‬فتتحول‭ ‬عيانات‭ ‬المكان‭ ‬الآخر‭ ‬في‭ ‬شعر‭ ‬حجازي‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬لوحات‮»‬،‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬قصيدة‭ ‬‮«‬ثلج‮»‬‭:‬

البياض‭ ‬مفاجأةٌ

حين‭ ‬عرَّيت‭ ‬نافذتي

شدَّني‭ ‬من‭ ‬منامي‭ ‬النديفْ

الذي‭ ‬كان‭ ‬يهطل‭ ‬متَّئدًا

مانحًا‭ ‬كل‭ ‬شيءٍ‭ ‬نصاعته

ومداه‭ ‬الشفيفْ

شدَّني

كان‭ ‬دوامة‭ ‬من‭ ‬رفيفْ

جذبتني‭ ‬لها

فرحلنا‭ ‬معًا‭ ‬وانطلقنا

نرفرف‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬ظلّ

ونرقص‭ ‬بين‭ ‬الصعود‭ ‬وبين‭ ‬الهبوطِ

يراودنا‭ ‬العشبُ

والشجراتُ‭ ‬العرايا

ومتَّكآتُ‭ ‬النوافذِ‭ ‬والشرفاتِ

وأيدي‭ ‬الصغارِ‭ ‬وأيدي‭ ‬التماثيل

والكائنات‭ ‬المطلة‭ ‬حول‭ ‬السقوفْ

بياضًا‭ ‬تقلَّب‭ ‬في‭ ‬ذاتهِ

كرفوف‭ ‬من‭ ‬البجعات‭ ‬على‭ ‬نبع‭ ‬ماءٍ

يمسحن‭ ‬شهبةَ‭ ‬أعناقهن‭ ‬الطوالِ

على‭ ‬ريش‭ ‬أجسادهنَّ‭ ‬الوريفْ‭!‬

ثم‭ ‬أشرقت‭ ‬الشمس‭ ‬من‭ ‬فوقنا

فسقطنا‭ ‬معًا

وانحللنا‭ ‬معًا

في‭ ‬رتابة‭ ‬هذا‭ ‬السواد‭ ‬الأليف‭!‬

إذا‭ ‬كان‭ ‬حجازي‭ ‬من‭ ‬أكثر‭ ‬شعرائنا‭ ‬المعاصرين‭ ‬‮«‬احتفالًا‭ ‬بعلاقة‭ ‬الأشياء‭ ‬بألوانها‮»‬،‭ ‬فإنّ‭ ‬مرحلته‭ ‬الباريسية‭ ‬تشهد‭ ‬تحولًا‭ ‬لونيًا‭ ‬لافتًا،‭ ‬إذ‭ ‬يغلب‭ ‬على‭ ‬لوحاته‭ ‬اللون‭ ‬الأبيض‭ ‬واللون‭ ‬الشفيف،‭ ‬لون‭ ‬‮«‬اللا‭- ‬لون‮»‬،‭ ‬ولون‭ ‬كل‭ ‬الألوان،‭ ‬الجامع‭ ‬الألوان‭ ‬كلها‭ ‬في‭ ‬آن‭. ‬

النافذة‭ ‬وسيط‭ ‬للإطلال‭ ‬من‭ ‬عالم‭ ‬الداخل‭ ‬على‭ ‬عالم‭ ‬الخارج،‭ ‬وفعل‭ ‬التعرّي‭ ‬هو‭ ‬فعل‭ ‬كشف،‭ ‬ويبدو‭ ‬هنا‭ ‬تعرية‭ ‬للاثنين‭: ‬الداخل‭ ‬والخارج‭. ‬ثمة‭ ‬رغبة‭ ‬من‭ ‬الذات‭ ‬للانتقال‭ ‬من‭ ‬عالم‭ ‬الداخل‭ ‬إلى‭ ‬عالم‭ ‬الخارج‭. ‬

أما‭ ‬المنام‭ ‬الذي‭ ‬شدّ‭ ‬النديف‭/ ‬الثلج‭ ‬الذات‭ ‬منه،‭ ‬فيبرز‭ ‬حالة‭ ‬انتقال‭ ‬أخرى،‭ ‬هل‭ ‬هو‭ ‬انتقال‭ ‬من‭ ‬النوم‭ ‬والغفوة‭ ‬إلى‭ ‬الصحو؟‭ ‬أم‭ ‬هو‭ ‬انتقال‭ ‬من‭ ‬المنام‭ ‬إلى‭ ‬الرؤيا‭ ‬والحلم؟‭ ‬

مشهد‭ ‬نزول‭ ‬الثلج‭/ ‬النديف‭ ‬يحمل‭ ‬شيئًا‭ ‬من‭ ‬التناقض،‭ ‬فكيف‭ ‬يُوصف‭ ‬هطول‭ ‬الثلج‭ ‬بالاتئاد‭/ ‬التمهّل،‭ ‬مع‭ ‬ما‭ ‬يُفترض‭ ‬أن‭ ‬يتصف‭ ‬به‭ ‬فعل‭ ‬السقوط‭ ‬من‭ ‬سرعة؟‭ ‬إذن،‭ ‬سقوط‭ ‬النديف‭ ‬هو‭ ‬تمثُّلٌ‭ ‬نفسي‭ ‬محض،‭ ‬وهذا‭ ‬البياض‭/ ‬النديف‭ ‬يمنح‭ ‬الأشياء‭ ‬لونها‭ ‬ونصاعتها،‭ ‬فهو‭ ‬يكسو‭ ‬الأشياء‭. ‬يبدو‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬رغبة‭ ‬أو‭ ‬تسليمًا‭ ‬من‭ ‬الذات‭ ‬إلى‭ ‬عالم‭ ‬الخارج‭ ‬الذي‭ ‬يفعل‭ ‬فيه‭ ‬البياض‭ ‬عمله‭ ‬التشكيلي‭ ‬في‭ ‬هدوء‭ ‬ويُسر‭. ‬

وتحلّ‭ ‬الفاء‭ ‬المسبوقة‭ ‬بحرف‭ ‬‮«‬الياء‮»‬‭ - ‬كإسناد‭ - ‬حرفًا‭ ‬للرويّ‭. ‬الفاء‭ ‬حرف‭ ‬هامس‭ ‬وتسكينه‭ ‬هنا‭ - ‬بعد‭ ‬حركة‭ ‬إطالة‭ ‬صوتية‭ ‬بحرف‭ ‬مد‭ ‬‮«‬الياء‮»‬‭ - ‬يجيء‭ ‬تعبيرًا‭ ‬عن‭ ‬حالة‭ ‬سكونية‭ ‬بعد‭ ‬تأمّل‭ ‬عميق،‭ ‬كوقفة‭ ‬قصيرة‭ ‬جدًا‭ ‬تمهيدًا‭ ‬لاستئناف‭ ‬التأمل‭.‬

وسرعان‭ ‬ما‭ ‬يمتزج‭ ‬الاثنان‭: ‬الذات‭ ‬والبياض‭ ‬ليرحلا‭ ‬منطلقين،‭ ‬وكأنّهما‭ ‬تحللا‭ ‬من‭ ‬قيود‭ ‬المكان،‭ ‬وكأنّ‭ ‬الذات‭ ‬في‭ ‬إهاب‭ ‬تجلٍّ‭ ‬إشراقي‭ ‬أو‭ ‬التماع‭ ‬مفارق،‭ ‬هي‭ ‬في‭ ‬عيان‭ ‬حدسي‭ ‬مجرد‭ ‬قد‭ ‬انخلع‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬تحديدات‭ ‬جزئية،‭ ‬وخرج‭ ‬عن‭ ‬أيّة‭ ‬اشتراطات‭ ‬مادية،‭ ‬متمردًا‭ ‬على‭ ‬أية‭ ‬قوانين‭ ‬فيزيائية،‭ ‬فترفرف‭ ‬الذات‭ ‬وكتلة‭ ‬البياض‭ ‬بلا‭ ‬ظل،‭ ‬أما‭ ‬خلفية‭ ‬اللوحة‭ ‬فمائية‭ ‬شفيفة‭ ‬كنبع‭ ‬ماء‭ ‬يتقلب‭ ‬فيه‭ ‬هذا‭ ‬البياض،‭ ‬لقد‭ ‬أمست‭ ‬السماء‭ ‬كبحر‭ ‬أو‭ ‬كبحيرة،‭ ‬مما‭ ‬يعكس‭ ‬رغبة‭ ‬متقابلة‭ ‬بين‭ ‬التحليق‭ ‬والتسامي‭ ‬مع‭ ‬رغبة‭ ‬أخرى‭ ‬في‭ ‬التمركز‭ ‬والثبات‭.‬

‭ ‬هل‭ ‬هذا‭ ‬الامتزاج‭ ‬بالبياض‭ ‬هو‭ ‬فعل‭ ‬شهوي‭ ‬جنسي؟‭ ‬إذ‭ ‬إنّ‭ ‬‮«‬البجعة‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬بديل‭ ‬من‭ ‬المرأة‭ ‬العارية‭. ‬إنّها‭ ‬العُرْي‭ ‬المُباح،‭ ‬البياض‭ ‬الناصع‭ ‬والظاهر‮»‬،‭ ‬ثم‭ ‬توقف‭ ‬الصياغة‭ ‬الشعرية‭ ‬المدّ‭ ‬الطباعي‭ ‬للسواد‭ ‬ببياض‭ ‬يبدو‭ ‬في‭ ‬سطر‭ ‬خالِ‭ ‬كوقفة‭ ‬مونتاجية‭ ‬انتقالية،‭ ‬تفصل‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬التحليق‭ (‬الرفرفة‭) ‬والسقوط،‭ ‬حتى‭ ‬يخبرنا‭ ‬الصوت‭ ‬الشعري‭ ‬بإشراقة‭ ‬الشمس‭ ‬التي‭ ‬أدت‭ ‬إلى‭ ‬فعل‭ ‬السقوط،‭ ‬وكأنّ‭ ‬صاحبنا‭ ‬وما‭ ‬امتزج‭ ‬معه‭ ‬من‭ ‬بياض‭ ‬كان‭ ‬يطير‭ ‬بجناحي‭ ‬‮«‬إيكاروس‮»‬،‭ ‬ما‭ ‬إن‭ ‬أشرقت‭ ‬الشمس‭ ‬حتى‭ ‬سقطا‭ ‬وانحلّا‭ ‬في‭ ‬السواد‭ ‬الذي‭ ‬قد‭ ‬يعني‭ ‬الظلال‭.‬

لكن‭ ‬قد‭ ‬يتبادر‭ ‬إلينا‭ ‬سؤال‭: ‬إذا‭ ‬كانت‭ ‬هذه‭ ‬القصيدة‭ ‬قد‭ ‬تحتمل‭ ‬تأويليًّا‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬رؤيا‭ ‬حلمية‭ ‬ترتبط‭ ‬بفضاء‭ ‬مجرد‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ارتباطها‭ ‬بفضاء‭ ‬الواقع،‭ ‬إذن‭ ‬يصح‭ ‬أن‭ ‬تحدث‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬مكان‭ ‬ووقت‭ ‬ليس‭ ‬بالضرورة‭ ‬أن‭ ‬تحدث‭ ‬بالمكان‭ ‬الآخر،‭ ‬فما‭ ‬الذي‭ ‬يضفيه‭ ‬المكان‭ ‬الآخر‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬القصيدة‭ ‬من‭ ‬سماته‭ ‬حتى‭ ‬يجعلنا‭ ‬نضعها‭ ‬ضمن‭ ‬سياق‭ ‬انفعال‭ ‬بذلك‭ ‬المكان‭ ‬الآخر؟‭ ‬يبدو‭ ‬أنّ‭ ‬حساسية‭ ‬الوعي‭ ‬التخييلي‭ ‬في‭ ‬صياغة‭ ‬الفكرة‭ ‬المجردة‭ ‬ورسم‭ ‬اللوحة‭ ‬التصويرية‭ ‬تستل‭ ‬مكونات‭ ‬اللوحة‭ ‬وعناصرها‭ ‬الرئيسية‭ ‬من‭ ‬بنية‭ ‬المكان‭ ‬الآخر‭ ‬وبيئته‭ (‬الثلج‭/ ‬النديف‭ - ‬البياض‭ - ‬الشفافية‭ - ‬البجعات‭)‬،‭ ‬فثمة‭ ‬توظيف‭ ‬لعناصر‭ ‬المكان‭ ‬الآخر‭ ‬التي‭ ‬أثرت‭ ‬على‭ ‬الوعي‭ ‬في‭ ‬تشكيل‭ ‬لوحته‭.‬

 

اغتراب‭ ‬الذات‭ ‬في‭ ‬المكان‭ ‬الآخر

في‭ ‬تمثُّل‭ ‬الذات‭ ‬للمكان‭ ‬بتمظهراته‭ ‬الحضارية‭ ‬وتقدُّمه‭ ‬في‭ ‬تجربة‭ ‬حجازي‭ ‬في‭ ‬المكان‭ ‬الآخر،‭ ‬باريس،‭ ‬نلمس‭ ‬حالة‭ ‬من‭ ‬عدم‭ ‬التوافق‭ ‬مع‭ ‬‮«‬مدينة‮»‬‭ ‬المكان‭ ‬الآخر،‭ ‬باريس،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬بريق‭ ‬أضوائها،‭ ‬وفتنتها‭ ‬الجمالية‭ ‬الباذخة‭. ‬فيقول‭ ‬حجازي‭ ‬في‭ ‬قصيدة‭ ‬بعنوان‭ ‬‮«‬المراثي‭ ‬أو‭ ‬محطات‭ ‬الزمن‭ ‬الأخير‮»‬‭:‬

أغنية

أنتِ‭ ‬فاتنةٌ

وأنا‭ ‬هَرِمٌ

أتأملُ‭ ‬في‭ ‬صفحة‭ ‬السين‭ ‬وجهيَ

مبتسمًا‭ ‬دامعا

أنتِ‭ ‬فاتنةٌ

تبحثين‭ ‬عن‭ ‬الحب

لكنني

أقتفي‭ ‬أثرًا‭ ‬ضائعا

كان‭ ‬لا‭ ‬بدّ‭ ‬أن‭ ‬نلتقي‭ ‬في‭ ‬صباي

إذَنْ‭ 

لعِشقتُك‭ ‬عشق‭ ‬الجنون‭ ‬

وكُنّا‭ ‬رحلنا‭ ‬معا

الشعر‭ ‬عند‭ ‬حجازي‭ ‬غناء،‭ ‬والشاعر‭ ‬لديه‭ ‬مُغنّ،‭ ‬سواء‭ ‬كان‭ ‬مغني‭ ‬الجماعة‭ ‬أو‭ ‬مغنيًّا‭ ‬لمأساته‭ ‬الشخصية‭. ‬والشاعر،‭ ‬هنا،‭ ‬يغني‭ ‬مأساته‭ ‬في‭ ‬المكان‭ ‬الآخر،‭ ‬ليبدو‭ ‬في‭ ‬فعل‭ ‬‮«‬نرسيسي‮»‬‭ ‬متأملًا‭ ‬وجهه‭ ‬في‭ ‬صفحة‭ ‬نهر‭ ‬‮«‬السين‮»‬،‭ ‬فيبدو‭ ‬مرأى‭ ‬الوجه‭ ‬جامعًا‭ ‬لضدين‭ (‬مبتسمًا‭ ‬دامعًا‭) ‬في‭ ‬تمظهر‭ ‬ديالكتيكي‭ ‬لما‭ ‬تموج‭ ‬به‭ ‬الذات‭ ‬من‭ ‬مشاعر‭ ‬متقابلة‭ ‬وأحاسيس‭ ‬متناقضة‭.‬

فيشعر‭ ‬الشاعر‭ ‬في‭ ‬تمثُّل‭ ‬يبدو‭ ‬مشحونًا‭ ‬بحسّ‭ ‬أيروسي‭ ‬لعلاقة‭ ‬الذات‭ ‬بالمدينة‭ ‬في‭ ‬المكان‭ ‬الآخر،‭ ‬بأنّ‭ ‬الزمن‭ ‬غير‭ ‬مواتٍ‭ ‬للتآلف‭ ‬مع‭ ‬مدينة‭ ‬المكان‭ ‬الآخر‭/ ‬باريس،‭ ‬فالذات‭ ‬تشعر‭ ‬بالهِرَم‭ ‬إزاء‭ ‬فتنة‭ ‬هذا‭ ‬المكان‭ ‬الآخر،‭ ‬الذي‭ ‬يبدو‭ ‬كفتاة‭ ‬أو‭ ‬امرأة‭ ‬تبحث‭ ‬عن‭ ‬الحب‭ ‬في‭ ‬إهاب‭ ‬شعور‭ ‬قوي‭ ‬لدى‭ ‬الذات‭ ‬بالعزوف‭ ‬عن‭ ‬الاندماج‭ ‬في‭ ‬المكان‭ ‬الآخر،‭ ‬مع‭ ‬افتراض‭ ‬إمكانية‭ ‬حدوث‭ ‬ذلك‭ ‬لو‭ ‬كانت‭ ‬الذات‭ ‬في‭ ‬عهد‭ ‬الصبا‭.‬

ولما‭ ‬كان‭ ‬الخطاب‭ ‬الشعري‭ ‬أغنية،‭ ‬فإنّ‭ ‬للمُكوِّن‭ ‬الموسيقي‭ ‬دورًا‭ ‬فاعلًا‭ ‬في‭ ‬تشكيل‭ ‬هذا‭ ‬الخطاب‭/ ‬القصيدة‭/ ‬الأغنية‭ ‬وإنتاج‭ ‬دلالاته،‭ ‬وللتقفية‭ ‬إسهام‭ ‬بارز‭ ‬باعتبارها‭ ‬تمظهرًا‭ ‬مورفولوجيًّا‭ ‬لموسيقى‭ ‬القصيدة‭ ‬على‭ ‬صعيد‭ ‬خارجي‭ ‬ومستوى‭ ‬ظاهر‭.‬

‭ ‬وباعتماد‭ ‬حرف‭ ‬‮«‬العين‮»‬،‭ ‬هذا‭ ‬الحرف‭ ‬المجهور‭ ‬رويًّا‭ ‬للنص،‭ ‬مردوفًا‭ ‬بألف‭ ‬كحرف‭ ‬وصل،‭ ‬تتبدى‭ ‬عناية‭ ‬الصياغة‭ ‬الشعرية‭ ‬بالتركيز‭ ‬على‭ ‬بعض‭ ‬الكلمات‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬مواضع‭ ‬للتقفية‭ ‬باعتبارها‭ ‬بؤرًا‭ ‬دلالية‭ (‬دامعًا‭ - ‬ضائعًا‭ - ‬معًا‭)‬،‭ ‬حيث‭ ‬يبدو‭ (‬الدمع‭) ‬تمظهرًا‭ ‬ماديًا‭ ‬ملموسًا‭ ‬لحالة‭ ‬الذات‭ ‬في‭ ‬المكان‭ ‬الآخر‭ ‬وشعورها‭ ‬الاغترابي‭ ‬فيه‭ ‬بإحساسها‭ ‬بعدم‭ ‬ملاءمة‭ ‬الزمن،‭ ‬زمنها‭ ‬الهرم،‭ ‬لحياة‭ ‬المدينة‭ ‬في‭ ‬المكان‭ ‬الآخر،‭ ‬أما‭ (‬ضائعًا‭) ‬فتسفر‭ ‬عن‭ ‬سبب‭ ‬حزن‭ ‬الذات‭ ‬وشعورها‭ ‬بالاغتراب‭ ‬في‭ ‬المكان‭ ‬الآخر‭ ‬الذي‭ ‬باتت‭ ‬منشوداتها‭ ‬فيه‭ ‬أثرًا‭ ‬ضائعًا‭ ‬تحاول‭ ‬اقتفاءه،‭ ‬أمّا‭ (‬معًا‭) ‬فتبرز‭ ‬النتيجة‭ ‬أو‭ ‬الاحتمال‭ ‬الذي‭ ‬تبدد‭ ‬بأثر‭ ‬عدم‭ ‬مواتاة‭ ‬الزمن،‭ ‬زمن‭ ‬الذات‭ ‬النفسي‭ ‬لتوافقها‭ ‬واندماجها‭ ‬في‭ ‬المكان‭ ‬الآخر‭. ‬كذلك‭ ‬فإنَّ‭ ‬لتكرارية‭ ‬جملة‭ (‬أنت‭ ‬فاتنة‭) ‬على‭ ‬الصعيد‭ ‬التركيبي‭ ‬للنص‭ ‬أثرًا‭ ‬في‭ ‬إبراز‭ ‬إحساس‭ ‬الذات‭ ‬بفتنة‭ ‬المكان‭ ‬الآخر‭ ‬من‭ ‬ناحية،‭ ‬والعجز‭ ‬الشديد‭ ‬عن‭ ‬التوافق‭ ‬معه‭ ‬بالرغم‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬إغراءاته‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬أخرى‭.‬

 

اغتراب‭ ‬الآخر‭ ‬في‭ ‬المكان‭ ‬الآخر

مع‭ ‬تمثُّل‭ ‬الذات‭ ‬لاغترابها‭ ‬في‭ ‬المكان‭ ‬الآخر،‭ ‬فإنّ‭ ‬تمثُّلها‭ ‬لاغتراب‭ ‬الآخر،‭ ‬من‭ ‬أهل‭ ‬المكان‭ ‬أو‭ ‬المهاجرين‭ ‬إليه‭ ‬من‭ ‬بلدان‭ ‬أخرى،‭ ‬يمثُّل‭ ‬بشكل‭ ‬ضمني‭ ‬تمظهرًا‭ ‬من‭ ‬تمظهرات‭ ‬إحساس‭ ‬الذات‭ ‬باتساع‭ ‬دوائر‭ ‬الاغتراب‭ ‬الوجودي‭ ‬والتيه‭ ‬الإنساني‭ ‬الذي‭ ‬تتعرض‭ ‬له‭ ‬الذوات‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬المكان‭ ‬الآخر،‭ ‬مما‭ ‬يفاقِم‭ ‬لديهم‭ ‬الشعور‭ ‬اللاانتمائي‭ ‬إزاء‭ ‬مكانهم‭ ‬الآخر‭.‬

لحجازي‭ ‬تجربة‭ ‬مهمة‭ ‬وثرية‭ ‬في‭ ‬المهجر‭ ‬الباريسي‭ ‬الذي‭ ‬قضى‭ ‬فيه‭ ‬حوالي‭ ‬سبعة‭ ‬عشر‭ ‬عامًا،‭ ‬وفي‭ ‬قصيدته‭ ‬‮«‬المراثي‭ ‬أو‭ ‬محطات‭ ‬الزمن‭ ‬الأخير‮»‬‭ ‬من‭ ‬ديوان‭ ‬كائنات‭ ‬مملكة‭ ‬الليل،‭ ‬يرصد‭ ‬حالة‭ ‬الناس‭ ‬في‭ ‬المكان‭:‬

في‭ ‬الصباحاتِ‭ ‬تفتحُ‭ ‬أرضُ‭ ‬المدينة‭ ‬أفواهَها

للنساءِ‭ ‬الصغيراتِ

يطفرنِ‭ ‬بالأوجه‭ ‬النائمات‭ ‬على‭ ‬عجلٍ

لك‭ ‬في‭ ‬سطحِ‭ ‬باريس‭ ‬عشٌ

كما‭ ‬للعصافيرِ

‭(....)‬

في‭ ‬الصباحاتِ‭ ‬يطفرن‭ ‬كنَّ‭ ‬على‭ ‬دَرَجِ‭ ‬السلّم‭ ‬الكهربي

عصافير‭ ‬مصبوغةَ‭ ‬الريش،‭ ‬شائخة

تستعين‭ ‬على‭ ‬النوم‭ ‬بالعطرِ‭ ‬والتبغِ

نافضةَ‭ ‬نكهة،‭ ‬لم‭ ‬يزل‭ ‬بعدُ‭ ‬يجترُّها‭ ‬جسدٌ

رُكِّبَ‭ ‬الآن‭ ‬في‭ ‬آلة‭ ‬مُرْعِبةْ

كل‭ ‬يومٍ‭ ‬له‭ ‬هذه‭ ‬التجربةْ‭!‬

يبدو‭ ‬الخطاب‭ ‬الشعري‭ ‬لحجازي‭ ‬مهمومًا‭ ‬بعلاقة‭ ‬الإنسان‭ ‬بالمكان،‭ ‬متأملًا‭ ‬هشاشة‭ ‬الإنسان‭ ‬في‭ ‬المكان‭ ‬الباريسي،‭ ‬ومندهشًا‭ ‬من‭ ‬الحداثة‭ ‬الآلية‭ ‬التقنية‭ ‬المستخدمة‭ ‬في‭ ‬المكان‭ ‬كالسلّم‭ ‬الكهربي‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬بدّ‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬لافتًا‭ ‬للانتباه‭ ‬لشرقي‭ ‬انتقل‭ ‬للعيش‭ ‬في‭ ‬الغرب،‭ ‬فتبدو‭ ‬الوسائل‭ ‬آلية‭ ‬والميكنة‭ ‬الحديثة‭ ‬في‭ ‬الغرب،‭ ‬وقتئذٍ،‭ ‬في‭ ‬سبعينيات‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬مصدر‭ ‬رهاب‭ ‬ودهشة‭ ‬للرجل‭ ‬الشرقي،‭ ‬كعلامة‭ ‬على‭ ‬صدمة‭ ‬اختلاف‭ ‬حضاري‭ ‬وتمايُز‭ ‬ثقافي‭ ‬في‭ ‬أساليب‭ ‬العيش،‭ ‬كما‭ ‬تبدو‭ ‬وسائل‭ ‬التقدُّم‭ ‬التقني‭ ‬في‭ ‬الغرب‭ ‬سببًا‭ ‬لشعور‭ ‬الإنسان،‭ ‬خصوصًا‭ ‬الشرقي،‭ ‬بالاغتراب‭ ‬الوجودي‭.‬

يستثمر‭ ‬النص‭ ‬الشعري‭ ‬الحجازي‭ ‬شعرية‭ ‬التفاصيل‭ ‬الصغيرة‭ ‬والأوصاف‭ ‬الدقيقة‭ ‬الدالة‭ ‬في‭ ‬تقديم‭ ‬رؤية‭ ‬ذاتية‭ ‬للعالم‭ ‬ونظرة‭ ‬فلسفية‭ ‬للوجود،‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬وصف‭ ‬حالة‭ ‬النساء‭ ‬في‭ ‬الصباح‭ ‬الباريسي‭ ‬بأنهنّ‭ (‬يطفرنِ‭ ‬بالأوجه‭ ‬النائمات‭ ‬على‭ ‬عجلٍ‭)‬،‭ ‬جلاءً‭ ‬لطابع‭ ‬الحياة‭ ‬وسرعة‭ ‬إيقاعها‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬الباريسي‭ ‬في‭ ‬مقابل‭ ‬إرهاق‭ ‬الجسد‭ ‬وخموله‭ ‬ما‭ ‬يجعله،‭ ‬فيما‭ ‬يبدو،‭ ‬مجبرًا‭ ‬على‭ ‬الدوران‭ ‬في‭ ‬عجلة‭ ‬هذا‭ ‬النمط‭ ‬الحياتي‭. ‬

كما‭ ‬تعمل‭ ‬بنية‭ ‬الصور‭ ‬على‭ ‬إبراز‭ ‬العلاقة‭ ‬الإشكالية‭ ‬بين‭ ‬الذوات‭ ‬والمكان‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬استعارة‭ ‬مثل‭: ‬‮«‬في‭ ‬الصباحاتِ‭ ‬تفتحُ‭ ‬أرضُ‭ ‬المدينة‭ ‬أفواهَها‭/ ‬للنساءِ‭ ‬الصغيراتِ‮»‬،‭ ‬تجسيدًا‭ ‬لالتهام‭ ‬المدينة‭ ‬الغربية‭ ‬للذوات‭ ‬التي‭ ‬تبدو‭ ‬هشّة‭ ‬وضئيلة‭ ‬في‭ ‬ثنايا‭ ‬المكان،‭ ‬وكذلك‭ ‬في‭ ‬تشبيه‭ ‬النساء‭ ‬الباريسيات‭: (‬كنَّ‭ ‬على‭ ‬دَرَجِ‭ ‬السلّم‭ ‬الكهربي‭/ ‬عصافير‭ ‬مصبوغةَ‭ ‬الريش،‭ ‬شائخة‭) ‬إبرازًا‭ ‬لضآلة‭ ‬الجسد‭ ‬وما‭ ‬يتبدى‭ ‬من‭ ‬شيخوخته‭ ‬رغم‭ ‬التزيّن،‭ ‬بما‭ ‬يعكس‭ ‬محاولة‭ ‬الذوات‭ ‬التحايل‭ ‬على‭ ‬الزمن‭. ‬كذلك‭ ‬يبدو‭ ‬من‭ ‬استعارة‭ (‬جسدٌ‭/ ‬رُكِّبَ‭ ‬الآن‭ ‬في‭ ‬آلة‭ ‬مُرْعِبةْ‭) ‬الشعور‭ ‬بالانسحاق‭ ‬الإنساني‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬الآلة‭ ‬في‭ ‬عصر‭ ‬التقدُّم‭ ‬التقني‭.‬

ويرصد‭ ‬حجازي‭ ‬مشاهد‭ ‬الباعة‭ ‬السود‭ ‬في‭ ‬أنفاق‭ ‬باريس،‭ ‬الذين‭ ‬يمثّلون‭ ‬لاغتراب‭ ‬الآخر‭:‬

في‭ ‬الأماسي‭ ‬يفتتح‭ ‬الباعةُ‭ ‬السودُ‭ ‬في‭ ‬دفءِ‭ ‬أنفاقِ‭ ‬باريسَ

أعيادَهم

يفرشون‭ ‬بضاعتهم‭ ‬في‭ ‬حنايا‭ ‬الممراتِ

أقنعةً

وعقودًا‭ ‬بدائيةً

وثيابًا‭ ‬مُعَصْفَرَةً

وتماثيلَ‭ ‬آلهة‭ ‬مسبلاتٍ‭ ‬الجفونْ

في‭ ‬الأماسي‭ ‬ينتصبون‭ ‬عمالقةً‭ ‬طيبينَ

يديرون‭ ‬أعينَهم‭ ‬لالتقاط‭ ‬المودةِ‭ ‬من‭ ‬أعين‭ ‬العابرين

وهم‭ ‬يفتلون‭ ‬سجائرَهم‭ ‬بأصابع‭ ‬سوداء‭ ‬ملتذّةٍ

ويَعُبُّونَ‭ ‬من‭ ‬زَبدِ‭ ‬البيرةِ‭ ‬المتفجِّر‭ ‬فوق‭ ‬شواربهم

ويغنّون‭ ‬في‭ ‬الدفء‭ ‬مُسترسلين‭ ‬وراء‭ ‬النبوةِ

أوجههم‭ ‬تتفصدُ‭ ‬حزنًا‭ ‬بعيدًا

وقاماتهم‭ ‬تتهدّل‭ ‬من‭ ‬طربٍ‭ ‬وجنون‭!‬

ينتقي‭ ‬الشاعر‭ ‬‮«‬الباعة‭ ‬السود‮»‬‭ ‬الذين‭ ‬يمثّلون‭ ‬المختلف‭ ‬عرقيًّا‭ ‬عن‭ ‬سكان‭ ‬البلاد‭ ‬الأصليين،‭ ‬وكأنّ‭ ‬الذات‭ ‬الشاعرة‭ ‬تنتقي‭ ‬هؤلاء‭ ‬الهامشيين،‭ ‬لشعورها‭ ‬بالهامشية‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬المكان‭ ‬الآخر‭. ‬ومما‭ ‬يبدو‭ ‬من‭ ‬مكان‭ ‬هؤلاء‭ ‬في‭ ‬‮«‬أنفاق‭ ‬باريس‮»‬‭ ‬أنّ‭ ‬ذلك‭ ‬التموضع‭ ‬قد‭ ‬يشير‭ ‬رمزيًّا‭ ‬إلى‭ ‬أنّهم‭ ‬قابعون‭ ‬في‭ ‬مكان‭ ‬تحتي‭ ‬ومكانة‭ ‬دنيا‭ ‬في‭ ‬المدينة‭ ‬الغربية‭.‬

وتتبدى‭ ‬المفارقة‭ ‬بين‭ ‬ممارسات‭ ‬هؤلاء‭ ‬الباعة‭ ‬السود‭ ‬الذين‭ ‬تبدو‭ ‬كأعياد‭ ‬يبيعون‭ ‬فيها‭ ‬بضاعتهم‭ ‬مع‭ ‬توسّل‭ ‬‮«‬أعينهم‭ ‬لالتقاط‭ ‬المودة‭ ‬من‭ ‬أعين‭ ‬العابرين‮»‬،‭ ‬في‭ ‬مقابل‭ ‬تفصّد‭ ‬أوجههم‭ ‬حزنًا،‭ ‬بما‭ ‬يكشف‭ ‬عن‭ ‬صراع‭ ‬نفسي‭ ‬رهيب‭ ‬يعيشه‭ ‬هؤلاء‭ ‬بين‭ ‬محاولة‭ ‬التعايش‭ ‬الاجتماعي‭ ‬والتأقلم‭ ‬النفسي‭ ‬مع‭ ‬مغتربهم‭ ‬في‭ ‬المكان‭ ‬الآخر،‭ ‬وبين‭ ‬مغالبة‭ ‬الحزن‭ ‬لهم‭ ‬وتبديه‭ ‬على‭ ‬أوجههم‭ ‬■