ثنائيةُ الهجرة عند عمار الخزنة

ثنائيةُ الهجرة عند عمار الخزنة

«مهاجر في زمن الجدري» منذ الوهلة الأولى لقراءتنا للعنوان، سيحيلنا - كقرّاء - بلا جهد كبير في التفكير، إلى عنوان رواية ماركيز «الحب في زمن الكوليرا»، لتنثال الأسئلة بعد ذلك: لماذا يختار بعض الكُتَّاب أن تكون عناوين كتبهم مشابهة، أو مقتبسة من كتّاب مشهورين أو أجانب؟ لماذا هذا العنوان؟ هل هناك تشابه بين الروايتين، أم أن اسم الوباء هو ما يجمع بينهما؟ لماذا اختار الكاتب هذا العنوان؟ وهل لجاذبية عنوان الرواية المشهورة لماركيز، أم لأنه أراد أن يكون العنوان واضحًا، ويشي بمحتوى الرواية؟ إن الهدف من العنوان هو شد انتباه القارئ، وفتنته، واستدراجه للدخول في الرواية. هذا هو المدخل المهم جدًا في التمهيد، والإغواء، والترغيب في اقتناء الكتاب، أيّ كتاب كان. من الجميل أن يأخذنا فضاء العنوان في لقاء ساحر، وفاتن، ومدهش، ومتفرد في التلاقي الأول بين القارئ والكاتب.

العنوان‭ ‬في‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬مهاجر‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬الجدري‮»‬‭ ‬بسيط‭ ‬في‭ ‬بنائه،‭ ‬واضح‭ ‬ومباشر‭ ‬في‭ ‬دلالته،‭ ‬وهو‭ ‬يدلُّ‭ ‬على‭ ‬محتوى‭ ‬الرواية‭ ‬دلالة‭ ‬واضحة‭ ‬ومباشرة،‭ ‬حتى‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬نقرأ‭ ‬الرواية،‭ ‬وقبل‭ ‬أن‭ ‬ندخل‭ ‬في‭ ‬فضاء‭ ‬السرد،‭ ‬وقبل‭ ‬أن‭ ‬نتتبع‭ ‬أسلوبه،‭ ‬وصياغته،‭ ‬وأفكاره،‭ ‬ونحدد‭ ‬الأبعاد‭ ‬الدلالية،‭ ‬والرمزية،‭ ‬والأسلوبية‭ ‬للرواية‭.‬

في‭ ‬تشابه‭ ‬العنوان‭ ‬واقتباسه،‭ ‬قيل‭ ‬الكثير؛‭ ‬بين‭ ‬رافضٍ‭ ‬لهذا‭ ‬التشابه،‭ ‬لما‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬تناصٍّ‭ ‬أدبي‭ ‬غير‭ ‬محبَّذ،‭ ‬لأنه‭ ‬يدل‭ ‬على‭ ‬الإعجاب‭ ‬الشديد‭ ‬الذي‭ ‬يؤثر‭ ‬على‭ ‬شخصية‭ ‬الكاتب،‭ ‬والبعض‭ ‬الآخر‭ ‬لا‭ ‬يرى‭ ‬أهمية‭ ‬لذلك،‭ ‬ويركز‭ ‬على‭ ‬أهمية‭ ‬وماهية‭ ‬موضوع‭ ‬وفكرة‭ ‬الرواية،‭ ‬والبعض‭ ‬يرى‭ ‬أن‭ ‬ذلك‭ ‬الأمر‭ ‬يدخل‭ ‬ضمن‭ ‬فنون‭ ‬التسويق‭ ‬للرواية،‭ ‬وليس‭ ‬هناك‭ ‬ما‭ ‬يمنع‭ ‬كاتبًا‭ ‬ما‭ ‬من‭ ‬اختيار‭ ‬عنوان‭ ‬لروايته،‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬يتناصُّ‭ ‬مع‭ ‬رواية‭ ‬أخرى،‭ ‬بل‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬يعتبر‭ ‬هذا‭ ‬ذكاء‭ ‬من‭ ‬الكاتب‭. ‬ومن‭ ‬ذكاء‭ ‬اختيار‭ ‬العنوان‭ - ‬في‭ ‬نظري‭ - ‬وتزامن‭ ‬إصدار‭ ‬الرواية‭ ‬في‭ ‬2020م،‭ ‬ونحن‭ ‬نعاني‭ ‬ويلات‭ ‬وباء‭ ‬قاتل،‭ ‬فالجدري‭ ‬كان‭ ‬وباءً‭ ‬فتك‭ ‬بالكثير‭. ‬إنه‭ ‬الوقت‭ ‬المناسب‭ ‬لنشعر‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬يقال‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬الوباء‭.‬

 

بين‭ ‬غربتين‭... ‬بين‭ ‬وباءين‭ 

من‭ ‬الماء‭ ‬إلى‭ ‬الماء‭... ‬الهجرة‭ ‬أو‭ ‬الرحيل‭ ‬القسري‭...‬

طالعتُ‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬مهاجر‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬الجدري‮»‬‭ ‬للدكتور‭ ‬عمار‭ ‬الخزنة،‭ ‬هذه‭ ‬الرواية‭ ‬التي‭ ‬تجاوزت‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬عثرات‭ ‬البدايات‭. ‬فالبناء‭ ‬الروائي‭ ‬متوازن‭ ‬ومسترسل،‭ ‬يشدُّك‭ ‬الرَّاوي‭ ‬العليم‭ ‬فيها‭ ‬لعالَم‭ ‬من‭ ‬الحكايا‭ ‬والسرد‭ ‬المشوق،‭ ‬عبر‭ ‬رواية‭ ‬واقعية‭ ‬خيالية،‭ ‬وأقول‭ ‬ذلك‭ ‬لأن‭ ‬جزءًا‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الرواية‭ ‬هو‭ ‬تراث‭ ‬دوَّنه‭ ‬الكاتب‭ ‬عن‭ ‬عائلته،‭ ‬يتناول‭ ‬فيها‭ ‬الهجرة‭ ‬والرحيل‭ ‬القسري‭ ‬عن‭ ‬الوطن‭. ‬وحين‭ ‬ندخل‭ ‬في‭ ‬فضاء‭ ‬الرواية،‭ ‬فإنّه‭ ‬يحيلنا‭ ‬على‭ ‬المتخيَّل‭ ‬الذي‭ ‬تحقق‭ ‬بفعل‭ ‬الكتابة‭ ‬عن‭ ‬الجُدري،‭ ‬والهجرة‭ ‬ومتعلِّقاتها،‭ ‬من‭ ‬شوق‭ ‬عارم،‭ ‬وحنين‭ ‬مؤلم،‭ ‬ترجم‭ ‬الألم‭ ‬في‭ ‬بحث‭ ‬سردي‭ ‬ممتع،‭ ‬تناول‭ ‬فيه‭ ‬الأسباب،‭ ‬والأفكار،‭ ‬والمصائر،‭ ‬بين‭ ‬بقاء‭ ‬وجل،‭ ‬ومنفى‭ ‬مؤجل،‭ ‬وصراع‭ ‬مع‭ ‬البحر‭ ‬وكائناته،‭ ‬و«الكيخداباشي‮»‬‭ ‬وأعوانه،‭ ‬لذلك‭ ‬تغرَّب‭ ‬بطل‭ ‬روايته،‭ ‬علي‭ ‬بن‭ ‬غانم‭. ‬‮«‬فالغربة‭ ‬عن‭ ‬الوطن‭ ‬أهون‭ ‬ألف‭ ‬مرة‭ ‬من‭ ‬الغربة‭ ‬في‭ ‬الوطن‮»‬‭. ‬والغربة‭ ‬كربة،‭ ‬كما‭ ‬قال‭ ‬له‭ ‬أخوه‭ ‬يوسف،‭ ‬لكنّه‭ ‬مضطر‭ ‬لها‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬يتسبب‭ ‬في‭ ‬أذيّة‭ ‬عائلته،‭ ‬حين‭ ‬أيقن‭ ‬أنه‭ ‬مطلبهم‭ ‬‮«‬يا‭ ‬خوي،‭ ‬ترى‭ ‬اللي‭ ‬في‭ ‬الفخ‭ ‬أكبر‭ ‬من‭ ‬العصفور‮»‬‭.‬

 

الجدري‭ ‬

‮«‬اللي‭ ‬ينقرص‭ ‬من‭ ‬حيّة‭ ‬الموت‭ ‬يخاف‭ ‬من‭ ‬حبل‭ ‬فجأة‭ ‬الفراق‮»‬‭... ‬إن‭ ‬تخليد‭ ‬الأوبئة‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬يحمل‭ ‬دلالة‭ ‬فنية‭ ‬ورسالة‭ ‬إنسانية‭ ‬تؤكد‭ ‬ضعف‭ ‬الإنسان‭ ‬أمام‭ ‬حصد‭ ‬الوباء‭ ‬للأرواح‭ ‬وعجزه‭ ‬عن‭ ‬حماية‭ ‬أحبابه،‭ ‬وللحديث‭ ‬عن‭ ‬الأوبئة‭ ‬اليوم‭ ‬أهمية‭ ‬كبيرة،‭ ‬خاصة‭ ‬ونحن‭ ‬نعيش‭ ‬هذه‭ ‬الأيام‭ ‬مع‭ ‬وباء‭ ‬مخاتل‭ ‬يهجم‭ ‬علينا‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬الذي‭ ‬نعتقد‭ ‬أننا‭ ‬هربنا‭ ‬منه،‭ ‬لذلك‭ ‬فالقراءة‭ ‬عن‭ ‬وباء‭ ‬ما‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬ماض‭ ‬يشعرنا‭ ‬بنفس‭ ‬الرهبة،‭ ‬نفس‭ ‬الخوف‭ ‬ونفس‭ ‬الوجل،‭ ‬وحتمًا‭ ‬نفس‭ ‬التفهم‭ ‬لكل‭ ‬ما‭ ‬نقرأه‭ ‬عنها‭.  ‬تكالبت‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬القرية‭ ‬المصائب،‭ ‬فمن‭ ‬ظلم‭ ‬الكيخداوية‭ ‬إلى‭ ‬تفشي‭ ‬وباء‭ ‬الجدري،‭ ‬مما‭ ‬زاد‭ ‬من‭ ‬أعداد‭ ‬المهاجرين،‭ ‬فمن‭ ‬لم‭ ‬يهاجر‭ ‬من‭ ‬سطوة‭ ‬الظلم،‭ ‬هاجر‭ ‬خوفًا‭ ‬من‭ ‬المرض،‭ ‬وحتى‭ ‬من‭ ‬لم‭ ‬يهاجر‭ ‬نفي‭ ‬بعيدًا‭ ‬عن‭ ‬بيته‭ ‬وأهله‭ ‬مخافة‭ ‬العدوى‭.  ‬وهناك‭ ‬من‭ ‬تجرّع‭ ‬مرارة‭ ‬الوباءين‭ ‬كعلي‭ ‬بن‭ ‬غانم،‭ ‬لكنّه‭ ‬رفض‭ ‬أن‭ ‬يتجرع‭ ‬النسيان‭ ‬‮«‬أسوأ‭ ‬موت‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬تعرف‭ ‬وجوه‭ ‬الذين‭ ‬أحببت‭ ‬وقت‭ ‬موتك،‭ ‬ذلك‭ ‬موت‭ ‬قبل‭ ‬الموت‭ ‬وأشد‭ ‬وطأة‭ ‬منه‮»‬‭... ‬‮«‬النسيان‭ ‬موت‭... ‬لا‭ ‬أريد‭ ‬موتًا‭ ‬قبل‭ ‬الموت‮»‬‭... ‬رغم‭ ‬ذلك،‭ ‬فإن‭ ‬الموت‭ ‬يلاحقه‭ ‬بأشكاله‭ ‬الأخرى‭ ‬‮«‬نهرب‭ ‬من‭ ‬بشر‭ ‬لا‭ ‬يرحمون‭ ‬لنموت‭ ‬بجدري‭ ‬لا‭ ‬يرحم‭ ‬بشرًا‮»‬‭.   

 

الهجرة‭/ ‬بين‭ ‬هجرتين‭ ‬وأكثر

يبدأ‭ ‬الخزنة‭ ‬السرد‭ ‬بمشهد‭ ‬يدخل‭ ‬فيه‭ ‬الشخصية‭ ‬المحورية،‭ ‬علي‭ ‬بن‭ ‬غانم،‭ ‬إلى‭ ‬قمة‭ ‬الموضوع،‭ ‬وهو‭ ‬الهجرة‭ ‬والحنين‭ ‬إلى‭ ‬الوطن‭. ‬‮«‬وضع‭ ‬شايه‭ ‬المعتاد،‭ ‬وراح‭ ‬يتأمل‭ ‬حركة‭ ‬النهر،‭ ‬ويستعيد‭ ‬حنينه‭ ‬لدارٍ‭ ‬ارتحل‭ ‬عنها‭ ‬قبل‭ ‬ثلاثة‭ ‬وأربعين‭ ‬عامًا‮»‬‭. ‬‮«‬عاشرتُ‭ ‬الماء‭ ‬جُلَّ‭ ‬عمري‭... ‬ولدتُ‭ ‬وفي‭ ‬يدي‭ ‬قبضة‭ ‬من‭ ‬ملح‭ ‬البحر،‭ ‬والأخرى‭ ‬مبسوطة‭ ‬لاحتمالات‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬أكونه‮»‬‭. ‬من‭ ‬الصعب‭ ‬على‭ ‬الإنسان‭ ‬أن‭ ‬يختار‭ ‬الهجرة،‭ ‬أو‭ ‬ينفي‭ ‬نفسه‭ ‬بعيدًا‭ ‬عمَّن‭ ‬يحب‭. ‬هكذا‭ ‬يبدأ‭ ‬الألم،‭ ‬الذي‭ ‬قد‭ ‬نختلف‭ ‬في‭ ‬تحديد‭ ‬أي‭ ‬الأمرّين‭ ‬أشد‭ ‬مرارة‭ ‬من‭ ‬الآخر‭: ‬أن‭ ‬تعيش‭ ‬غريبًا،‭ ‬مضطهدًا،‭ ‬ذليلًا‭ ‬في‭ ‬وطنك،‭ ‬أو‭ ‬أن‭ ‬تتحمّل‭ ‬وخز‭ ‬إبر‭ ‬الشوق‭ ‬والحنين‭ ‬وهي‭ ‬تغرز‭ ‬في‭ ‬قلبك‭ ‬كلما‭ ‬مرت‭ ‬ذكريات‭ ‬من‭ ‬تحب‭ ‬وتشتاق،‭ ‬أو‭ ‬ذكريات‭ ‬تلك‭ ‬المدينة‭ ‬المشتهاة،‭ ‬الراسخة‭ ‬في‭ ‬دمك‭ ‬كرائحة‭ ‬البحر،‭ ‬والمستعادة‭ ‬بقوة‭ ‬في‭ ‬ذاكرتك‭.‬

فهجرة‭ ‬علي‭ ‬بن‭ ‬غانم،‭ ‬رغم‭ ‬مرارتها،‭ ‬لم‭ ‬تمنع‭ ‬عيسى‭ ‬بن‭ ‬غانم‭ ‬من‭ ‬الهجرة،‭ ‬وظلت‭ ‬هذه‭ ‬الهجرة‭ ‬مستمرة‭ ‬حتى‭ ‬وصلت‭ ‬إلى‭ ‬كاتب‭ ‬الرواية،‭ ‬الذي‭ ‬هاجر‭ ‬للولايات‭ ‬المتحدة‭.‬

لذلك‭ ‬نراه‭ ‬يصف‭ ‬الغربة‭ ‬بشكل‭ ‬دقيق،‭ ‬عميق‭. ‬فهي‭ ‬كربة،‭ ‬ولو‭ ‬سُقيتَ‭ ‬فيها‭ ‬العسل‭ ‬المصفى‭.‬

‮«‬أن‭ ‬تتحرَّق‭ ‬شوقًا‭ ‬لمن‭ ‬تحب،‭ ‬ثم‭ ‬تبتعد‭ ‬عنه،‭ ‬حتى‭ ‬إذا‭ ‬بلغ‭ ‬الشوق‭ ‬مأخذه،‭ ‬وبهضك‭ ‬الفراق،‭ ‬عدت‭ ‬لمن‭ ‬تحب‭ ‬بلهفة‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬تتحول‭ ‬لسباق‭ ‬ليتزود‭ ‬الحبيب‭ ‬من‭ ‬حبيبته‭ ‬قبل‭ ‬الفراق‭ ‬لرحلة‭ ‬قادمة‮»‬‭. ‬‮«‬ومن‭ ‬قال‭ ‬إن‭ ‬المهاجر‭ ‬مرتاح‭ ‬بعيدًا‭ ‬عن‭ ‬أهله‭ ‬وديرته»؟‭ ‬‮«‬تتشابه‭ ‬الأيام‭ ‬والليالي‭ ‬في‭ ‬الغربة‭. ‬يتناسل‭ ‬الوقت،‭ ‬فلا‭ ‬يلد‭ ‬إلا‭ ‬نفسه،‭ ‬بلا‭ ‬طعم،‭ ‬ولا‭ ‬رائحة‭. ‬لا‭ ‬تكاد‭ ‬تميز‭ ‬اليوم‭ ‬من‭ ‬أمس،‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬غد‮»‬‭.‬

 

الظلم‭ ‬الأكبر‭/ ‬حادثة‭ ‬عبيد‭ ‬الصِلاح

هل‭ ‬فكرتم‭ ‬في‭ ‬وصف‭ ‬الظلم،‭ ‬أو‭ ‬تصنيف‭ ‬بشاعته؟‭ ‬أعتقد‭ ‬بأننا‭ ‬سنعجز‭ ‬عن‭ ‬ذلك،‭ ‬لأنّ‭ ‬سطوة‭ ‬الظلم‭ ‬ليست‭ ‬بالشيء‭ ‬العابر‭ ‬الذي‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يمرّ‭ ‬وينتهي‭. ‬إنها‭ ‬سطوة‭ ‬تمتد‭ ‬لقرون‭ ‬وقرون،‭ ‬ويبقى‭ ‬تأثير‭ ‬هذا‭ ‬الظلم‭ ‬مستمرًا،‭ ‬ولا‭ ‬نهائيًا،‭ ‬ينهش‭ ‬في‭ ‬أرواح‭ ‬من‭ ‬اكتووا‭ ‬بناره،‭ ‬ومن‭ ‬خلفوهم‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الإرث‭. ‬هل‭ ‬يورِّثُ‭ ‬الآباءُ‭ ‬أبناءَهم‭ ‬معاناتهم،‭ ‬كما‭ ‬يورثونَهم‭ ‬أموالَهم؟‭ ‬هذا‭ ‬ما‭ ‬حدث‭ ‬في‭ ‬واقعة‭ ‬عبيد‭ ‬الصِلاح؛‭ ‬فالظلم‭ ‬الذي‭ ‬وقع‭ ‬على‭ ‬تلك‭ ‬القرية،‭ ‬وأصاب‭ ‬تلك‭ ‬العائلة،‭ ‬بقي‭ ‬عالقًا‭ ‬في‭ ‬الذاكرة‭. ‬فكيف‭ ‬يمكن‭ ‬لطفل‭ ‬أن‭ ‬ينسى‭ ‬مشاهد‭ ‬الموت،‭ ‬والقتل،‭ ‬والغدر،‭ ‬والبتر؟‭ ‬وكيف‭ ‬لا‭ ‬تلاحقه‭ ‬هذه‭ ‬الحوادث‭ ‬لتنغِّص‭ ‬عليه‭ ‬حياتَه،‭ ‬ويمتد‭ ‬أثرها‭ ‬ليطال‭ ‬ذريته؟‭ ‬‮«‬حتى‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬شبَّ‭ ‬وتزوج،‭ ‬وصارت‭ ‬له‭ ‬عائلة،‭ ‬كان‭ ‬بن‭ ‬غانم‭ ‬يودعهم‭ ‬كلما‭ ‬فارق‭ ‬البيت‭ ‬لعمله‭ ‬كل‭ ‬صباح،‭ ‬كمن‭ ‬لا‭ ‬يثق‭ ‬بالحياة،‭ ‬أو‭ ‬يتوقع‭ ‬الموت‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬لحظة‮»‬‭. ‬اتَّكأ‭ ‬الخزنة‭ ‬على‭ ‬حادثة‭ ‬تاريخية،‭ ‬لكنّه‭ ‬لم‭ ‬يقف‭ ‬عندها‭ ‬مسجلًا‭ ‬أحداثَها‭ ‬كمؤرخ؛‭ ‬لا‭ ‬يتجاوز‭ ‬الحقيقة،‭ ‬اعتمادًا‭ ‬على‭ ‬الوثائق‭ ‬التاريخية،‭ ‬وعلى‭ ‬ما‭ ‬يمتلكه‭ ‬من‭ ‬معلومات‭ ‬وخرائط،‭ ‬بل‭ ‬قدّم‭ ‬لنا‭ ‬مزيجًا‭ ‬رائعًا‭ ‬عبر‭ ‬استلهام‭ ‬حي‭ ‬من‭ ‬التجارب‭ ‬الإنسانية‭ ‬العميقة‭ ‬التي‭ ‬تفتح‭ ‬أفقنا‭ - ‬كقُرَّاء‭ - ‬على‭ ‬عمق‭ ‬التجربة‭ ‬الحياتية،‭ ‬وما‭ ‬تمدنا‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬تصور‭ ‬لما‭ ‬نأمل‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬عليه‭ ‬الحياة‭ ‬خارج‭ ‬إطار‭ ‬تجربة‭ ‬الكاتب‭.‬

ومن‭ ‬الهجرة‭ ‬للوباء،‭ ‬للاستعمار،‭ ‬للعبودية،‭ ‬هكذا‭ ‬حاصرَنا‭ ‬الخزنة‭ ‬في‭ ‬روايته،‭ ‬بفضاء‭ ‬مقهور‭ ‬بين‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ألم،‭ ‬وأكثر‭ ‬من‭ ‬قضية،‭ ‬ليعبِّر‭ ‬تعبيرًا‭ ‬صادقًا‭ ‬عن‭ ‬صورة‭ ‬الإنسان،‭ ‬ومدى‭ ‬تعقّد‭ ‬المعاناة‭ ‬الإنسانية‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬الظلم،‭ ‬والجور،‭ ‬والاضطهاد،‭ ‬ليس‭ ‬من‭ ‬الإنسان‭ ‬فقط،‭ ‬وإنما‭ ‬من‭ ‬الطبيعة‭ ‬أيضًا‭. ‬فالبحر،‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬مصدر‭ ‬الرزق،‭ ‬ومصدر‭ ‬الجمال،‭ ‬والمكان‭ ‬الذي‭ ‬يأخذ‭ ‬الهموم‭ ‬لأعماقه،‭ ‬هو‭ ‬نفسه‭ ‬البحر‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يرحم؛‭ ‬فموجه‭ ‬انقلاب‭ ‬وغرق،‭ ‬وكائناته‭ ‬توحُّش‭ ‬وموت‭. ‬تعدَّدَ‭ ‬المكان‭ ‬والزمان‭ ‬داخل‭ ‬العالم‭ ‬الروائي،‭ ‬بحركة‭ ‬حاول‭ ‬فيها‭ ‬الكاتب‭ ‬اختزال‭ ‬الزمن،‭ ‬وطيِّه،‭ ‬والإسراع‭ ‬في‭ ‬جريان‭ ‬حركة‭ ‬السرد‭. ‬وعبر‭ ‬عملية‭ ‬السرد‭ ‬الحكائي،‭ ‬تمكّن‭ ‬الكاتب‭ ‬أيضًا‭ ‬من‭ ‬الانتقال‭ ‬المكاني،‭ ‬حسب‭ ‬سير‭ ‬الأحداث‭ ‬وتطورها،‭ ‬بشكل‭ ‬منطقي‭. ‬

فكيف‭ ‬لبحّار‭ ‬ألّا‭ ‬يتعلق‭ ‬بالبحر‭ ‬كمكان؟‭ ‬وكيف‭ ‬له‭ ‬ألّا‭ ‬يتجاوز‭ ‬البر‭ ‬لبر‭ ‬آخر؟‭ ‬وكيف‭ ‬له‭ ‬ألّا‭ ‬يغادر‭ ‬مكانه،‭ ‬وهو‭ ‬الذي‭ ‬يطوف‭ ‬بسفينته‭ ‬عرض‭ ‬البحر‭ ‬ليصطاد‭ ‬ويتاجر؟‭ ‬وكيف‭ ‬لمظلوم‭ ‬ألّا‭ ‬يفرَّ‭ ‬من‭ ‬ظُلمِه‭ ‬إلى‭ ‬أرض‭ ‬أخرى؟‭ ‬لذا‭ ‬طاف‭ ‬بنا‭ ‬الخزنة‭ ‬في‭ ‬عوالم‭ ‬مكانية،‭ ‬بدأت‭ ‬من‭ ‬بحر‭ ‬الحلة‭ ‬وبساتينها،‭ ‬وسافرت‭ ‬بنا‭ ‬حيث‭ ‬البصرة،‭ ‬وزنجبار،‭ ‬والهند‭.‬

الرواية‭ ‬مبنية‭ ‬على‭ ‬تعدّد‭ ‬الأفكار‭ ‬والمواقف،‭ ‬فهي‭ ‬تقدّم‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬القضايا‭ ‬في‭ ‬آن‭ ‬واحد،‭ ‬فالفكرة‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬تحدد‭ ‬رؤية‭ ‬الشخصية‭ ‬إلى‭ ‬العالم،‭ ‬وهذا‭ ‬ماعمل‭ ‬به‭ ‬د‭. ‬الخزنة‭ ‬في‭ ‬روايته،‭ ‬حيث‭ ‬حوّل‭ ‬أفكاره‭ ‬إلى‭ ‬موضوعات‭ ‬ناقشها‭ ‬في‭ ‬الرواية‭ ‬بوعي‭ ‬تام،‭ ‬حسب‭ ‬رؤيته‭ ‬للعالم‭ ‬وموقفه‭ ‬الفكري‭ ‬تجاه‭ ‬بعض‭ ‬القضايا‭ ‬الإنسانية،‭ ‬التي‭ ‬عالجتها‭ ‬الرواية‭ ‬كالظلم‭ ‬والعبودية،‭ ‬الوباء‭ ‬والهجرة،‭ ‬والاستعمار،‭ ‬ووضع‭ ‬المرأة،‭ ‬وكأنه‭ ‬أراد‭ ‬أن‭ ‬يقول‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يزعجه‭ ‬من‭ ‬قضايا‭ ‬مرة‭ ‬واحدة،‭ ‬لذلك،‭ ‬رغم‭ ‬أن‭ ‬الراوي‭ ‬العليم‭ ‬هو‭ ‬الماسك‭ ‬بزمام‭ ‬السرد،‭ ‬فإنّ‭ ‬الأصوات‭ ‬في‭ ‬الرواية‭ ‬متعددة،‭ ‬مما‭ ‬قد‭ ‬يربك‭ ‬القارئ‭ ‬ويُفقد‭ ‬النص‭ ‬الروائي‭ ‬تماسكه‭ ‬وتركيزه،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬الخزنة‭ ‬تنقّل‭ ‬بين‭ ‬هذه‭ ‬المواضيع‭ ‬بسلاسة‭ ‬المتمرس،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬أعطى‭ ‬له‭ ‬حرية‭ ‬أكبر‭ ‬في‭ ‬التعبير‭ ‬عن‭ ‬القضايا‭ ‬التي‭ ‬تؤرّقه‭ ‬كإنسان،‭ ‬والتي‭ ‬دافع‭ ‬عنها‭ ‬كأفكار‭ ‬ومعتقدات‭ ‬ومشاعر‭ ‬وجدانية‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬أصوات‭ ‬شخصياته‭ ‬الرئيسة‭ ‬والثانوية‭. ‬

 

صوت‭ ‬المرأة‭ ‬

تطرّق‭ ‬الخزنة‭ ‬في‭ ‬روايته‭ ‬للمرأة‭ ‬إلى‭ ‬نماذج‭ ‬مختلفة،‭ ‬نذكر‭ ‬منها‭ ‬خزنة،‭ ‬التي‭ ‬تمثّل‭ ‬في‭ ‬الرواية‭ ‬صوت‭ ‬المرأة‭ ‬ومعاناتها،‭ ‬واحتمالها،‭ ‬وصبرها‭ ‬وقوتها،‭ ‬فخزنة‭ ‬هي‭ ‬صوت‭ ‬المرأة‭ ‬القوية‭ ‬في‭ ‬الرواية،‭ ‬والتي‭ ‬تحمّلت‭ ‬وواجهت‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬فراق‭ ‬وفقد‭ ‬وتحمُّل‭ ‬مسؤولية‭ ‬الآخرين‭ ‬وتفقّد‭ ‬أحوال‭ ‬الكل،‭ ‬وهي‭ ‬طوق‭ ‬الأمان‭ ‬التي‭ ‬تنشر‭ ‬الحب‭ ‬والطمأنينة‭ ‬في‭ ‬قلوب‭ ‬الجميع،‭ ‬وخاصة‭ ‬النساء‭ ‬تمامًا‭ ‬كما‭ ‬ينشر‭ ‬الياسمين‭ ‬عبق‭ ‬رائحته‭ ‬في‭ ‬أرجاء‭ ‬المكان،‭ ‬وفي‭ ‬مقابلها‭ ‬حليمة‭ ‬نموذج‭ ‬للمرأة‭ ‬المقهورة،‭ ‬المقموعة‭ ‬التي‭ ‬تحملت‭ ‬ذكورية‭ ‬الرجل‭ ‬وظلمه‭ ‬لم‭ ‬تصب‭ ‬حليمة‭ ‬بالجدرين،‭ ‬لكنها‭ ‬أصبحت‭ ‬ضحية‭ ‬مضاعفة‭ ‬له،‭ ‬يتيمة‭ ‬ومطلقة‭ ‬وأرملة‭ ‬تعيل‭ ‬يتيمين،‭ ‬وهي‭ ‬لم‭ ‬تتجاوز‭ ‬الستة‭ ‬عشر‭ ‬ربيعًا‭ ‬من‭ ‬عمرها‭. ‬

 

بين‭ ‬روايتين

يقول‭ ‬رولان‭ ‬بارت‭ ‬إن‭ ‬الكتاب‭ ‬الأصيل‭ ‬الأوحد‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬الأدب‭ ‬ليس‭ ‬إلّا‭ ‬أبونا‭ ‬آدم‭ ‬

 

لا‭ ‬أحد‭ ‬يسرق‭ ‬خيالك‭ / ‬المحروس‭ ‬

استثمرت‭ ‬في‭ ‬الرواية‭ ‬تدوينات‭ ‬لتراث‭ ‬عائلتي،‭ ‬سعيد‭ ‬لأن‭ ‬قصة‭ ‬جدتي‭ ‬خزنة‭ ‬وأبيها‭ ‬علي‭ ‬بن‭ ‬غانم‭ ‬والحجر‭ ‬الرخامي‭ ‬قد‭ ‬خلدت‭ ‬بعملين‭ ‬فنيين‭ ‬ربما‭ ‬تساهم‭ ‬في‭ ‬رسوخ‭ ‬هذه‭ ‬الحادثة‭ ‬في‭ ‬العقل‭ ‬الجمعي‭ ‬أو‭ ‬الذاكرة‭ ‬الوطنية‭ (‬عمار‭ ‬الخزنة‭).  ‬كثيرة‭ ‬هي‭ ‬القصص‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الحياة،‭ ‬تروى‭ ‬أو‭ ‬تكتب‭ ‬على‭ ‬ألسنة‭ ‬الكتّاب‭ ‬كل‭ ‬بطريقته،‭ ‬عند‭ ‬قراءتي‭ ‬لكتاب‭ ‬مهاجر‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬الجدري‭ ‬كانت‭ ‬الذاكرة‭ ‬تأخذني‭ ‬لسؤال‭ ‬يستفز‭ ‬ذاكرتي‭: ‬أين‭ ‬مرت‭ ‬عليّ‭ ‬هذه‭ ‬القصة؟‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬الوقت‭ ‬طويلًا‭ ‬حين‭ ‬قفزت‭ ‬رواية‭ ‬سِماهوي‭ ‬تعلن‭ ‬انتصار‭ ‬الذاكرة،‭ ‬ولمزيد‭ ‬من‭ ‬التأكد،‭ ‬بعثت‭ ‬برسالة‭ ‬لإحدى‭ ‬صديقاتي‭ ‬مفادها،‭ ‬هل‭ ‬ذكّرتك‭ ‬هذه‭ ‬الرواية‭ ‬بشيء‭ ‬ما؟‭ ‬فكانت‭ ‬إجابتها‭ ‬بنعم،‭ ‬إحدى‭ ‬روايات‭ ‬المحروس،‭ ‬حينها‭ ‬تيقنت‭ ‬من‭ ‬ظنوني،‭ ‬ولمزيد‭ ‬من‭ ‬التأكد‭ ‬ركضت‭ ‬للمكتبة‭ ‬وفتحت‭ ‬‮«‬سِماهوي‮»‬،‭ ‬وبدأت‭ ‬في‭ ‬القراءة‭ ‬لأقف‭ ‬مذهولة،‭ ‬إنها‭ ‬نفس‭ ‬القصة،‭ ‬نفس‭ ‬الأسماء،‭ ‬نفس‭ ‬المكان،‭ ‬نفس‭ ‬الزمان،‭ ‬تشابه‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬الأحداث‭.  ‬أول‭ ‬ما‭ ‬خطر‭ ‬ببالي‭ ‬هذه‭ ‬الكلمة‭ ‬‮«‬سرقة‭ ‬أدبية‮»‬،‭ ‬وظننت‭ - ‬وإنّ‭ ‬بعض‭ ‬الظن‭ ‬إثم‭ - ‬أن‭ ‬د‭. ‬عمار‭ ‬قد‭ ‬سرق‭ ‬فكرة‭ ‬المحروس‭ ‬وأعاد‭ ‬كتابتها‭ ‬بشكل‭ ‬مختلف‭ ‬قليلًا،‭ ‬خاصة‭ ‬أن‭ ‬المحروس‭ ‬أصدر‭ ‬روايته‭ ‬قبل‭ ‬الخزنة،‭ ‬لكنني‭ ‬عدت‭ ‬إلى‭ ‬مقدمة‭ ‬رواية‭ ‬الخزنة،‭ ‬فوجدت‭ ‬أنه‭ ‬بدأ‭ ‬بكتابة‭ ‬روايته‭ ‬عام‭ ‬2014‭. ‬

ولأنه‭ ‬من‭ ‬حقنا‭ ‬كقراء،‭ ‬حين‭ ‬نقرأ‭ ‬عملين‭ ‬متشابهين‭ ‬في‭ ‬القصة،‭ ‬أن‭ ‬نطرح‭ ‬الأسئلة‭ ‬ونحاول‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬إجابة‭ ‬شافية،‭ ‬ولأني‭ ‬أعرف‭ ‬الكاتبين،‭ ‬فقد‭ ‬كتبت‭ ‬للمحروس‭ ‬مستفسرة،‭ ‬فأطلق‭ ‬ضحكته،‭ ‬وهي‭ ‬طبعًا‭ ‬غير‭ ‬كافية‭ ‬لي،‭ ‬ودار‭ ‬بيني‭ ‬وبينه‭ ‬حوار‭ ‬بسيط،‭ ‬مفاده‭ ‬أنه‭ ‬عرف‭ ‬بالقصة‭ ‬من‭ ‬عائلة‭ ‬د‭. ‬عمار،‭ ‬والبقية‭ ‬من‭ ‬البحث‭ ‬ومن‭ ‬صور‭ ‬فوتوغرافية‭ ‬وخرائط‭ ‬أيضًا،‭ ‬ونفى‭ ‬نفيًا‭ ‬تامًا‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬أحد‭ ‬قد‭ ‬سرق‭ ‬روايته،‭ ‬مؤكدًا‭ ‬أن‭ ‬د‭. ‬عمار‭ ‬كتب‭ ‬قصة‭ ‬عائلته،‭ ‬وبأننا‭ ‬لا‭ ‬نستطيع‭ ‬منع‭ ‬شخص‭ ‬يريد‭ ‬الكتابة‭ ‬عن‭ ‬قصة‭ ‬ما،‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬صدرت‭ ‬فيها‭ ‬وعنها‭ ‬وبها‭ ‬روايات،‭ ‬فما‭ ‬بالك‭ ‬بمن‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬يوثّق‭ ‬تاريخ‭ ‬عائلته،‭ ‬وأن‭ ‬الكتابة‭ ‬حق‭ ‬مشروع‭ ‬للجميع؟‭ ‬فلكل‭ ‬كاتب‭ ‬أسلوبه‭ ‬وطريقته،‭ ‬مرددًا‭ ‬جملته‭ ‬‮«‬لا‭ ‬أحد‭ ‬يسرق‭ ‬خيالك‮»‬‭.  ‬أخبرته‭ ‬بأنني‭ ‬سأكتب‭ ‬عن‭ ‬الروايتين،‭ ‬وبأنني‭ ‬قد‭ ‬أحتاج‭ ‬إلى‭ ‬بعض‭ ‬الإجابات‭ ‬عمّا‭ ‬يستجد‭ ‬من‭ ‬أسئلة،‭ ‬فاعتذر‭ ‬منّي‭ ‬بأنه‭ ‬لا‭ ‬يريد‭ ‬التدخل‭ ‬فيما‭ ‬سأكتب،‭ ‬وبأني‭ ‬حرّة‭ ‬في‭ ‬كتابة‭ ‬ما‭ ‬أريد‭.  ‬في‭ ‬المقابل‭ ‬كان‭ ‬كلامي‭ ‬مع‭ ‬د‭. ‬الخزنة،‭ ‬سألته‭ ‬عن‭ ‬التشابه‭ ‬بين‭ ‬روايته‭ ‬‮«‬مهاجر‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬الجدري‮»‬‭ ‬ورواية‭ ‬حسين‭ ‬المحروس‭ ‬‮«‬سِماهوي‮»‬،‭ ‬فأجابني‭ ‬متفضلاً‭ ‬بالتالي‭:‬

أهلًا‭ ‬وسهلًا

وصبحك‭ ‬الله‭ ‬بالخير‭ ‬بتوقيت‭ ‬البحرين‭.‬

ملاحظة‭ ‬قيّمة‭. ‬ولهذا‭ ‬التشابه‭ ‬قصة‭ ‬يعرفها‭ ‬البعض‭: ‬البداية‭ ‬كانت‭ ‬بتاريخ‭ ‬10‭ ‬مارس‭ ‬2014‭ ‬حين‭ ‬شاركتُ‭ ‬الأصدقاء‭ ‬بشيء‭ ‬من‭ ‬قصة‭ ‬جدتي‭ ‬خزنة‭ ‬وهجرة‭ ‬أبيها‭ ‬بن‭ ‬غانم‭ ‬والحجر‭ ‬الرخامي‭ ‬على‭ ‬صفحة‭ ‬د‭. ‬علي‭ ‬الديري‭.  ‬يومها‭ ‬تواصل‭ ‬معي‭ ‬الصديق‭ ‬المحروس‭ ‬مبديًا‭ ‬إعجابه‭ ‬بالقصة‭ ‬التي‭ ‬ورثتها‭ ‬عن‭ ‬جدي،‭ ‬لأن‭ ‬المحروس‭ ‬كان‭ ‬لديه‭ ‬مشروع‭ ‬ثقافي‭ ‬حول‭ ‬النساء‭ ‬البارزات‭ ‬في‭ ‬القرى‭. ‬وعلى‭ ‬مدى‭ ‬عدة‭ ‬أشهر‭ ‬نسقت‭ ‬له‭ ‬لقاءات‭ ‬وزيارات‭ ‬مع‭ ‬والدي‭ ‬وكبار‭ ‬العائلة،‭ ‬وقام‭ ‬بزيارات‭ ‬لموقع‭ ‬بيت‭ ‬خزنة‭ ‬وغيرها‭. ‬والصديق‭ ‬المحروس‭ ‬له‭ ‬ولعٌ‭ ‬خاص‭ - ‬كما‭ ‬تعلمين‭ - ‬بالتراث‭ ‬والتصوير‭ ‬والسير،‭ ‬وعلى‭ ‬مدى‭ ‬السنوات‭ ‬الثلاث‭ ‬اللاحقة‭ ‬كان‭ ‬كل‭ ‬منّا‭ ‬يستثمر‭ ‬هذه‭ ‬البذرة‭ ‬السردية‭ ‬على‭ ‬طريقته‭. ‬هو‭ ‬بخبرة‭ ‬حفره‭ ‬في‭ ‬السِّيَر‭ ‬وأسلوبه‭ ‬التصويري‭ ‬الجميل‭ ‬كتب‭ ‬‮«‬سماهوي‮»‬،‭ ‬متكئًا‭ ‬على‭ ‬قصة‭ ‬خزنة‭.‬

وعلى‭ ‬الجانب‭ ‬الآخر،‭ ‬كان‭ ‬لي‭ ‬مشروعي‭ ‬التدويني‭ ‬لتراث‭ ‬عائلتي،‭ ‬الذي‭ ‬بدأته‭ ‬بعمر‭ ‬11‭ ‬عامًا،‭ ‬لكن‭ ‬لم‭ ‬أكمله‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬ثلاثين‭ ‬عامًا‭ ‬تقريبًا،‭ ‬حين‭ ‬كتبت‭ ‬روايتي‭ ‬بين‭ ‬زحمة‭ ‬الدراسة‭ ‬والتخصص‭ ‬والمهجر‭. ‬الرواية‭ ‬التي‭ ‬استثمرت‭ ‬تدويناته‭ ‬لتراث‭ ‬عائلتي‭ ‬التي‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬هي‭ ‬تراث‭ ‬يشترك‭ ‬فيه‭ ‬جلّ‭ ‬أهل‭ ‬البحرين‭. ‬وأزعم‭ ‬أنني‭ ‬حاولت‭ ‬تجسيد‭ ‬معاناة‭ ‬أجدادي،‭ ‬لكوني‭ ‬لصيقًا‭ ‬بهذه‭ ‬التفاصيل‭ ‬بما‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬آمال‭ ‬متكسرة‭ ‬وبلاغة‭ ‬وشعر‭ ‬دوّنته‭ ‬من‭ ‬لسان‭ ‬جدي‭ ‬مباشرة‭. ‬وآمل‭ ‬أن‭ ‬كوني‭ ‬طبيبًا‭ ‬أعطاني‭ ‬بُعدًا‭ ‬سرديًا‭ ‬آخر‭ ‬في‭ ‬تناول‭ ‬التحديات‭ ‬الصحية،‭ ‬مثل‭ ‬معاناة‭ ‬الجُدري‭ ‬والولادة‭ ‬المتعسرة،‭ ‬وغيرها‭.‬

لست‭ ‬هنا‭ ‬بصدد‭ ‬كتابة‭ ‬مفاضلة‭ ‬بين‭ ‬الروايتين،‭ ‬فلكل‭ ‬رواية‭ ‬نكهتها‭ ‬الخاصة،‭ ‬ولن‭ ‬أقوم‭ ‬بتفكيك‭ ‬العمل‭ ‬الروائي‭ ‬حسب‭ ‬ما‭ ‬يتطلّبه‭ ‬بناء‭ ‬الرواية‭ ‬من‭ ‬سرد‭ ‬وزمكان‭ ‬وشخوص‭ ‬وأحداث،‭ ‬لكن،‭ ‬كقارئة،‭ ‬هالني‭ ‬كمّ‭ ‬التشابه‭ ‬في‭ ‬الأحداث‭ ‬بين‭ ‬الروايتين،‭ ‬وإن‭ ‬اختلف‭ ‬الأسلوب،‭ ‬وأنا‭ ‬أقرأ‭ ‬الروايتين‭ ‬كنت‭ ‬أشعر‭ ‬بأن‭ ‬إحداهما‭ ‬تكمل‭ ‬الأخرى،‭ ‬وبأنهما‭ ‬جسد‭ ‬واحد؛‭ ‬لكن‭ ‬بلغتين‭ ‬مختلفتين،‭ ‬وأقصد‭ ‬بذلك‭ ‬الأسلوب،‭ ‬ومردُّ‭ ‬هذا‭ ‬التشابه‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬الروايتين‭ ‬بُنيتا‭ ‬على‭ ‬قصة‭ ‬واقعية‭ ‬احتفظ‭ ‬الكاتبان‭ ‬فيها‭ ‬بنفس‭ ‬الأسماء‭ ‬وأسماء‭ ‬بعض‭ ‬الأماكن،‭ ‬وكذلك‭ ‬بعض‭ ‬الأحداث،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬كلّا‭ ‬منهما‭ ‬اعتمد‭ ‬على‭ ‬المخطوطات‭ ‬والصور‭ ‬والخرائط‭.‬

فالمحروس‭ ‬بحسّه‭ ‬الروائي‭ ‬والفوتوغرافي‭ ‬وكصياد‭ ‬ماهر‭ ‬في‭ ‬اصطياد‭ ‬الحكايا‭ ‬والسّيَر،‭ ‬وبقدرته‭ ‬اللغوية‭ ‬المتميزة،‭ ‬غاص‭ ‬فيها‭ ‬كثيرًا‭ ‬وكثّف‭ ‬بلاغته‭ ‬المميزة،‭ ‬وحاك‭ ‬روايته‭ ‬ببناء‭ ‬سردي‭ ‬مُحكم‭ ‬طغت‭ ‬فيه‭ ‬اللغة،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬المصور‭ ‬الفوتوغرافي‭ ‬بداخله‭ ‬الذي‭ ‬يرى‭ ‬في‭ ‬الصورة‭ ‬نصًّا‭ ‬وفي‭ ‬النص‭ ‬صورة‭ ‬أسهب‭ ‬في‭ ‬الوصف،‭ ‬وتركنا‭ ‬أمام‭ ‬صور‭ ‬رائعة‭. ‬ود‭. ‬عمار‭ ‬بحث‭ ‬في‭ ‬كتب‭ ‬المستشرقين‭ ‬وفي‭ ‬تقارير‭ ‬الإرساليات‭ ‬التبشيرية‭ ‬وتقارير‭ ‬البعثات‭ ‬العسكرية‭ ‬البريطانية،‭ ‬وتواصل‭ ‬مع‭ ‬كنيسة‭ ‬الأمل‭ ‬في‭ ‬بنسلفانيا،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬دوّنه‭ ‬من‭ ‬جده‭ ‬وبما‭ ‬يمتلك‭ ‬من‭ ‬وثائق،‭ ‬وهو‭ ‬يمتلك‭ ‬أسلوبًا‭ ‬رشيقًا‭ ‬يجعلك‭ ‬تقفز‭ ‬معه‭ ‬من‭ ‬سطر‭ ‬لسطر،‭ ‬ولغة‭ ‬رصينة‭ ‬تتماشى‭ ‬مع‭ ‬السرد،‭ ‬فلا‭ ‬اللغة‭ ‬تطغى‭ ‬على‭ ‬السرد،‭ ‬ولا‭ ‬السرد‭ ‬يظلم‭ ‬اللغة‭. ‬‮«‬أول‭ ‬الدرس‭ ‬النعناع،‭ ‬ينمو‭ ‬من‭ ‬أية‭ ‬جهة‭ ‬وفي‭ ‬أي‭ ‬جهة،‭ ‬لا‭ ‬بداية‭ ‬له‭ ‬ولا‭ ‬نهاية،‭ ‬كلما‭ ‬تعرّض‭ ‬لقطع‭ ‬استقل‭ ‬نبتة‭ ‬جديدة‮»‬‭.‬

 

المحروس‭ ‬

كل‭ ‬السمك؛‭ ‬كباره‭ ‬وصغاره‭ ‬يموت‭ ‬بصمت،‭ ‬إلّا‭ ‬الزمرور،‭ ‬لم‭ ‬يمنعه‭ ‬صغر‭ ‬حجمه‭ ‬ولا‭ ‬قلّة‭ ‬شأنه‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يعلم‭ ‬قاتله‭ ‬أنه‭ ‬لن‭ ‬يموت‭ ‬بصمت،‭ ‬فهو‭ ‬يملأ‭ ‬المسامع‭ ‬بمعزوفة‭ ‬الموت‭ ‬وفجيعة‭ ‬الفراق،‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬ذلك‭ ‬ليغيّر‭ ‬أنه‭ ‬ميت‭ ‬لا‭ ‬محالة،‭ ‬لكنه‭ ‬يأبى‭ ‬إلّا‭ ‬أن‭ ‬يعكر‭ ‬صفو‭ ‬قاتله،‭ ‬ولو‭ ‬بصوت‭ ‬خافت‭ ‬■