«ذات الرداء الأحمر» الحكاية و«مفتاح» سعاد مردم بك

«ذات الرداء الأحمر» الحكاية و«مفتاح» سعاد مردم بك

 مَن منّا لم يستمع ذات يوم لحكاية «ذات الرداء الأحمر»؟ تلك الحكاية الخُرافية التي جرت على لسان جدّات وأمهات العالم، تأثرًا بحكاية شارل بيرو، التي تجاوزت حدودها الفرنسية، لتصل إلى مسامع العالم بنُسخها ورواياتها المحلية المتنوعة، فألفناها في العالم العربي بعنوان «ليلى والذئب»، أو «ليلى والذيب»، وحتى اليوم لا تزال حكاية الذئب الغدّار - الذي استغل براءة الطفلة الصغيرة وتعقّبها إلى منزل جدتها حتى التهمها - تُضرب كأمثولة حكائية للحذر والحيطة، مُستدعية معها الكثير من نوستالجيا الطفولة وعالمها المدهش.

وفي‭ ‬معرضها‭ ‬الجديد‭ ‬هذا‭ ‬العام‭ ‬بعنوان‭ ‬‮«‬نسيت‭ ‬المفتاح‮»‬،‭ ‬تتلمس‭ ‬الفنانة‭ ‬السورية‭ ‬سعاد‭ ‬مردم‭ ‬بك‭ ‬عالم‭ ‬‮«‬ليلى‭ ‬والذئب‮»‬،‭ ‬لتجعلها‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬بطلات‭ ‬معرضها‭ ‬التشكيلي‭ ‬الذي‭ ‬استضافه‭ ‬غاليري‭ ‬‮«‬الزمالك‭ ‬للفن‮»‬‭ ‬بالقاهرة‭ ‬مع‭ ‬مطلع‭ ‬العام‭ ‬الجديد،‭ ‬حيث‭ ‬تلفت‭ ‬أنظار‭ ‬الزوّار‭ ‬لوحة‭ ‬بارزة‭ ‬لفتاة‭ ‬بالغة‭ ‬الصِغر‭ ‬تتشح‭ ‬برداء‭ ‬أحمر،‭ ‬وتقود‭ ‬ذئبًا‭ ‬ضخمًا،‭ ‬ويبدو‭ ‬أنها‭ ‬هي‭ ‬من‭ ‬تتولى‭ ‬دفّة‭ ‬الأمور،‭ ‬بلا‭ ‬خوف،‭ ‬ولا‭ ‬مكيدة‭ ‬مُنتظرة،‭ ‬وكأن‭ ‬سعاد‭ ‬مردم‭ ‬بك‭ ‬قررت‭ ‬أن‭ ‬تجعل‭ ‬للنهاية‭ ‬المأساوية‭ ‬وجهًا‭ ‬آخر،‭ ‬وأن‭ ‬تُصالح‭ ‬‮«‬ليلى‮»‬‭ ‬على‭ ‬العالم،‭ ‬الذي‭ ‬تبحث‭ ‬في‭ ‬معرضها‭ ‬عن‭ ‬مفاتيح‭ ‬لفهم‭ ‬غموضه‭ ‬وبـؤســه،‭ ‬فــتستـضـيف‭ ‬‮«‬ذات‭ ‬الــرداء‭ ‬الأحـمر‮»‬‭ ‬ضيفة‭ ‬شرف‭ ‬لعالمها‭ ‬التشكيلي،‭ ‬الذي‭ ‬يضم‭ ‬كذلك‭ ‬لوحات‭ ‬أخرى‭ ‬لفتيات‭ ‬صغيرات،‭ ‬وكأنهن‭ ‬في‭ ‬مهمة‭ ‬تنقيب‭ ‬عن‭ ‬‮«‬المفتاح‭ ‬المنسي‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬نسجت‭ ‬سعاد‭ ‬مردم‭ ‬بك‭ ‬حوله‭ ‬حكاياتها‭ ‬البصرية‭ ‬في‭ ‬محاولة‭ ‬لاسترجاعه،‭ ‬فالحقول‭ ‬والأشجار‭ ‬والأزهار‭ ‬تفيض‭ ‬بجمالياتها‭ ‬في‭ ‬أفق‭ ‬اللوحات،‭ ‬إلّا‭ ‬أن‭ ‬غياب‭ ‬ذلك‭ ‬المفتاح‭ ‬يُضعف‭ ‬من‭ ‬وهجها،‭ ‬فغيابه‭ ‬بالنسبة‭ ‬لسعاد‭ ‬مردم‭ ‬بك‭ ‬يُحيل‭ ‬للشعور‭ ‬بعدم‭ ‬الأمان‭ ‬الذي‭ ‬يُغلف‭ ‬الحياة‭ ‬ويومياتها،‭ ‬وكأن‭ ‬تعبير‭ ‬‮«‬نسيت‭ ‬المفتاح‮»‬‭ ‬مُراد‭ ‬به‭ ‬تصدير‭ ‬حالة‭ ‬الخوف‭ ‬التي‭ ‬تُرافق‭ ‬مشاعر‭ ‬فقد‭ ‬المفتاح‭ ‬أو‭ ‬فقد‭ ‬البوصلة،‭ ‬إلّا‭ ‬أن‭ ‬الأمل‭ ‬في‭ ‬وجوده‭ ‬من‭ ‬جديد‭ ‬يظل‭ ‬قائمًا،‭ ‬حاضرًا‭ ‬في‭ ‬مكان‭ ‬ما،‭ ‬يُطل‭ ‬ربما‭ ‬على‭ ‬استحياء،‭ ‬لكنه‭ ‬دائمًا‭ ‬موجود‭.‬

 

‮«‬لِعب‭ ‬بلا‭ ‬ألعاب‮»‬

وطالما‭ ‬يشغل‭ ‬سؤال‭ ‬الطفولة‭ ‬سعاد‭ ‬مردم‭ ‬بك،‭ ‬حتى‭ ‬أنها‭ ‬خصصت‭ ‬له‭ ‬أحد‭ ‬أبرز‭ ‬معارضها‭ ‬الفنية‭ ‬قبل‭ ‬عدة‭ ‬أعوام،‭ ‬وأطلقت‭ ‬عليه‭ ‬‮«‬لِعب‭ ‬بلا‭ ‬ألعاب‮»‬،‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬أقرب‭ ‬لمرثية‭ ‬فنية‭ ‬لأطفال‭ ‬سورية‭ ‬الذين‭ ‬حُرموا‭ ‬من‭ ‬الألعاب‭ ‬في‭ ‬أعقاب‭ ‬الحرب،‭ ‬فهي‭ ‬تبحث‭ ‬دائمًا‭ ‬عن‭ ‬مساحات‭ ‬الحياة‭ ‬المُتقلصة‭ ‬باستمرار‭ ‬أمام‭ ‬التحوّلات‭ ‬التي‭ ‬تعصف‭ ‬بمصير‭ ‬الإنسان؛‭ ‬سواء‭ ‬في‭ ‬الحرب،‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬‮«‬كورونا‮»‬‭ ‬التي‭ ‬رسمت‭ ‬لوحات‭ ‬معرضها‭ ‬الجديد‭ ‬خلال‭ ‬أيام‭ ‬الحظر‭ ‬والقلق‭ ‬المرتبطة‭ ‬به‭. ‬وينعكس‭ ‬هذا‭ ‬القلق‭ ‬على‭ ‬أصداء‭ ‬مفردات‭ ‬المعرض،‭ ‬سواء‭ ‬مفرداته‭ ‬الاستعارية‭ ‬كالمفاتيح،‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬يتم‭ ‬تصويرها‭ ‬بشكل‭ ‬مباشر‭ ‬في‭ ‬اللوحات،‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬مفردات‭ ‬أخرى‭ ‬كزهور‭ ‬عباد‭ ‬الشمس‭ ‬التي‭ ‬رسمتها‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬حال‭ ‬الإزهار‭ ‬والذبول،‭ ‬بين‭ ‬الأصفر‭ ‬المُفعم‭ ‬بالحيوية‭ ‬ومراحل‭ ‬الأسود‭ ‬الكئيب،‭ ‬جاعلة‭ ‬بينهما‭ ‬مفاتيح‭ ‬مفقودة،‭ ‬كما‭ ‬ترسم‭ ‬شجرة‭ ‬زيتون‭ ‬راسخة‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أوراق‭ ‬أو‭ ‬ثمار‭ ‬زيتون،‭ ‬وكأن‭ ‬رسالتها‭ ‬ورمزية‭ ‬السلام‭ ‬التي‭ ‬تحملها‭ ‬غير‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬الاكتمال،‭ ‬يدعمها‭ ‬استعانتها‭ ‬بالدرجات‭ ‬اللونية‭ ‬الغائمة‭ ‬التي‭ ‬تسود‭ ‬اللوحات،‭ ‬وكأنها‭ ‬على‭ ‬وشك‭ ‬نهار‭ ‬آتٍ،‭ ‬أو‭ ‬مرجو‭ ‬على‭ ‬الأقل،‭ ‬كأيام‭ ‬‮«‬كورونا‮»‬‭ ‬التي‭ ‬تقول‭ ‬الفنانة‭ ‬إنها‭ ‬لانهائية‭ ‬التساؤلات،‭ ‬باحثة‭ ‬عن‭ ‬إجابات‭ ‬مُنجية‭ ‬تمامًا‭ ‬كما‭ ‬‮«‬المفتاح‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬نسيته،‭ ‬وتبحث‭ ‬عنه‭.‬

 

تجارب‭ ‬واسعة

لا‭ ‬تبرح‭ ‬الفلسفة‭ ‬وتأملاتها‭ ‬موضوعات‭ ‬المعارض‭ ‬الفنية‭ ‬التي‭ ‬تقدّمها‭ ‬الفنانة‭ ‬سعاد‭ ‬مردم‭ ‬بك،‭ ‬وقد‭ ‬درست‭ ‬الفلسفة‭ ‬والفن‭ ‬بالجامعة‭ ‬اللبنانية‭ ‬في‭ ‬بيروت‭ ‬التي‭ ‬قضت‭ ‬بها‭ ‬كذلك‭ ‬فترة‭ ‬طفولتها،‭ ‬وهي‭ ‬من‭ ‬مواليد‭ ‬دمشق،‭ ‬وتُقيم‭ ‬فتراتها‭ ‬الأطول‭ ‬في‭ ‬العاصمة‭ ‬المصرية،‭ ‬ولها‭ ‬تجارب‭ ‬واسعة‭ ‬في‭ ‬المعارض‭ ‬الفنية‭ ‬التي‭ ‬تمتد‭ ‬بين‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬العواصم؛‭ ‬منها‭ ‬دمشق‭ ‬وبيروت‭ ‬والكويت‭ ‬والقاهرة‭ ‬وباريس‭ ‬وحتى‭ ‬واشنطن‭ ‬ومونتريال‭.‬

ولعل‭ ‬الأسلوب‭ ‬الفني‭ ‬الذي‭ ‬يُميز‭ ‬أعمال‭ ‬الفنانة‭ ‬السورية‭ ‬يستعيض‭ ‬عن‭ ‬الأماكن‭ ‬بفضاءات‭ ‬تخصّ‭ ‬أبطالها‭ ‬وحدهم،‭ ‬تستعير‭ ‬من‭ ‬الأساطير‭ ‬القديمة‭ ‬وجوهًا‭ ‬قديمة،‭ ‬بمسحات‭ ‬تجريدية‭ ‬أحيانًا،‭ ‬تحدّها‭ ‬موتيفات‭ ‬من‭ ‬الطبيعة‭ ‬وزخارفها‭ ‬النباتية،‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬تمنحها‭ ‬عينًا‭ ‬إضافية‭ ‬في‭ ‬محاولتها‭ ‬الفنية‭ ‬الدائمة‭ ‬لاستكشاف‭ ‬الذات‭ ‬وأعماقها،‭ ‬تلتمس‭ ‬الإجابات‭ ‬خارجها،‭ ‬أو‭ ‬كما‭ ‬تفعل‭ ‬في‭ ‬معرضها‭ ‬الجديد‭ ‬بمحاولة‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬المفاتيح،‭ ‬والتفتيش‭ ‬عن‭ ‬بوابات‭ ‬السلام‭ ‬الداخلي‭. ‬تقول‭ ‬سعاد‭ ‬مردم‭ ‬بك،‭ ‬في‭ ‬كلمة‭ ‬ينقلها‭ ‬عنها‭ ‬غاليري‭ ‬المعرض‭ ‬على‭ ‬موقعه،‭ ‬إن‭ ‬فقدان‭ ‬المفتاح‭ ‬يُلخّص‭ ‬حالة‭ ‬العالم‭ ‬اليوم،‭ ‬وهو‭ ‬يواجه‭ ‬المجهول،‭ ‬ويبدو‭ ‬أنه‭ ‬ينتظر‭ ‬بلا‭ ‬نهاية‭ ‬كانتظار‭ ‬‮«‬جودو‮»‬،‭ ‬الذي‭ ‬أوقع‭ ‬شخصيات‭ ‬صامويل‭ ‬بيكيت‭ ‬في‭ ‬الشَرَك‭ ‬■