المثقّف

المثقّف

هل‭ ‬واجب‭ ‬المثقف‭ ‬تصويرُ‭ ‬المجتمع‭ ‬أو‭ ‬تغييرُه؟‭ ‬لو‭ ‬طرحنا‭ ‬هذا‭ ‬السؤال‭ ‬على‭ ‬الناس‭ ‬لحصلنا‭ ‬على‭ ‬أجوبة‭ ‬فورية‭. ‬فالناس‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مكان‭ ‬يستخدمون‭ ‬المصطلحات‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬تدقيق،‭ ‬ويتحاورون‭ ‬وفي‭ ‬ظن‭ ‬كلّ‭ ‬منهم‭ ‬أن‭ ‬الآخر‭ ‬يفهمه‭ ‬ويدرك‭ ‬قصده‭... ‬ولكن‭ ‬هيهات‭.‬

ما‭ ‬معنى‭ ‬المثقف؟‭ ‬هل‭ ‬هو‭ ‬المشتغل‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬الثقافة؟‭ ‬هل‭ ‬هو‭ ‬مَن‭ ‬حصّل‭ ‬مستوى‭ ‬كافيًا‭ ‬من‭ ‬التعليم؟‭ ‬هل‭ ‬يكفي‭ ‬ليكون‭ ‬الإنسان‭ ‬مثقفًا‭ ‬أنه‭ ‬متعلم،‭ ‬أو‭ ‬أنه‭ ‬إعلامي،‭ ‬أو‭ ‬أنه‭ ‬كاتب‭ ‬مقالة‭ ‬أو‭ ‬شاعر‭ ‬أو‭ ‬روائي‭. ‬بالتأكيد‭ ‬لا‭. ‬

المثقف‭ ‬هو‭ ‬المتعلّم‭ ‬الذي‭ ‬يوظّف‭ ‬علمَه‭ ‬أو‭ ‬قلمه‭ ‬في‭ ‬خدمة‭ ‬مجتمعه،‭ ‬وفي‭ ‬الدفاع‭ ‬عن‭ ‬القيم‭ ‬الإنسانية‭ ‬الإيجابية‭ ‬ونشرها‭. ‬الإنسان‭ ‬الراقي‭ ‬لا‭ ‬يظلم‭ ‬ولا‭ ‬يمارس‭ ‬التمييز‭ ‬العرقي‭ ‬والديني،‭ ‬المثقف‭ ‬يتصدى‭ ‬للظلم‭ ‬والتمييز،‭ ‬ويدافع‭ ‬عن‭ ‬العدالة‭ ‬والمواطنية‭. ‬والدور‭ ‬المطلوب‭ ‬من‭ ‬المثقف‭ ‬يختلف‭ ‬باختلاف‭ ‬المجتمعات‭. ‬فلكل‭ ‬مجتمع‭ ‬واقع‭ ‬اقتصادي‭ ‬وسياسي‭ ‬وثقافي‭ ‬يفرض‭ ‬مقاربات‭ ‬نابعة‭ ‬من‭ ‬داخله‭ ‬لا‭ ‬منقولة‭ ‬من‭ ‬تجارب‭ ‬مجتمعات‭ ‬أخرى‭.‬

أسارع‭ ‬إلى‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬الكثيرين‭ ‬من‭ ‬المتعلمين‭ ‬والمشتغلين‭ ‬بالثقافة‭ ‬نأوا‭ ‬بأنفسهم‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬الدور‭. ‬واكتفى‭ ‬بعضهم‭ ‬بحلّ‭ ‬مشاكل‭ ‬العالم‭ ‬وهو‭ ‬جالس‭ ‬على‭ ‬كنبته‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬المقهى‭ ‬بين‭ ‬صحبه‭. ‬أما‭ ‬المثقفون‭ ‬الملتزمون،‭ ‬فينشغلون‭ ‬برفع‭ ‬مستوى‭ ‬الوعي‭ ‬في‭ ‬مجتمعهم‭. ‬فليس‭ ‬واجبهم‭ ‬تغيير‭ ‬المجتمع،‭ ‬بل‭ ‬إعداد‭ ‬الناس‭ ‬للقيام‭ ‬بهذا‭ ‬التغيير،‭ ‬في‭ ‬الاتجاه‭ ‬الصحيح،‭ ‬وبالوسائل‭ ‬الصحيحة‭.‬

نعرف‭ ‬جميعًا‭ ‬أفرادًا‭ ‬غيّروا‭ ‬حياة‭ ‬ملايين‭ ‬الناس‭: ‬كوبرنيكوس‭ ‬الذي‭ ‬كشف‭ ‬لنا‭ ‬أن‭ ‬الإنسان‭ ‬ليس‭ ‬مركز‭ ‬الكون،‭ ‬وأن‭ ‬كوكب‭ ‬الأرض‭ ‬الذي‭ ‬نعيش‭ ‬عليه‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬سوى‭ ‬نقطة‭ ‬في‭ ‬بحر‭ ‬لا‭ ‬نهاية‭ ‬له‭ ‬من‭ ‬الكواكب‭ ‬والنجوم‭ ‬والمجرّات‭.‬

‭ ‬وداروين‭ ‬الذي‭ ‬بدّل‭ ‬نظرتنا‭ ‬إلى‭ ‬التاريخ،‭ ‬فلم‭ ‬يعد‭ ‬يقتصر‭ ‬على‭ ‬بضعة‭ ‬آلاف‭ ‬من‭ ‬السنين،‭ ‬بل‭ ‬صار‭ ‬متواصلًا‭ ‬مع‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬التاريخ‭ ‬وممتدًا‭ ‬ما‭ ‬يقرب‭ ‬من‭ ‬مليوني‭ ‬سنة،‭ ‬وفرويد‭ ‬الذي‭ ‬كشف‭ ‬وجود‭ ‬اللاوعي‭ ‬ودوره‭ ‬في‭ ‬توجيه‭ ‬سلوك‭ ‬الأفراد‭ ‬وتأثيره‭ ‬في‭ ‬خياراتهم‭ ‬اليومية،‭ ‬ولا‭ ‬ننسى‭ ‬أصحاب‭ ‬الرسالات‭ ‬الدينية،‭ ‬السماوية‭ ‬وغير‭ ‬السماوية،‭ ‬مثل‭ ‬بوذا‭ ‬وكونفوشيوس‭ ‬وغيرهما،‭ ‬وأصحاب‭ ‬العقائد‭ ‬السياسية،‭ ‬مثل‭ ‬كارل‭ ‬ماركس‭.‬

‭ ‬كل‭ ‬هؤلاء‭ ‬العلماء‭ ‬والفلاسفة‭ ‬والمرسَلين‭ ‬الملهَمين‭ ‬كانوا‭ ‬شخصيات‭ ‬استثنائية‭. ‬المثقف‭ ‬الذي‭ ‬نتحدث‭ ‬عنه‭ ‬ليس‭ ‬شخصية‭ ‬استثنائية،‭ ‬بل‭ ‬إنسان‭ ‬يحمل‭ ‬في‭ ‬نفسه‭ ‬روح‭ ‬الخدمة‭ ‬الاجتماعية،‭ ‬ويستخدم‭ ‬علمه‭ ‬وخبرته‭ ‬في‭ ‬توعية‭ ‬الناس،‭ ‬لأنّ‭ ‬الوعي‭ ‬وحده‭ ‬يحمي‭ ‬صاحبه‭ ‬من‭ ‬الاستغلال‭ ‬ويحمي‭ ‬المجتمع‭ ‬من‭ ‬النزاعات‭ ‬ويوجّهه‭ ‬الى‭ ‬مستقبل‭ ‬أفضل‭.‬

في‭ ‬بداية‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬كتب‭ ‬أمين‭ ‬الريحاني‭ ‬كتابًا‭ ‬عن‭ ‬الثورة‭ ‬الفرنسية،‭ ‬مبديًا‭ ‬حماسته‭ ‬لها‭ ‬ولمبادئها،‭ ‬لكنّه‭ ‬أعلن‭ ‬معارضته‭ ‬لقيام‭ ‬ثورة‭ ‬مماثلة‭ ‬في‭ ‬البلاد‭ ‬العربية‭. ‬والسبب‭ ‬الذي‭ ‬رآه‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬الثورة‭ ‬عندنا‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬تتحوّل‭ ‬إلى‭ ‬حرب‭ ‬طائفية‭ ‬أو‭ ‬قبلية‭ ‬تدمّر‭ ‬ولا‭ ‬تغيّر‭. ‬لكنّ‭ ‬الريحاني‭ ‬لم‭ ‬يرفض‭ ‬الثورة‭ ‬السلمية،‭ ‬ثورة‭ ‬الوعي،‭ ‬واعتبر‭ ‬أن‭ ‬الطريق‭ ‬إليها‭ ‬هو‭ ‬بناء‭ ‬المدارس‭ ‬الراقية‭ ‬التي‭ ‬تجمع‭ ‬طلابًا‭ ‬من‭ ‬كلّ‭ ‬فئات‭ ‬المجتمع،‭ ‬صبيانًا‭ ‬وبنات،‭ ‬وتعلّمهم‭ ‬في‭ ‬كتاب‭ ‬واحد‭ ‬هو‭ ‬كتاب‭ ‬التسامح‭ ‬والوطنية‭ ‬والتقدّم‭. ‬وها‭ ‬هي‭ ‬الأيام‭ ‬تؤكّد‭ ‬صحّةَ‭ ‬نظرته‭ ‬بعد‭ ‬قرن‭ ‬من‭ ‬الزمن‭.‬

هل‭ ‬واجب‭ ‬المثقف‭ ‬تصوير‭ ‬المجتمع‭ ‬أو‭ ‬تغييره؟‭ ‬

‭- ‬إن‭ ‬واجب‭ ‬المثقف،‭ ‬في‭ ‬بلادنا،‭ ‬هو‭ ‬توعية‭ ‬المجتمع‭ ‬■