الفلسفة البصرية في اللغة السينمائية مسيرة نضال لا تنتهي

الفلسفة البصرية في اللغة السينمائية مسيرة نضال لا تنتهي

داعب ابن الهيثم فضول وخيال الكثيرين بفكرة الكاميرا، لكنّها ظلت لتسعة قرون هائمة في الملكوت تدير العقول بين فترة وأخرى دون أن تتهادى، حتى خرجت عن إطارها العلمي إلى الفضاء الفني، وإن ظلت مرتبطة بفكرة الثقب الضيق الذي يفصل عين البشري ودنياه عن عالم آخر، بل وأخذت مسماها الكاميرا من أصلها العربي «القمرة»، والغرض الرئيسي منها هو تكثيف الرؤية البصرية، ومن ثم الإحساس بالأشياء، وعظَّم ظهور السينما الحقيقية في نهاية القرن التاسع عشر هذا الهدف قبل أن يقزَّمها الاحتكار.

جعلت السينما لنفسها مفردات شكّلت لغتها الخاصة، والتي ربما تتشابه لفظًا مع نظيرتها المسرحية، لكنها تختلف في معناها وتطبيقها، مثل الإضاءة والراكور والديكور، والمشهد الذي يعدّ أصغر وحدة مسرحية، لكنه يتكون من وحدات سينمائية أصغر وهي اللقطات، ومفردات جديدة كالتصوير والمونتاج والمكساج وغيرها، ونبع هذا الاختلاف من رغبة رواد السينما في التحرر من فضاء المسرح الضيق، والتخلص من كل الضوضاء والمعوقات التي تضعف من قوة الطاقة الحسية بين المؤدي والمتفرج في المسرح، والتي عوّضتها الخشبة بالاحتكاك المباشر بينهما.
تخلصت السينما من معوقات المسرح وأهمها الأصوات، وعمل السينمائيون على تطبيق فكر ابن الهيثم باستخدام التأثير البصري كوسيط لنقل مشاعر المؤدي إلى المشاهد، وهو ما اعتمد كليًا على قدرة الممثل الفائقة على التعبير، والتأثير فيه بصريًا ومن ثم وجدانيًا، وساعده في ذلك تحرّره من حفظ الحوار وتركيزه على موهبته التعبيرية.
ظلت فكرة التأثير البصري التعبيري الوجداني هي الأساس مع تطوّر السينما ولغتها وأدواتها منذ كانت مجرد صور تعبيرية متلاحقة تحكي قصة ما أو تدور حول فكرة في مدة زمنية بدأت قصيرة للغاية لا تتجاوز الدقيقة، وأخذ زمنها السينمائي يزيد مع تطور كاميرات التصوير وقدرات عدساتها، والتحول من تحريك الصور المتتابعة يدويًا - التي بدأت مع ظهور الرسوم المتحركة - إلى التحريك آليًا باستخدام جهاز عرض.
عملت كل آلات العرض على تكثيف الرؤية البصرية، بداية من «عجلة ثومتروب» عام 1824، ثم «فانتاسكوب» و«زويتروب» بعد ذلك، وصولًا إلى «براكسينوسكوب» عام 1869، وهي أول آلة عرض أقرب إلى فكرة السينما المعاصرة، وحقق اختراع كاميرا التصوير السينمائي خلال تسعينيات القرن التاسع عشر أمنية السينمائيين في نقل صورة من الطبيعة بدلًا من المرسومة للناس، وخاصة من يزورون بلدانًا مختلفة، ولا يتسنّى ذلك لغيرهم، ومن ثم اعتبرها البعض وسيلة للتبادل المعرفي بين الحضارات.

منتج علمي ثقافي
بعد سنوات من التجارب المعملية، خرج أول فيلم سينمائي شاهدته البشرية وعنوانه «العمال يتركون مصنع لومييه» للأخوين الفرنسيين لوميير، محققًا رؤية ابن الهيثم البصرية إلى جانب مناقشته لقضية، كما أضاف للسينما جانبًا مميزًا آخر تمثّل في انتقالها إلى موقع الحدث، وبدا واضحًا أن موهبة الممثل، ثم مهارة القيادة لدى المخرج كانا لهما السيطرة، ولا يمكن تقييدهما من قبل صاحب سلطة أو رأسمال.
انتشرت السينما؛ وبدأ معها تنافس شريف بين المواهب حول العالم، ومدارس لكل منها طبيعتها المميزة التي تتشاركها مع غيرها، من الحركة الناعمة الأمريكية إلى الشعورية الفرنسية والتعبيرية الألمانية والمونتاج الروسي وهكذا، وتعاظمت قيمتها عندما شرع الفلاسفة والمفكرون يناقشون لغة الجسد وتعبيرات الوجه وتأثيراتهما النفسية والفكرية في الأفلام السينمائية.
توافرت في هذه الأفلام دائمًا سمة فنية لم تتخلّ عنها، وكانت لكل منها وظيفة تعبيرية ورسائل واضحة لها تأثيرها، فخلالها يدرك المشاهد قيمة العمل ومَن قدّموه له، وكذلك المشاعر والأفكار والقضايا التي يناقشها، ففي الفيلم الألماني «آلام جان دارك» (1928) لجأ مخرجه إلى اللقطات المقرّبة لإبراز القدرات التعبيرية الكبيرة لأبطاله والتي تظلمها اللقطات البعيدة.
وفي الفيلم الأمريكي «أغنية اثنين من البشر» (1927) داعب الخيال الواقع، بممازجة اللقطات التعبيرية الكبيرة بالبانورامية المتحركة، وجسدت وحدات من اللقطات القريبة، تفصلها لقطات متوسطة، مشاعرَ الخوف الإيجابية التي تدفع المشاهد لتجنّب مصادره في الفيلم البولندي «حجرة الدكتور كاليجاري» (1920)، وأسهم التنوع بحرفية بين اللقطات القريبة والبعيدة في خلق أجواء حربية يتعايش معها المشاهد كليًا رغمًا عنه في الفيلم الروسي «سفينة بوتيمكين الحربية» (1925)، وأضافت الموسيقى المناسبة للقدرات التعبيرية الفائقة عمقًا في تأثيرها البصري، ومن ثم الوجداني في فيلم شابلن «أضواء المدينة» (1931).

لفت انتباه وذروة
تطورت السينما كثيرًا في العقدين الثاني والثالث من القرن الماضي، فمن لوحات تتحرّك ببطء وتحتفظ بمفردات المسرح من حيث الفضاء الضيّق والحركة التي تحتاج إلى وقت طويل إلى صور تلتقطها العدسة بسرعة لا تدركها العين، لتبدو أقرب للطبيعة، وهو ما عزّز القدرات التعبيرية التي تمثّل الناقل الوسيط للمشاعر من المؤدين إلى المشاهدين، وأسهمت حرية الحركة بعيدًا عن قيود المسرح في خلق مفردات جديدة.    
جذب نجاح السينما في العقد الأول من القرن العشرين الرأسماليين، ووجدها السياسيون وسيلة فعالة للتأثير في البشر على نطاق واسع وتوجيههم بالإلحاح والتكرار، لكنّهم اصطدموا بموقف الممثلين والمخرجين الذين رفضوا قيود رأس المال، وأبوا أن يخدعوا الجمهور ويفقدوا ثقته واحترامه، لتبدأ معركة لم تنته منذ قرن مضى، وفي خضمّها اختُطفت مدينة السينما الأمريكية «هوليوود»، ومواهبها ممن ضعفوا واستسلموا.
  مثل عام 1926 نقطة فاصلة في الصراع الفكري الثقافي التجاري حول السينما، حيث شهد ذروة النجاح التعبيري والمنافسة التي كانت الموهبة والقدرات الخاصة عامل الحسم فيها، وبات الملايين ينتظرون الأفلام ويتابعونها ويتأثرون بصمتها، ومع هذا التدفق أدرك المنتجون الطامعون في الربح والساسة أهمية البحث عن وسيلة لاحتكار هذه اللغة الواعدة. 
وتضمنت قائمة أفضل 10 أفلام في عام 1926؛ 3 روسية، 2 هوليوودية ومثلها فرنسية وألمانية رسوم متحركة وفيلمًا يابانيًا دون ترتيب، وتبلور خلالها دور المخرج الذي يسخّر كل قدراته ومهاراته في قيادة مجموعة العمل من أجل دعم المؤدي، ليخدما الصورة وتأثيرها البصري، ولتعزيز هذا التأثير استُخدِمت تقنيات جديدة، ومنها المونتاج الذي أدخلته وبرعت فيه المدرسة الروسية، حيث أدركوا قيمته وما يمكن أن يُحدثه في أفلامهم.

متوالية تعبيرية
تجلّى ذلك في فيلم «أم» لفيسفولد بودوفكين الذي حرص على وضع تتابع للمشاهد في متوالية تعبيرية مصممة زمنيًا بدقّة تدعم قدرات الممثلين وتعظّمها، وركّز ليف كوليشوف في فيلمه «بالقانون» على العمل الجماعي مستعينًا بقاعدة الفيلسوف فيكتور شكلوفسكي بأن «الطاقات المدمجة لمجموعة أكبر تأثيرًا من مجموع كل طاقة مفردة»؛ وعكس هذا الفكر طبيعة الثقافة الروسية التي تؤمن بالجماعية على حساب الفردية، فكانت نقطة انطلاق كل ممثل يجدها عند شريكه، لهذا بدت قدراتهم كبيرة وتعبيراتهم مثالية ومؤثرة للغاية، وعمل الروس أيضًا في العديد من أفلامهم على المزج بين عدة موضوعات ذات تأثير متبادل، وكان فيلم «المعطف» لجريجوري كوزينتسيف نموذجًا، حيث جمع فيه بين قصتين قصيرتين ليوري تينيانوف ونيكولاي جوجول.
ضاعف من أهمية عام 1926 كنقطة تحوّل أن ذروة النجاح لم يشارك فيها أيّ من شابلن أو كيتون، لكن عوّضهما هوليووديًا صاحب الإنتاج الغزير هارولد لويد بفيلمي «ابن الأخ»، و«بحق السماء»، حيث أجاد خلالهما مع شريكه المخرج سام تيلور التحكم في الحالة الشعورية باستخدام الحركة، فكانت بطيئة رومانسية وسريعة نسبيًا كوميدية، وجرعات من الإبداع البصري المبتكر، الذي تزيد معه قوة التأثير.
وعززت بعض التجارب من تذوق اللوحات التشكيلية وتأثيرها الوجداني بإضافة الممثل وتعبيراته إليها، ومنها «مناظر خلف الشرفات» الشهيرة التي لم تنجح الأفلام الناطقة في استثمارها واندثرت، كما في الفيلم الألماني «لهذا هي باريس» لآرنست لوبتش، كما خلقت قوة تأثير شديدة للغاية باستخدام اللقطات البعيدة الواضحة التفاصيل والقريبة بسلاسة، وعكست ببراعة الهوية الألمانية وثقافتها كما في فيلم «فاوست» لفريدريك ماورنا، وبصيغة الرسوم المتحركة في فيلم «مغامرات الأمير أحمد», أقدم فيلم عُرف من هذه النوعية, والذي استعان فيه لوتا راينيجر بإحدى قصص ألف ليلة وليلة، وكانت لليابان تجربة بارزة استخدمت فيها بعض مفردات المسرح مثل الأقنعة والظلال في فيلم «صفحة من الجنون» لكينوجاسا تينوسوكي.   
ورغم ضعف الإمكانات والأدوات؛ فإن القدرات العقلية والوعي بالهدف البصري التعبيري والوجداني منح السينمائيين أفكارًا تفوق الخيال، كان أبرزها في الفيلم الأمريكي «المجهول» عام 1927، والقدرة على تجسيد الأجسام العملاقة والقزمة، وغيرها مما طوّرته المدارس السينمائية فيما بعد.

صراع غير متكافئ
رفض روّاد السينما فكرة الصناعة لارتباطها بالمال والآلة على حساب قدرات الإنسان الإبداعية، لكنّهم توجهوا للصناعة بمعناها الحميد، واستخدموا حيلًا ذكية لصنع سحر خاص لا تضاهيه سينما الآلة، ومن أمثلة ذلك بناء هيكل خشبي بأسطح أحد المباني ووضع مرتبة فوقه، ليبدو هارولد لويد معلّقًا بساعة كبيرة أعلى إحدى ناطحات السحاب في فيلم «شوارع المدينة»، ووضع صورة خلف مرآة تنعكس فيبدو معها تشارلي شابلن على وشك السقوط في بهو أسطواني عميق بفيلم «الأزمنة الحديثة»، وغيرها من الحيل البسيطة حسب الغرض منها، لتجعل عيني كولين مور تتحركان بشكل غريب في فيلم «رماد إيلا»، ولتقبل ماري بيكفورد نفسها في فيلم «فونتلوري اللورد الصغير».
أدرك الرأسماليون والساسة بالتعاون مع من فشلت أعمالهم السينمائية، لضعف مواهبهم وقدراتهم؛ أن وسيلتهم الوحيدة لاحتكار السينما والتخلص من سيطرة المواهب وأصحاب القدرات الخاصة تكمن في التشويش عليهم وتحييد مواهبهم بإنطاق الأفلام والاعتماد على التقدم التكنولوجي لخطف الأبصار والتأثير في جمهورها، ولو خلال متابعتهم للفيلم فقط، وانطلقت حملات للتخلص من السينما الصامتة في الولايات المتحدة، والتي واجهها الثلاثي الأشهر وقتها (كيتون وشابلن ولويد) ورفضوا النطق، بل ولم يرحبوا حتى بفكرة بطاقات الحوار، لأنها تسببت في تشتيت المُشاهد.

تأثير سلبي
  رغم أن إمكانية تسجيل الصوت سبقت ظهور السينما بسنوات، فإن روادها لم يرغبوا في اقتران أصوات الشخصيات بالصورة، فأيّ من الأخوين لومير في فرنسا أو الأخوين سكالانوسكي في ألمانيا، أو ويليام فريز جرين في بريطانيا، أو تشارلز فرانسيس جينكيز في الولايات المتحدة، أو تسونيكشي شيباتا في اليابان أو ألفونسو سيجريتو في البرازيل، أو جويل فيري في المكسيك أو كاميلي كيرف في روسيا، أو يوجين بي في الأرجنتين، أو من ساروا على دربهم، مثل رين كينجتاي في الصين أو داداساهيب تورني في الهند، أو تشارلز تايت في أستراليا أو كازيميرز بروزنسكي في بولندا أو محمد كريم في مصر أو رشيد جلال في سورية؛ لم يفكر أو يأمل أن تنطق السينما، لأنّ في هذا تأثيرًا سلبيًا على الرسالة التعبيرية للأفلام.
ولم يكن هذا لعجز في قدرتهم على تركيب الصوت بالصورة، ودللوا على ذلك بإلحاق الموسيقى - وهي مادة صوتية - بالأفلام، وتوظيفها لتعزز المردود البصري التعبيري وتزيد مصداقية العمل وتأثيره الفكري والوجداني، وتركزت غاية التطوير عندهم في زيادة سرعة اللقطات في الثانية، مما يدعم الأداء التعبيري.

رسالة شابلن الأبدية 
استخدم الرأسماليون والساسة وأعوانهم كل الطرق المشروعة وغير المشروعة لبسط سيطرتهم على السينما، وبعد 10 سنوات دانت لهم، ولم يبق سوى شابلن الذي قاوم اليأس بالأمل في الأجيال الجديدة بفيلمه الصامت «الأزمنة الحديثة» عام 1936، وهو يدرك أنه سيكون الأخير له صامتًا، بعدما شعر بأنه يخوض المعركة من أجل السينما وحيدًا، وحاول فيه فضح وحشية الرأسمالية وآلاتها في رسالة حذَّر فيها العالم من سيطرة المال وتدمير كل فن جميل وماتع، وكذلك القضاء على الأخلاقيات والسلوكيات الحميدة وكل ما له قيمة.
لم تترك جهات الإنتاج الرأسمالية أي شيء للمصادفة مطلقًا، فبعد أن منحوه عددًا من الأماكن لعرض فيلمه داخل الولايات المتحدة، قاموا بشراء أكبر قدر من التذاكر حتى لا يسمحوا للجمهور بحضوره، وخاصة الجيل الجديد الذي أخذ يعتاد ما يقدمونه من أفلام ناطقة، إلى جانب إشاعة أن بعض الحفلات أُلغيت، وغيرها من الحيل التي فطن لها شابلن، وأدرك أنه لن يكرر التجربة، رغم أن الفيلم حقق إيرادات تزيد على ضعفي تكلفته.
حتى عندما نطق شابلن كانت غايته أن يؤكد رسالته التاريخية في عباراته الأولى وتعبيراته المتميزة في فيلم «الدكتاتور العظيم» (1940) على لسان هتلر جاء في جزء منها «أنا آسف، لكني لا أريد أن أكون إمبراطورًا، أنا لا أريد أن أحكم أو أغزو أحدًا، أنا أود أن أساعد كل شخص أيًّا كانت عقيدته أو لونه، كلنا نساعد بعضنا البعض، هكذا الإنسانية، لا نريد كراهية أحدنا للآخر في هذا العالم، الحياة يمكن أن تكون جميلة، لكننا فقدنا الطريق، لوّث الطمع والكراهية أرواح الرجال، خطونا كالحمقى نحو إراقة الدماء، طوّرنا السرعة، لكننا جمّدنا أنفسنا، والآلات جعلتنا دون عمل، نفكر كثيرًا ونشعر قليلًا، نحن نحتاج إلى الشفقة والرحمة أكثر من الذكاء، فبدون هذه القيم ستكون حياتنا عنيفة، وسنفقد كل شيء، نحن نحتاج إلى الإنسانية أكثر من الآلات».
ورغم لهاث العقول وراء شكل السينما التي فرضت نفسها بقوة المحتكرين، فإنّ رسالة شابلن وغيره تسللت عبر الزمن، ولم تتمكن منها الممارسات الشاذة، بل والإجرامية أحيانًا، كالتي كشف عنها تقرير مكتبة الكونجرس عام 2013، ومفادها أن شركات هوليوود دمرت نحو 70 في المئة من الأفلام الصامتة كي تندثر، أو هكذا ظنوا.

بعث جديد 
لم يتوقف إنتاج الأفلام الصامتة الطويلة منها والقصيرة، والتي حافظت على جمهورها من جيل لآخر في انتظار فرصة مواتية للعودة، وكانت المفاجأة أن تأتي قوة الدفع المنتظرة من أحد ملوك السينما الناطقة، ألفريد هيتشكوك، قبل رحيله بوصية جاء فيها (مَن يريد أن يدرك السينما الحقيقية عليه بمشاهدة 10 أفلام صامتة واكتساب 10 مهارات، هي «بن هور» الملحمي، و«رجل مع كاميرا» السيطرة على حركة الكاميرا وزواياها، و«صندوق باندورا» كيف تشعر الكاميرا ثم تعبّر عما شعرت به، و«نابليون» منظومة حركية مبتكرة، و«زوجات حمقاوات» خلق صورة جميلة، و«نوسفرتث» رعب، و«أزمنة حديثة» تضحك ثم تفكر وتدرك خطورة الآلة، و«الناس يوم الأحد» التعامل المثالي مع الطبيعة، و«دكتور مابوس المتآمر» إثارة داخلية، و«شروق الشمس» أفضل تجسيد بصري للمشاعر).
دفعت هذه الوصية السينمائيين الشباب والكبار على حد سواء لخوض تجاربهم مع السينما الصامتة والتحدي بعرضها جماهيريًا أو المشاركة بها في المهرجانات الدولية، ومثّلت تجربة الهندي كمال حسن، أحد أهم نجوم السينما التاميلية، في فيلم الكوميديا السوداء «رحلة بوشباكا» (1987) نقطة تحوّل أولى في هذه المرحلة، والتي استتبعتها تجارب عدة تمثّل مدارس من بلدان مختلفة، ومنها أفلام: البولندي «جحا» لأكي كوازيامي عام 1999، المجريان «هوكلي» لجورجي بايفي عام 2002 و«شعار من المخ» لجوي مادين عام 2006، الأسترالي «دكتور بلونك» لرولف دي هير عام 2007، الأمريكي «وول ـ إي» عام 2008 وهو خيالي فضائي من نوعية الرسوم المتحركة، وأخرجه أندرو ستانتون صاحب أفلام «شركة المرعبين المحدودة» و«البحث عن نيمو».

نقطة تحوّل 
حدثت بعد ذلك نقطة تحوّل ثانية فتحت آفاقًا كبيرة مع الفيلم الفرنسي «الفنان» لميشيل هازنافينسيوس عام 2011، الذي حقق جماهيرية كبيرة وقراءات نقدية جيدة، وانحنت له الأكاديمية الأمريكية للسينما، فمنحته خمس جوائز أوسكار في إحدى لحظات التجلي التي لا تتكرر كثيرًا، ووجدته الـ «ديلي ميل» ناقوس خطر على الرأسمالية السينمائية بعد نجاح مخرجه في صنع فيلم أكثر إبهارًا باستغلال التطور التكنولوجي، مع عدم الإخلال بالهوية السينمائية الصامتة وتحقيقه أرباحًا تقترب من 10 أضعاف تكلفته التي لم تتجاوز الـ 15 مليون دولار، وفي الولايات المتحدة ضعف ما حققه في بلاده، وعقّب مخرجه «من لم يخُض هذه التجربة لن يعرف السينما الحقيقية، فيها وجدت نفسي، فهي تجربة حسيّة بالدرجة الأولى، وهي مصدر خطر كبير على أصحاب القدرات التمثيلية الضعيفة، لأن الصمت يكشفهم ويظهر عدم قدرتهم على نقل الأفكار والرؤى عبر الإحساس، تجربة مستحيلة إلا على المبدعين والمبتكرين».
ومن التجارب التي تستحق الاهتمام أيضًا الفيلم الإسباني «بياض الثلج» لبابلو بيرجر عام 2012، والفيلم الأمريكي «الجميع فُقد» لجيه سي شاندور عام 2013 وبطله الحائز جائزة الأوسكار عدة مرات، روبرت ريدفورد، وكان عمره وقتها يناهز الـ 76 عامًا، والذي عقّب بتصريح بليغ ردًا على سؤال «لماذا؟» قائلًا: «كان عليّ أن أخوض ولو تجربة واحدة مع السينما الحقيقية قبل الرحيل بعد سنوات طويلة مع اللا سينما، حيث تتاح لك مساحة وأجواء رائعة لتعبّر عن نفسك».
إلى جانب المغامرات الفردية؛ انطلقت موجات متعددة الاتجاهات لصنع الأفلام الصامتة وجيل من الرواد الجدد الذين يمثّلون مدارس حديثة في السينما، ومنهم الفرنسي باتريك بوكانوسكي، والهندي سينجتام سيرنيفادا راو، والأرجنتيني أوسكار كابيلو، والكندي جاي مدين، والياباني هيروكي موتو، والبولندي الشاب توماز باجينسكي.
وكيانات ترعى هذه الموجات؛ من أهمها مؤسسة «سيث بوستيد» الأمريكية التي استحدثت مصطلح «الكلاسيكية الجديدة»، ومتخصصة منذ تأسيسها عام 2005 في صنع الأفلام الصامتة باستغلال كل المستحدثات للجمع بين القيمة التعبيرية بتأثيرها الفكري والوجداني، وبين الإبهار البصري دون أن يطغى أي منهما على الآخر، ومن أهم أفلامها «يد الموت»، و«قلب العالم»، و«ألف ظهيرة وظهيرة في شيكاغو»، و«حيوانات دائمة الشباب»، وفي احتفالية العشرية الأولى للمؤسسة عام 2015 أصدر سيث بيانًا صحفيًا جاء فيه «لماذا تتعنت جهات الإنتاج والتوزيع تجاه الأفلام الصامتة، رغم وجود جمهور كبير يرغب فيها ويستمتع بها، خصوصًا أن عوامل الجذب تتوافر فيها، وأهمها أنها تثير فضولهم دائمًا؟».

عمل مؤسسي دولي
أسس المصمم الألماني بيت أودولف أيضًا مدرسة السينما الصامتة التابعة لجاليري هاوس رويرث سوميرسيت، ويلتحق بها من تتراوح أعمارهم بين 14و19 عامًا، كما استحدث برنامجًا خاصًا للسينما الصامتة في مدرسة السينما بجامعة جنوب كاليفورنيا، إضافة إلى تجربة الأمريكي كوينتن تارانتينو الرائدة في إعادة الأفلام الناطقة المميزة بمعالجة واسم جديدين، ولكن صامتة، منذ عام 1987، وقد واجه حربًا ضارية بدعوات أنه عنصري تارة، وسطوه على كتابات غيره تارة أخرى، ومن أفلامه «خيال رخيص»، و«جاكي براون»، و«أوغاد مجهولون» و«دجانغو طليقاً».
لمس السينمائيون اليابانيون هذه الحركة الصامتة وأهميتها، ورغبة منهم في المشاركة، أسسوا، عبر جمعية الفيلم لديهم، «مهرجان الفيلم الصامت» عام 2007، الذي بدأ محليًا، ثم اكتسب صفة الدولية بعدما أصبح يشارك فيه 8 دول إلى جانب البلد المضيف، وهي الفلبين، والنمسا، وألمانيا، وإيطاليا، وفرنسا، وإسبانيا، وتايلاند، والولايات المتحدة، وتوافقوا على هدفين رئيسيين، هما «تعزيز الثقافات المحلية ومواجهة الغزو الخارجي» و«التخلص من الضوضاء والشوائب التي تعيق المشاعر عن وجدان الجمهور».
وعبّرت الأفلام المشاركة عن إمكانات كبيرة وواعدة في قوتها التعبيرية ومزج الموسيقى مع طبيعة المكان لخلق تأثير نفسي عميق، والمواءمة بين التراث والواقع لخدمة الفكرة وتعزيز الرسالة، ومن هذه الملامح الإبداعية؛ الموسيقى تؤدي دور الراوي ببراعة في فيلم «الأيام الأخيرة في بومباي». 
  كما جسّدت الأفلام المشاعر المتباينة بدقة، ومنها الخوف والألم في فيلم «سانكستيسيما»، والسعادة والقلق في فيلم «قلب حجري»، والحب والولاء والفراق في فيلم «مطر»، والخوف والتأمل في فيلم «كيل»، والبراءة في فيلم «فينوك». وضُبطت هذه المشاعر بشكل أو بآخر لتشكل الوعي الفكري والثقافي للمتلقي، ورصدت العديد من التقارير أن ما تحمله هذه الأفلام من أفكار ورسائل يرسخ بشدة لدى الجمهور، بخلاف غيرها.

سينما تعبيرية وسيطة
وجد بعض السينمائيين ممن يميلون للأفلام الصامتة أن العودة إليها تبدو عمليًا صعبة للغاية، لما يتطلبه ذلك من تغيير لعادات وسلوكيات الجمهور، وتأثير في الأجيال الجديدة بمعزل عن أسرهم، لهذا وبعيدًا عن المغالاة في الصمت السينمائي وعمّن يتوافقون مع رؤية الفيلسوف الفرنسي جان كوكتو بأن السينما لغتها الصورة المتحركة لا الكلام؛ أسسوا لنوعية أخرى ومصطلح جديد أطلقوا عليه «السينما التعبيرية»، وفيه الثلثان على الأقل للصمت والبقية للكلام، وعمل مبدعو هذه النوعية على اختزال الحوار إلى الحد الأدنى الذي يخدم غرض وفكر وقضية الفيلم.
وحاول المحاضر الأكاديمي دادلي أندرو استنباط العناصر التعبيرية التي ركزت عليها التجارب كتقسيم الفضاء السينمائي لمربّعات بحسب أسبقية رؤية العين، وإبراز ملابس الشخصيات بحسب الأهمية، والمزج التام بين المشاهد الداخلية والخارجية، وتوزيع الإضاءة لتوجيه المُشاهد، وأن يدرك كاتب السيناريو والممثلون هذه العناصر، ويمكنهم التعامل معها بإجادة وسلاسة.
 ووجد دادلي في سلسلة «مملكة الخواتم» نموذجًا تتوافر فيه كل هذه العناصر، كما ارتبطت أفلام تعبيرية أخرى حققت نجاحًا كبيرًا نقديًا وجماهيريًا بمؤدين بارعين، ومنها «آدم» وهيوج دانسي، و«أنا سام» وشين بين، و«هير» وجواكين فونيكس، «جونو» وإلين بايج، و«ماء للأفيال» وريز ويزرسبون.  

مستر بين
لا يمكن إغفال موهبة الأمريكي روان أتكينسون الشهير بمستر بين، الذي فرض على صناع السينما ومخرجيها أداءه التعبيري، وحقق نجاحًا كبيرًا، وأصبح كيانًا سينمائيًا مستقلًا بذاته في كل عمل يشارك فيه، ويشرع في تأسيس مدرسة دولية للسينما التعبيرية، مهمتها البحث حول العالم عن الأكثر موهبة، ولن تمثّل اللغة حائًلا بينهم وبين العالمية.
هكذا وضع أتكينسون وغيره من الروس والألمان واليابانيين أيديهم على حقيقة ما قام به من أنطقوا السينما وسطوهم على «هوليوود»، حيث قللوا من أهمية الموهبة في مقابل العناصر التكنولوجية التي تحتاج إلى ميزانية ضخمة، وبالتالي ضمان السيطرة، وبثّ ما يحلو لهم من رسائل اجتماعية وسياسية موجهة، كما استغلوا سواد اللغة الإنجليزية وأفقدوا أفلام اللغات الأخرى عالميتها، بل وقيمتها محليًا، وأن فرصة مواجهتها للمحتكرين بلغتهم التكنولوجية ضعيفة للغاية.
وعلينا - نحن العرب - التوقف عن اللهاث خلف الأطر الشكلية المزيفة الخالية من أي مضمون، والوعي بأننا لا يمكننا في كل الأحوال مجاراتهم، وإدراك أن قوتنا منذ فجر السينما العربية كانت في قدراتنا التعبيرية، والتنقيب عن المواهب التي يمكنها وحدها أن تتغلب بقوتها التعبيرية وتأثيرها الفكري والوجداني على أي إبهار بصري، ويمكنها أن تصحح المفاهيم وتطرح رؤى اجتماعية وثقافية وسياسية مغايرة، والتعبير عن تراثنا وقيمنا بشكل صحيح دون أن تعوقنا لغة، ولكن علينا أن نفطن أولًا إلى أن للسينما ولغتها البصرية أكثر من 10 وظائف، والترفيه واحدة منها فقط ■

 

الحسن ابن الهيثم

 

لقطات من فيلم "دجانغو طلليقاً"، شارلي شبلن من فيلم الدكتاتور العظيم ١٩٤٠ ،لقطة من فيلم خيال رخيص