جمال العربية فاروق شوشة

جمال العربية

"من كل بستان زهرة"

من قديم، وعلماؤنا العرب يحاولون الكشف عن الصلة الخفية التي تربط بين اللفظ ودلالته، أي الكلمة ومعناها، بسبب اعتـزازهم بلغتهم، وإعجابهم بها، وحرصهم على الكشف عن أسرارها. من أطرف ما ذهب إليه بعضهم - في هذا المجال - أن الكلمة مهما قلبناها على وجوهها المختلفة - المشتقة من جذرها الأصلي - تشتمل على معنى عام مشترك.

مثلا، كلمة (جبر) تتضمن في رأيهم معنى القوة والشدة مهما صنعنا من حـروفها (ج، ب، ر) كلمات ومفردات جديدة. يقال: جبرت العظم، أي قـويته بالمعالجة. وجبرت الفقير: أي قـويته وأعنته بالمسـاعدة. والجبروت: هـو القوة.

والجبار: الشـدة والقوة والبأس والبطش. والجبر: هو الأخذ بالقوة. ورجل مجرب: أي مارس الأمور فاشتدت قوته ودرايته وخبرته.

والجراب: إنما سمي بهذا الاسم لأنه يحفظ ما فيـه، والشيء إذا حفظ قوي واشتد. ومثل كلمة (جبر) كثير في لغتنا الجميلة.

* ويروون أنه لما حملت قطر الندى بنت خمارويه إلى الخليفة العباسي المعتضد ليتزوجها، كتب معها أبوها رسالة يوصيه فيها بها خيرا. فأمر المعتضد وزيره بالجواب على كتاب خمارويه، وكلف الـوزير أحد كتابه بالرد، وغاب الكـاتب بعض الوقـت يصوغ رده على الرسالة ثم أتى بنسخة يقول فيها:

وأما الوديعة فهي بمنزلة شيء انتقل من يمينك إلى شمالك، عناية بها وحياطة لها.

وأقبل الكاتب على الوزير معجبا بحسن ما وقع له من الكلمات قائلا: إن تسميتي لها بالـوديعـة، نصف البلاغة.

فقال الوزير: ما أقبح هذا.. تفاءلت لامرأة زفت إلى صاحبها بالوديعة، والوديعة مستردة!

* ترى ما الذي يخطر ببالنا، وما الذي نتصوره، عندما نردد كلمة كالفضيلة أو الخير أو الحق أو الصدق أو سواها من الكلمات القليلة الحروف، العامرة بالمعاني الكبيرة. لقد تناول الكاتب الكبير عباس محمود العقاد بأسلوبه المبني علي الحجة والمنطق موضوع الخير والسعادة، وتساءل: أيهما نتمناه أكثـر: الخير أو السعادة؟ وهل ترانا نرجو أن نوصف بالأخيار أو أن نوصف بالسعداء؟

ثم يقول: بغير حاجة إلى استفتاء يمكننا أن نؤكد أن السعادة تظفر بأكثر الأصـوات فنحن في الواقع نختار اسما جـذابا حين نختار السعادة، ونحن إذا تصورنا السعادة فصورتها أمامنا صورة فتاة حسناء، تمتع الحس والنفس، وتشبع اللذة والأمل. إن صورة السعـادة صورة أنثوية، حافلة بالإشراق والمتعة والجمال.

أما الخير، فيغلب على الخيال أن يرسمه لنا في صورة شيخ جليل، مهيب الطلعـة، طـويل اللحيـة، يجللـه الوقار.

وشتان بين الصورتين.

* وتتميز لغتنا الجميلة بأسرار شتى في تراكيبها واستعمالاتها، ولا بد من الالتفات إلى الفروق الدقيقة بين هذه الاستعمالات، حتى يكون كلامنا وتعبيرنا صحيحا وجميلا في الوقت نفسه.

فنحن نقول: دعا له، في مجال الخير. ودعا عليه، في مجال الشر.

ونستعمل وعد: للخير والعطاء (وعدته بكذا). أما أوعد: فتستعمل في مجال التهديد والوعيـد. ونقول فـرط: ومعناها قصر (فرط في أداء الواجب). أما أفـرط: فمعنـاهـا أسرف وتجاوز الحد (أفـرط في الشراب).

ونقول: أشار عليه بكذا: في مجال الرأي والمشورة. أما أشار إليه: فتستعمل في مجال الإشارة باليد. ونقول: أشفق منه، بمعنى خاف منه. أما أشفق عليه، فمعناها عطف عليه.

ومثل هذا كثير في لغتنا الجميلة.

* ومن الطريف أن بعض الكلمات في لغتنا العربية تستعمل للتعبير عن أشياء متعددة، من غير أن يكـون بين هذه الأشياء علاقة ظاهرة.

مثلا: كلمة "العين"، المعنى الشائع لها أنها عضو الإبصار لدى الكائن الحي. ومن معانيهـا أيضا: الشمس، وإنما سميت الشمس عينا لأنه من غير نورها لا تبصر العين، والعين، هـو الحارس، وهـو أيضـا الجاسوس، لأن مهمته تعتمد على العين ويقظتها.

وعين الشيء: نفسـه، يقال: حضر فـلان عينه، للإثبات والتأكيد. وعن الشيء أيضا: خياره وأفضله وأغلى ما فيـه، كما أن عين الإنسان أغلى حـواسه، ولذلك يقال لأشراف القوم أعيان.

والأب والأم، كل منهما عين لابنه، والجمع: أعيان، ولذلك يقال للإخوة من الأبوين: بنو الأعيان.

* ومما يؤثر عن العرب القدماء دقتهم في استعمال كل كلمة في موضعها الصحيح، بحيث تنفرد بمعناها ودلالتها، فإذا ما تشابهت كلمتان وجب علينا أن نتحرى الفرق الدقيق بينهما في المعنى وفي مجال الاستعمال. فهم يفرقون بين السامع والمستمع.

فالمستمع هو المصغي للاستماع المتفرغ له، أما السامع فهو الذي يطرأ عليه الكلام فيسمعه من غير قصد ولا تفرغ.

ويفرقون بين الهم والغم، فـالهم يكون لأمر يخشى المرء أن يقع، أما الغم فيكون لأمر قدر وقع فعلا. ويفرقون بين التمني والترجي، فالتمني هو طلب ما يمكن وقوعه وما لا يمكن، أما الترجي فمقصور على طلب ما يمكن وقوعه فقط.

ومثل هذا كثير في لغتنا الجميلة.

"ذات الخال"
لشاعر النيل حافظ إبراهيم

هو ثاني الأسماء الشعرية الكـبرى التي ترددت في العصر الحديث بعد شوقي أمير الشعراء، وقبل خليل مطران شاعر القطرين، وانفرد هو بتسميته شاعر النيل.

ولد حافظ بعد فشل الثورة العرابية واحتلال الإنجليز لمصر بعشر سنوات، في الرابع من فبراير سنة ألف وثمانمائة واثنتين وتسعين. وكأنما هيأه القدر - بعد أن عاش أيام بؤس وطنه، وذاق مرارتها، وشارك في الجهاد الوطني بنصيب موفور مدافعا عن قضايا مصر والعروبة والإسلام - هيأه ليكون شاعر الشعب الأول، والمدافع عن حقوقه حتى رحيله في الحادي والعشرين من يوليو سنة ألف وتسعمائة واثنتين وثلاثين.

ويقال إن مـولده كان في " ذهبية" راسية على شاطىء النيل، حيث كـان والده أحـد المهندسين المشرفين على قناطر ديروط في صعيد مصر، ويعلق الأستاذ أحمد أمين على ذلك بأنه "كان إرهاصا لطيفا، وإيماء طـريفا، إذ شاء القدر ألا يولد شاعر النيل إلا على صفحة النيل ".

وقد انقسم الناس في عصر شوقي وحافظ فريقين، فريقـا فضل حافظا وآثره عمن سواه وفريقا فضل شوقيـا كمعجزة شعرية مع حبه لحافظ وإعجابه به. والقليل من وقف من الشاعرين موقفا وسطا. ولم يكن عميد الأدب العربي الراحل الدكتور طه حسين بعيدا عن هذا الأمر حين تناوله في كتابه: "حافظ وشوقى " قائلا:

"وصل شوقى في شيخوخته إلى ما وصل إليه حافظ في شبابه، لأن شوقي سكت حين كان حافظ ينطق، ونطق حين اضطر حافظ إلى الصمت، يالسوء الحظ، ليت حافظا لم يوظف قط، وليت شوقي لم يكن شاعر الأمير قط، ولكن هل تنفع شيئا ليت؟ لقد أسكت حافظ ثلث عمره، وسجن شوقي في القصر ربع قرن وخسرت مصر والأدب بسعادة هذين الشاعرين العظيمين شيئا كثيرا.

كلا الشاعرين قد رفع لمصر مجدا بعيدا في السماء، وكلا الشاعرين قد غذى قلب الشرق العربي نصف قرن بأحسن الغذاء. وكلا الشاعرين قد أحيا الشعر العربي ورد إليه نشاطه ونضرته ورواءه. وكلا الشاعرين قـد مهد أحسن تمهيد للنهضة الشعرية المقبلة التي لأبد من أن تقبل ".

ومن أجمل الآثار الشعرية لحافظ إبراهيم قصيدته التي يشكو فيها إلى "ذات الخال " شجونه وأشواقه ومكابداته، وما فعلته العيون بسهامها التي لا ترحم.. ويقول:

كم تحت أذيـال الظـلام متيم

دامي الفـؤاد، وليلـه لا يعلم

مـا أنت في دنيـاك أول عـاشق

راميـه لا يحنـو، ولا يترحـم

أهـرمتني ياليل في شرخ الصبـا

كم فيك سـاعـات تشيب وتهرم

لا أنت تقصر لي ولا أنـا مقصر

أتعبتني وتعبت، هل من يحكـم؟

للـه مـوقفنـا وقـد ناجيتهـا

بعظيم مـا يخفي الفـؤاد ويكتم

قـالت: من الشـاكي؟ تسـائل سربها

عني، ومن هـذا الـذي يتظلم؟

فأجبنها - وعجبن كيف تجاهلت -

هـو ذلك المتـوجع المتـألم

أنا من عرفت ومن جهلت، ومن لـه

- لولا عيونك - حجـة لا تفحم

أسلمت نفسي للهـوى، وأظنهـا

ممـا يجشمهـا الهوى لا تسلـم

وأتيت يحدوني الـرجـاء، ومن أتى

متحـرما بفنـائكم لا يحرم

أشكـو لذات الخال مـا صنعت بنا

تلك العيـون، ومـا جنـاه المعصم

لا السهم يرفق بالجريح، ولا الهوى

يبقي عليـه ولا الصبـابـة تـرحم

لو تنظرين إليـه في جـوف الـدجى

متململا من هـول ما يتجشم

يمشي إلى كنف الفراش محاذرا

وجلا، يـؤخر رجله ويقـدم

يـرمي الفـراش بناظـريـه، وينثني

جـزعا، ويقـدم بعـد ذاك ويحجم

فكأنـه - واليأس ينسف نفسـه -

للقتل فـوق فـراشـه يتقـدم

رشفت بـه في كل جنب سـدتـه

وانسـاب فيـه بكل ركـن أرقم

فكأنه في هـوله وسعيره

واد قـد اطلعت عليـه جهنـم

هـذا وحقك بعض مـا كابدته

من نـاظريك، ومـا كتمتك أعظم

قـالـوا: أهذا أنت! ويحك فـاتئد

حتـام تنجـد في الغـرام وتتهم؟

كم نفثـة لك تستثير بها الهوى

هـاروت في أثنـائهـا يتكلم

إنا سمعنـا عنك مـا قـد رابنـا

وأطـال فيك وفي هـواك اللـوم

فاذهب بسحرك قد عرفتك، واقتصد

فيما تـزين للحسـان وتـوهم

أصغت إلى قـول الـوشاة فأسرفت

في هجرهـا، وجنت علي وأجرموا

حتى إذا يئـس الطبيب وجـاءهـا

أني تلفت، تنـدمـت وتنـدمـوا

وأتت تعـود مريضهـا، لا بل أتت

مني تشيـع راحـلا لـو تعلم

 

فاروق شوشة

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




عباس محمود العقاد





حافظ إبراهيم شاعر النيل