البيت العربي - العلاج بالموسيقى

البيت العربي - العلاج بالموسيقى

منذ تفشي الإصابات بفيروس كورونا في أنحاء العالم، تطالعنا عديد من وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي بفعاليات وأنشطة مختلفة تستخدم فيها الموسيقى لتخفيف معاناة المصابين والمعزولين في المصحات والمنازل. وأثبتت دراسة أجريت في أبريل 2020 على أفراد طاقم طبي في إيطاليا ممن يعملون في وحدات علاج الوباء، التأثير الإيجابي للعلاج بالموسيقى، كتدخّل مساند للتقليل من مستويات الشعور بالضغط النفسي والتعب، والحزن، والخوف، والقلق، واضطرابات النوم. 

من خلال الاستماع إلى مقطوعات موسيقية تمتد لفترة 15 - 20 دقيقة - ترسل عبر الهواتف المحمولة ومعها توجيهات مثل اختيار مكان هادئ، وإغماض العينين، وتخيل صورة ولون ما - تحقّق كل مقطوعة هدفًا معيّنًا، كرفع مستوى الطاقة، أو تحسين التنفس، أو جلب الاسترخاء والهدوء العقلي، أو تحسين المزاج.
أما الاختيار فيتم في ضوء تقييم كل مشارك لحالته. وبعد خمسة أسابيع من التجربة، لوحظ وجود فرق واضح بين التقييمين القَبلي والبعدي لصحة المشاركين. وأوصت الدراسة، استنادًا إلى النتائج، بتعميم هذا المدخل العلاجي المعتمد على الموسيقى وتوجيه المخيلة لتحسين الحالة الصحية. فهل تساهم محنة العالم هذه في نشر هذا النوع من العلاج ودعمه؟
يوفر العلاج بالموسيقى إطار عمل لبناء علاقة تقوم على الثقة بين المعالج ومتلقي العلاج من خلال خبرة موسيقية مشتركة، حيث تسمح هذه العلاقة بحدوث التغيير المنشود، سواء في السلوك أو في الشعور بالمرض.
فمما بيّنته دراسة أجريت على مئتي سيدة خضعن لعمليات استئصال أورام سرطانية - قام بها فريق مكون من متخصص بالعلاج الجسدي، وآخر لتخفيف الألم، وثالث للعلاج الروحي بالموسيقى، وتضمنت إذاعة أغنيات المريضات المفضلة أثناء إجراء العملية - من نتائج إيجابية تشير إلى خفض مستويات القلق وتحسُّن الشعور بالرضا والهدوء، مما يؤكد حقيقة أن الموسيقى تلمس أجزاء من أدمغتنا، فتقود إلى شعور بالراحة البدنية بصورة طبيعية.
وبفعل هرمونات السعادة التي تفرز أثناء التمتع بالاستماع إليها والتفاعل معها - كالدوبامين، والإندورفين - يمكن أن يحدث الشفاء دون حاجة إلى الدواء الكيميائي التقليدي.

الموسيقى دواء
  يعرف الاتحاد العالمي للعلاج بالموسيقى (WFMT) هذا النوع من العلاج بالاستخدام المحترف للموسيقى وعناصرها كتدخّل في بيئات طبية أو تعليمية أو في الحياة اليومية لمساعدة أفراد أو مجموعات أو أسر أو مجتمعات تسعى إلى تحسين نوعية الحياة ومستوى الرفاهية في جوانب مختلفة كصحة الأبدان، وسلامة العلاقات الاجتماعية والتواصل، والسلامة العاطفية والفكرية والروحية. 
ويقوم البحث والممارسة والتعليم والتدريب العيادي في هذا المجال على معايير مهنية، وفقًا للسياقات الثقافية والاجتماعية والسياسية المختلفة. ولا يُعد هذا التعريف الوحيد أو النهائي، حيث تسعى الجمعيات المهنية المتخصصة إلى تحديث تعاريفها باستمرار وفقًا لما يستجد من مداخل وتقنيات.  
وصفت المعالجة المعتمدة بالموسيقى، المديرة السابقة لبرامج العلاج بالموسيقى في مستشفيات أمريكية عديدة، د. ديفوريا لين، الموسيقى بالدواء، فباستخدامها للمنهجية العلمية وقوة تأثير الموسيقى الإيجابية لدعم مرضاها في رحلة التشافي، تمكّنت من المساعدة في ولادة طفلة غير مكتملة النمو من رحم أمها الميتة دماغيًا، حيث راحت تغني لها لحنًا جميلًا وتداعبها وهي لا تزال في بطن أمها، حتى لاحظت تسارُع نبضات قلبها الصغير، وتزايد نشاط حركتها في الرحم، كرقصة رائعة تحت الأصابع، وبعد خروجها للحياة، واصلت غناء اللحن نفسه حتى قويت الصغيرة وتعافت.

محنة شخصية
في جلسات علاجية أخرى كثيرة، ساعدت مرضى من مختلف الأعمار في العناية المركزة، وساندت مرضى سرطان كانوا قريبين من الموت، ومرضى آخرين أصيب بعضهم بالزهايمر، وفقد البعض الآخر القدرة على الحركة والكلام لأسباب مختلفة، فكانت الموسيقى وسيلتهم لتحمُّل المعاناة وتخطي الأوقات الحرجة؛ لأن الموسيقى - كما تقول - تحرّك القلب وتهدئ النفس وتمنح المشاعر والأفكار أصواتًا تساعد على التعبير عن المعاناة الباطنية والتعامل معها بطريقة أشبه بالمعجزة. 
عاشت د. لين نفسها محنة شخصية عندما أصيبت بالسرطان، الأمر الذي عزّز إيمانها بقدرة الموسيقى على دعم مقاومة المرض والشفاء. فكانت الموسيقى تذكّرها على الدوام بأنها أكثر من مجرد مصابة بمرض، لأنها موسيقية ومغنية ومعلّمة. وفي رحلة العلاج ساعدت نفسها كما ساعدت مريضات أخريات بالعلاج بالموسيقى والغناء، حتى عرض عليها العمل في المستشفى الذي كانت تعالج فيه لتقوم بالمهمة نفسها. وفي وقت لاحق حصلت على منحة مالية لدراسة أثر العلاج بالموسيقى على مرضى السرطان. 
في كتابها «الموسيقى كدواء» روت حكايتها مع الموسيقى والعلاج والإيمان، وكيف كرّست موهبتها في الغناء الأوبرالي والموسيقى لشفاء المرضى ومنحهم الأمل. وأشارت إلى نشأتها في بيت مليء بالموسيقى - حيث كانت والدتها تعزف البيانو، وأحب والدها الغناء - وملاحظتها في فترة مبكرة من حياتها كيف تمدّ الموسيقى الناس بالحيوية والطاقة، فتزيد من قدراتهم على الحركة والنشاط والابتهاج. وكما تحدثت عن شغفها بالموسيقى والغناء الذي أهّلها لنيل منحة دراسية عمّقت إتقانها للغناء ومنحتها أجنحة لتطير بعيدًا.

مداخل علاجية متنوعة  
تتنوع الطرق المستخدمة في العلاج بالموسيقى ما بين الاستماع والمشاركة بالتأليف وكتابة الأغاني، والعزف، وارتجال الأداء الصوتي، والاستكشاف الموجّه نحو تحقيق الذات، كما تتعدد مداخل العلاج التي تتبناها برامج التدريب في الجمعيات المهنية المتخصصة، وفي عشرات الجامعات حول العالم التي تمنح شهادات مهنية ودرجات علمية بمستوى البكالوريوس والماجستير والدكتوراه. 
ويعد مدخل نوردوف - روبنس، المتمحور حول الموسيقى من أكثر المداخل انتشارًا في أوربا وأمريكا منذ منتصف السبعينيات الماضية؛ حيث نجح المؤسسان؛ المؤلف الموسيقي وعازف البيانو الأمريكي باول نوردوف، والمعلم البريطاني للأطفال من ذوي الاحتياجات الخاصة، كليف روبنس، منذ بداية لقائهما خلال عام 1959 في دمج الأطفال المعزولين من خلال تقديم تدريب رسمي في مركز نوردوف - روبنس في لندن. 
وبعد وفاة نوردوف، طوّر روبنس، وزوجته كارول، المدخل ونشراه، حتى تم افتتاح مركز في كلية ستينهارديست للثقافة والتعليم والتنمية الإنسانية بجامعة نيويورك في مطلع التسعينيات. 
ومن نصائح روبنس، الذي شَغُف بالعلاج بالموسيقى لأكثر من نصف قرن، للمعالجين الجدد - قبل وفاته في نهاية 2011 - الاهتمام الواسع بالموسيقى وبمداخل العلاج بها، والممارسات الإكلينيكية المختلفة، طالبًا منهم أن يكونوا مغامرين ومبدعين ومحبين ومحترفين وموسيقيين. وكثيرًا ما أكد أهمية العيش بوعي وإدراك روعة الحياة وتقديرها. وعيش الشعور بالامتنان الذي يحمل في باطنه الدهشة، ويزيد من الشعور بقوة التواصل مع الآخرين، ويمد الحياة اليومية بالطاقة والحيوية. 

مدخل إنساني
أما مدخل ميدان اللعب الذي وضعته د.كارولين كيني، فهو مدخل إنساني يقتضي حضور المعالج حضورًا مكثفًا ومنتبهًا ومتواصلًا مع متلقي العلاج، ويعتبر اللعب في حضور الموسيقى فرصة لاكتشاف الجديد والشعور بالمتعة والمسرّة والمرح والتعرف إلى جوانب جمالية في عمق النفس وفي مواقف ومشاهد في إطار النظام الإيكولوجي كتخيّل أمطار الغابة الغزيرة، والتدفق مع نهر.  
قدمت د.  كيني - التي أحبت الموسيقى منذ صغرها واختارت العلاج بها، وخبرت في وقت مبكر من حياتها كمتطوعة أثر الموسيقى الإيجابي على المرضى - إطار عمل نظريًا كشف عن إمكانات جديدة في التفكير والعمل للباحثين وممارسي هذا النوع من العلاج. ووجهت - قبل وفاتها عام 2017 - المعالجين، وساهمت بإعداد كتاب وباحثين ومعلمين وممارسين. وشاركت في تأسيس مجلة Voices، التي تعدّ منتدى عالميًا للعلاج بالموسيقى ومصدرًا مفتوحًا للجميع.
ومن المداخل الأخرى ما يتبنى علاج قضايا نسوية، تخدم النساء والناشطين، والمناصرين لقضاياهن؛ لتصبح الموسيقى والغناء وسائل لتمكين النساء ودعوتهن للمشاركة الفاعلة. وما يعالج المجتمعات بتشجيع دمج الفئات المهمشة، ودعم المقاومة ودعوات المساواة في الحصول على الموارد والخدمات وتحقيق الرفاهية للمجتمع بصورة عامة. 
ورغم وجود بعض الدعم من منظمات مهتمة بهذا العلاج، مثل منظمة سيلفر كليف التي نجحت في جمع ملايين الجنيهات الإسترلينية كتبرعات من قطاع الصناعة الموسيقية لتمويل بعض برامج نوردوف - روبنس؛ هناك من البرامج في دول كألمانيا وأستراليا تعاني نقص التمويل الضروري للاستمرار ولتحديث التكنولوجيا والتمكين من العمل عن بُعد. والحاجة إلى الدعم أشد في البلدان العربية التي يندر فيها هذا النوع من العلاج وفرص التدريب عليه ■

 

يوفر العلاج بالموسيقى إطار عمل لبناء علاقة تقوم على الثقة بين المعالج ومتلقي العلاج

 

قوة تأثير الموسيقى تدعم المرضى في رحلة التشافي

 

د. ديفوريا لين في جلسة علاجية