الجريدة الرسمية " السيرة الذاتية " لدولة الكويت
منذ ما يقرب من ألف وخمسمئة عام، وفي مدوّنته القانونية الشهيرة بـ Corpus Juris Civilis الصادرة عام 533 م (التي يعرف القانونيون حول العالم أنها تمثّل أساس القانون الروماني، الذي يمثّل بدوره العمق التاريخي الممتد للقوانين المدنية المقارنة في أغلب دول العالم، ومنها القانون المدني الكويتي) منذ ذلك الزمن العتيق، أظهر الإمبراطور البيزنطي جستنيان اهتمامًا خاصًا بنشر القوانين وبإعلانها رسمية للكافة.
ورد في هذه المدونة: «عليك أن تبلّغ هذا المرسوم للجميع، ويكون تبليغه في مدينتنا الإمبراطورية هذه بطريقة المنشورات المعتادة، أمّا في الأقاليم، فبطريقة إرسال التعليمات اللازمة لولاتها حتى لا يبقى أحد جاهلًا بالأحكام التي اقتضت مراحمنا وضعها لمصلحة رعايانا، وإعلان هذا المرسوم في جميع أجزاء الإمبراطورية يتم من غير أن تتكبد المدن أو الأقاليم بسببه أيّ نفقات».
ومن قبيل المقارنة، فمن المثير للاهتمام أن نجد أن الموروث السياسي الشرق أوسطي لم يُبد اهتمامًا مماثلًا باعتبارات الشفافية والحرص على علم العامة بالقانون، إذ يبدو أن الأمر لم يشكّل أبدًا همًّا كبيرًا للسلطات في الكثير من الأقاليم العربية والإسلامية في القرون الوسطى.
ففي كتابه «سير الملوك» (الذي وُضع في القرن الـ 11 الميلادي، واشتهر بتسميته الفارسية «سياست نامه»)، كانت وصية الوزير نظام الملك الطوسي إلى سلاطينه، السلطان السلجوقي ألب أرسلان، ثم ابنه ملكشاه (وهي الأسرة التي وضعت الأساس لحكم كلّ من الناصر صلاح الدين والظاهر بيبرس وقلاوون وانتصاراتهم ضد الصليبيين)، كانت وصيته لهم هي أن:
«الرسائل التي تصدر عن البلاط كثيرة، وكلّما كثُرت فقدت حرمتها، فإذا لم يكن ثمّة أمر مهم، يجب ألّا يصدر عن الديوان العالي أمر خطّيّ البتة».
وبرغم كوننا جزءًا من هذا الشرق الأوسط الكبير، فإن هذه الوصية - لحُسن حظنا الحضاري - لم تجد أصداء لها في الفكر الإداري الكويتي.
فمنذ بدايات دولة الكويت الحديثة، اهتمت الإدارة بالإعلام الحكومي، مع ما يعني ذلك بمقاييس البدايات البسيطة.
لصق الإعلانات على الحائط
كانت وسيلة الإعلام الرسمي هي لصق الإعلانات الرسمية على الحائط الشرقي لكشك الشيخ مبارك الصباح الكائن في مدينة الكويت (والذي كان مقرًا لمكتب البريد منذ أوائل عام 1942)، حيث اعتاد الناس المرور بهذا الموقع، للاطلاع على ما يستجد من الشأن الحكومي والإداري، كما كانت الاعلانات ذات العلاقة بالشأن العام السياسي أو التجاري تعلّق على الحوائط بأماكن التجمعات الأهلية في سائر أرجاء المدينة (في الدوائر الرسمية، والأسواق، وعلى البحر، وعلى جدران دواوين الأهالي).
وبهذا الصدد، يذكر المؤرخ سيف مرزوق الشملان:
«ما زلت أذكر هذه الإعلانات، وخاصة إعلانات الغوص التي تلصق على ساحل البحر على جدار ديواننا (ديوان الرومي)، فتنشر المحكمة إعلانًا عن مقدار الدراهم السلف التي تُعطي للغيص والسيب، وعن موعد حلول الغوص وحلول القفّال».
إلا أنّ الحاجة إلى ربط دوائر الحكومة برجال الأعمال دعت شركات المقاولات إلى البحث عن طريقة أكثر جدوى. وفي سبتمبر من عام 1954، كانت هذه الحاجة واضحة أمام السكرتير في مكتب المدير الإداري بدائرة المعارف آنذاك، بدر خالد البدر، فأرسل رسالة إلى مدير الإدارة المالية ضمّنها اقتراحًا بإصدار جريدة رسمية للدولة، تعنى بنشر جميع الأدوات القانونية (قوانين وقرارات وتعاميم)، إضافة إلى الإعلانات الرسمية (مناقصات وعلامات تجارية ووفيات ومفقودات)، لا سيّما أن البلاد بدأت تشهد طفرة اقتصادية وعمرانية بدأ معها تدفّق المقاولين ورجال الأعمال للاضطلاع بالمناقصات والمشروعات الكبرى.
وقد تم رفع الاقتراح إلى اللجنة التنفيذية العليا (وهي لجنة كان المغفور له الشيخ عبدالله السالم الصباح قد شكّلها في 19 يوليو 1954، لتقوم بتنظيم مصالح الحكومة ووضع هيكل لدوائرها الرسمية، ولتكون مسؤولة أمام حاكم البلاد. وكانت اللجنة تضم أمير البلاد الراحل الشيخ صباح الأحمد، والشيخين جابر العلي وخالد العبدالله السالم، وكلا من أحمد عبداللطيف وعبداللطيف النصف).
أسرة التحرير الأولى
كانت أسرة التحرير الأولى للمجلة تتكون من يوسف مشاري الحسن (من دائرة الكهرباء والماء)، وطلعت الغصين (من مجلس الإنشاء) عضوين، وبدر خالد البدر (من دائرة المعارف)، مديرًا. وبعد ذلك تم ضم أحمد سيد عمر إلى أسرة التحرير، كما نقل فاضل خلف التيلجي من «المعارف» أيضًا، ليتولى أعمال السكرتارية.
وعلى يد هذا الفريق، صدر العدد الأول من الجريدة الرسمية بتاريخ 11 ديسمبر 1954، وقد صمم الفنان الكويتي الراحل معجب الدوسري غلافه، ومازال هذا الغلاف معتمدًا حتى اليوم. واضطلعت دائرة المطبوعات والنشر بإصدار الجريدة الرسمية، فكانت تصدر كل يوم سبت بسعر 4 آنات للنسخة. وبذلك، فقد أصبحت الجريدة الرسمية (الكويت اليوم) قناة الاتصال بين الدولة والمواطنين، إضافة إلى أنها تمثّل معلمًا واضحًا في مسيرة تحوّل البلاد إلى نموذج الدولة الحديثة على جبهة النشر والتوثيق الإداريين، من حيث أنها تعكس الانتقال من مرحلة القرارات المتناثرة والشائعات المسموعة والمستعصية على التثبت إلى مرحلة التدوين والإعلان.
وفي بيان أهداف هذه الجريدة، ورد في العدد الأول منها ما يلي:
«صدرت هذه الجريدة الرسمية بناء على قرار اتخذته اللجنة التنفيذية العليا، بعد أن لمست الحاجة إلى أداة تنقل إلى الجمهور أخبار الدوائر الحكومية وتنشر الأنظمة والقوانين... على أن إنشاء جريدة رسمية ليس بالشيء الجديد بالنسبة للأقطار المتمدنة، بل يمكن القول بأن مثل هذا الأمر أصبح ضرورة ملحّة، لا سيما في بلد ناشئ، وقد رأينا أن مصر والعراق وغيرهما من البلدان العربية قد سبقتا إلى مثل هذا العمل منذ أمد بعيد، وأصدرت ما يسمّى بالوقائع، لنشر القوانين والأنظمة التي لا تعتبر نافذة المفعول إلا بعد نشرها بالجريدة الرسمية».
كانت حروف الجريدة الرسمية تُصفّ باليد، ثم يُبعث بها إلى مطبعة تجارية، ليطبع منها بضعة آلاف من النسخ كل أسبوع، واستمرت على هذا النهج عدة شهور، إلى أن رؤيَ إنشاء مطبعة حكومية تقوم بنشر وطبع كل مطبوعات الدوائر الرسمية، وقد تم إعطاء هذا الأمر أولوية، حيث افتتحت دائرة المطبوعات (وزارة الإرشاد والأنباء) مطبعتها رسميًا في 15 أكتوبر 1956.
مطبعة الحكومة
أصبحت «الجريدة الرسمية» تطبع بواسطة مطبعة الحكومة هذه، فتصدر كل يوم أحد في 16 صفحة. ووصل عدد النسخ المطبوعة منها إلى 7 آلاف نسخة أسبوعيًا، فضلًا عمّا كانت تصدره من ملحقات مخصصة لنشر القوانين، وهي ملحقات لقيت رواجًا شديدًا، حيث كان يُطبع منها أضعاف ما يُطبع من الجريدة نفسها.
يذكر أنه إضافة إلى الجريدة الرسمية، اضطلعت مطبعة الحكومة بطباعة الكتب، والسجلات، والاستمارات، والكراسات المدرسية، والملفات، وعداها من احتياجات الدوائر الحكومية.
كانت تغطيات الجريدة الرسمية تشمل جميع مناحي الأداء الإداري العام للدولة، فقد كانت تنشر المراسيم الأميرية والتشريعات والقوانين والإعلانات الحكومية التي كانت تتنوع بتنوّع الجهات الرسمية المعلنة (جداول أطباء الخفر في المستشفيات والمستوصفات، والإنتاج الشهري لشركات النفط العاملة في الكويت، وإعلانات المناقصات العامة، ومواعيد الامتحانات الرسمية للمدارس، وأسماء الطلبة الناجحين، والميزانية العامة للدولة، وقرارات مجالس الإنشاء والوزراء والأمة).
يذكر أن عدد صفحات العدد الأول من الجريدة الرسمية كان 16 صفحة، وفي بداية صدورها كانت أقرب إلى الصحف اليومية، إذ لمّا كانت الإعلانات الرسمية لا تملأ كل تلك الصفحات، فقد اضطرت أسرة التحرير إلى ملء الصفحات المتبقية ببعض الأخبار والمقطوعات الأدبية، كما أدخلت الجريدة - فيما بعد - أبوابًا أخرى في صفحاتها، مثل باب الكويت في صحف العالم، وعدا ذلك من متفرقات!
وقد دأبت الجريدة الرسمية على الصدور بصورة مستمرة، ودون انقطاع، إلى أن وقع الاحتلال العراقي لدولة الكويت، فقد صدر آخر عدد قبل الغزو في 28 يوليو 1990 وهو العدد 1885، لتتوقف الجريدة عن الصدور بعد ذلك.
وفى 28 ديسمبر 1990 عادت إلى الصدور مرة أخرى من مقر الحكومة في المنفى بمدينة الطائف السعودية، حيث صدرت متضمنة الأوامر والمراسيم الأميرية والقوانين التي صدرت في تلك الفترة الحرجة من تاريخ البلاد، إلى أن تمّ التحرير.
اهتمام خاص
يذكر أن دستور دولة الكويت قد أولى الجريدة الرسمية اهتمامًا خاصًا، فذكرها في ثلاثٍ من مواده.
وأولى هذه المواد هي المادة 70 التي نصت على أن: «يبرم الأمير المعاهدات بمرسوم ويبلّغها مجلس الأمة فورًا، مشفوعة بما يناسب من البيان، وتكون للمعاهدة قوة القانون بعد إبرامها والتصديق عليها ونشرها في الجريدة الرسمية...».
وثانية هذه المواد هي 178 التي ورد فيها: «تنشر القوانين في الجريدة الرسمية خلال أسبوعين من يوم إصدارها، ويُعمل بها بعد شهر من تاريخ نشرها، ويجوز مدّ هذا الميعاد أو قصره بنص خاص في القانون».
أما ثالثة المواد الدستورية التي ورد فيها ذكر الجريدة الرسمية، فهي المادة رقم 182، التي جاء فيها: «ينشر هذا الدستور في الجريدة الرسمية، ويُعمل به من تاريخ اجتماع مجلس الأمة، على ألّا يتأخر هذا الاجتماع عن شهر يناير سنة 1963».
وبذلك، فإن القانون بمجرد نشره في الجريدة الرسمية (الكويت اليوم) تقوم معه قرينة قانونية تفترض علم الكافة بالقانون، ولو لم يعلموا به حقيقة، فلا يجوز لأحد بعدها أن يعتذر بجهله بالقانون، لأنّ لهذه القاعدة دورًا وظيفيًا هو تطبيق القانون بمعيار موضوعي لا شخصي، مما يعني أن العلم بالقانون هنا هو علم حُكمي، أي أنه علم مفترض، وإن لم يتحقق بالواقع، وذلك لاعتبارات عملية بحتة متعلقة بوجوب تطبيق القوانين تطبيقًا شاملًا وكليًا، انطلاقًا من فكرتَي تجريد القواعد القانونية وعموميتها.
وبعد، فبنظرة إدارية وقانونية صارمة، فإن الجريدة الرسمية «الكويت اليوم» لا تعدو أن تكون مطبوعة رسمية، جافة، باردة، مليئة بالمواد القانونية والإدارية الباردة والخالية من أية «حياة».
ومع ذلك، بمراجعة أشمل وبشيء من العدالة (وبكثيرٍ من الخيال)، سوف يتبين لك العكس تمامًا:
فالجريدة الرسمية هي «سيرة حياة» كاملة؛ حياة دولة صغيرة، لكنها بالفعل كبيرة؛ اسمها الكويت ■
افتتحت دائرة المطبوعات (وزارة الإرشاد والأنباء) مطبعتها رسميًا في 15 أكتوبر 1956
الجريدة الرسمية هي «سيرة حياة» كاملة لدولة الكويت