تهويدات الأمهات وما تخفيه وراءها

تهويدات الأمهات  وما تخفيه وراءها

في عشرينيات القرن الماضي، سمع الشاعر فيديريكو غارثيا لوركا امرأة في غرناطة تغنّي لطفلها، فلفت انتباهه حينها كلمات تلك الأغنية الحزينة. وفي محاضرة ألقاها فيما بعد بمدريد عام 1928 بعنوان «حول التهويدات»، لاحظ لوركا أن «الألحان الأكثر حزنًا ومعظم النصوص الكئيبة» موجودة فيما يسمى بالتهويدات أو أغاني المهد، لكنّه أبدى استغرابه لهذا الأمر، لا سيما أن إسبانيا تمتلك الكثير من الأغاني المبهجة والنكات والدعابات المرحة، فطرح السؤال التالي: لماذا إذًا خُصصت تلك الأغاني الحزينة الأقل ملاءمة لمشاعر الأطفال الرقيقة لتهدئتهم ودعوتهم إلى النوم؟ 

ركزت محاضرة لوركا، بشكل خاص، على التهويدات في إسبانيا، لكن التهويدات الحزينة، لا بل المظلمة أحيانًا، ليست محصورة في إسبانيا وحدها، بل نجدها حاضرة في الكثير من بلدان العالم.
ومما يؤكد هذا الأمر كلمات أقدم تهويدة وجدت بالعالم في بابل القديمة التي يعود تاريخها إلى حوالي 2000 قبل الميلاد، حيث نقشت على قطعة من الطين لا يتجاوز حجمها كفّ اليد، (وهي موجودة اليوم في المتحف البريطاني بلندن)، كلمات مظلمة مرعبة بالخط المسماري بواسطة قلم مصنوع من القصب لأغنية كانت تغنّى للأطفال في ذلك الزمن، وهي تقول: 
أيها الطفل الصغير في المنزل المظلم
لقد رأيت شروق الشمس
لماذا تبكي؟ لماذا تصرخ؟
لقد أزعجت رب البيت
من الذي أزعجني؟ يقول رب البيت
هذا الطفل هو الذي أزعجك
من الذي أخافني؟ يقول رب البيت
هذا الطفل هو الذي أزعجك، هو الذي أخافك 
فهو يصدر أصواتًا مثل سكّير لا يستطيع الجلوس على كرسيه
لقد أزعج نومك
استدعوا الطفل الآن، يقول رب البيت
لكن أساليب التخويف في أغنيات الأطفال لم تقتصر على منطقة بلاد ما بين نهري دجلة والفرات، إذ كانت حاضرة أيضًا على مسافات بعيدة وواسعة، حيث وجدت تهويدات تضمنت شياطين ومخلوقات مخيفة من كل شكل وحجم - من ذئب يلتهم خروفًا حتى «الجلد والقرون، حيث لا يبقى منه شيئًا» كما ذُكر في تهويدة إيطالية، وفارس «قاد حصانه إلى الماء، لكنه لم يسمح له بالشرب»، حسب إحدى التهويدات الأندلسية، وأم تحزن على طفلها، بعد أن مزّقه نسر كعقاب إلهي عندما يفشل الأب في الوفاء بوعده بالتضحية بثلاث من الإبل، كما تردد تهويدة رائجة في تركيا، ووجه مرعب يطارد الطفل عبر النافذة تتحدث عنه التهويدة الأيسلندية التي تحمل عنوان «بيوم، بيوم، بامبالو»، وذئب رمادي مخيف تهدد به كلمات التهويدة الروسية «بايو بايوشكي بايو»، الذي قد يعمد إلى سحب الطفل من سريره إذا ما اقترب من حافة المهد ومن ثم يأخذه إلى الغابة ويضعه تحت شجيرة الصفصاف، وضبع قد يأكل الطفل في أغنية «روك، روك، روك» إحدى التهويدات الشعبية في غرب كينيا.
وفي أمريكا هناك تهويدة «اصمت أيها الطفل الصغير» بمراياها المتكسرة ومشاهد الخيول المتساقطة والطيور المتكلمة التي لن تغني، وتهويدة «تأرجح أيها الطفل»، التي تنتهي بتوقعات غير مؤكدة، مثل الموت أو الإصابة، بعد أن يسقط المهد الذي يحتوي على الطفل من قمة الشجرة، وبالطبع، أغنية «أنت شمسي المشرقة»، أكثر الأغاني حزنًا على الإطلاق.

من التهويدات المرعبة إلى الحزينة
وليس التخويف وحده هو الأمر المستغرب السائد في التهويدات، لكن الحزن أيضًا هو سمة من سمات الكثير من التهويدات في العالم. في اليابان هناك ما يعرف بـ «تهويدات الايتسوكي»، وهي أغانٍ كانت تغنيها فتيات صغيرات لأطفال العائلات الأكثر ثراء عندما كان يتم إرسالهن للعمل كمربيات لدى تلك العائلات في قرية إيتسوكي في أوائل القرن العشرين.
تقول كلمات إحدى تلك التهويدات الشهيرة «لا أحد يذرف الدموع عندما أموت، فقط الزيز على شجرة البرسيمون هو الذي سيبكي». وهناك تهويدة عراقية جاءت بالكثير من مشاعر الحزن والحنين، حينما عبّرت الأم لوليدها عن فراق زوجها، وكيف أنها تتوهم عند سماع صوت الرياح أنه قد عاد إليها، إذ تغني «دللول يالولد يا بني دللول... يمه عدوك عليل وساكن الجول... يمه هب الهوى واصطكت الباب... ترى حسبالي يا يمه خشت أحباب».
لكن السؤال الذي يطرح هنا لماذا تتضمن الكثير من التهويدات ذلك الظلام واليأس والكآبة؟ لماذا ترتجف التهويدات ببعض الإحساس العميق الذي لا يمكن تحديده بالحزن فقط؟ لماذا تتألم بشوق مجهول إلى كل ما هو مفقود وضائع؟ وإذا ما كانت وظيفة التهويدة الأساسية تهدئة الأطفال ودعوتهم إلى النوم، فهل تتعارض كل هذه العناصر السلبية الموجودة فيها مع تحقيق غايتها المنشودة؟
 
اللحن لا الكلمات 
يقول مدير مختبر الموسيقى بجامعة هارفارد الأمريكية، الذي يدرس كيفية عمل الموسيقى وسبب وجودها، صمويل مهر، إنه من ثقافة إلى أخرى تميل التهويدات إلى «امتلاك مجموعة من المميزات الخاصة التي تجعلها مهدئة». فقد وجد مهر، من خلال مشروع قام به بعنوان «التاريخ الطبيعي للأغنية» أنه يمكن للناس سماع سمات عالمية في الموسيقى بالإجمال - حتى عندما يستمعون إلى أغانٍ من ثقافات أخرى. وبالنسبة للتهويدات فقد وجد أنه حتى عندما كان الأطفال الرضّع يستمعون إلى تهويدات لم تكن مألوفة بالنسبة إليهم ولم تغنّها لهم أمهاتهم أو أصحاب الرعاية من قبل، فإنهم يستجيبون بالطريقة نفسها من الهدوء والاسترخاء. ومن خلال ذلك اتضح أنه بغضّ النظر عمّا هي التهويدة وما تتضمن كلماتها بالتحديد، فإن مجرد إبطاء أي أغنية وتركيبها على لحن بسيط مميز يتفق مع السمات الموسيقية للتهويدة، يمكن أن يساعد في خفض معدل ضربات قلب الرضيع، وتحسّن سلوكيات الرضاعة التي تعتبر ضرورية للتغذية، ويؤدي إلى زيادة في فترات «اليقظة الهادئة» والمساعدة على النوم، لأنّ ما يستجيب له الأطفال هو صوت وإيقاع ولحن الموسيقى، وليس محتوى الأغنية الفعلي.   

تجربة متعددة
لكن تأثير التهويدات لا يقف عند هذا الحد، إذ هناك مجموعة متزايدة من الأبحاث التي تؤكد أن التهويدات لا تخفّض مستوى التوتر لدى الأطفال فقط، بل لدى مقدمي الرعاية أيضًا.
ووجدت أستاذة علم النفس التنموي بجامعة تورنتو التي درست علم أغاني المهد، د. لورا سيريللي، أن غناء التهويدات هو «تجربة متعددة الأوجه» تتقاسمها الأم والطفل معًا، إذ تقول إنه «خلال عملية غناء الأم لطفلها لا يكون الأمر متعلقًا فقط بسماع الطفل للموسيقى، بل باحتضان الأم لطفلها وقرب وجهها منه والشعور بالدفء والاهتزازات اللطيفة التي تقوم بها». وهذا القرب يمكن أن يؤدي أيضًا إلى زيادة سلوك الترابط وتخفيف التوتر لكلا الطرفين المعنيين. وهذا هو بالضبط سبب كون الكثير من التهويدات مظلمة وفقًا لعالم الموسيقى العرقية أندرو بيتيت ومديرة معهد علم النفس العصبي الفسيولوجي سالي بليث، وذلك، كما أكدا، لأنّ التهويدات تتحول إلى وسيلة آمنة للأمهات للتعبير عن مخاوفهن وقلقهن، حيث تكون الكلمات المغناة للأمهات بقدر ما هي لأطفالهن. فالأم تغني لنفسها، حيث تترجم الكلمات مشاعرها الدفينة لأنه من خلال العلاقة الجسدية الخاصة بين الأم وطفلها، لا سيما في السنة الأولى من الحياة، تشعر الأمهات أنه بإمكانهن التعبير لأطفالهن عن مخاوفهن وقلقهن، ولكن في أمان وراحة التقارب الجسدي الخاص بينهما. وفي هذا الإطار قال بيتيت: «إن التهويدات هي المساحة المخصصة لغناء ما لا يمكن غناؤه وقول ما لا يمكن قوله، وهناك في لحظات السكينة بين الأم وطفلها يمكن التعبير عن المشاعر التي لا يمكن التعبير عنها في أي موقع آخر».

الخوف من الخسارة
في عام 1974 كان للفنانة الشعبية الأميركية الراحلة والباحثة بيس هاوز ملاحظة حول التهويدات الأميركية، فكتبت تقول إن الصفة الأكثر تميزًا في تلك التهويدات هي «العزلة المكانية» للطفل. 
ففي معظم التهويدات الأمريكية التقليدية يكون مقدمو الرعاية في مكان آخر بعيدًا عن الطفل، إما في الصيد أو في رعاية الأغنام في الخارج أو متجولين في «أرض الأحلام»، وفي غضون ذلك يكون الطفل إما «جالسًا على شجرة» أو «مبحرًا في قارب مصنوع من القمر»، أو «راكبًا خيوله الصغيرة الجميلة». وخلصت هاوز إلى أن السبب في ذلك هو أنه من خلال التهويدة تحاول الأم مواجهة انفصالها عن طفلها الذي تتأثر به بشكل خاص بعد الولادة، والاعتراف بحقيقة أنه لا بدّ من ابتعادها عنه وانفصاله عنها كشكل من أشكال استقلاليته المستقبلية الحتمية.
وفي هذا الإطار، وقريبًا من هذه الفكرة، أكّدت مديرة مركز لويس أرمسترونج للموسيقى والطب في مستشفى ماونت سايناي في نيويورك، القائمة على دراسة حول أغاني المهد نشرت نتائجها بمجلة طب الأطفال في أبريل 2013، جوان لوي، إن التهويدات تجسّد على وجه الخصوص خوف الأم من الخسارة وأن «هذا أمر منطقي، لأن السنوات الأولى من عمر الرضيع هي سنوات هشّة يتخللها الخوف من متلازمة موت المهد لدى الأطفال، وبذلك تكون التهويدة بمنزلة محاولة للتمسك بالحب الذي يمكن أن يضيع إن لم يكن يضمّ ويحتضن ويدلل من خلال الغناء العذب».
وهكذا نجد أنه وراء تهويدات الأمهات التي هي في الأساس أصدق تعبيرًا عن الحب وأسمى تبادل بين روحين ما هو أبعد وأعمق من ألحانها البسيطة، لأننا إذا بحثنا في خبايا كلماتها قد نتمكن من سماع شكوى القلوب وحنين المشاعر ومخاوف الأمهات الدفينة ■