كيليطو وقراءة الأدب الكلاسيكي من البحث التأويلي إلى وهج الندم الفكري

كيليطو وقراءة الأدب الكلاسيكي من البحث التأويلي إلى وهج الندم الفكري

هل كلّما اقتربنا من قراءة الأدب الكلاسيكي والتفكير في عوالمه عشنا في جو من الندم الفكري؟ ذلك هو السؤال المحوري الذي يطرحه الكاتب المغربي عبدالفتاح كيليطو في معظم كتبه.  إن قراءة الأدب، لاسيّما الكلاسيكي منه، تتطلّب منا إمكانية معاشرة الموتى والسعي لمعرفة آرائهم في قضايا عديدة كانت تهمّهم، ولا يمكن لها أن تهمّنا نحن في زمن مخالف لزمنهم. يبدو السؤال ماكرًا، كما هي عادة كيليطو دائمًا، فهو حين استعار عنوان كتابه الأخير «في جوّ من الندم الفكري» الصادر عام 2020 عن دار المتوسط بإيطاليا، من قولة الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار، جاء فيها «إذا تحرّرنا من ماضي الأخطاء، فإننا نلقي الحقيقة في جوّ من الندم الفكري. والواقع أننا نعرف ضد معرفة سابقة، وبالقضاء على معارف سيئة البناء، وتخطّي ما يعرقل، في الفكر ذاته، عملية التفكير».

في كتابه السابق عن هذا الأخير، وهو كتاب «من نبحث عنه بعيدًا، يقطن قربنا»، الصادر عن دار توبقال عام 2019، وهو من ترجمة المترجم المغربي إسماعيل أزيات، يُعيدنا كيليطو إلى قراءة الأدب الكلاسيكي ذاته، العربي منه والغربي، وذلك في إطار تحاوري فعّال، حيث يُحيل كلّ كتاب من هذه الكتب الأدبية الكلاسيكية، بشكل أو بآخر، إلى كتاب كلاسيكي آخر يقطن فيه، أو على الأقل يعيش معه أو بالقرب منه.
هكذا يُقدّم لنا، منذ قراءته الأولى، نظرة متجددة إلى صورة شهرزاد، حتى لا نقول نظرة جديدة. هو الذي قد سبق له أن قدّم مجموعة من التأملات النقدية حولها. 
في هذه النظرة المتجددة، يقف عند صورة شهرزاد الأولى، وهي طبعًا غير شهرزاد الأصلية، صورة المرأة التي اختطفها الجنّي ليلة عرسها وغاص بها في أعماق البحار، واضعًا إياها في صندوق زجاجي له سبعة أقفال. 
وذلك حتى لا يقترب منها أحد، لكنّه حين يفتح الصندوق الزجاجي هذا، ليتركها تأخذ بعض النّفَس، وهو نائم بالقرب منها، تستغل هي هذه الفرصة وتخونه مرات عديدة، وتأخذ خاتم كل إنسان خانت هذا الجنيّ معه، حتى تجمّع لها ما يربو على خمسمئة وسبعين خاتمًا، وهو رقم قابل طبعًا للزيادة إلى حد الوصول إلى «ألف خاتم وخاتم»، ومن هنا استحقت لقب «شهرزاد الأولى».
هذا الأمر جعل من شهريار وأخوه شاه زمان يُقرران العودة إلى ديارهما ومتابعة ممارسة الحكم من جديد، لكن بطريقة جديدة تتّسم بالعنف، لا سيما من لدُن شهريار، تجاه كل النساء.

لعبة التأويل
في وقوفه عند هذه الحكاية من كتاب «ألف ليلة وليلة»، يفتح كيليطو لعبة التأويل في اتجاه آخر، حيث يعتبر أن هذه الـ «شهرزاد» التي لا تحمل اسمًا، تشكل سرّ الكتاب بأكمله. إنها تفتحه على حكايات شهرزاد الأصلية ذاتها. بعد ذلك ينتقل بنا كيليطو إلى لعبة الحلم في كتاب «ألف ليلة وليلة» متوقفًا في هذا الصدد عند حكاية «حلم ليلة في بغداد». 
وتحكي هذه الحكاية أن رجلًا من بغداد كان غنيًا ثم أصابه الإفلاس. وذات يوم رأى في منامه قائلًا يقول له إن رزقه يوجد بمصر، وما عليه سوى أن يذهب للبحث عنه هناك. وبالفعل سينفّذ ما قيل له. وفي مصر سيتم القبض عليه وهو متهم بالسرقة، لوجود جماعة من اللصوص حاولوا سرقة أحد البيوت القريبة من المسجد، حيث كان ينام، لكنه ما إن يحكي قصته للوالي، حتى يُخبره هذا الأخير بأنه رأى في منامه، لثلاث مرات متتالية، مَن يخبره بوجود كنز في بيت بمدينة بغداد، ويصف هذا البيت له بشكل دقيق، ويحدد مكان الكنز فيه، لكنني مع ذلك لم أصدّق الحلم.
وحين يعود الرجل إلى بغداد بعد أن مدّه الوالي ببعض النقود من أجل تحقيق هذا الأمر، يعرف أن البيت المقصود بالوصف هو بيته الشخصي بالضبط، ويجد الكنز في المكان الذي وصفه له الوالي بالتحديد.
يُعيد كيليطو قراءة هذه الحكاية الشهيرة انطلاقًا من تصورات خورخي بورخيس حولها، ويُقارنها بمجموعة من الحكايات العالمية، ويُبين من خلالها أنّ ما نبحث عنه بعيدًا، كما يقول فرانز كافكا، يقطن قربنا. لا ننسى أن هذه الحكاية نفسها هي التي اعتمد عليها الكاتب البرازيلي الشهير باولو كويلو في صياغة روايته المعروفة «الخيميائي». 
بعد هذا يُسافر بنا كيليطو في عوالم السندباد البحري، ويقف في هذا الصدد على عملية التركيز على مصطبة من حجر توجد بالقرب من منزل السندباد البحري، وهي المصطبة التي سيجلس عليها لدى مروره بالقرب من هذا المكان سندباد آخر، هو السندباد الحمّال، أو بكل بساطة السندباد البري. 
إن التركيز على هذه العتبة سيجرّ التأويل نحو حكايات السندباد البحري وما عاناه في رحلاته السبع من مشاقّ، قبل أن يعود إلى مدينته الأصلية بغداد، ويشتري قصرًا منيفًا فيها، ويسكن فيه، هو وأهله، ويلتقي في رحابه من حين لآخر أصدقاءه، حيث يتشعّب الحديث وحيث يكون السندباد البحري هو سيّد الكلام بلا منازع.

بُعد غير شهرزادي
الكلام هنا يأخذ بعدًا آخر غير شهرزادي، إنه يتحوّل إلى مرآة، منها ومن خلالها يرى السندباد البحري نفسه، كما يراه أصدقاؤه من المستمعين إلى حكاياته الغريبة والعجيبة. أمّا بخصوص الحديث عن غراميات السندباد البحري، فإنّه، كما يذهب كيليطو إلى ذلك، يصبح غير مناسب، إذ إن السندباد البحري لا يتزوج عن حب، وإنما يتم تزويجه، وهو يقبل بالزواج من أجل المصلحة الشخصية. لا ننسى أنه تاجر، وتسري في دمه عروق المساومة وإمكانات الربح والخسارة والأخذ والرد. 
لكنّه في هذا الزواج الذي يتحدث عنه كيليطو، يقع في براثن عادات البلد المضيف، إذ تموت زوجته، فيُطلب منه أن يُدفن معها، وحين يرفض ذلك، يُرغم على الدفن معها وهو حيّ. ولولا لطف الله به لهلك من حينه، ولما تعرّفنا إلى حكايات أسفاره السبعة.
في هذا الكتاب يتم التركيز، بشكل أساسي، على صور السندباد البحري المتعددة، وتتم مقارنة مغامراته مع مغامرات «جاك القدري» للمفكر والروائي الفرنسي دنيس ديدرو حينًا، ومع مغامرات أوديسيوس في «الأوديسا» الهوميروسية، في غالبية الأحيان.
وعلى دأبه في مقاربات الحكايات المتعددة من وجهة نظر مقارنة، يعقد كيليطو، في إحدى دراساته الموجودة في هذا الكتاب، مقارنة ثقافية بين رحلة كل من جلجامش، الرجل العظيم الذي لم يكن يريد أن يموت، وبين أحد أبطال كتاب «ألف ليلة وليلة» وهو «بُلوقيا»، وذلك عبر لعبة المرايا والمتاهات البورخيسية، ليعود بعد ذلك إلى خورخي بورخيس ذاته ورغبته في تعلّم اللغة العربية الفصيحة حتى يقرأ بها كتابه الأثير إلى نفسه «ألف ليلة وليلة»، وحين تمكّن من تعلّم اللغة العربية أو كاد، فارق الحياة. 
وفي الأخير، ودائمًا في صُحبة بورخيس، يحدثنا كيليطو عن رغبة العديد من المترجمين الغربيين في امتلاك كتاب «ألف ليلة وليلة» وجعله كتابهم الشخصي، وذلك من خلال ترجماتهم المتعددة له، لكنّ هذا الكتاب ينفلت منهم باستمرار، وهنا تكمن قوته وجاذبيته التي لا تنتهي إلا كي تبدأ من جديد.
وطبعًا لا تنتهي مغارات كيليطو في قراءة الأدب الكلاسيكي، إذ بعد كتابه هذا «مَن نبحث عنه بعيدًا، يقطن قربنا»، يعود بنا من جديد لمساءلة هذا الأدب الكلاسيكي نفسه من رؤية أخرى ومن زاوية جديدة هي زاوية «الندم الفكري» الباشلارية ■

 

عبدالفتاح كيليطو