«الغريبة بتائها المربوطة» تجليات جديدة لصورة الوطن في الشعر المهجري

«الغريبة بتائها المربوطة»  تجليات جديدة لصورة الوطن  في الشعر المهجري

المجموعة الشعرية الجديدة للشاعرة العراقية دنيا ميخائيل «الغريبة بتائها المربوطة»، الصادرة عن دار الرافدين (بغداد - 2019) هي في تقديرنا واحدة من المجموعات الشعرية التي تمثّل صوتًا خاصًا وتجسّد حالات شعرية جديدة، وعلى قدر كبير من الاختلاف والمغايرة، وحافلة بكثير من الثراء الجمالي والدلالي، فهي تطوّف مع مقاربة حالات شعرية متماسكة ومتّسقة من الوجع المهجري وآلام فراق الــــــوطن والجذور التاريخية عبـر القصـــائد كلها، لكن برغم هيمنة هذه الحال شبه الثابتة، فإنها تتجلى بكيفيات شعرية واستراتيجيات قـــولـــيـة وتصـــويرية متنوعة وغير تقليدية. 

صورة الوطن في هذه المجمـــوعــــة الشعرية تبدو مغايرة لما كان سائدًا في شعر المهجريين في المراحل كافة
فبعضهم كان يتذكّر الأماكن الجميلة والطبيعة والدفء والأماكن التي كان يرتادها في الطفولة، في هيمنة تامّة لمشاعر الحنين، أو بعضهم يركز على الذكريات واجترارها في هيمنة للنوستالجيا في إطار أحداث ماضية.
أما لدى دنيا ميخائيل، فإن الوطن/ العراق يحضر في إطار حضاري يجعل من تاريخ العراق كيانًا كاملًا ومتحدًا، ليشكّل هوية هذا الوطن، فالوطن لديها ليس مرحلة معيّنة، أو مجرّد مكان تحنّ إليه الذات الشاعرة، بل هو أقرب لكائن حي له تاريخه وعمقه الحضاري تتأمله من بعيد وسط أوطان أخرى هي كذلك كائنات حية لتقارن حاله بحالها كلها أو تراه في إطار من العالم كما لو كان رجلًا عزيزًا مهيبًا له تاريخ ثم جار عليه الزمن.
لا يعني هذا أن الذات الشاعرة فصلت نفسها عن هذه الصورة الكلية والتاريخية للوطن، بل يعني أنها ألبست نفسها وكستها بهذه الصورة الحضارية الممتدة والعميقة له، فالعراق بالنسبة للذات الشاعرة ليس هو غير التاريخ البابلي والسومري الذي ليس مجرّد ماض انتهى، بل روح ممتدة جار الزمن عليها وعلى أهلها.
 حين غزا البرابرة العراق، بحسب التعبير الشعري في قصيدة «قبر جدتي»، فهم لم يأتوا إلى عراق صدام، بل جاءوا إلى العراق بعمقه التاريخي وآثاره وبشره المتحضرين. 

تقسيمات فرعية مرقمة
في القصيدة الأطول بالمجموعة وعنوانها «ألواح»، وقد أخذت تقسيمات فرعية مرقمة، نجد أنها عمدت إلى استلهام روح فكرة التدوين السومري على الألواح، وفيها صبت حالات مكثفة تجسّد حالات شعورية عديدة لتلك المهاجرة الغريبة وتأملاتها عن العالم، وكأنها تريد أن يكون التاريخ شاهدًا على اللحظة الراهنة بكل ما يثقلها من مشاعر التشتت والضياع. 
ولتجعل من رونق الحضارة العراقية القديمة أنيسًا ضمنيًا تعايشه ويعبّر عن عمق تجربتها الإنسانية الممتدة، وكأن النصوص تلمّح إلى كون الذات الشاعرة ليست ابنة العقود القليلة، بل هي الإنسان العراقي بامتداده وتاريخه العميق منذ آلاف السنين، ثمّ جاءت اللحظة التي هام فيها في البرية ولفّ الكون أو اغترب عن موطنه الأصلي. 
في قصيدة إيفا تصنع مقابلة بين الإنسان العراقي بتشرده وضياعه في المهجر وبين الإنسان الأوربي بسكونه واستقراره، فتأتي بامرأة عجوز مطمئنة تجاوزت التسعين من عمرها بمدينة استكهولم في مقابل شابة عراقية، وتجعل من كل واحدة منهما مرآة للأخرى ترى فيها ذاتها، واحدة من مدينة لم تعرف الحرب منذ مئتي سنة، والأخرى من مدينة يطلقون عليها دار السلام وإن طحنتها الحرب لقرون.
وهذه القصيدة الثرية فيها توظيف عميق ورمزي لفكرة لعلامات المكان وأحجار الطريق والآثار، وتنفذ منها القصيدة إلى آثار بابل وتاريخ العراق بعفوية مدهشة، وتربط بين النموذج الإنساني الراسخ المستقر وأساطير بابل في إشارات لغوية مكثفة قد لا تزيد على كونها تشبيهًا واحدًا في القصيدة، حين جعلت تلك المرأة مثل إلهة. ليكون النص الشعري قادرًا على الإيحاء بمضامين أسطورية وتاريخية عميقة بأقل الكلمات ودون نزعة خطابية مباشرة، وهي في الأصل تركّز على تجسيد الحالة الإنسانية، وجعلت الهشاشة والوحدة والشتات والمهجر في مفارقة مع حال الاستقرار والرسوخ والثبات والطمأنينة، وهذه المفارقة هي محور الشعرية في النص.

سلاح عاجز
في نص آخر يبدو الشعر، رغم كل قوته، ضعيفًا أمام عالم يمتلئ بالعنف والقسوة، وتبدو القصيدة سلاحًا عاجزًا عن المواجهة أو القدرة على التغيّر، وهذه النزعة في الواقعية والمصارحة هي مركز الشعرية، لأنها صنعت عمقًا للألم، عبر الاعتراف الذي يتدفق في حال من الاستسلام تبدو جمل القصيدة مطاوعة من الناحية الصوتية لوتيرته الهابطة، وكأن كل جملة بنغمتها الهابطة جلوسًا مفاجئًا على الأرض ليكون الشكل في قمة التجاوب مع المضمون، وفي تقديرنا أن جزءًا كبيرًا من جمال النص الشعري في هذه الحال الاستثنائية من تفاعل داخل القصيدة - وروحها ومعناها أو مراميها الدلالية - مع خارجها أو بنيتها الشكلية. 
فالجمل كافة تهيمن عليها النبرة الهابطة المناسبة للاعتراف والاستسلام. حتى أول جملة وهي استفهامية، حيث تقول: «تتذكرون ذلك الطفل المستلقي على وجهه؟/ والموجة تغادره برفق/ كأنها حلمه ونسيها؟/ قصيدتي لن تقلبه على ظهره». 
وهكذا تمضي القصيدة التي تبدأ من قمة الوجع في حال ذلك الطفل السوري الغريق الذي أثارت صورته عالم الـ «سوشيال ميديا»، بعدما تم تداولها على نطاق واسع، ليكون الشعر هنا قد تضافر مع قوة الواقع ومع وسائل اتصال أخرى مهّدت لحضور صوره، فهي ليست بحاجة إلى وصفه بمزيد من الأسى، لأنّ الناس قد رأوا الصورة، وليست بحاجة إلى محاولة تأمل حالته أو حال أمه كما ربما كانت ستفعل القصيدة العربية الكلاسيكية، بل شعرت الذات الشاعرة أنها لن تحتاج إلا لمزيد من المصارحة والاعتراف بالضعف والتجرّد التام من أساليب المقاومة كافة، أو الادعاء بالقدرة على المواجهة والتماسك أمام كل هذا القدر من الحزن الذي رسخّته صورة الطفل الغارق. 

مشاكل وجودية
لا تقف القصيدة عند حدود تلك الصورة للطفل، بل تمتد إلى مشاكل وجودية أخرى ومظاهر عديدة للشرّ، وكأن الشعر قد أصبح البطل الأسطوري الذي يتجول في العالم، بعدما فقد قدراته الخارقة التي كان يعوّل عليها في إصلاح العالم. ولتمثّل السياحة في المكان وانتقالات النص عبر مسافات متباعدة شكلًا من التجول والتيه أو حالة لهائم في الوجود لا يعرف له مستقرًا، وهي حال القصيدة الآن بعدما تشتّت في عالم منفتح على بعضه، لكنّه مزدحم كذلك بالشرّ، بحسب الرؤية الشعرية المطروحة في النص.
في نصوص هذه المجموعة الشعرية كافة نلحظ حالًا من التفاعل العفوي والحركي بين علامات الماضي البعيد القادم من بابل أو الحضارة السومرية مع علامات الراهن والواقع الحضاري، مثل التكنولوجيا والحروب النووية، أو غيرها من المظاهر الحياتية في تجاور وامتزاج مدهش وبعيد عن التكلف، وهو ما نجد مثاله في قصيدة «مئة عام من النوم» أو «ألواح» أو «قبر جدتي» أو «الغريبة بتائها المربوطة»، التي تصنع كائنًا غرائبيًا من الأنثى المهاجرة في مواجهة مع ذكور يتخيل لها كل واحد منهم هوية مختلفة، وبعضها سحري يجمع بين الغواية والموت في إحالة جديدة واستخدام عصري ومختلف للأساطير والعجائبية.
وإجمالًا هي مجموعة ثريّة وفيها نصوص كثيرة حافلة بالصور والحالات الشعرية الجديدة، ولها استراتيجيات شعرية متنوعة، وجديرة بالقراءة والتأمل، وتكشف عن قدر كبير من الخصوصية والثراء جماليًا ودلاليًا ■