الأصوات الخافتة... تصرُخ

الأصوات الخافتة... تصرُخ

في‭ ‬زيارة‭ ‬عابرة‭ ‬لأمريكا‭ ‬منذ‭ ‬عدة‭ ‬سنوات،‭ ‬جلست‭ ‬مشدوهًا‭ ‬أمام‭ ‬التلفزيون،‭ ‬كانت‭ ‬هناك‭ ‬مقابلة‭ ‬مع‭ ‬سيدة‭ ‬تدعى‭ ‬بولا‭ ‬جونز،‭ ‬تحكي‭ ‬بالتفصيل‭ ‬كيف‭ ‬نجح‭ ‬الرئيس‭ ‬الأسبق‭ ‬بيل‭ ‬كلينتون،‭ ‬عندما‭ ‬كان‭ ‬حاكمًا‭ ‬لولاية‭ ‬أركنساس،‭ ‬في‭ ‬استدراجها‭ ‬لغرفته‭ ‬بأحد‭ ‬الفنادق‭ ‬واغتصابها،‭ ‬كان‭ ‬أمرًا‭ ‬مذهلًا‭ ‬في‭ ‬حينها،‭ ‬لم‭ ‬أتصوّر‭ ‬أن‭ ‬تقوم‭ ‬هذه‭ ‬السيدة‭ ‬الضئيلة‭ ‬الحجم‭ ‬بفضح‭ ‬أكبر‭ ‬رئيس‭ ‬دولة‭ ‬في‭ ‬العالم،‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬قمّة‭ ‬سلطته،‭ ‬دون‭ ‬مبالاة‭ ‬بما‭ ‬لديه‭ ‬من‭ ‬أجهزة‭ ‬أمن‭ ‬أو‭ ‬مخابرات‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تدمّرها،‭ ‬كانت‭ ‬صيحة‭ ‬امرأة‭ ‬منتهكة‭ ‬تثأر‭ ‬لكرامتها،‭ ‬وتكشف‭ ‬عن‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬أقدم‭ ‬جرائم‭ ‬التاريخ،‭ ‬عندما‭ ‬يستغل‭ ‬الذكر‭ ‬سلطته‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬إخضاع‭ ‬أنثى‭ ‬لرغباته‭. ‬

جريمة‭ ‬التحرش‭ ‬لا‭ ‬تخلو‭ ‬منها‭ ‬حضارة‭ ‬ولا‭ ‬مكان،‭ ‬ومازالت‭ ‬تتكاثر،‭ ‬رغم‭ ‬أن‭ ‬القوانين‭ ‬الحديثة‭ ‬تحرّمها‭ ‬وتُدخل‭ ‬مرتكبيها‭ ‬السجن‭ ‬أحيانًا،‭ ‬إلّا‭ ‬أنها‭ ‬لا‭ ‬تتوقف،‭ ‬ويتم‭ ‬ارتكابها‭ ‬في‭ ‬الشارع‭ ‬ومكان‭ ‬العمل،‭ ‬بل‭ ‬وبين‭ ‬أفراد‭ ‬الأسرة‭ ‬الواحدة‭ ‬وعبر‭ ‬كل‭ ‬الطبقات،‭ ‬وحتى‭ ‬وقت‭ ‬قريب‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬هذه‭ ‬الجريمة‭ ‬علنية،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬هناك‭ ‬قانون‭ ‬يحدّ‭ ‬منها،‭ ‬لأنّ‭ ‬العالم‭ ‬كان‭ ‬ذكوريًا‭ ‬لدرجة‭ ‬مطلقة،‭ ‬الرجل‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬يحكم‭ ‬ويختار،‭ ‬ويسنّ‭ ‬القوانين‭ ‬التي‭ ‬تؤكد‭ ‬سيطرته،‭ ‬أما‭ ‬صوت‭ ‬المرأة‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬خافتًا،‭ ‬ويكاد‭ ‬يكون‭ ‬غير‭ ‬موجود‭ ‬صحيح‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يعُد‭ ‬يتم‭ ‬وأدها‭ ‬في‭ ‬الرمال،‭ ‬كما‭ ‬كانت‭ ‬الحال‭ ‬في‭ ‬الجاهلية،‭ ‬لكنّها‭ ‬ظلت‭ ‬مدفونة‭ ‬في‭ ‬أعماق‭ ‬الحريم،‭ ‬محرومة‭ ‬من‭ ‬الخروج‭ ‬ومن‭ ‬التعليم،‭ ‬وحتى‭ ‬من‭ ‬الكشف‭ ‬عن‭ ‬وجهها،‭ ‬مهما‭ ‬يحدث‭ ‬لها‭ ‬من‭ ‬تحرُّش‭ ‬أو‭ ‬امتهان‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬اغتصاب،‭ ‬لا‭ ‬يُقبل‭ ‬منها‭ ‬اعتراض،‭ ‬ولا‭ ‬أحد‭ ‬يأبه‭ ‬بالاستماع‭ ‬إلى‭ ‬صوتها‭ ‬الخافت،‭ ‬فما‭ ‬إن‭ ‬ترفعه‭ ‬حتى‭ ‬توجه‭ ‬لها‭ ‬أصابع‭ ‬الاتهام‭. ‬هي‭ ‬أسّ‭ ‬الغواية،‭ ‬ومهما‭ ‬أكّدت‭ ‬روايتها،‭ ‬فإن‭ ‬شهادة‭ ‬الرجل‭ ‬هي‭ ‬القابلة‭ ‬للتصديق‭.‬

‭ ‬لكنّ‭ ‬الأصوات‭ ‬الخافتة‭ ‬بدأت‭ ‬أخيرًا‭ ‬في‭ ‬الارتفاع،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬انكشف‭ ‬الغطاء‭ ‬عن‭ ‬حفنة‭ ‬من‭ ‬كبار‭ ‬السياسيين‭ ‬والفنانين‭ ‬ورجال‭ ‬الأعمال،‭ ‬وقد‭ ‬سقطوا‭ ‬في‭ ‬هاوية‭ ‬التحرّش،‭ ‬منذ‭ ‬أن‭ ‬تعرّض‭ ‬رئيس‭ ‬أكبر‭ ‬دولة‭ ‬للمساءلة‭ ‬أمام‭ ‬القضاء،‭ ‬وهبطت‭ ‬مئات‭ ‬الفتيات‭ ‬إلى‭ ‬ميدان‭ ‬التحرير،‭ ‬وقادت‭ ‬اللبنانيات‭ ‬تظاهرات‭ ‬الاحتجاج‭ ‬ضد‭ ‬فساد‭ ‬الطبقة‭ ‬الحاكمة،‭ ‬وحلّت‭ ‬المرأة‭ ‬الواعية‭ ‬التي‭ ‬أكملت‭ ‬مراحل‭ ‬التعليم‭ ‬مكان‭ ‬‮«‬الحُرمة‮»‬‭ ‬القديمة،‭ ‬أكسبها‭ ‬التعليم‭ ‬الثقة‭ ‬بالنفس،‭ ‬فواجهت‭ ‬وتحمّلت‭ ‬النقد‭ ‬والتهديد‭ ‬بالفضيحة،‭ ‬تآلفت‭ ‬مع‭ ‬غيرها‭ ‬من‭ ‬الضحايا،‭ ‬وخلقن‭ ‬من‭ ‬بعضهنّ‭ ‬البعض‭ ‬قوة‭ ‬إضافية‭.‬

‭ ‬في‭ ‬الغرب‭ ‬تكونت‭ ‬جماعة‭ ‬‮«‬مي‭ ‬تو‮»‬،‭ ‬التي‭ ‬فضحت‭ ‬واحدًا‭ ‬من‭ ‬أشهر‭ ‬المنتجين،‭ ‬الذي‭ ‬استغل‭ ‬عشرات‭ ‬الممثلات،‭ ‬وفي‭ ‬عالمنا‭ ‬العربي‭ ‬تحوّل‭ ‬الصمت‭ ‬إلى‭ ‬همس،‭ ‬وتحوّل‭ ‬الهمس‭ ‬إلى‭ ‬صراخ‭.‬

في‭ ‬مصر‭ ‬استطاعت‭ ‬فتاة‭ ‬واحدة‭ ‬أن‭ ‬تكشف‭ ‬الستار‭ ‬عن‭ ‬مجرم‭ ‬تحرّش‭ ‬بأكثر‭ ‬من‭ ‬16‭ ‬فتاة،‭ ‬وفي‭ ‬الكويت‭ ‬ظهرت‭ ‬جماعة‭ ‬‮«‬لن‭ ‬أسكت‮»‬،‭ ‬لتمثّل‭ ‬دعمًا‭ ‬لكل‭ ‬امرأة‭ ‬تريد‭ ‬أن‭ ‬تعترض‭ ‬وتكشف‭ ‬عن‭ ‬حكايتها،‭ ‬فتيات‭ ‬متعلمات‭ ‬مثقفات‭ ‬يدافعن‭ ‬عن‭ ‬إنسانيتهن،‭ ‬يرفضن‭ ‬السكوت‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬أيّ‭ ‬إهانة‭ ‬تحطّ‭ ‬من‭ ‬قدرهن،‭ ‬تقول‭ ‬بأن‭ ‬عصر‭ ‬الجواري‭ ‬قد‭ ‬انتهى،‭ ‬وأن‭ ‬عصر‭ ‬الحرائر‭ ‬قد‭ ‬بدأ‭ ‬