حلَب الشهباء تراثٌ يصمد ومدينة تحيا بحُبّ الحياة

حلَب الشهباء  تراثٌ يصمد ومدينة تحيا بحُبّ الحياة

حلب لؤلؤةٌ وضّاءة في جبين الأمة، وهي من أقدم مدن العالم، لا تزال مزدهرة زاخرة بالحياة، ويزداد جمالها مع مَرّ الأيام والأزمان. تقع حلب على مفترق الطرق التجارية الكبرى، وعلى حدود البادية، وتمتاز باحتفاظها بكنوزها الأثرية الإسلامية. مدينة صمدت أمام الغزاة وقاومت، دمّروها فنهضت وعادت أقوى ممّا كانت عليه، في الحرب الأخيرة تعرّض تراثها للتدمير، لكنّها ستعود أقوى مما كانت عليه، تراثها المادي واللامادي ينبئ عن شخصية قوية عركها الزمان وأحزنها، فكانت البهجة روح أهلها المقاومة للظلم.

وردت حلب في عدد كبير من النصوص الأثرية، ففي لارسا - واسمها الآن سنكرة - أثران، يرجع عهدهما إلى 2036 - 2047 ق. م، جاء في الأول: «إلى عشتار الحلبية أنا وردسين ملك لارسا»، وجاء في الثاني «عشتار الحلبية: ابنة البكر»، والرقم الأثرية تذكر حلب بأسماء متقاربة في اللفظ: ففي الآثار المصرية تذكر باسم «حلبو»، و«حلب كو»، و«حللبون»، وفي الآثار الحيثية تذكر باسم «حلب» و«حلباس» و«حالااب»... إلخ.
ويعتقد عبدالفتاح رواس قلعة جي أن مدلول كلمة حلب لا يخرج عن كونه مكان التألّب والتجمع، أو مكان القلب، وعلى هذا تكون الكلمة:
1 - إمّا مركّبة من كلمتين أ- حلّ وتعني نزول القوم، وهو نقيض الارتحال، ولها المدلول نفسه في «العبرية» إذا أبدلت اللام نونًا، وهو إبدال معروف في العربية وسائر اللغات السامية، وفي البابلية لفظة قريبة من حل هي «إلى» وتعني المدينة، (ومثلها في الأكدية «ألو» وفي اللفظتين أبدلت الحاء همزة).
 ب - لبّ وتعني التألب والتجمع، والقلب، وقد وردت في العبرية والسريانية والأكدية بمعنى القلب.
وعلى هذا يكون معنى حلب هو مكان التجمّع والتألّب، أو مكان القلب، وكانت حلب مكان القلب والتجمع بين ماري وإيبلا وكركميش ومابوغ وأوغاريت وأراسا وكانس وأراباد، وكانت المركز الديني الأول وقبلة المدن الأخرى بمعبودها الشهير الإله حدد، والمركز التجاري الأكثر أهمية.
2 - أنها تحمل معناها وتركيبها الأصلي، فقد جاء في القاموس المحيط: حلب القوم حلبًا وحلوبًا اجتمعوا من كل وجه. وقاموس اللغات العربية القديمة (السامية) غير منقطع عن قاموسها الجديد، وعلى هذا تكون أيضًا بمعنى التجمّع، فهي الواسطة بين مخاضات الفرات والبحر، وبين ممرات طوروس وجنوبي سورية وطريق مصر، كما أسلفنا.
ولعلّ أقدم ذكر لحلب يعود إلى ما قبل القرن الخامس والعشرين قبل الميلاد، وفي عهد ريموش بن سارغون الأكادي (2530 - 2515 ق. م) مؤسس أول إمبراطورية سامية في الشرق، لقد استولى ريموش على حلب وأسر ملكها أو شومكال، وكانت آنذاك مدينة مزدهرة قوية.

حلب عبر العصور
كانت حلب عاصمة مملكة يمحاض الأمورية في فاتحة الألف الثاني ق. م، وهي من أعظم ممالك الهلال الخصيب، وكانت لملوك حلب سطوة كبرى تشبه سطوة ملوك السلالة الأولى البابلية. وقد أرسلت مملكة حلب جيوشها الكثيرة العدد لمساعدة الملك البابلي المشهور حمورابي.
وعقدت معاهدات صداقة بين حلب وبابل وماري (تل الحريري حاليًا على الفرات قرب البوكدال). ويدلنا على سطوة مملكة يمحاض وقوة سلالتها الأمورية الحاكمة، أن عشرين ملكًا كانوا تابعين وخاضعين لها.
وهاجم الحيثيون «حلبًا» في منتصف القرن الثامن عشر ق. م، فقاومت هجومهم وانتصرت عليهم بادئ ذي بدء، لكنها ما لبثت أن خضعت إليهم، ودخلها الملك مورشيل الأول فاتحًا، وخربت تخريبًا شنيعًا انتقامًا لما أبدته من مقاومة، ونُفي عددٌ من سكانها إلى حاثوشا (عاصمة الحيثيين)، وقتل كثير من أبنائها.
وظلت تحت نير الحيثيين حتى منتصف القرن السابع عشر، إذ استعادت استقلالها عنهم، لكنّها ما لبثت أن خضعت للميتانيين الذين حكموها حتى سنة 1473 ق. م، واستولى عليها بعد ذلك المصريون الفراعنة لفترة قصيرة. 
وكانت، في القرنين الخامس عشر والرابع عشر ق. م، تقع تارة بيد الحيثيين وتارة أخرى بيد الميتانيين.
لكنّ الفاتح الحيثي شيبلوما فتحها، وأصبحت مملكة ذات أهمية يحكمها ملوك من السلالة الحيثية الكبرى، وقد خلف ملكها تليبينو ابنه تلمي شروما، وبقيت المملكة الحلبية تحت السلطة الحيثية حتى سنة 1200 ق. م، إذ انهارت المملكة الحيثية تحت ضربات الشعوب الآتية من الشمال، التي سميت بـ «شعوب البحر». 
أصبحت حلب قاعدة لمملكة صغيرة آرامية مستقلة، إلى أن فتحها سلمنصر الثالث في سنة 853 ق. م، ثم استولى عليها في عهد تغلا تفلصر، وبقيت تحت سلطتهم حتى انهيار دولتهم في سنة 612 ق. م.
 وخضعت حلب بعد ذلك للحكم البابلي الحديث مدة قرن تقريبًا، ثم دخلت في حوزة الإمبراطورية الفارسية الأخمينية، وبقيت حتى سنة 333 ق. م، حيث فتحها الإسكندر الأكبر المقدوني.
ودخلت، بعد وفاة الإسكندر في حوزة قائده سلوقس نيكاتور مؤسس السلالة السلوقية، فأعاد إليها مجدها ورمّمها، وجدد بناءها وسمّاها «بيروة»، تخليدًا لاسم مدينة بيروة المقدونية، وسكنت «حلبًا» جالية مقدونية كبيرة أتت من بيروة، فأصبحت من جديد إحدى المدن السورية الكبرى. 
واحتلها الأرمن قليلًا من الوقت في عهد ديكران الكبير، ثم فتحها الرومان سنة 64 ق. م على يد قائدهم بومبه، وقد ازدهرت في عهد السلم الروماني، وكانت في العهد البيزنطي أبرشية كبرى.
وغزاها في سنة 540 م الفرس الساسانيون وخرّبوها وحرقوها، وإن لم يتمكنوا من فتح قلعتها، لكن الإمبراطور البيزنطي جستنيان رممها وبناها وحصّنها.

الفتح الإسلامي لحلب
فتح المسلمون «حلبا» في سنة 636 م بقيادة أبي عبيدة بن الجرّاح وخالد بن الوليد، وازدهرت حلب في العصر الأموي والعصر العباسي، وحكمها في القرن 4هـ/10 م بنو حمدان، وبلغت ذروة مجدها في أيام سيف الدولة الحمداني، وكان له فضل كبير في قيادة الحروب التي دارت رحاها بين المسلمين والروم.
وقد غزا هؤلاء في عقر ديارهم، في قلب الأناضول، لكنّه غلب على أمره أخيرًا، واستطاع نيقفور فوكاس غزو حلب، فخرّبها تخريبًا شنيعًا، وإن لم يتمكّن من قلعتها، وقاد كثيرًا من سكانها أسرى حينما غادرها، ثم عاد إليها سيف الدولة، فرمّمها وأسكن بها سكان قنسرين عوضًا عن سكانها الأصليين الذين أسرهم الروم. وكان سيف الدولة يكرّم الشعراء والكتّاب والعلماء، ومن أشهرهم الشاعر أبوفراس الحمداني وأبوالطيب المتنبي.
ثم تناوب على حكم حلب العبيديون في سنة 306 هـ/ 1015 م والمرادايسون سنة 315 هـ، 1024م والسلجوقيون سنة 475 هـ، 1086 م.
وحين زحف الصليبيون على سورية واستولوا على أنطاكية سنة 492 هـ/ 1098 م، سعى رضوان أمير «حلبا» السلجوقي، مع سائر الأمراء المسلمين إلى استعادة أنطاكية، فلم يفلح.
وقد حاصر الصليبيون حلب مرارًا وفرضوا الجزية عليها، ثم استعان الحلبيون بعماد الدين بن زنكي أمير الموصل الذي قبل اعتلاء عرش حلب، ونجت في عهده من الكابوس الصليبي.
 وخلف نورالدين محمود والده، وتكاثرت انتصارات المسلمين على الصليبيين، وتمكنت جيوش حلب من أسر كثير من رؤوس الصليبيين والروم، ومن بينهم بودان الثاني ملك القدس، ورينودي شاتيون أمير أنطاكية، وجوسلان كونت أديسا (الرها - أروقه).
وحكم «حلب» بعد وفاة نورالدين ابنه، ثم آلت إلى صلاح الدين الأيوبي، الذي وضع أخاه حاكمًا عليها، ثم أعطاها إلى ابنه الملك الظاهر غازي، وكان من أعظم ملوكها ومُصلحيها، فقد رمم أسوارها وحصّن قلعتها، وجعلها مركزًا له ولبلاطه.
وخلف الملك الظاهر ابنه الملك العزيز، ثم الملك الناصر الثاني يوسف، وقد استولى المغول في عهد الأخير على حلب بقيادة هولاكو، وذلك سنة 658 هـ/ 1260 م، وقد أحرقها وسبى سكانها وتمكّن من قلعتها بعد حصارها ووعده باحترامها واحترام من فيها، لكنه قتل حماتها وخرّبها.
وخرج المغول من حلب بعد انتصارات المماليك عليهم في عين جالوت وحمص، ورمّم الملك الأشرف قلاوون المدينة والقلعة، وما لبث المغول أن عادوا إلى حلب واحتلوها في عهد تيمورلنك سنة 804 هـ/ 1401 م، وهدموها وأحرقوها ودمّروها من جديد، لكنهم لم يمكثوا فيها طويلًا، فعاد إليها المماليك ورمموها وظلوا فيها إلى عام 922 هـ /1516 م.
ودخلت حلب في حوزة العثمانيين بعد معركة دابق - شمالي حلب - وظلت خاضعة للعثمانيين حتى سنة 1247هـ/ 1831م، حيث استولى عليها إبراهيم باشا بن محمد علي باشا والي مصر.
وظلت خاضعة للحكم المصري حتى عام 1256 هـ/ 1840 م، وعاد إليها العثمانيون من جديد بمعونة الدول الأوربية، وعلى رأسها إنجلترا وروسيا والنمسا، وظلوا فيها إلى آخر الحرب العالمية الأولى، وحينئذ دخلت في حكم الأمير فيصل بمساعدة الحلفاء، ثم خضعت مع المدن السورية للحكم الفرنسي منذ عام 1920 حتى عام 1946م، حين نالت سورية استقلالها.

أسواق حلب
عرفت حلب بأسواقها المتنوعة التي سمّيت بأسماء الحرف والصناعات التي كانت قائمة في المدينة، ومنها أسواق النحاسين والعطارين والحدادين، والبن، والجمال، والحرير، والحصارين، والخابية، والخشابين، والخضرية، والخيل، والزجاجين، والصباغين، الذين كانوا يقومون بصبغ الأقمشة، وسوق الصرماتية، ويسمى القوافخانة، وتصنع في هذا السوق وتباع الأحذية الحلبية التقليدية، المعروفة باسم الصرماتية، وتكون حمراء أو صفراء. 
وسوق الصيّاغ، ويوجد في حلب سوقان للصياغ، وفيها الآن عدة أسواق لهم. وكانت نتيجة ازدهار التجارة أن انتشرت الخانات بحلب، ومن أشهرها خان السبيل وخان الحرير وخان إستانبول، وخان الشوربجي، وكثرة الخانات في حلب دليل واضح على ازدهار الحركة التجارية.

المنشآت الصناعية
بلغت العديد من الصناعات ذروتها وروعتها ودقّتها في مدينة حلب خلال العصرين المملوكي ثم العثماني.
ولعل ما تدلّنا عليه الآثار الباقية وسجلات المحكمة الشرعية وأوقاف حلب يؤكد أن المدينة شهدت في العصر العثماني نشاطًا صناعيًا مكثفًا، خاصة في صناعة النسيج، وقد بلغ هذا النشاط ذروته في القرنين السابع عشر والثامن عشر، ويعود ذلك إلى موقع حلب على طرق التجارة وانفتاحها على السوق الكبير للدولة العثمانية.
كان يوجد في حلب مع بداية القرن التاسع عشر 12 ألف نول نسيج و100 مصبغة، إضافة إلى قائمة طويلة من المنسوجات المتنوعة منها، منسوجات من الحرير ومن الساتان، وأقمشة مقصّبة بالذهب والفضة، وشيلان من الصوف. 
وقد عُثر على وثيقة مؤرخة عام 1762 م، خاصة بصناعة النسيج في حلب تذكر على الأقل 43 نوعًا مختلفًا من الأقمشة المنسوجة في حلب.
إن الإحصاءات التجارية الخاصة بمدينة مارسيليا الفرنسية هي مؤشر طيّب على ازدهارها، وهذا الإنتاج في القرن الثامن عشر الميلادي:
لقد ازدادت مشتريات مرسيليا من منسوجات حلب من 85 ألف جنيه في 1700 - 1702 م، إلى مليون و326 ألف جنيه في 1785 - 1754 م. ثم وصلت إلى مليون و696 ألف جنيه في 1785 - 1789 م. أي على التوالي 10.4، و63.9، و48.2 في المئة من مجموع مشتريات مرسيليا من المنسوجات، وفي خلال هذه الفترة الأخيرة كانت مرسيليا تستورد من حلب 67 في المئة من مجموع قيمة المنسوجات التي تستوردها بلدان المشرق.
نمت صناعة النسيج في حلب في الضاحية الشمالية الشرقية للمدينة، وكانت أحد عوامل النمو العمراني لهذه المنطقة، فقد شهدت المنطقة الواقعة شمال باب النصر إقامة مشاغل للنسيج أو للصباغة، ظل العديد منها قائمًا إلى اليوم.
كان هذا التوسع يتركز في قيسارية النسيج، وهي عبارة عن مبنى مستطيل به غرف النسيج المتفاوتة المساحة، وقد شيّد في حي الجديدة ضمن وقف بشير أغا ثلاث قيساريات تضمّ على التوالي 27 و14 و16 غرفة ذات مساحة متنوعة للغاية أكبرها طوله 7.80 أمتار وعرضها 6.30 أمتار، أي مساحتها 49 مترًا مربعًا، ويبلغ طول أصغر غرفة 5.60 أمتار، وعرضها 3.40، أي بمساحة قدرها 19 مترًا مربعًا، وهي موزعة على طابقين.
كانت هذه القيساريات مزودة بسلالم في الفناء للوصول للطابق العلوي الذي يتضمن شرفات واسعة، حيث يمكن للنسّاجين القيام بالعمليات التي تستلزم نشر الخيوط، وكان ريع هذه المنشآت الصناعية يوقف غالبًا للصرف منه على أوجه الخير المختلفة خاصة المساجد.
كما كانت صناعة الصابون إحدى الصناعات المزدهرة في حلب، وقام بارييه دي بوكاج بإحصاء سبعة معامل للصابون (مصبنة) في حلب، توجد منها مصبنة ما زالت موجودة، وإلى حدّ ما سليمة، وهي عبارة عن مبنى كبير أقيم في القرن السابع عشر أو الثامن عشر الميلادي، يشتمل المبنى من الداخل على أحواض لصنع الصابون في ردهات معقودة، وتوجد في الطابق العلوي مناشر تعلوها مناور سماوية.
ومن المنشآت الصناعية التي ظلت باقية في حلب إلى وقت قريب المصبغة الكبيرة المشيدة في القرن السادس عشر، والتي كانت تقع خارج باب أنطاكية: كان يبلغ طول هذه المصبغة 170 مترًا وعرضها 40، ومساحتها حوالي 6800 متر مربع، وتشمل 53 غرفة في الطابق الأرضي و58 في الطابق العلوي. وهي ملحق بها حمام مخصص للدباغين ومسجد يقع بالقرب منها.

منازل حلب
تركزت في وسط حلب العديد من منازل أثرياء المدينة، والتي تتراوح مساحتها بين 400 و900 متر مربع، ويتوسطها صحن به حوض للمياه أو فوارة، وبه سلّم صاعد للطابق العلوي، ويطل عليه إيوان يجلس فيه سيّد الدار مع ضيوفه أو أهل بيته، وبالمنزل قاعة كانت تمتاز بالفخامة، وتستخدم لاستقبال الضيوف.
هذا الطراز من المنازل انتشر في حي سويقة علي وحي فرافيره، وهناك مساحات أقل للمنازل في حلب تتراوح بين 80 و200 متر مربع، وتتباين عناصرها المعمارية مع تباين ثراء مالكها.

مساجد وجوامع ومدارس حلب
جامع حلب الكبير: بُني جامع حلب الكبير في العهد الأموي على هيئة جامع دمشق في أيام الخليفة سليمان بن عبدالملك، ثم تهدّم أكثر من مرة، كانت الأولى حين غزا الإمبراطور نقفور فوكاس مدينة حلب وخرّبها، والأخيرة كانت على يد تيمورلنك، وجدد في العهد المملوكي. وأقدم شيء فيه مئذنته الرائعة، وهي مربّعة الشكل شيدت في عام 1090م، ويشتهر أيضًا بمنبره الخشبي المصنوع من خشب الأبنوس المطعّم بالعاج، صنع في أيام السلطان الناصر محمد بن قلاوون في القرن 8 هـ/14 م. (لوحة 153  - 154).
وفي حلب كثير من المساجد، أهمها جامع الأطروش الغني بواجهاته المبنية بالحجر المنحوت، وهو من العهد المملوكي، ثم جامع الخسروية، وجامع العادية والبهرمية، وهما من العهد العثماني، وفي القرن الـ 10 هـ/16 م تمثّل فن العمارة العثماني بقبابها والقاشاني الذي يزيّن جدرانها.

المدرسة الشاذبختية
أنشأها الأمير جمال الدين شاذبخت الهندي الأثايكي، وذلك تلبية لأمر نورالدين محمود، سجّل تاريخ إنشائها سنة 589 هـ/ 1193 م، على مدخلها الرئيسي الذي يقع في مقابل إيوان القبلة.
ولما تم بناؤها استدعى الأمير جمال الدين شاذبخت، العلامة نجم الدين مسلم بن سلامة من سنجار ليتولّى التدريس بها، وتقع المدرسة في السوق المعروفة باسم سوق الغرب، وهي تُعرف حاليًا باسم جامع المعروف.
المدرسة الجوانية
من المدارس ذات الإيوانين بحلب المدرسة الجوانية أو السلطانية التي بدأ في تأسيسها الملك الظاهر بن صلاح الدين، إلّا أنه توفي سنة 613 هـ قبل إتمامها، وبقيت مدة بعد وفاته حتى شرع في تكملتها شهاب الدين طغرل أتابك الملك العزيز، فعمّرها وأكملها سنة 620 هـ /1223م، وقد كانت مدرسة مشتركة، فقد خصصت لتدريس مذهبَي الشافعية والحنفية، وقد درس بها القاضي بهاء الدين بن شداد، وولي نظارتها القاضي زين الدين أبو محمد عبدالله الأسدي، قاضي قضاة حلب.

 

البيمارستان الأرغوني
لعله أهم البيمارستانات التي ما تزال قائمة في الشام، ويعتبر مثلًا كاملًا للبيمارستانات التي كانت تقوم مقام المستشفيات في عصرنا، وهو بناء مهم من حيث مخططه وفنّ عمارته، بناه في محلة باب قنسرين نائب السلطة أرغون شان سنة 8 هـ /14 م، ويوجد في حلب بيمارستان أقدم منه، بُني في عهد نورالدين في محلة الجلوم، لكنّه متهدم بعض الشيء. (لوحة 156 - 157).

السور والأبواب
لا تزال مدينة حلب تحتفظ كأكثر مدن الشرق بجزء من أسوارها الحصينة وعدد من بواباتها الضخمة، وقد تهدّم سورها مرات خلال الغزوات التي اجتاحت المدينة في أيام الروم والتتار، ثم أعيد ترميمه، وما يشاهد منه اليوم يرجع إلى العهدين الأيوبي والمملوكي، وأهم أبواب السور الباقية: النصر، والحديد، وأنطاكية، وقنسرين.

قلعة حلب
يعتبر تاريخ القلعة صدى لتاريخ المدينة، وهو حافل بأحداث النضال والمقاومة. تذكّرنا القلعة بأبي عبيدة وخالد وقصة الفتح الخارقة، وتذكّرنا بسيف الدولة وحروبه الدائمة مع الروم البيزنطيين، وبالملك العادل نورالدين ومعارك التحرير التي قادها ضد الصليبيين، إلى غير ذلك من المواقف والذكريات.
شيّدت قلعة حلب في العهد الهلنستي فوق مرتفع طبيعي يتوسط المدينة، كان في العهود السحيقة مقرًا للمدينة القديمة التي تهدمت مع الزمن، لكن الأبنية التي نشاهدها الآن ترجع في مجملها إلى العهدين الأيوبي والمملوكي، وأكثرها يعود إلى أيام الظاهر غازي، أجريت بها ترميمات واسعة في عهد سلاطين المماليك، قلاوون وقايتباي وقانصوه الغوري.
وأهم شيء في القلعة اليوم، خندقها العميق الواسع الذي يبلغ قطره الكبير أكثر من خمسمئة متر وعرضه ستة وعشرين مترًا، وكان سفح القلعة المشرف على الخندق مصفحًا بالحجارة المنحوتة، ثم المداخل الحصينة التي لا تزال قائمة بحالة جيدة، وتعدّ من أرقى ما وصل إليه فنّ التحصين العسكري من براعة الهندسة وإتقان البناء.
لقد زودت قلعة حلب بباشورة (مدخل منكسر) يمتاز بكثرة عدد المنعطفات فيه، إذ يبلغ عددها نحو ستة منعطفات، وهي كثرة تزيد من مناعة القلعة لما تسبّبه من وسائل التعويق عن المرور بسهولة من خلالها، وما تجعل المهاجمين يتعرّضون له من ضرب بالسهام والحراب في أثناء مرورهم بتلك المنعطفات، فضلًا عن المنحدر القاسي الذي يتقدّم المدخل، والذي تحمله القناطر المشيدة فوق الخندق المحيط بالقلعة. 
كما تشتهر حلب بمطبخها العريق الأصيل القديم، ومن يزُر حلب لا بدّ أن يأكل كباب الكرز، فالمدينة لديها 26 نوعًا من الكباب، وقد استطاع الدارسون حصر 217 وصفة لأكلات حلبية متميزة، يهتم الحلبيون بنكهة المادة الأساسية في الطعام، ويستعملون الأعشاب لإذكائها، ولا يحبّذون أن تخفي الأعشاب العطرية مثل الكزبرة الخضراء والكرفس هذا الطعم، لكن أيضًا لمحاشي حلب نكهتها، مثل عجور المحشي باللحم المفروم، ولأهلها مثل خاص به هو «قلبي من العجور منجور»، أي أن كل شيء جيد إذا كان العجور في القدر، والعجور محشي اللحم المفروم والأرز، وأحيانًا بالفريك والبرغل.
كما اشتهرت حلب بذوقها الموسيقي الرفيع، خاصة فنّ القدود الحلبية، ومن أشهر فنانيها في هذا المجال أديب الدايخ الذي وُلد في 1938 وتوفي 2001 م، حفظ هذا الفنان عشرة آلاف بيت شعر، وظل ذاكرة حلب الفنية المبدعة.
وقدّم الفنان الحلبي صباح فخري القدود الحلبية على مسارح الوطن العربي في العديد من الحفلات، ومن أشهر القدود الحلبية «قدّك المياس»، و«سكابا يا دموع العين»، و«البلبل ناغي عَ غصن الفل».
تلك هي حلب، مدينة تعشق الحياة، ويعشقها محبّوها، مدينة الذوق الرفيع في كل فنون الحياة، ها هي تعود مرة أخرى لنا، بعد سنوات الحرب المريرة ■

قلعة حلب 1900م

من أحياء مدينة حلب القديمة في ستينيات القرن الماضي

جامع الحموي