يحيى حقي المؤسس المتعمق والإنسان البسيط
تركي الأصل، صعيدي الهوى، ماهر في عدة لغات، يعتزّ باللغة العربية. كثيرون هم الكتّاب، والمؤسسون قلة. ولا تختلف عند يحيى حقي (1905 - 1992) المجالاتُ العديدة التي كتب فيها وأسّس عن تجاربه المتنوعة وأسفاره المختلفة، ووظائف متفاوتة وشخصيات شتى كانت مؤثرة فيه، رحلةً متعددة الجهات وحيوات منفتحة للمدى. إنه كاتب يجمع بين القصة والمقال والرواية والنقد والترجمة، تمامًا كما تجمع مصاحباته بين توفيق الحكيم فتأثر به، وكان امتدادًا لنسقه الغربي في ميله للعزلة، وتراه يحمل امتنانًا كبيرًا لطه حسين الذي شجّعه في بداياته، وفتنه محمود شاكر، فعقد عميق محبة مع «العربية» وتراثها القديم ومعاجمها، فعشقها يحيى حقي حتى سمّى نفسه «الجاسوس على القاموس».
لم يمنع التجديد التقني يحيى حقي من الاعتزاز باللغة، وهو أول من استخدم تقنيات بعينها مثل الـ «فلاش باك» (البدء بأحداث متأخرة)، أو الشكل الدائري لتنتهي القصة، حيث بدأت، مراعيًا فصاحة اللفظ أو أصوله الفصيحة إن اضطر للاستعانة بشيء أقلّ فصاحة.
يكتب يحيى حقي من منطقة مختلفة، رائدة إلى حدّ كبير، ولعلّه كان أول من كتب فنّ البورتريه، فيرسم بالكلمات أحوال شخصيات مؤثرة فيه، أو في محيطه، وذلك في كتابيه الآسرين «عطر الأحباب»، و«خلّيها على الله»، راصدًا نماذج بشرية ساخرة.
تخرّج صاحبنا في كلية الحقوق عام 1925، وفي عام 1929 التحق بوزارة الخارجية المصرية، وظل بها حتى 1954، ثم تركها لزواجه من فرنسية.
الصدق كان رائده في الاستجابة لنداء القلب وتقديمه على غيره من الاعتبارات، والصدق قرين البساطة التي جعلته ينتقد طقوسية الأوركسترا، برغم محبّته للموسيقى الكلاسيكية، وبهذا الصدق يمكنك ردّ تأثير قنديل أم هاشم وحضورها الطاغي، وبه يمكنّك أن تتقبل «تضحيته» بالسلك الدبلوماسي، بسبب مشاعره الصادقة تجاه زوجته الثانية، واقترانه بأجنبية يعلم - مسبقًا - أنه سيترك عمله بسببها، فالتحق بمجالات عدة ليستقر مديرًا لمصلحة الفنون قبل أن ينتهي مديرًا لتحرير مجلة «المجلة»، فبعثها من جديد، واهتم بإخراجها الفنّي وجمع لها خيرة الكتاب.
خرج يحيى حقي «الموظف» من تجربة «الخارجية» برؤية أكثر اتساعًا، فزار تركيا وإيطاليا وفرنسا والسعودية بما أتاح بُعدًا إنسانيًا واسعًا لتجربته تجاور فيه الغربي مع غيره من تأثيرات. هذا الخليط الذي جمع المتفرقات، فتعلّم التركية والألمانية والإيطالية، وبقي داخله - حسب تعبيره - «شيء صلب لا يذوب؛ حضارة لا تقلّ عنهم، ودين هو نظام متكامل فيه الغناء»، لن تجد صعوبة في انعكاسه على نهاية «قنديل أم هاشم».
وبرغم ذلك، تراه يتجاوز الموروث المصري ويضيف إليه الموروث العربي الذي يحلّ بالقوة - بتعبير الفلاسفة - داخل الوعي المصري وظواهره، وينضح كلامه كثيرًا ببيان أثر الحضارة العربية على سواها، ويرى - مكررًا مقولات الأفغاني ومحمد عبده - أن ديننا الإسلامي يتضمّن قيم الحضارة الغربية التي تفتنهم.
هو والجبرتي
كانت فترته في تركيا (1930 - 1934)، أثناء أحداث مصطفى أتاتورك، قد أثمرت «قنديل أم هاشم» عنوانًا للعلاقة بين الشرق والغرب وإزاحة الحضارة الشرقية، وهي التي فتحت الباب أمام عدة روايات تلت قنديل أم هاشم، فجاءت معبّرة عن فكرة ابتكرها مبدعنا ورادها في الثلاثينيات.
كما استغل إقامته وعمله في جدة لدراسة التمذهب، وكذا مشكلات الحج، وأحب التاريخ، وفتنه الجبرتي حتى وقّع بعض مقالاته الأولى باسم «عبدالرحمن بن حسن».
وكعادة من سافروا إلى فرنسا في تلك الفترة، فقد جذبه المسرح، فاهتمّ به وترجم بعض نصوصه، وهي الترجمات التي تكشف انفتاحه على تيارات مختلفة، واهتمامات متجددة، مثل متابعة تيار مسرح العبث.
تبرز عنده قيمة الاعتزاز بالذات والوطن دون طنطنة؛ فحين أرادت دور نشر فرنسية ترجمة بعض أعماله، أصرّ على كتابة مقدمة عربية بقلم ناقد عربي، ولم يقبل أن يكتب المقدمة مستشرق فرنسي، مؤثرًا قيمة تقديم النقد العربي على مفاخرة زائلة وتباهٍ ساذج بأنه مقروء من نقّاد غربيين، وحين تواصلت معه الجامعة الأمريكية بالقاهرة لنشر أعماله الكاملة، لكنّه رفض برغم العرض المالي المغري، وأصرّ على خروجها من مؤسسة قومية، فقام - بنفسه - بعرض أعماله على هيئة الكتاب المصرية، ورضيَ بمقابل شديد التواضع والإجحاف، فأرسى تقليد طباعة الأعمال الكاملة ثم ذهبت مثلًا.
وكان يقول: «ولقد أرضى أن تغفل جميع قصصي وكتاباتي، ولكنني سأحزن أشدّ الحزن إذا لم يلتفت أحد إلى دعوتي للتجديد اللغوي في محاضرتي حاجتنا إلى أسلوب جديد». يعتّز بها ربما أكثر من اعتزازه بجائزة الدولة التقديرية في الآداب 1969، أو جائزة الملك فيصل 1990.
ظلال باهتة
في مقالاته وقصصه ثمّة اهتمام واضح بطبقات المجتمع المختلفة، ويرى بعضها أصلًا في المجتمع وتكوينه ومراكز الثقل فيه، يقوده - كثيرًا - مسألة الصراع بين من يملك ومن لا يملك في نزعة اشتراكية كثيرًا ما أكدها بالالتفات إلى ملامح الاشتراكية في الإسلام. ورغم تطوافه بقاع الأرض، فقد ظلّ قلبه مؤمنًا بأن المصريين قد حافظوا على طبيعتهم ومميزاتهم، رغم تقلّب الحوادث وتغيّر الأحوال، فلم يبقَ لديه من رواسب التركية البعيدة سوى ظلال باهتة.
كان حقي شخصية آسرة، كما كتب عنه محبّوه، فلم يكن يسعى ليصبح النجم الأوحد؛ فحين أُسندت له إدارة مصلحة الفنون عام 1955 جلب إليها نجيب محفوظ وعلي أحمد باكثير، داعمًا قيادة المثقفين للعمل الثقافي، ويحتفظ تلاميذه وزملاؤه في فترة إدارته لمجلة «المجلة» من 1962 - 1970 بذكريات مشابهة من جهة تقديم الشباب ومساعدتهم، فكان أكثر الكتّاب الرواد ممارسة لدور الكاتب في توجيه الشبان الذين يطرقون أبواب الفن على استحياء شرط تمتّعهم بالثقافة والموهبة.
إنه بتعبير صبري حافظ - وكان واحدًا من شباب المجلة وقتئذ - أدار ظهره لسيرك الكتابة والشهرة والألاعيب السياسية والإعلامية، وتعفّف عن صغائر الصراع على النفوذ والمكاسب والسطوة»، ربما لهذا السبب عزف عن الكتابة لـ «الأهرام»، برغم إلحاح الكثيرين عليه، واختار «المساء»، ثم «التعاون» برغم - وربّما بسبب - تواضعهما قياسًا لـ «الأهرام». يقوده في أغلب كتاباته منزع إنساني شديد الرقّة، يبدو- مثلًا - في كتابه «عطر الأحباب»، ولا يعدم ذلك المنزع الإنساني في كتب شديدة الأهمية مثل: «فجر القصة المصرية»، أو «ناس في الظل»، فتلمح وحدة النسيج مع تطوّر القدرة، وتنوّع الاهتمامات مع تراكم الوعي ووضوح الشخصية.
قيمة التجديد
تسيطر على أعماله الفنية قيمة التجديد التي دأب على غرسها في أعماله القصصية بشكل خاص والبعد عن التزيّد البياني، والقصد نحو الملاءمة والكتابة على قدر المراد في دقة وعمق وصدق، والابتعاد عن المعاني الغائمة والألفاظ العائمة والبساطة والوضوح اللازمين حتى اعتبروه «أنشودة للبساطة»، مع تنويع شخصيات أعماله وتقديمهم عبر رؤية معاصرة، وتنويع أعماله ومراوغتها للأجناس الفنية المألوفة، وتقديم الجانب التاريخي للقصة عبر مؤلفه الرائد (فجر القصة المصرية)، وكذلك مقالاته المتنوعة في فن المسرح، والرواية، في كل نوع له باع وأثر.
كان حريصًا على تنوّع الأسلوب حتى علت عنده نبرة السخرية حدّ مقارنته بالجاحظ، فسيطر الحسّ الساخر على كثير من نظرته لبعض الأمور التي تبدو جادة للغاية. إنه يتحصن بهذه السخرية أمام إحساس بانعدام الجدوى أحيانًا، أو زيادة الوعي أحيانًا أخرى.
كتب الرواية والقصة القصيرة والمقال، كما ترجم عديدًا من الأعمال، وأسهم في بعض من النقد الأدبي سمّاها بتواضعه «خطوات في النقد» اعتمد فيها التوجّه الذاتي القائم على الانطباعية، والتأثر في نقده الذي تابع به أنواعًا فنية متعددة، مؤمنًا بأنّ الفن يكتب لذاته مختلطًا بمصرية مؤليه، يحمل على الإطالة التي تصدر عن سبب غير فنّي، أو إنساني.
وفي كثير من مقالاته يحلل المجتمع الغربي من بؤرته التي يراها متمثّلة في «النظام» وإيمان الفرد فيه بأنه جزء فاعل فيه، وإن قلّ دوره، أو دقّ، ولا يفوته تأكيد أنها ليست مدنًا فاضلة. ويرى الغرب متفوقًا على الشرق من الناحية المادية، ولعل شيئًا كبيرًا من هذا قد ظهر في مؤلفاته ابتداء من «قنديل أم هاشم» مرورا بـ«بيت من زجاج»، و«دمعة فابتسامة»، و«حقيبة في يد مسافر».
وضع يحيى حقي عصاه ورحل، انطفأ القنديل المسافر حقيقة، والمسافر عبر الأنواع الأدبية المختلفة، تاركًا أثرًا فنيًا خالدًا، وحضورًا طاغيًا وآثارًا إنسانية أكثر خلودًا ■