خليل مطران ومصر

خليل مطران  ومصر

كان الشاعر خليل مطران موزع الهوى بين وطنه الأول لبنان، الذي أنجبه ومدينة بعلبك التي وُلد فيها، ووطنه الثاني مصر التي احتضنته، فعاش فيها أكثر من ثلاثة أرباع عمره إلى حين وفاته في 1949، فيكون بذلك قد لبث فيها 57 سنة. 
‏ومن المعروف أن من بين الأسباب التي أدّت بالخليل إلى ترك لبنان والسفر إلى باريس أول الأمر، ومنها إلى الإسكندرية، وبعد ذلك إلى القاهرة، إنه كان من دعاة التحرّر مجاهرًا بحبّه للحرية وبعدائه للأتراك. 

يقول نجيب جمال الدين: «إن مطران بعد تخرّجه من مدرسة البطريركية في بيروت - حيث درس على الشيخين خليل وإبراهيم اليازجي - كان في السابعة عشرة من عمره، بدأ ينظم الشعر ضد السلطنة العثمانية والاستبداد الحميدي، وروى لصديقه عمر فاخوري (1896 - 1946) أنه كثيرًا ما كان يذهب في صحبة بعض رفاقه إلى أعالي الأشرفية في بيروت، وينشدون نشيد المارسييز، وكان رمز الحرية، وعنوان النضال، وطريقة من طرائق تحدّي الاستعمار، في تلك الأيام السوداء، وأوقف أخيرًا بتهمة العمل للثورة، غير أنه لعدم توافر الأدلة، وربما لمكانة عائلته خرج بريئًا. 
‏وفي إحدى الليالي الصائفة لعام 1890‏، عاد مطران إلى غرفته، في أواخر الليل، فوجد فراشه مثقوبًا بالرصاص، وخال جواسيس عبدالحميد، أن الفتى فريسة سبات عميق، فلا أسهل من أن تنطلق رصاصات من النافذة، على سرير نومه وينتهي الأمر. 
‏ويضيف موريس أرقش بعد أن يورد القصة نفسها: «وإذ ذاك فكّرت أسرته في إقصائه عن بيروت خوفًا على حياته أن تمسّ بسوء، فقررت إرساله إلى باريس».
‏لم يمكث مطران في باريس أكثر من سنتين سافر منها إلى الإسكندرية سنة 1892، وهو في العشرين من عمره، فوصلها وكان نعي سليم تقلا أحد مؤسسي جريدة الأهرام، فألقى قصيدة في رثائه لاقت الاستحسان والتقدير لدى أخيه بشارة تقلا الذي اختاره مراسلًا لـ «الأهرام» في القاهرة سنة 1893. وما لبث أن ترك «الأهرام» بعد أن عمل فيها وفي «المؤيد» وغيرهما ثماني سنوات، وانصرف إلى الاشتغال بالصحافة لنفسه، فأصدر سنة 1900 «المجلة المصرية» و«الجوائب»، لكنه طلّق الصحافة سنة 1904. 

أخلاق خليل وعزّة نفسه
‏كان من أسباب انصرافه عن الصحافة، مهنة المتاعب والسلطة الرابعة - كما يسمّونها - القصة الطريفة التالية، وهي تدلّ على أخلاق الخليل وعزّة نفسه، رواها في مقال نشر في مجلة الهلال قال:
«ذات مساء رجع إليّ «الجابي» من جولته، وأبلغني أن صديقًا لي ممّن كنت أعاشرهم معاشرة متّصلة استمهله في أداء ما عليه (من اشتراك في الصحيفة)، ولم يكن ذلك للمرة الأولى، ويظهر أن الجابي ألحّ عليه، باعتبار ما يعرفه من الصلة المحكمة بيننا، فالتفت إليه هذا الصديق وجابهه بقوله: «أهو ثمن عيش»؟ فلما سمعت هذه العبارة خيّل إليّ أن كلّ من أرسل إليه جريدتي، وإن تلطّف في الظاهر، يحسبني متطفلًا عليه، فيما أتقاضاه منه، ولا يقدّر تلقاء ذلك، ما يبذل من جهد في التحرير وفي نفقات الطبع والبريد، وما إلى ذلك من أعمال تستنفد مجهودًا ووقتًا ومالًا».
‏وانصرف إلى الأعمال التجارية والاقتصادية، فربح أول الأمر، ثم ضارب بثروته فخسرها سنة 1912، فكانت صدمة عنيفة له جعلته يفكر في الانتحار، وساعد على ذلك سوء صحته، ‏وكان له كبير الأثر في نفسيته وأدبه، وأظهر ما يكون هذا الأثر في قصيدتي «المساء» و«الأسد الباكي»، وهما من أفضل شعره ومن عيون الشعر العربي. 
‏وكان أن عيّنه الخديوي عباس حلمي الثاني سكرتيرًا مساعدًا للجمعية الزراعية الخديوية. 
يتغنى مطران في شعره بحبّه لمصر ووصفه لطبيعتها وآثارها وتاريخها، كما يتناول أحداثها السياسية ويمجّد الوطنيين من رجالاتها وأدبائها وشعرائها ورجال الحكم فيها. كما صادق اللبنانيين الذين ارتحلوا إلى مصر وتبوّأوا مراكز مهمة في المجالات كافة؛ كالصحافة والمسرح والأدب والشعر والاقتصاد والتجارة والفن، فكان لهم خير نصير يشاركهم مسرّاتهم وأتراحهم يهنّئهم ويمدحهم ويرثي من يموت منهم، ويساعد من يلجأ إليه طالبًا وساطة أو مساعدة.

اعترافًا بالجميل
يروي السفير د. حليم أبو عزالدين في كتابه «تلك الأيام»، وكان قنصلًا عامًا للبنان في مصر سنة 1946، حين احتفلت مصر بمناسبة ‏مرور 10 سنوات على جلوس الملك فاروق. وأرادت الجالية اللبنانية في مصر المشاركة في المناسبة اعترافًا بجميل الضيافة المصرية، وذلك بأن تقدّم إلى الملك هدية تليق به. فشُكّلت لجنة من أعيان الجالية تولّى أمانتها الكاتب حبيب جاماتي، فجمعت التبرعات لهذه الغاية، وبلغت حوالي خمسة آلا‏ف جنيه مصري، فطلبت اللجنة من الصائغ أحمد نجيب - وكان مشهورًا ومن أصدقاء الملك - أن ينصحهم باختيار هدية تليق بالمقام، فاقترح عليهم شراء مبخرة ذهبية مرصّعة بالجواهر والأحجار الكريمة. ثم ارتأت أن ينظم شاعر القطرين أبياتًا من الشعر ترافق الهدية، فقام الخليل بذلك ونظم الأبيات التالية: 
‏أبناء لبنان وإخوانهم 
ومن نما لبنان في مصرِ 
إلى مقام الملك المفتدى
يهدون ‏إعرابًا عن الشكرِ 
منفحةً للعطر من عسجدٍ
بساعدي أرزٍ من التبرِ
وإنه لخيرُ ذُخر به
يُصان معنى العطر والذكرِ 
فلْيَحيَ فاروقُ وأيامُه
للعُرْب خالدةً مدى الدهرِ

‏وهذه الأبيات ليست في ديوان الخليل. 
‏ومطران واضع أول نشيد لمصر (نشيد مصر) نظمه في باريس عام 1909 ومطلعه: 
‏أبشري يا مصرُ أمَّ المجدِ من أقصى الحقبْ 
‏وتبقى مصر معه في غربته، ففي قصيدة «من غريب إلى عصفورة مغتربة»، التي نظمها في جنيف، سويسرا يقول: 
 في مصرَ مصرخة اللّهيـ 
فِ  وملجأ المتفزّعِ
مصرَ السماءِ الصحوِ مصـ 
ـرَ الدفء، مصر المشبعِ
مصر التي ما ريعَ سا 
كنها بريحٍ زَعْزَعِ
حيث المراعي والندى
للمرتوي والمرتعي
حيث السواقي الحانيا
تُ على الطيور الرضّعِ

‏وفي قصيدة إلى حافظ إبراهيم يقول:
مِصْرُ الْحَضَارَةُ وَالآثَارُ شَاهِدَةٌ
مِصْرُ السَّمَاحَةُ مِصْرُ المَجْدُ مِنْ قِدَمِ
مِصْرُ العَزِيزَةُ إِنْ جَارَتْ وَإِنْ عَدَلَتْ
مِصْرُ الْحَبِيبَةُ إِنْ نَرحَلْ وَإِنْ نُقِمِ
نَحْنُ الضيُوفَ عَلَى رَحْبٍ وَمَكْرُمَةٍ
مِنْهَا وَإِنَّا لَحَفَّاظُونَ لِلذِّمَمِ
جِئْنَا حِمَاهَا وَعِشْنَا آمِنِينَ بِهِ
مُمَتَّعِينَ كَأَنَّ العَيْشَ فِي حُلمِ

عاطفة جياشة
هل هناك أجمل من هذا الاعتراف بالجميل لمصر التي آوت الشاعر وعطفت عليه واحتضنته؟ 
‏وكذلك يقول في قصيدة «يا مصر» يهبها حبه ويمنحها ودّه مدى الدهر: 
يَا مِصْرُ أَنْتِ الأَهْلُ وَالسَّكَنُ 
وَحِمىً عَلَى الأَرْوَاحِ مُؤْتَمَنُ
حُبِّي كَعَهْدِكِ فِي نَزَاهَتِهِ
والحُبُّ حَيْثُ القَلْبُ مُرْتَهَنُ
مِلْءُ الجَوَانِحِ مَا بِهِ دَخَلٌ
يَوْمَ الحِفَاظِ وَمَا بِهِ دَخَنُ
ذَاكَ الهَوَى هُوَ سِرُّ كُلِّ فَتىً
مِنَّا تَوَطَّنَ مِصْرَ وَالعَلَنُ

 وفي قصيدة «عيد بنك مصر» يعبّر عن عاطفته الجيّاشة نحو مصر - أم الدنيا كما يقولون - عاطفته الصادقة النبيلة التي تنمّ عن صدق إحساسه ومدى إخلاصه، يقول في مطلعها:
 ما موقفي في مصرفٍ للمال؟
أنا شاعرٌ، ما للحساب وما لِي؟
لا شيء لي فيه، وكلُّ كنوزه
من حيث تنفع «مصر» أحسبها لي!
إن أيسرتْ «مصرٌ» وفيه ضمانُها
إني إذن، فرِحٌ برقّةِ حالي

‏وهل بعد هذا الإيثار من إيثار؟ وهل بعد هذا الكلام الرائع زيادة لمستزيد؟
‏فمطران لم يكن يجد فرقًا بين مصر، وطنه الثاني، ولبنان وطنه الأول فهما له وطن واحد. يعبّر عن ذلك في قصيدته «الدكتور نقولا فياض»، التي نظمها حيث أزمع الشاعر فياض» على ترك مصر والعودة إلى لبنان، فقال يخاطبه مودعًا:
‏سَاءَ هِجْرَانُكَ الرِّفَاقَ وَلَكِنْ
 لَيْسَ بَيْنَ القُطْرَيْنِ مِنْ هِجْرَانِ
وَطَنـــٌ وَاحـــِدٌ وَتَجْمَــــعُهُ الضــــَّا
دُ لِمَـــغْزًى فِـــي لَفْظـــَةِ الأَوْطَـــانِ
لقب مستحق
‏لهذا استحقّ لقب شاعر القطرين؛ لبنان ومصر، بل لقب بشاعر الأقطار العربية.
وفي قصيدة ألقاها بحفلة لإعانة الطلبة الغرباء في الأزهر الشريف أقيمت في دار الأوبرا بالقاهرة عام 1915 يقول في وصف مصر ما قيل أروع منه، كان الأديب والشاعر أمين نخلة يطرب لها أيما طرب، وذكرها وعلّق عليها في كتابه «ذات العماد» (ص 135 - 136).
يقول في مطلع القصيدة - وهي قصيدة مناسبة - لكن الشاعر الكبير يرتفع فوق المناسبة ويحلّق: 
فَـــاحَ رَيْحـــَانُــهَا وَلاحَ الخَـــزَامُ 
وَجَـــلَتْ عَـــنْ حُلِـــيهَا الأَكْمـــَامُ
كلُّ وَرْدٍ فِـــي غَيـــرِ مِصـــْرَ لَـــهُ عَــا
مٌ وَفِي مِصـــْرَ لَيْــــسَ لِلْوــَرْدِ عَامُ
مــــَا لأَعْـــــقـــَابــــــِهِ وَدَاعٌ وَلَــــكِ
نَّ بَـــــوَاكِــــــيـــــرَهُ سَــــلامٌ سَلامُ
بـــَلَـــدٌ مِـــنْ حَـــيَائِـــهِ دَعـــــــَةُ الْوَا
دِي وَمــــِنْ كِــبْـــرِيــــــَائِـــهِ «الأهـــــرامُ»

وهكذا استطاع هذا الشاعر البعلبكيّ ببيتٍ واحدٍ من الشعر أن يصفَ مصرَ أجملَ وصفٍ وأروعه، فجمعَ بين «دَعَة» الوادي (وادي النيل) و«كبرياء» الأهرام، أي بين التواضع والشموخ، فبلغ الذروة!
‏ولا بأس أن نختم بأبيات لشاعر النيل، حافظ إبراهيم، قالها في مهرجان تكريم خليل مطران 1913:
قَـــد سَـــمِــــعــنا خَليــلَكُــم فَســـَمِـــعنا 
شـــاعِرًا أَقــــــعَـــدَ الــنُـــهــى وَأَقــامـــــا
وَطَــمِــعـــنــــا فـــي شَـــأوِهِ فــــــَقَعــَدنا
وكَـــسَـــرنا مِـــن عَــجــزِنـــا الأَقــــلاما 
نَظَمَ الشامَ وَالعِراقَ وَمِصرًا
سِـــلـــكُ آيــاتـــِهِ فَكـــانَ الإِمــامـــا
فَمَشى النَثرُ خاضِعًا وَمَشى الشِعرُ
وَأَلـــقى إِلـــى الــخَــلـــيلِ الــزِّمــامــا
‏حرام أن نضيف أي شيء إلى هذا القول البليغ الرائع ■